تبحث هذه الدراسة في التناقضات المتفاقمة في المجتمع الإسرائيلي بصورة عامة، وفي تناقضات النظام السياسي بصورة خاصة. وتركز على معالجة القرار السياسي في القضايا الخارجية، وبشكل خاص مسألة تنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين واستئناف المفاوضات، وذلك من خلال البحث في عملية صنع القرار في سياقها الخاص الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ التاريخي، ونوع العلاقة بين النظام السياسي والمجتمع الإسرائيلي، والتحولات الأساسية التي يمر بها كلاهما، وبشكل خاص تحول نمط العمل السياسي ومضمونه وتعقد المواقف ونمط القيادة وتعقيدات اتخاذ القرار ومضاعفاته. ويشير الكاتب إلى أن الموضوع الأساسي للدراسة ليس موقف حكومة إسرائيل ورئيسها من الحل، وإنما الخصائص البنيوية للنظام السياسي وتفاعلاتها مع البنية الاجتماعية، والتحولات الجارية في المجتمع الإسرائيلي. وتخلص الدراسة إلى أن عملية صنع القرار في إسرائيل تعقدت إلى حد بعيد، مدخلة النظام السياسي في أزمة عميقة بعد العقدين الأولين من تأسيس الدولة، وأن هذه العملية تتميز في المرحلة الحالية بعدم الوضوح والتناقضات وبتشابك قنوات صنع القرار وتداخلها، إضافة إلى تداخل أنواع ومستويات متعددة من القضايا كانت معزولة بعضها عن بعض، وأن الحالة السائدة حالياً تجعل من عملية الحسم في القضايا المهمة وخصوصاً المصيرية عملية صعبة ومعقدة. وتضيف الدراسة أن هذا التحول في عملية صنع القرار بدأ يتبلور في الوقت الذي أصبحت فيه إسرائيل مضطرة إلى حسم قضايا تمس القيم العليا للإسرائيليين. ويرى الكاتب أن أزمة صنع القرار لا يمكن التغلب عليها إلا بسن قوانين أساسية جديدة، أو تعديل الموجود منها، كي تلغي التناقضات التي يعانيها النظام السياسي وتحدد أساليب اتخاذ القرار وقنواته بصورة واضحة. ويضيف أن هذا الحل يمكن التوصل إليه على المدى البعيد، لكن إسرائيل تعيش مرحلة حاسمة تضطرها إلى اتخاذ قرار في القضية السياسية الأساسية التي تواجهها وهي استمرار العملية السياسية أو تجميدها، وأن صفة التعقيد والتداخل والتشابك يمكن استغلالها إيجابياً أو سلبياً من جانب القيادة في حالة اقتناعها بحل معين للأزمة الحالية، عن طريق المقايضة مع الأحزاب السياسية والفئات المختلفة، فتجري، حينذاك، مبادلة الموقف السياسي بإنجازات وامتيازات على المستوى الداخلي.
مقدمة
دخلت العملية السياسية في الشرق الأوسط، وخصوصاً بين إسرائيل والفلسطينيين، مرحلة جديدة بعد انتخابات الكنيست الرابع عشر سنة 1996. تتسم هذه المرحلة بتشدد المواقف الإسرائيلية إلى حد جمود العملية السياسية بعد إعادة الانتشار في مدينة الخليل. والملاحظ أن هناك شبه إجماع، بين الأطراف جمعياً، على اعتبار رئيس حكومة إسرائيل ـ بنيامين نتنياهو ـ المسؤول الأول والأخير عن هذا الجمود. وهناك من يعزو ذلك إلى مواقف اليمين الإسرائيلي المبدئية من القضية الفلسطينية، بينما يرى فريق ثالث أن رئيس الحكومة ليس إلاّ رهينة في أيدي الأحزاب المتطرفة ـ ولا سيما المتدينة ـ التي تشكل الائتلاف الحكومي. قد يكون في كل من هذه الآراء قسط من الحقيقة، لكنها لا تفسر صعوبة اتخاذ القرار السياسي في هذه المرحلة. فالأطراف جميعها لا تعمل في فراغ، ويجب النظر إلى مواقف رئيس الحكومة بالذات وقدرته على اتخاذ القرار في السياق الإسرائيلي، مجتمعاً ونظاماً. إذ إن هذه العملية أصبحت أكثر تعقيداً من السابق، وهي نتيجة الصفات البنيوية للنظام السياسي الإسرائيلي، كما كانت دائماً. وأمّا هذه الصفات فتعكس التناقضات البنيوية العميقة التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي.
تشكل هذه الدراسة محاولة للبحث في التنافضات المتفاقمة في المجتمع الإسرائيلي، بصورة عامة، وتناقضات النظام السياسي بصورة خاصة. وسنولي اهتماماً مركزاً لمعالجة قضية القرار السياسي في القضايا الخارجية، وخصوصاً مسألة تنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين واستئناف المفاوضات، من خلال البحث في عملية صنع القرار في سياقها الخاص: الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ التاريخي، ونوع العلاقة بين النظام السياسي والمجتمع الإسرائيلي والتحولات الأساسية التي يمر بها كلاهما، وبصورة خاصة تحول نمط العمل السياسي ومضمونه وتعقد المواقف ونمط القيادة وتقيدات اتخاذ القرار ومضاعفاته.
نذكر أن دراستنا لا تبحث في قضية اتخاذ القرار بشأن إعادة الانتشار الثانية ("النبضة الثانية")، وهي لا تستبعد إمكان اتخاذ قرار في هذه القضية سنة 1998. ذلك بأن الموضوع الأساسي المطروح للبحث ليس موقف حكومة إسرائيل ورئيسها من الحل، وإنما الخصائص البنيوية للنظام السياسي وتفاعلاتها مع البنية الاجتماعية، والتحولات الجارية في المجتمع الإسرائيلي، والتركيز على عملية صنع القرار وتعقيداتها ومضاعفاتها في المرحلة الحالية.
النظام السياسي وصنع القرار
تشير الأبحاث الكثيرة بشأن النظام السياسي في إسرائيل إلى أن تحولاً عميقاً وأساسياً حدث منذ سنة 1967. ويُتفق على ثلاث خصائص تميز بها النظام حتى حرب 1967:
1) كان هناك توافق بين النظام السياسي وطريقة أدائه لوظائفه، أي أن العلاقة بينهما كانت واضحة ووظيفية.
2) أثبت هذا النظام قدرة عالية على قيادة المجتمع ضمنت استقراره وحيويته في التغلب على الأزمات المتتابعة.
3) تحلى النظام السياسي بقدرة عالية على اتخاذ القرارات الحاسمة.
استطاع النظام الإسرائيلي أن يحافظ على هذه الخصائص على الرغم من الخلافات العميقة بين مختلف المعسكرات والتكتلات الاجتماعية والسياسية، التي تم تقنينها وتوجيهها في النشاط البرلماني. وقد نجم عن هذا التقنين الإجماع اليهودي ـ الإسرائيلي على قضيتين: أولاً، الغايات العليا للحركة الصهيونية وهي بناء دولة ذات سيادة، ووضع مسألة الأمن على رأس أولويات سكان الدولة اليهود؛ ثانياً، قواعد وأساليب العمل: تطبيق القواعد الديمقراطية التي أساسها الانتخابات على أساس التمثيل النسبي والحسم بواسطة الأغلبية، وكذلك مركزية الحكم. وساهم في ترسيخ هذا الإجماع وإرساء قواعد العمل المشتركة، انضمام المعارضة الرئيسية لحكم حزب مباي إلى الائتلافات الحكومية، وأهمها انضمام حزب مبام اليساري سنة 1955، وحركة حيروت اليمينية قبيل حرب 1967 حتى سنة 1970.
وضعت القيادة السياسية لحزب مباي، استناداً إلى الإجماع على ترتيب الأولويات وأساليب العمل، الأسس التي توجه وتحدد دور المؤسسات في معالجة القضايا المحلية وكذلك العلاقة، أو الفصل، بين هذه القضايا على النحو التالي:
1) عدم الحسم في الانقسامات العميقة بين الفئات المختلفة والتغلب عليها بأساليب سياسية من خلال الترتيبات الموقتة (ad hoc)، وتأسيس هذه الترتيبات على الحلول الوسطى والتنازلات التكتية، وخصوصاً في قضية العلاقة بين الدين والدولة.
2) سلخ الانقسامات الداخلية عن سياقها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ووضعها في يد النظام السياسي.
3) قامت الأحزاب السياسية بدور حاسم في المجتمع وداخل النظام السياسي نفسه، وذلك لأن فض الخلافات جرى بواسطة مفاوضات على مستوى النخب التي تقود الأحزاب والمعسكرات.
4) حافظ الحكم، على الرغم من مركزيته، على التعامل الديمقراطي: عدم التدخل في شؤون الأحزاب الداخلية، واتباع مبدأ النسبية في الانتخابات.
5) أدى اتباع مبدأ المفتاح الحزبي في توزيع الموارد الاقتصادية والسياسية إلى منح الشرعية للنظام، وإلى استقراره.
من الواضح أن بنية النظام وأساليب التعامل كانت حاسمة في ضمان استقراره ومنحه الشرعية لاتخاذ القرارات. ومن الواضح، أيضاً، أن دور الأحزاب السياسية كان حاسماً؛ إذ أبرز حضورها وبصماتها في جميع الترتيبات التي اتفاق عليها. وكان الدور الأكبر الذي قامت به الأحزاب تمكين السلطة المركزية من اتباع الفصل التام والمطلق بين القضايا الخارجية والداخلية، وتدارك تفجر الصراعات بين الفئات المتنافسة. فقد صودر من المجتمع جميع القرارات الخاصة بالشؤون الخارجية، وفصلت تماماً عن الترتيبات الداخلية. بذلك بقيت هذه القضايا والقرارات في يد نخبة سياسية ـ أمنية صغيرة من دون أن يكون لتوزيع المهمات والمراكز، على أساس المفتاح الحزبي، أي أثر فيها. ومما ساهم في احتكار النخبة للسياسة الخارجية وعزز قدرتها على القيادة، هيمنة حزب مباي بقيادة بن ـ غوريون، حتى أواسط الستينات، على كل القضايا المتعلقة بالخارجية والأمن. أمّا في القضايا الداخلية فقد اعترف النظام بدور الأحزاب في مسألة الدين والعلاقات بالجوالي اليهودية خارج إسرائيل. وبالنسبة إلى الانقسامات الإثنية والقومية قامت الأحزاب بدور مهم في منع نشوء تنظيمات سياسية على أساسها. إذ اندمجت النخب الإثنية والقومية في التنظيمات القائمة عن طريق شراء الولاءات الذي أمكن استخدامه بسبب مركزية الدولة من جهة، ومنع الشرعية عن هذه التنظيمات باسم مصلحة الدولة ووضعها الأمني الخاص، من جهة أُخرى.[1] واستطاعت الأحزاب أن تقوم بهذا الدور، في الواقع، بسبب طبيعة نشاطاتها التي تجاوزت حدود السياسة بمعناها الضيق إلى معظم مجالات الحياة، وشكلت الوسيط الأساسي بين النظام السياسي والمجتمع.
مكن التوصل إلى الترتيبات الداخلية القيادة من ضمان أغلبية في القرارات الحاسمة كافة. وشملت هذه الإغلبية، عادة، جميع العناصر السياسية المركزية في الأحزاب وخارجها. ومما مكّن من الحصول على هذا الدعم، أيضاً، الدمج بين الوساطة الحزبية مع المجتمع وبين وسائل الإعلام.
على الرغم من كل الأسباب المذكورة لضمان استقرار النظام السياسي وقدرته، فإنه ما كان في الإمكان تحقيقهما إلاّ بسبب كون القرارات التي اتخذتها القيادة في الشؤون الخارجية والأمن ناجحة جداً ـ حتى سنة 1967 ـ من زاوية مصلحة الدولة وأمنها.
تحولات المجتمع والنظام منذ سنة 1967
ليس هناك خلاف بين الباحثين والمراقبين في أن إسرائيل، مجتمعاً ونظاماً، اختلفت كلياً بعد سنة 1967 عما كانت عليه قبل ذلك. وهناك إجماع على أن النظام السياسي لم يستطع أن يحتفظ بالصفات التي ميزته في الفترة الأولى، وخصوصاً القدرة العالية على قيادة المجتمع واتخاذ القرارات الحاسمة وضمان الاستقرار.
كان هذا التحول، في صفات النظام، جزءاً لا يتجزأ من التغيرات التي مر بها المجتمع الإسرائيلي في مجالات الحياة جميعها، والتي أنشأت إنساناً إسرائيلياً جديداً وتركيبة مجتمعية جديدة. في الواقع، إن من الأصح القول إن عجز النظام السياسي عن المحافظة على قوته وقدرته كان بسبب جموده وتزمت القيادة السياسية في إحداث تحولات، على المستوى المؤسسي، موازية للتحولات التي شهدها المجتمع. وهذ ما يسبب الأزمة العميقة التي يعانيها النظام والوصول إلى طريق مسدود وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة وضمان الاستقرار.
بدأت التحولات الجذرية في المجتمع الإسرائيلي مباشرة بعد حرب 1967، ثم تعمقت وترسخت بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. فقد أثارت نتائج حرب 1967 النقاش من جديد بشأن الغايات العليا للحركة الصهيونية وأساليب تحقيقها. وأصبح هذا النقاش دليلاً على غياب الإجماع على القضايا المصيرية، الأمر الذي أضعف قدرة القيادة على حسم مصير الأراضي المحتلة. أمّا عدم الحسم فتسبب، بدوره، بتعميق عدم الاتفاق وبداية زعزعة الثقة بالقيادة. لكن الضربة الموجعة لهذه القيادة كانت حرب 1973 التي عرّفها الإسرائيليون بـ "التقصير".
تسببت هذه الحرب بالخلل في أهم القواعد الأساسية المتفق عليها في السياسة الإسرائيلية، أي الفصل التام بين السياسة الخارجية والشؤون الداخلية. ومن الملاحظ أنه بعد هذه الحرب أصبح جميع المواجهات العسكرية التي خاضتها إسرائيل، وكذلك أساليب مواجهة الانتفاضة الفلسطينية، مثار جدل حاد.
أثّر غياب الإجماع على السياسة الخارجية والأمن في ثقة الإسرائيليين بالسياسيين عامة، ومن هنا ضعف قدرة القيادة على حل الخلافات الداخلية وإيجاد الترتيبات الخاصة بها، حتى أن غياب الإجماع ساهم في دمج المواقف من مجمل القضايا، الخارجية والداخلية، وعد إمكان الفصل بينها.
إن زعزعة الإجماع على القضايا الخارجية، ولا سيما القضية الفلسطينية، لا يمكن أن نعزوها إلى حرب تشرين الأول/أكتوبر فقط. إذ ترافق هذا التحول مع مجمل التطورات التي شهدها المجتمع الإسرائيلي في المجالات جميعها، بما فيها العسكرية والسياسية ـ وخصوصاً منذ أواسط السبعينات ـ والانقلاب السياسي سنة 1977. في الجزء التالي نعرض أهم مجالات التطور والتحول التي أثرت في النظام السياسي الإسرائيلي.
أولاً: على الصعيد الاقتصادي
يلاحظ الهبوط المتدرج في قدرة الحكومة على تمويل نشاطاتها وتدخلها المباشر في السوق وتحكمها المطلق فيها، وهي الصفة التي ميزت الحكم المركزي سابقاً. كما يلاحظ ظهور قوى اقتصادية جديدة لا تخضع لإرادة السلطة. وقد بدأ هذا الهبوط بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 حين واجهت الحكومة عجزاً في تمويل الخدمات العامة، وتحملت خسائر الشركات والمصالح الحكومية، وفي تغطية مخصصات التنظيمات الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تتمتع بمكانة خاصة في المجتمع الإسرائيلي، مثل الكيبوتسات والموشافيم.
وكان الحل المطروح للخروج من هذه الضائقة خصخصة الاقتصاد وتقليص الخدمات العامة. لكن حزب الليكود، أكثر الأحزاب دعوة إلى اقتصاد السوق، وجد، بعد تسلمه زمام الحكم سنة 1977، أن التدخل المباشر في الاقتصاد والخدمات هو أداة سياسية فعالة لضمان بقائه في السلطة. كذلك واجه الحكم المركزي ضغطاً من رجال الأعمال المستفيدين من الدعم الحكومي، إضافة إلى عدم تكوّن جماعة مصلحة مبلورة، في السوق، يمكنها أن تمارس الضغط في اتجاه الخصخصة، ولم يكن ثمة جماعة محددة متضررة من النظام القائم، لأن الخسائر وتكاليف الدعم موزعة على الجميع، أو بالأحرى ممولة من موارد الدولة. وبحسب تعبير أحد الباحثين الاقتصاديين الإسرائيليين "إن الدولة خصخصت الأرباح وأممت الخسائر."[2]
حدثت عدة تطورات مهمة في الاقتصاد الإسرائيلي ضاعفت عجز الحكومة عن تمويل تدخلها وعن مواصلة دفع ثمن المردود السياسي الذي نجم عن التحكم في هذا الاقتصاد. فقد تطور الاقتصاد الإسرائيلي، حتى أواسط السبعينات، في ظروف "دفيئة" للإنتاج المحلي. لكن السوق أصبحت ضيقة، الأمر الذي دفع في اتجاه التفتيش عن أسواق خارجية، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى تطورت انماط الاستهلاك في إسرائيل وأصبح من الصعب إغلاق السوق أمام الاستيراد. من هنا بدأ الانفتاح المتدرج الذي يعني تأثّر السوق الإسرائيلية بأحوال الأسواق الخارجية، وعدم قدرة الحكومة على الاستمرار في ضبط أسعار العملة واضطرارها إلى تخفيف القيود على سوق العملات الصعبة.
أثرت هذه التطورات في تكاليف الإنتاج وفي أنماط الاستهلاك ومعدلات النمو الاقتصادي.[3] كذلك بدأ تأثير الحكومة في السوق المالية يضعف وهبطت استثماراتها المباشرة.[4] بالإضافة إلى ذلك، فإن اتفاقات التبادل التجاري أضعفت قدرة الحكومة على دعم المنتجين، وأمّا العلاقات بالسوق الأوروبية فقد صعّبت دعم الإنتاج للتصدير. وعلى المستوى الداخلي، أدت هذه التطورات إلى ضعف الأطر التنظيمية التقليدية ذات المضمون الاقتصادي الكبير مثل الهستدروت، وإلى انهيار بعضها إلى درجة إغلاق المصانع والشركات والمؤسسات. وكانت الحصيلة أن الحكومة أصبحت عاجزة عن تغطية ديون التنظيمات مثل الكيبوتس والموشاف، ومصالح اقتصادية مثل مصانع "شركة العمال"، والشركات المعتمدة على تمويل الحكومة، وأجزاء من الصناعات العسكرية. وشكلت هذه الظروف المستجدة ضغطاً على ميزانيات الحكومة وأجبرتها على الشروع في عملية الخصخصة على مضض، لأنها بذلك أخذت تفقد واحداً من أهم أسباب قوتها ومركزيتها في المجتمع (وظائف وامتيازات ومنح وقروض سهلة).
إن هذه التطورات لا تعني نهاية تدخل الحكومة وتأثيرها في العملية الاقتصادية، وإنما تحول نمط التدخل: من الانتشار في جميع المجالات وجميع الفئات إلى تدخل مركّز أكثر على عدد صغير من المصالح.[5] حدث هذا التحول في التدخل بواسطة بيع أسهم الشركات الحكومية لعدد محدود من كبار المتمولين، ولم تعرض على الجمهور الواسع. لكن السلطة المركزية ما زالت تتمتع بتأثير كبير من خلال الشركات الحكومية، على الرغم من هبوط هذا التأثير قليلاً منذ بداية الثمانينات، إذ انخفض عدد أعضاء مجالس الإدارة الذين تعينهم الحكومة، في 188 شركة، من 1222 عضواً سنة 1979 إلى 937 عضواً سنة 1990. لكن مع انخفاض هذا العدد تعززت الميول إلى تخصيص هذه الوظائف كمكافآت في مقابل دعم سياسي في مراكز (مؤتمرات) الأحزاب. ففي الفترة 1988 ـ 1990، على سبيل المثال، تم تعيين أكثر من 500 عضو مجلس إدارة، كان بينهم 300 عضو ينتمون إلى أحد مراكز الأحزاب السياسية.[6] وفي سنة 1990، كان ما لا يقل عن 800 عضو من أعضاء مركز حزب الليكود يشغلون وظائف ذات مسؤولية تنفيذية في خدمة الدولة.[7] مجمل الحديث أن الاقتصاد الإسرائيلي يمر بعملية خصخصة وتحوّل إلى اقتصاد سوق، وهذه العملية لا تجري بثبات، لكنها ساحة صراع بين الرابحين منها والمتضررين. لذلك فإن التحولات ليست نهائية وهناك مجال لتراجعها. لكن المهم أن هناك قوى اقتصادية تستطيع ممارسة الضغوط على السلطة لحثها على اتخاذ قرارات سياسية في اتجاهات معينة، وأن هيمنة هذه السلطة على النشاط الاقتصادي لم تعد مطلقة. وهذا يعني إمكان أن يكون التأثير متبادلاً، وأن هناك تداخلاً بين المصالح الاقتصادية والقرار السياسي، الأمر الذي يمنح فرصة مقايضة قوى محلية في حال بلورة أي قرار سياسي.
ثانياً: التحولات الأيديولوجية وحالة الأنومي*
يرى معظم الباحثين في إسرائيل أن ضعف الأساس الأيديولوجي في توجيه السلوك الجماعي والفردي من أهم أسباب أزمة النظام السياسي في إسرائيل. ذلك بأن الصهيونية فقدت من حيويتها وأهميتها في معالجة القضايا الساخنة التي يواجهها المجتمع، خارجياً وداخلياً. فالتوليفات التي قامت عليها الصهيونية بين متناقضات كثيرة (الخصوصية القومية ـ العالمية؛ التقليد ـ التحديث؛ الدين ـ العلمانية) لم تستطع أن تصمد بعد تحقيق النجاحات في العقدين الأولين من قيام الدولة، والانغماس في الروتين، وتحول الحركات الأيديولوجية إلى أحزاب تتنافس في شأن مراكز القوة والموارد.[8] فالفكر الصهيوني، الذي لم يتم تجديده بعد قيام الدولة، لم يستطع أن يحافظ على التوليفات الأولية لسببين: الأول عدم تحقيق الاندماج بين اليهود من أصل أشكنازي واليهود الشرقيين؛ الثاني عدم تحقيق القيم المدنية الشاملة بسبب فرض القيود على المواطنين العرب. إضافة إلى أن العمل السياسي في إسرائيل انغمس في الروتين وأدى إلى تدهور المؤسسات التي جسدته، مثل الكيبوتس والموشاف وحركات الشبيبة، في سلّم الأهميات القومية. لكن التحولات السريعة والأكثر جذرية حدثت بعد حربي 1967 و1973؛ فقد أدت حرب 1967 إلى إيجاد أزمة أيديولوجية بدلاً من أن تكون حلاً لهذه الأزمات. ومن أهم نتائج هذه الحرب دمج فكرة التحرر القومي ـ العلماني في فكرة الخلاص الديني. أمّا حرب 1973 فتسببت بإضعاف العنصر العلماني في الصهيونية، ونجم عن ذلك حركة "غوش إيمونيم" التي دمجت الصهيونية في فكرة الخلاص الشامل.[9]
منذ ذلك الوقت بدأ الانقسام الديني ـ العلماني يبرز على السطح على حساب الانقسامات الأُخرى في المجتمع، وتحول إلى ظاهرة شرعية وصفة أساسية ودائمة في المجتمع الإسرائيلي. وأخذ هذا التناقض والانقسام يتغلغلان في جهاز الدولة، وحتى في جهاز القضاء، وأوجدا مأزق الخيار بين دولة يهودية ودولة ديمقراطية. ومن أهم نتائج هذا المأزق أنه لم يطرح حلولاً لمسألة احتلال المناطق الفلسطينية وتقرير مصير سكانها.
أدى الجمود الأيديولوجي إلى عدم الحسم في القضية السياسية الرئيسية التي تواجه إسرائيل، كما ذكرنا، الأمر الذي أوصل إلى الانتفاضة سنة 1987، التي ساهمت من جديد في تعميق مأزقي الخيار والانقسام. من هنا يتضح أن الصهيونية أصبحت عاجزة عن تقديم حلول للمشكلات التي يواجهها الإسرائيليون، وضعفت قدرتها على حل المعضلات والقضايا الساخنة، وعلى بلورة الموقف السياسي للجمهور الإسرائيلي.
على الرغم من كل ما ذكر، فإن الصهيونية تبقى عقيدة بلاغية، وهي رمز بلورة الهوية الشخصية للإسرائيلي، وأساس التعريف الرسمي للوجود السياسي اليهودي في إسرائيل.[10] على هذا الأساس يعتبر إريك كوهين، عالم الاجتماع الإسرائيلي، "أن الصهيونية تحولت من طوباوية ورؤية وخطة عمل مستقبلية لمجتمع مثالي إلى مجرد أيديولوجيا، أي وسيلة للدفاع عن مصالح النخب السياسية واستمرار الوضع القائم."[11] نجم عن هذا التحول الأيديولوجي في الصهيونية، أو النقاش بشأنها، غياب سلم قيم واضح ومتفق عليه، وغياب ملزمات أيديولوجية يمكن أن توجد إجماعاً وشرعية يدعمان اتخاذ قرارات حاسمة وجريئة. وفي ظل غياب هذه الشرعية والمعايير، عاشت إسرائيل وضعاً من الجمود السياسي حتى سنة 1993. خلال هذه الفترة، أخذت بدائل فكرية وسياسية واجتماعية تتشكل في إسرائيل لتنظيم السلوك، على المستويين الفردي والجماعي، ولوضع أسس لبلورة المواقف السياسية تجاه القضايا المتعددة. وقد أفرزت هذه العملية عدداً من التيارات، عبارة عن توليفات جديدة بين المتناقضات التي جمعت بينها الفكرة الصهيونية، إضافة إلى توجهات متأثرة بالتطورات الداخلية والخارجية.
إن أهم التطورات التي شهدها المجتمع الإسرائيلي في هذا المجال، كان التحول الكبير في القيم الاجتماعية ـ السياسية ومعايير السلوك الشخصي التي نجم عنها تيار ليبرالي قوي يدعم النزعات الفردية على حساب الجمعانية (Collectivism)، وإيثار الجماعة القومية. وفي المقابل تبلور تيار قومي ـ ديني معاكس في قيمه ومعاييره ومواقفه.
أمّا التيار الأول فتطور في مستويين: الأول التغيير في قيم الأفراد وسلوكهم، الذي ساهم في تغيير النظرة إلى الكثير من المظاهر، وخصوصاً إلى المؤسسات التي جسدت القيم الجمعانية؛ الثاني المستوى التنظيمي الذي انعكس في تطوير مؤسسات مدنية لا تخضع لإرادة السلطة السياسية. وكان ضعف الفكرة الصهيونية التقليدية ـ المتجسدة في مُثل الهجرة والطلائعية والتضحية لمصلحة المجموع ـ في مصلحة التوجيه نحو تطوير الفرد وتحقيق ذاته بأساليبه الخاصة. وتجسد هذا التوجه في السلوك الشخصي في جميع المجالات؛ فقد بدأت عملية "أمركة" المجتمع تترسخ في كل شيء.[12] كذلك ضعفت قيم المساواة واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وبدأت تظهر في إسرائيل الخدمات الخاصة المرتفعة التكلفة في مجالات مثل الصحة والتعليم، وكُشف عن مظاهر الفساد في الجهاز الإداري والمؤسسات العامة والهستدروت والأحزاب، وارتفعت بصورة كبيرة معدلات الجنوح والجريمة في المجتمع، وخصوصاً بين الأجيال الشابة.[13]
يكشف موقف المجتمع الإسرائيلي من المؤسسات التي جسدت القيم الصهيونية عن التحول القيمي الذي أصابه، ومن أهم هذه المؤسسات وأبرزها الكيبوتس. إذ بدأ هذا النوع من الاستيطان يفقد المبرر (الجمعاني) والغاية من وجوده، فمساهمته في خدمة الأمن أخذت تتقلص مع انضمام الشباب المديني إلى الوحدات العسكرية المختارة. إلاّ إن الكيبوتس حافظ على تأثيره السياسي مع استمرار وجود حركة العمل في الحكم، لكنه بدأ يفقد تأثيره مع تسلم الليكود الحكم سنة 1977. أمّا في الثمانينات، فقد تدنى نتاجه الاقتصادي وتقهقرت قدرته على التكيف وبدأ التوجه إلى الاستثمار في السوق المالية وإنشاء مصالح اقتصادية في مجالات غريبة عن طبيعته مثل التجارة والخدمات. لكن هذا التحول لم ينقذ معظم الكيبوتسات من الانهيار الاقتصادي، الذي أصاب، بدوره، الحصانة الأيديولوجية للكيبوتس. وكانت النتيجة تحولاً كبيراً في نمط الحياة الخاص بالكيبوتس، الذي كان يعتبر مثلاً أعلى للتضحية وللحياة الجماعية والطلائعية.
شكل هذا التحول في القيم والتحرر من الجمعانية القاعدة الفكرية والسلوكية للكثير من التحولات في المجتمع الإسرائيلي، ومنها تطوير المؤسسات المدنية وترسيخها. وكان هذا المستوى الثاني من التغيير الذي ساهم في تعزيز التيار الليبرالي وعبّر عنه.
ثالثاً: تطور المؤسسات المدنية
من الخصائص المعروفة عن المجتمع الإسرائيلي غياب التقاليد الليبرالية ومؤسسات المجتمع المدني المستقل حتى سنة 1967. لذلك كان صعباً على المواطنين التأثير في القرار السياسي، لا بل إن الفكر السياسي كان "يهبط" من أعلى، أي من النخب السياسية، إلى الجمهور.[14]
ومع ذلك ظهر في إسرائيل محاولات وارتفعت أصوات تنادي بإجراء إصلاحات في النظام السياسي وبتفعيل المجتمع وزيادة تأثيره في صنع القرار، وخصوصاً من الفئات المثقفة. ففي الستينات، على سبيل المثال، تنظمت مجموعة سياسية معارضة في حزب مباي تدعى "من هيسود" (من الأساس)، تكونت من مفكرين وأكاديميين طالبوا بإرساء دعائم ديمقراطية ليبرالية، وبتربية على قيم إنسانية ومدنية شمولية، وبوضع دستور، وبفصل الدين عن الدولة.[15]
تعزز هذا الاتجاه في المجتمع الإسرائيلي عقب ترسيخ السياسة الشعبية وبداية تراجع الأحزاب في نهاية الستينات، وتكرَّس في السبعينات إذ انتشرت ظاهرة إنشاء المؤسسات المدنية غير الحزبية. ومنذ تسلم الليكود الحكم سنة 1977، اتسع نطاق نشاط هذه الجماعات وزاد عددها بوتيرة لافتة للنظر. وأخذت على عاتقها ممارسة الضغوط لترسيخ الأسس الليبرالية، وخصوصاً من خلال نشاطها لدعم وتعزيز مكانة محكمة العدل العليا، كوسيلة وأداة لتعزيز حقوق المواطن والأقليات ومراقبة عمل السلطات التنفيذية.
استفادت المؤسسات المدنية من تطورات الواقع السياسي الدولي والشرق الأوسطي منذ أواخر الثمانينات، وكذلك من الانتفاضة الفلسطينية، إذ اعتبرتها دعماً لتوجهاتها وأهدافها، ولا سيما أنها أحدثت تحولاً في وضع إسرائيل الاستراتيجي؛ الأمر الذي سيحدث، حتماً، تحولات في سياسة الدولة التقليدية، وفي نظامها وعلاقتها بمواطنيها.
تطور "القطاع الثالث"، أي القطاع المدني، كظاهرة تسميها الصحافية حانه كيم "ظاهرة فقدان السذاجة"[16] على خلفية ضعف الثقة بالسلطة والهبوط الكبير لقوة الأحزاب والتراجع في سياسة الرفاه في مقابل تصاعد الخصخصة. ووجدت الصحافية المذكورة أنه يتم تسجيل أكثر من 1500 جمعية جديدة سنوياً في إسرائيل تعالج شتى المجالات الاجتماعية.
نشط بعض هذه المؤسسات، وتحديداً، بعد غزو لبنان سنة 1982، في محاولة للتأثير في السياسة الخارجية والأمن. ويلاحظ أن هذه المؤسسات بدأت، في الأعوام الأخيرة، تتغلغل في مجالات كانت تعتبر "مقدسة"، وخصوصاً تلك المتعلقة بالخدمة العسكرية، مثل مطالبة تجمعات أهالي الجنود وحركة الأمهات الأربع بالانسحاب من الجنوب اللبناني. وفي الآونة الأخيرة، أخذت هذه المؤسسات توسع نشاطها وتزيد في مؤيديها، وربما تستطيع أن تؤثر في اتخاذ القرار السياسي بهذا الشأن.
هناك مؤشرات كافية إلى أن المؤسسات المدنية أصبحت قطاعاً مؤثراً في تحديد مسيرة المجتمع والنظام، ولا سيما في مجال سن القوانين الأساسية ذات الأثر في الحد من تدخل السلطة في شؤون المواطنين وتحصيل حقوقهم. ومما يدل على هذا التأثير، حتى في السياسة، استعانة حزب العمل بهذه المؤسسات غير الحزبية في انتخابات الكنيست الثالث عشر (1992)، وإليها يمكن أن نعزو جزءاً من أسباب حسم نتائج الانتخابات. ويعني هذا التطور أن السلطة السياسية لم تعد مطلقة الحرية في اتخاذ القرار السياسي، وإنما هناك قوى اجتماعية ذات وزن يمكن أن تمارس ضغطاً بالنسبة إلى عملية صنع القرار.
رابعاً: تغير القيم وترسيخ الانقسام
إن عزل دور هذه المؤسسات في الحياة السياسية عن التحولات التي حدثت في نمط تفكير الكثيرين من الإسرائيليين وفي القيم التي صاغت مواقفهم تجاه القضايا الخارجية والأمن والسلام ليس ممكناً. وقد تعزز هذا التحول بفعل الانتفاضة الفلسطينية، التي أكدت استحالة استمرار الاحتلال وضرورة البحث عن مخرج، وكذلك بفعل حرب الخليج التي عمقت التغيرات التي كانت بدأت في القيم، والمفهوم التاريخي للأحداث، وأساليب التفكير، وتفسير "الحقائق" السياسية والعسكرية، ومفهوم الأمن، وجميعها من القواعد والأسس التي قام عليها الإجماع الإسرائيلي.[17] فأصبح الإسرائيليون يفهمون أن هناك حدوداً للقدرة العسكرية وإمكان الردع. لذلك ينبغي لهم الاتجاه نحو التفاهم مع العالم العربي وتخفيف حدة الصراع والمواجهة حتى لو كان الثمن تقديم التنازلات المؤلمة. لذلك فإن محاولة التوصل إلى السلام كانت محرَّكة من الأسفل ولم تكن من الأعلى، أي بقرار من القيادة.
شكّل مجمل هذه التحولات في مفاهيم الإسرائيليين قاعدة لطرح التساؤلات بشأن المسلمات التي تم ترسيخها في أذهانهم، ومن هنا بداية "ذبح البقرات المقدسة". إذ بدأ الكثيرون يشككون في "قدسية المؤسسات" (مثل الجيش والموساد والشباك)، والقيم، والمثل، والأهداف التي نشأوا عليها (مثل الهجرة والاستيطان والمساواة). ومع هذا التغير أصبحت الأجيال الشابة ترى أن المؤسسات التي جسدت الفكرة الصهيونية بالية وعفّاها الزمن.[18] فهذه المؤسسات لم تراع التغير الذي حدث في الفرد والمجتمع وبقيت تعمل في إطار البنى التقليدية المحافظة، الأمر الذي عرّضها لأزمات كثيرة، على الرغم من المحاولات الجدية لإنقاذها من الانهيار في الأعوام الأخيرة (أهم الأمثلة لذلك الكيبوتس والموشاف والهستدروت).
في مقابل التيار الليبرالي الذي تبلور منذ سنة 1967، كان هناك تيار معادٍ له يتكوّن من فئات أُخرى من المجتمع الإسرائيلي. وقد تكوّن هذا التيار نتيجة تضامن عاملين أساسيين: الأول تحول السياسة في إسرائيل من سياسة نخبوية إلى سياسة شعبية، تستند إلى العواطف والديماغوجية والشعارات والمضامين الدينية ـ القومية؛ الثاني ارتباط التراث القومي ـ الديني بالأمن العسكري، الذي عزز مكانة الدين في المجتمع الإسرائيلي. وهكذا تحول التيار القومي ـ الديني منذ سنة 1967 إلى تيار قوي ومجدد، وهو أكثر التيارات فعالية ونشاطاً، ممثلاً بحركة "غوش إيمونيم" والتيار المركزي في حزب مفدال، وميزه دمج الطموح القومي في إطار الخلاص بالمعنى الديني.
أدى نمو هذا التيار إلى زعزعة التفاهم والمعايير المتفق عليها في المجتمع الإسرائيلي منذ فترة الاستيطان، قبل قيام الدولة، والذي عرف بـ "الوضع القائم" (Status Quo). كان مضمون هذا التفاهم تسامح المتدينين والعلمانيين في التعامل، وخصوصاً امتناع كل طرف من محاولة فرض نمط حياته على الطرف الآخر، وعدم المبالغة في المطالب التي ربما تمس المشاعر والقناعات. ونجح النظام السياسي في حصر الصراعات والأزمات الطارئة في إطار هذا التفاهم. إلاّ إنه مع تعاظم قوة التيار القومي ـ الديني وتطرف بعض التيارات الدينية، بدأ المتدينون ينقضون أسس التفاهم ويطالبون الطرف الآخر بالتقيد بالتعاليم الدينية في كثير من السلوكيات. وزاد هذا الضغط منذ سنة 1984، عندما تحولت الأحزاب الدينية إلى قوة حاسمة في إقامة أي ائتلاف حكومي، ومن هنا تعزيز مكانتها الاستراتيجية. نجح هذا التيار في فرض تعديل عدد من القوانين، وخصوصاً في عهد الحكومة الحالية. لكن هذا النجاح مؤشر واحد إلى تعاظم قوته، بينما كان أثره الحقيقي العميق في المجتمع الإسرائيلي مساهمته الكبيرة في ترسيخ السياسة الشعبية وإدخال عنصر العنف فيها، إضافة إلى عنصر العنف الكلامي الذي يتصف بدينامية خاصة به. ويتضح، طبعاً، تأثير هذا التيار، اليوم، في تجميد العملية السلمية وقدرته على منع أي تحرك في طريق الحل النهائي؛ وهو موضوع سنعود إليه.
خامساً: تحرر وسائل الإعلام من قبضة الدولة
إن من أبرز وأسرع التغيرات التي مر بها المجتمع الإسرائيلي ما حدث في مجال الإعلام، وخصوصاً محاولة وسائل الإعلام التخلص من هيمنة الجهاز السياسي والسياسيين. فقد بدأ وضعها يتغير في سنة 1965، عندما تحررت سلطة الإذاعة من رقابة الحكومة المباشرة، إذ نقلت إلى أيدي هيئة شعبية مكونة من ممثلي الجمهور والأحزاب. لكن التحول الكبير حدث في مكانة الصحافة المكتوبة، على الرغم من خضوعها لأنظمة الطوارئ وإخضاع نفسها طوعاً للرقابة الذاتية الصارمة، التي وصفها الباحث آشر أريان بأنها "أكثر فعالية من أية سياسة رقابة."[19] ويجب التمييز هنا بين دور الصحافة في القضايا التي تشكّل بشأنها الإجماع الإسرائيلي وبين دورها في الخلافات الداخلية. فقد بدأت هذه الصحافة التشيع لجماعات متنافسة داخل حزب مباي الحاكم، في الستينات، في إثر الكشف عن "فضيحة لافون". منذ تلك اللحظة، أخذت الصحافة تظهر كطرف في النقاش السياسي، ومن خلال ذلك تبنت موقفاً أشد نقداً نحو السياسيين ومؤسسات الحكم.[20]
شكل الانقلاب السياسي، سنة 1977، وتسلم حزب الليكود سدة الحكم مرحلة جديدة في تطور وسائل الإعلام وتحول موقفها تجاه النظام السياسي وإزاء الأحزاب والسياسيين. إذ تحولت إلى طرف أساسي في النقاش، وأصبحت ذات هيبة وسلطة رابعة يعمل لها حساب. وكان أبرز دور قامت به تجميع وتنظيم المعارَضة للحرب، التي كانت مشتتة ومجزأة في عدد كبير من التنظيمات، في إبّان غزو لبنان سنة 1982. كما شغلت وظيفة بارزة في إدارة النقاش الشعبي بشأن الحرب وتوجيه النقد اللاذع إلى المسؤولين عن اتخاذ القرار السياسي.
أضافت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى رصيدها الدور الذي قامت به خلال الانتفاضة من كشف للممارسات الإسرائيلية في قمع الفلسطينيين. منذ ذلك الوقت يلاحظ أن هذا الإعلام أصبح أكثر تنوعاً واختلافاً. كما ساهم في هذا التنوع الزيادة الكبيرة في وسائل الإعلام بأنواعها المتعددة، ولا سيما الإلكترونية، والتنافس الشديد بينها. كما أن حقيقة كون جزء كبير من وسائل الإعلام الفاعلة اليوم هو مؤسسات خاصة تجارية، تساهم في تعزيز دورها في مواجهة السلطة المركزية إلى حد أنها أصبحت تشكل مصدر قلق لهذه السلطة، وللسياسيين بصورة عامة. ذلك بأن وسائل الإعلام، في معظمها، رسخت دورها في التشكيك في المؤسستين السياسية والعسكرية، وخصوصاً في عهد حكومة اليمين الحالية. إذ أمدت الجمهور بتحقيقات مهمة كانت لها آثار عميقة في الحكومة والعمل السياسي (مثل قضية بار ـ أون وغيرها الكثير). ويمكن ملاحظة التحول الكبير في الإعلام من خلال مقابلة دوره في أزمة الخليج خلال 1990 ـ 1991 والأزمة الأخيرة في بداية سنة 1998. ففي الحالة الأولى تحولت وسائل الإعلام إلى ناطق باسم السلطة السياسية والعسكرية وتحولت مضامينها إلى "إعلام عسكري"، بينما شكلت ـ في الحالة الثانية ـ وسيلة ضغط قوية على السلطة من خلال طرح التساؤلات والنقاش اليومي مع ممثليها.
على الرغم من التطور الذي حدث في وضع الإعلام ودوره، فإن ثمة عدداً من المؤشرات يبين أن إسرائيل ما زالت تنتمي إلى مجموعة دول ديمقراطية تفرض رقابة قوية على الإعلام في الأزمات الأمنية والسياسية (مثل الهند والفيليبين). كذلك تتعرض قنوات الإعلام لضغوط من جهات متعددة؛ فمن المعروف أن الجمهور الإسرائيلي لا يؤيد منح الصحافة حرية كاملة.[21] وهناك مقولة مشهورة في إسرائيل، ترددها وسائل الإعلام نفسها (بسخرية)، هي أن "الإعلام مذنب"، وذلك بسبب صورتها التي انطبعت في أذهان الناس بأنها يسارية. ومع ذلك، فإن الفكرة السائدة هي أن الإعلام يشكل سلطة رابعة، وأن في استطاعته عرض بدائل من الفكر السياسي السائد. وقد يكون قانون الشاباك الذي عرضه وزير العدل، مؤخراً، على الكنيست خطوة مهمة جداً في ترسيخ هذه الفكرة بعد أن تم شطب البند الذي يقيد حرية النشر بشأن نشاطات هذا الجهاز ويقرر عقوبة على الصحافيين الذين ينشرون معلومات سرية تتعلق بالنشاط نفسه أو بالأشخاص الذين يقومون به.[22]
سادساً: تحول دور الأحزاب السياسية
ظهرت الأحزاب في المراحل الأولى من تطور المجتمع قبل قيام الدولة بزمن طويل. وفي الواقع، "كانت العنصر الرئيسي الذي صاغ المجتمع الإسرائيلي."[23] ذلك بأن أهمية الأحزاب في فهم السياسة الداخلية في إسرائيل عظيمة جداً؛ إذ تعتبر الأحزاب المحرك الرئيسي في العملية السياسية، حتى يمكن القول إن إسرائيل تمثل حالة متطرفة من تدخل الأحزاب في حياة المجتمع. فالأحزاب السياسية هي التي منحت الشرعية للنظام في تعريف المصلحة العامة، ونشطت كوسيط في الاتصالات الداخلية وامتصاص الأزمات التي هددت النظام. وكان الثمن الذي دفعه المجتمع، بسبب هذا الدور، المركزية الشديدة وتخليد أسلوب توزيع الموارد وإعاقة ظهور قوى جديدة.
يرى بعض الباحثين أن عجز القيادة السياسية عن اتخاذ القرارات الحاسمة نجم، أساساً، عن التغيير الذي حدث في أداء الأحزاب ودورها في النظام السياسي.[24] ففي العقدين الأولين من قيام الدولة، ساهمت هذه الأحزاب في مصادرة القرار السياسي من المجتمع وعزل القضايا الخارجية والأمن عن الانقسامات والسياسة الداخلية.
بعد سنة 1967، بدأ التحول في أداء الأحزاب، فضعفت ولم تعد قادرة على القيام بوظيفتها التقليدية، أي تجميع المصالح وتحضير "أجندة" للقرار السياسي. لهذا السبب، ولأسباب أُخرى ذُكرت في هذه الدراسة، فإن صفة "دولة الأحزاب" أخذت تخبو وأصبحت صورة الأحزاب أكثر سلبية في نظر الجمهور، لكنها ما زالت تقرر صفة الدولة كدولة أحزاب قياساً بدول ديمقراطية أُخرى. وقد توصل ياعار وبيرس، من خلال بحثين أجرياهما، إلى أن ثقة الجمهور الإسرائيلي بالأحزاب متدنية جداً، وأنها أدنى من ثقته بعشر مؤسسات أُخرى شملها البحث.[25]
نظراً إلى الدور المهم الذي قامت به الأحزاب في النظام السياسي، تميز هذا النظام بكونه نظاماً متعدد الأحزاب مع وجود حزب مهيمن. لكن التطورات السياسية المتعددة تسببت بتحول النظام إلى نظام تعددي متقاطب، والحزب المهيمن في كل قطب لا يحصل على أغلبية في الكنيست.
يفسر هذا التحول، إلى حد كبير، الهبوط الحاد في استقرار المنظومة الحزبية، الأمر الذي اضطر الأحزاب الكبيرة إلى تأليف حكومات الوحدة الوطنية في الفترة 1984 ـ 1990. وهذا الحل يجسد خطر الانهيار الكامن في التعددية التقاطبية وتلافيه بأسلوب يؤدي إلى الجمود. فهذا الوضع مشحون بخطر حدوث أزمات يمكن أن تثير التساؤل بشأن مجرد فرصة استمرار النظام الديمقراطي، كما حدث فعلاً.
يصب تحول المنظومة الحزبية وتشكل الكتلتين السياسيتين الكبيرتين في مصلحة الأحزاب الصغيرة، التي تعززت قدرتها على المساومة ومكانتها الاستراتيجية في النظام. وكلما تعززت هذه القوة ارتفعت قيمة المكافآت، الأيديولوجية والمادية، التي تحصل عليها لقاء انضمامها إلى الائتلاف الحكومي. وكلما زاد الإغراء تقترب هذه الأحزاب من المركز، وخصوصاً تلك التي تحمل أيديولوجيات معادية للوضع القائم.
من أهم الأمثلة لاقتراب الأطراف من المركز هو حزب شاس الذي أصبح شريكاً ثابتاً في الائتلافات الحكومية كافة. وأكثر من ذلك، إن مثل هذا الحزب أصبح قادراً على تقرير مصير أية حكومة واستخدام هذا الامتياز لتعزيز مكانته والحصول على مكافآت أكثر في شتى المجالات.[26] كذلك سار في هذا الطريق حزب "أغودات يسرائيل". فهو يميل إلى الانضمام إلى الائتلاف منذ سنة 1977، مع أنه دفع ثمناً أيديولوجياً في مقابل مكافآت مادية لقاء انضمامهز لكن أهم تغير في مكانة الأحزاب المعادية للوضع القائم تم سنة 1990، وخصوصاً في الأحزاب التي تشكل أصوات الناخبين العرب أغلبية أصواتها. إذ أبدت أحزاب راكح والديمقراطي العربي والقائمة التقدمية استعداداً لدعم الائتلاف الذي كان منتظراً أن يقوم بقيادة حزب العمل.
ساهم تغلغل الأطراف في المركز، في ظل نظام الكتلتين، في إضعاف الأيديولوجيات في الأحزاب الكبيرة، لمصلحة السياسات العملية/البراغماتية. فتعززت صفة الحزبين الكبيرين كأحزاب "سوق"، إذ إن فيها كل شيء وكل موقف ممكن ومقبول. ولذلك تلاحَظ الخلافات الشديدة داخل كل حزب بشأن القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وإلى حد كبير بشأن قضايا الأمن والسلام.
أدى انتقال صفة التعددية في النظام إلى داخل الأحزاب الكبيرة إلى بروز أهمية الصفات الشخصية للسياسيين في مقابل ضعف أجهزة الأحزاب. وانعكس ذلك في ظهو شخصيات تتحدى هذه الأجهزة وتنتصر عليها مثل حاييم رامون وإيهود براك في حزب العمل وبنيامين نتنياهو في حزب الليكود. كما أدى ذلك إلى التحول من أسلوب تعيين المرشحين بواسطة الأجهزة الحزبية إلى الانتخابات التمهيدية. وهذه التطورات نفسها حولت الأحزاب من أحزاب جماهيرية بيروقراطية إلى أحزاب محترفة جمع الأصوات، كما أدت هذه التطورات إلى تدني أهمية العنصر الأيديولوجي، الأمر الذي يقلل أهمية القيادات الروحية ـ الأيديولوجية.[27] وكان ضعف هذا العنصر في بلورة المواقف سبباً في تقليص عدد الانشقاقات على أساس أيديولوجي وتسهيل عقد التحالفات والاتفاقات والانضمام إلى تكتلات. لكن هذه الصفة نفسها وشخصنة السياسة تزيدان في احتمالات الانشقاق على أسس شخصية وقيام أحزاب كثيرة (مثل يسرائيل بعلياه والطريق الثالث وغيشر).
في الإجمال، يمكن أن نستنتج أن تحول النظام الحزبي والتغيير في طبيعة الأحزاب جعلا القرارات السياسية، وخصوصاً في الأحزاب الكبيرة، تعتمد أكثر من السابق على شخصية القيادة ومواقفها، مع احتمالات بروز الحاجة إلى دفع ثمن التأييد داخل هذه الأحزاب. لكن النظام الحالي، من جهة أُخرى، يجعل هذه الأحزاب وقياداتها أسيرة في أيدي الأحزاب الصغيرة. كما ساهم الانتقال إلى طريقة الانتخاب المباشر لرئاسة الحكومة في تعزيز موقف هذه الأحزاب الصغيرة، مع أن الهدف من تغيير طريقة انتخابها كان العكس تماماً.
سابعاً: تحوّل نمط القيادة وأزمة صنع القرار
كانت الأحزاب الإسرائيلية، حتى السبعينات، أحزاباً شعبية منظمة بطريقة بيروقراطية هرمية، إذ ينتخب النشيطون والأعضاء قيادة الحزب وهيئاته الإدارية التي تقرر سياسته وأساليب عمله.
بعد سنة 1967، بدأ يظهر ضعف التنظيمات البيروقراطية وتحول السياسة إلى سياسة شعبية وشخصية وتعزيز قوة القيادة. نتيجة ذلك فقد الحزب من مسؤولياته وقدرته على رسم السياسة، وأصبح السياسيون يتنافسون فيما بينهم بشأن كسب تأييد الرأي العام بواسطة لغة بلاغية ـ رمزية ديماغوجية مشحونة بالعواطف.[28] وأسهل الرموز استخداماً كانت الرموز الدينية والقومية. وفي إسرائيل، بسبب وضعها الخاص، أضيف إلى الخطاب الرمزي قضية الأمن. وبسبب تحول طبيعة السياسة أصبح توجه السياسيين إلى الناخبين مباشراً ومن دون توسط الأحزاب وأجهزتها. ومنح هذا التوجه السياسيين قوة أكبر على حساب الأحزاب، من جهة، لكنه أخضعهم لأصول الحوار والخطاب الشعبي، من جهة أُخرى، ولذلك أصبح التوجه إلى الجمهور قومياً ـ دينياً في جوهره ومظهره.
اندمجت سياسة الأمن العسكري في هذا الخطاب الديني ـ القومي، فكانت النتيجة موقفاً أيديولوجياً ـ سياسياً من الأراضي المحتلة سنة 1967 يرى أنها تشكل جزءاً لا يتجزأ من دولة اليهود التاريخية. منذ تلك اللحظة أصبحت الشعارات المشحونة بالعواطف، مثل تصريح موشيه دايان أن حرب 1967 هي "حرب على ميراث الآباء"،[29] عنصراً أساسياً في السياسة يصعب التحرر منه من دون مس الجمهور وفقدان تأييده، وهكذا أصبح السياسيون أسرى هذه الشعارات. كان لهذه السياسة، الشعبية والرمزية، ديماميتها الخاصة التي ألزمت السياسيين بسلوكيات معينة واتخاذ مواقف بحسب الأسس الجديدة للشرعية، وهي الأمن والحق التاريخي. وعلى هذا الأساس، يرى يوسي بيلين أن مواقف قيادات حزب مباي، بعد حل حكومة الوحدة الوطنية سنة 1970، كانت تميل إلى الاعتدال، لكن الحزب كتنظيم لم يتجاوب مع أية مبادرة سلام. وهو يفسر ذلك بواسطة الدينامية الداخلية في السياسة الشعبية وطبيعتها، التي جعلت السياسيين يخافون بعضهم من بعض، ويفضلون السير في "التلم" بحسب أسس الشرعية الجديدة التي أصبحت ضمن الإجماع القومي.[30]
ليس هناك شك في أن هذا النمط من السياسة كان من الأسباب المهمة وراء انتصار الليكود سنة 1977، ومن ثم بداية محاولات حزب العمل للتكيف وفق الأساليب الجديدة في مواجهة الليكود. إذ بدأ تحول الحزب عن طريق سحب صلاحية اللجان والهيئات البيروقراطية الحزبية في انتخاب المرشحين لشغل الوظائف الحكومية ووضعها في أيدي المؤسسات التمثيلية المنتخبة من مجموع أعضاء الحزب. وتدرج التحول في الحزب حتى النقلة الحادة باتباع طريقة الانتخابات التمهيدية سنة 1992، والتي تبناها حزب الليكود وبقية الأحزاب الإسرائيلية. كذلك حدث تحول في أسلوب التعبئة والدعاية، حتى في المضامين التي حاول الحزب أن يقنع الجمهور، بواسطتها، بالتصويت لمصلحته. وفي انتخابات الكنيست سنة 1992 بالذات، تبنى أسلوب مخاطبة العواطف والتملص من نقاش الموضوعات والقضايا المطروحة في التنافس السياسي مع الليكود. وفي الواقع، استطاع الحزب في دعايته أن يدمج بين هذا الأسلوب والتركيز على شخصية رابين وبين الخطاب البراغماتي والعقلاني في التوجه إلى الجمهور الذي يبحث عن بدائل سياسية، مستعيناً بالتنظيمات المدنية غير الحزبية.[31]
كان هذا الدمج قد نجح في لحظة تاريخية مؤاتية، لكنه لم يكن موفقاً فيما بعد. فقد وجد الحزب صعوبة كبيرة في التحول لملائمة نفسه مع الواقع الجديد في السياسة الإسرائيلية، وخصوصاً فيما يتعلق بتكيّف الأجهزة القوية الراسخة إزاء التطورات. وهذه الصعوبة هي التي تسببت بمظاهر التمرد داخل الحزب، وكان أهمها تمرد حاييم رامون سنة 1994، وخوضه انتخابات الهستدروت على رأس قائمة منافسة لقائمة حزب العمل. ورامون ينتمي إلى جيل جديد من السياسيين الذين اكتسبوا تجربتهم في العمل السياسي بعد سنة 1977، وتبنوا أساليب تفكير وأنماط عمل ملائمة للعهد الجديد ـ السياسة الشعبية.
حظيت هذه السياسة باعتراف رسمي، وكسبت شرعية من خلال تحول الأحزاب إلى الانتخابات التمهيدية وسن قانون الانتخاب المباشر لرئاسة الحكومة. وقد أضعف هذا القانون الكنيست وغيّر من وظائفه: فهو لا يستطيع أن يملي على رئيس الحكومة المنتخب تأليف حكومته، كما أنه مقيد في التصويت على حجب الثقة ولا يتوسط بين رئيس الحكومة والناخبين. إلاّ إن تطبيق القانون في الواقع الإسرائيلي كان له نتائج مباينة للأهداف التي وُضع من أجلها، وأهمها تبعية رئيس الحكومة للأحزاب الصغيرة، التي عززت قوتها بفضل مقايضة الأحزاب الكبيرة نتيجة الفصل بين التصويت لرئاسة الحكومة والتصويت للحزب.
ثامناً: ضعف المركز وزعزعة الاستقرار
يتضح لنا أن المجتمع الإسرائيلي قطع مسيرة طويلة، منذ سنة 1967، في عملية تحول مستمرة وسريعة في الاتجاهين الرئيسيين اللذين أشرنا إليهما: الليبرالي ـ العلماني، والقومي ـ الديني. وكان ذلك يعني تعميق الانقسام والتقاطب إلى حد الوصول إلى طريق مسدود لا يسمح باتخاذ قرارات حاسمة، وخصوصاً المصيرية منها. وفي نهاية الثمانينات، كان واضحاً أن إسرائيل تعاني الانقسامات المتفاقمة في كل المجالات وعلى كل المستويات، حتى أن بعض الباحثين وصل إلى نتيجة أن الخلاص من هذا الوضع غير ممكن إلاّ عن طريق "حدث تاريخي دراماتيكي يزعزع الأسس الاجتماعية ويزلزل الأرض تحت أقدام الإسرائيليين."[32]
لم تخفّ حدة الانقسامات الداخلية في إسرائيل، وإنما على العكس اشتدت المخاطر الكامنة فيها بسبب هبوط قدرة النظام السياسي على معالجتها أو التعامل معها. فهذه الانقسامات، مع أنها ظلت تُصبغ بصبغة سياسية، إلاّ إنها أصبحت فاعلة ومؤثرة في كل المستويات: المجتمعية المحلية، والثقافية، والدينية، والطبقية. وقد وضح ذلك في سلوك العرب السياسي، إذ أخذوا يبلورون قوة متمثلة في السلطات المحلية والمؤسسات التمثيلية القطرية، وفي المواجهة المستمرة بين المتدينين والعلمانيين، وفي محاولات التنظيم على أساس إثني (الشرقيون والمهاجرون الجدد)، وفي تطور العلاقات المباشرة بين الجوالي اليهودية في الخارج وبين التنظيمات المحلية والجمهور. ومع أن التنظيمات الإثنية والقومية لم تحظ بشرعية في النظام السياسي إلاّ إنها فرضت نفسها على النظام، وأصبحت حقيقة واقعة وجزءاً لا يتجزأ من اللعبة السياسية.
أسست الأقلية العربية، لأول مرة، حزباً سياسياً عربياً هو الحزب الديمقراطي العربي، وتحولت القائمة التقدمية للسلام إلى قائمة عربية محض. وفي هذه الأثناء، كانت الحركة الإسلامية في حالة مد مستمر وتجمع مزيداً من الدعم والتأييد، بينما كانت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة قد تحولت هي أيضاً إلى قائمة عربية على الرغم من بقائها، رسمياً، مشتركة.
أمّا اليهود الشرقيون فقاموا بمحاولة لإقامة حزب سياسي، هو حزب تامي الذي لم يكتب له النجاح والاستمرار إلاّ فترة قصيرة. لكن إقامة حزب شاس كانت، ولا تزال، أهم المحاولات لتنظيم الشرقيين على أساس إثني، على الرغم من واجهته الدينية. وقد تحول بسرعة هائلة إلى حزب أساسي على الخريطة السياسية وذي ثقل مهم جداً في اتخاذ القرارات. يضاف إلى هذه الانقسامات الانقسام الديني ـ العلماني الذي تعمق واشتد وتسبب بحالات صدام محلية وصراعات مستمرة على المستوى السياسي.
في مقابل هذه التطورات هبطت قدرة النظام السياسي على تسوية الخلافات هبوطاً كبيراً جداً. فهذه الخلافات لم تعد تسويتها ممكنة على مستوى النخب، ولا سيما أن إمكان ضمان ولاء النخب من الشرقيين والعرب والمهاجرين الجدد أصبح أصعب كثيراً من السابق. وزاد في هذه الصعوبة دخول أعداد كثيرة من النشيطين مجال العمل السياسي. في ضوء ذلك، ضعفت قدرة القيادة على إيجاد حلول وترتيبات موقتة، لذلك لم تعد الاتفاقات تثبت فترة طويلة، وأصبحت محملة بعدم اليقين وبعدم الثقة وتسبب عدم الاستقرار. وأصبح واضحاً أن أهمية ودور الأحزاب في تخفيف الصراعات ومنع الأزمات هبطا بدرجة كبيرة، وخصوصاً في القضايا التي تخص علاقة المجتمع بالنظام السياسي. بل إن الأحزاب نفسها تحولت إلى سبب في عدم الاستقرار وعدم ثقة الجمهور بالسياسيين. فقد هبط نشاط الأحزاب في الفترة بين جولة انتخابات وأُخرى، وانتشرت الصراعات الداخلية في كل منها، وبعض هذه الصراعات يطال تحديد السياسات.
من الطبيعي، في ظل ما ذكر، أن تتحول الائتلافات الحكومية إلى مصدر اهتزازات وعدم استقرار، إمّا لأنها واسعة جداً، وإمّا لأنها ضيقة جداً. هذا فضلاً عن أن انضمام الأحزاب الدينية إلى الائتلافات تحول من مصدر استقرار إلى مصدر خلافات وصراعات لا نهاية لها. كذلك فإن الانتخابات النسبية تحولت من وسيلة لتوزيع القوة السياسية وتوزيع الموارد، بحسب المفتاح الحزبي، إلى سبب أساسي في عدم الاستقرار؛ فهي تنتج المفاجآت، منذ السبعينات، أو تؤدي إلى الجمود بفضل تعادل الكتلتين الحزبيتين. وهي تعتبر سبباً أساسياً في عدم تحقيق الأهداف المرجوة من قانون الانتخاب المباشر لرئيس الحكومة، وأهمها منحه فرص اتخاذ القرارات الحاسمة. وكانت هذه الطريقة سبباً في تعميق تسييس الجهاز الإداري والشركات الحكومية والميزانيات العامة. وقد يكون الوضع الحالي للائتلاف الحكومي مثلاً ساطعاً لتسييس الأجهزة والمحاولات، في معظمها، التي لا تكل لإضعاف الجهاز القضائي.
نجم عن التطورات التي حدثت في المجالات المتعددة مراكز قوى اجتماعية واقتصادية جديدة، وظهرت جماعات مصلحة جديدة مستقلة عن النظام وحركات لابرلمانية (مثل الصندوق الجديد لإسرائيل). كما أدى هذا التطور إلى إضعاف الأحزاب السياسية، وإلى إضعاف القيادات وتقليل قدرتها على ضمان الاستقرار. في الوقت نفسه، عززت هذه التطورات مظاهر الفردانية والتوجه إلى تحقيق المصالح الخاصة، الجماعية والفردية، بأساليب لم يعهدها المجتمع الإسرائيلي من قبل. من هنا أصبحت طاقات كثيرة توظف في الصراعات الشخصية، واشتد التوتر الاجتماعي، وتعددت فرص الحراك بدرجة كبيرة جداً. وسرعان ما تغلغلت هذه المظاهر في العمل السياسي، وخصوصاً داخل الأحزاب، الأمر الذي جعل استحداث الانتخابات التمهيدية ضرورة حتمية. وهذا الأسلوب بدوره أضعف أجهزة الأحزاب وأدخل عناصر جديدة في العمل السياسي، وخصوصاً العنصر المادي لتمويل الحملات الانتخابية ذات التكلفة العالية. وهكذا نجم عن هذا ضرورة اللجوء إلى تنظيم العمل السياسي بواسطة القانون، مثل تحديد مصادر ومبالغ تمويل المتنافسين ومعايير التنافس السياسي داخل الأحزاب وبينها. وفي هذه الظروف لم يعد ممكناً الاستمرار في الاستناد إلى قواعد التعامل المتعارف عليها وأسس التفاهم التي كانت ملزمة لجميع الأطراف. لذلك يلاحَظ الارتفاع الكبير في التوجه إلى المحكمة العليا لفض الخلافات بشأن الاتفاقات التي لا تنفذ أو يختلف في تفسيرها.
هذه التحولات في المجتمع، وخصوصاً في العمل السياسي، صبّت كلها في اتجاه واحد هو إضعاف قدرة القيادة السياسية على الحسم في القضايا الداخلية والقضايا الخارجية، وخصوصاً قضايا السلام مع العرب، وتحديداً مع الفلسطينيين. والأهم من ذلك أن هذين النوعين من القضايا لم يعد الفصل بينهما ممكناً، لا داخل الأحزاب ولا بينها. فالسياسات الخارجية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الترتيبات الداخلية وجزءاً مهماً من المفاوضات الائتلافية.[33] وأصبح هذا التداخل والخلط بين جميع أنواع القضايا ظاهرة دائمة في النظام السياسي بسبب غياب الحزب المهيمن على الخريطة السياسية منذ سنة 1973 وغياب الحزب المحوري، فأصبحت الأحزاب الصغيرة هي التي تحظى بهذه المكانة.
أضف إلى ذلك ما ذكرناه سابقاً عن طبيعة الائتلافات الحكومية: فهي إمّا واسعة جداً (مثل حكومة الوحدة الوطنية) إذ يصبح كل طرف سبباً في إجهاض أي قرار، وإمّا أن تكون ضيقة جداً (مثل حكومة رابين في الفترة 1992 ـ 1995) فتعاني غياب الأغلبية التي تسند قراراتها في الكنيست، أو حتى أنها تتهم بعدم شرعيتها. في المجمل يمكن الاستنتاج أن الثقة بالقيادة ضعفت إلى حد بعيد، وخصوصاً في شؤون الخارجية والأمن. فالقيادة لم تعد قادرة على احتكار القرار السياسي في هذه الشؤون.
في ضوء المؤشرات الواضحة إلى زعزعة التفاهم التقليدي بسبب العجز عن الحسم، بدأت عملية تحديث جزئية لتنظيم النشاط السياسي ووضع قواعد جديدة للتعامل وتحديد الصلاحيات والمسؤوليات. لذلك تلاحَظ، في العقد الأخير، ظاهرة ارتفاع عدد القوانين التي يسنها الكنيست وتعديل القوانين القائمة، وخصوصاً القوانين الأساسية. ومن أهم هذه القوانين المتعلقة بدراستنا: قانون الأحزاب (الذي ينظم حتى النشاط الداخلي، ورفع نسبة الحسم في الانتخابات إلى 1.5%)، وقانون كرامة الإنسان وحريته، وقانون حرية الاشتغال وغيرها. إضافة إلى ذلك، تلاحَظ زيادة التوجه إلى المحكمة العليا حتى للفصل في قرارات الحكومة وتحديد صلاحيات الكنيست ونقض قرارات المحاكم الداخلية التابعة للأحزاب. ومن هنا محاولة تنظيم السلوك السياسي بواسطة القانون وقرارات المحاكم، هذا إضافة إلى تدخل مكتب مراقب الدولة في كثير من القضايا والمؤسسات التي كانت مستبعدة عن مجال تحقيقاته في السابق.
تاسعاً: اتفاقات السلام ـ أقلية تغتنم فرصة تاريخية سانحة
تضافرت التحولات في جميع المجالات، وبدأ يظهر أن المجتمع الإسرائيلي أصبح يعيش عملية فرز سياسي ـ اجتماعي سريعة وبلورة تيارات واضحة المعالم، إلى حد كبير، في نهاية الثمانينات. وهذه التيارات تمثل توجهات عامة وفلسفة حياة تنعكس في اتخاذ موقف على محورين: علماني ـ ديني، وليبرالي ـ قومي. أفرزت هذه المواقف أربعة تيارات رئيسية: قومي ـ ديني؛ قومي ـ علماني؛ ليبرالي ـ ديني؛ ليبرالي ـ علماني. وكان هناك مؤشرات ومظاهر كثيرة تؤكد توجه الجمهور الإسرائيلي نحو دعم التيارين الأولين، وخصوصاً التيار القومي ـ الديني. وتعتبر هذه الظاهرة الأخيرة من أبرز وأهم سمات التطور الأيديولوجي في إسرائيل منذ قيامها، إضافة إلى حقيقة كونه يشكل قاعدة بديلة من شرعية الدولة.[34]
على الرغم من التناقض الجوهري بين هذين التيارين في قضية مكانة الدين ـ وخصوصاً أن فئات غير قليلة وذات ثقل في التيار القومي ـ العلماني، تدعم النهج الليبرالي والحريات الشخصية في الإطار القومي ـ فإنهما اندمجا في تكتل سياسي أساسه الاتفاق على الصبغة اليهودية للدولة (القومية)، وعلى إقصاء الآخرين. أمّا التكتل المقابل في السياسة الإسرائيلية فيتشكل من التيارين الآخرين، الليبرالي ـ الديني والليبرالي ـ العلماني.
لقد عمّقت الأحداث المتعددة، وخصوصاً الانتفاضة، الهوة بين التكتلين، ذلك بأنها رسخت المواقف السابقة للإسرائيليين وأوصلتهم إلى استنتاجات متعددة، بل متناقضة، بشأن مسألة حل القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من ذلك، فإن تعادل قوة الكتلتين الكبيرتين أجبرهما على الاستمرار في تأليف حكومة الوحدة الوطنية، للمرة الثانية، بعد انتخابات سنة 1988. في هذه الأثناء، هبت رياح جديدة في المنطقة والعالم تركت بصماتها على المجتمع الإسرائيلي: انهيار المعسكر الشيوعي والهجرة الكبيرة من الاتحاد السوفياتي (سابقاً)؛ أزمة الخليج ونوعية الحرب ونتائجها، وما رافق ذلك من إطلاق الصواريخ العراقية على مركز البلد.
كان لهذه الأحداث نتائج مهمة فيما يتعلق بالإسرائيليين وبتركيبة المجتمع الإسرائيلي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. أمّا الأهم، بالنسبة إلى دراستنا، فهو أن هذه الأحداث عززت ودفعت التوجهات البراغماتية والعقلانية التي كانت في مصلحة اليسار السياسي في إسرائيل.[35] لكن التحول في هذا الاتجاه لم يكن بالعمق والانتشار إلى حد تشكيل قاعدة دعم كافية للحسم في القضايا المصيرية، وخصوصاً القضية الفلسطينية. فحكومة العمل ـ ميرتس، التي أقيمت في إثر انتخابات سنة 1992، لم تتمتع بأكثرية مطلقة بين الناخبين اليهود ولم يكن في وسعها الحصول على ثقة الكنيست إلاّ بدعم الأحزاب العربية. من هنا واجهت هذه الحكومة، منذ بداية تأليفها، مشكلة التشكيك في شرعيتها، وخصوصاً شرعية القرارات التي تتخذها في المجال السياسي. ومما عمق الشك في شرعية الحكومة تأكيد رابين نفسه، مراراً وتكراراً، أن حكومته تقوم على ائتلاف من 56 عضواً لا 61 عضواً، أي أن الائتلاف لا يقوم على أغلبية أعضاء الكنيست.
تأجج الخلاف في شأن قضية الشرعية بسبب توقيع اتفاق أوسلو الذي عمق التطرف في المجتمع الإسرائيلي وأثار التساؤلات عن إمكان اتخاذ القرارات بطرق ديمقراطية. ونجم عن هذا الخلاف نوعان من النقاش: الأول بشأن مكانة العرب في الدولة وشرعية اتخاذ قرارات تحسم عن طريق دعمهم وبأصواتهم، والثاني بشأن صلاحية النظام الديمقراطي نفسه.[36] إذ بدأت ترتفع الأصوات التي تشكك في صلاحية الديمقراطية كأسلوب لاتخاذ القرارات في القضايا المصيرية.
كسبت الأطراف الرافضة لاتفاق أوسلو والمشككة في شرعية الحكومة دعماً كبيراً من فشل عملية السلام في ضمان الأمن الشخصي للإسرائيليين والغموض الذي يكتنف مسألة الحسم في القضايا ذات الصبغة القيمية المهمة، والتي تم تأجيل بتها حتى مفاوضات المرحلة النهائية. ومن هنا كان التحول المستمر في مواقف الأكثرية اليهودية الذي انعكس في انتخابات سنة 1996. وفي الواقع، فإن التطورات السياسية وعملية الفردنة السريعة أدخلت المجتمع الإسرائيلي في فترة تخبط وارتباك، إذ اختلطت المواقف وتداخلت وأصبحت التوجهات العامة، في معظم المجالات، غير واضحة. فمن جهة يلاحظ أن الإسرائيليين يشعرون بأن دولة إسرائيل استطاعت أن تحقق الآمال والأهداف التي رسمها مؤسسو الصهيونية وبأنها تتحول إلى "دولة عادية" على الرغم من الأخطار التي ما زالت تواجهها، وهذا يعزز استقلالية الفرد وتحرره من الأطر الجمعانية التي قيدت حركته وحددت اهتماماته الشخصية. كذلك تلاحظ هذه المظاهر من خلال التعبير عن الخلافات والانقسامات والصراعات بشأن أسس متعددة، وخصوصاً الثقافية منها. ومن بوادر الشعور بالتحرر من القيود طرح الأسئلة الأساسية بشأن تعريف الدولة والمجتمع والغايات المشتركة. من جهة أُخرى، تلاحَظ مظاهر التطرف القومي والديني والإثني؛[37] فيبرز التناقض الصارخ بين الدعوة والتوجه الفعلي إلى اقتصاد السوق وبين مطالبة الجميع بتحمل الأعباء لمصلحة الجماعة من دون مقابل. كذلك تبرز التناقضات على مستوى النظام والقانون: من جهة تُسن قوانين تشرع عملية التوجه الفردي والخصخصة، وفي الوقت نفسه تشرع قوانين معاكسة. يتجه الإسرائيليون لانتخاب رئيس حكومة مباشرة، لكنه عاجز عن اتخاذ القرارات بسبب قوة الأحزاب السياسية. وفي الفترة الأخيرة يجري نشاط حثيث في محاولة لتعديل قانون الانتخاب المباشر والعودة إلى الطريقة السابقة. تبدأ الأحزاب تطبيق أسلوب الانتخابات التمهيدية، وبعد وقت قصير يتم إلغاء هذا الأسلوب ويتقرر العودة إلى الأساليب السابقة.
في ظل التخبط والبحث عن الأمان والوضوح يجد الإسرائيليون أن الطريق التي خطها حزب العمل محملة بالغموض والمخاطر وعدم اليقين. لذلك فإن التشبث بالجماعة وعدم التقدم في المخاطرة يعتبران أكثر ضماناً للمصالح وتحقيق الأمان المنشود. على هذا الأساس، كان التحالف بين التيار القومي ـ العلماني والتيار القومي ـ الديني، في انتخابات الكنيست الأخيرة سنة 1996، ضد التيارات الليبرالية. وكان نجاح هذا التحالف في مصلحة التيار القومي ـ الديني، الذي تعززت قوته بعد الانتخابات، فأصبحت عملية اتخاذ القرار بالنسبة إلى استمرار عملية السلام مع الفلسطينيين أصعب مما كانت عليه في السابق.
كان قرار رابين وحكومة العمل ـ ميرتس بالاتجاه نحو حل القضية الفلسطينية متأثراً بالضائقة السياسية والأمنية التي سببتها الانتفاضة، وإبداء الرغبة من جانب منظمة التحرير الفلسطينية في تغيير مواقفها، وكذلك الأجواء التي أوجدها الواقع الدولي الجديد في أواخر الثمانينات. وكان هذا القرار محفوفاً بالمخاطر منذ البداية، ولذلك كان اتخاذه والشروع في العملية السلمية يحتاجان إلى اقتناع شخصي وعميق جداً. كما أثبت اغتيال رابين حجم الخطر الكامن في عملية اتخاذ القرار على مقرري السياسة الخارجية. فهو يؤكد أن الصراع القيمي المرافق لعملية السلام يمكن أن يكون شديداً وخطراً وأن يشجع على استخدام استراتيجيا نزع الشرعية من صانعي القرار من جانب المعارضين للسلام، وهي استراتيجيا يمكن أن توصل إلى استخدام العنف.[38]
لقد ساهم شمعون بيرس في نزع شرعية اتخاذ القرار من رئيس الحكومة المنتخب وحكومته بواسطة تكتيك الدعاية الذي اتبعه في انتخابات الكنيست سنة 1996. وذلك بسبب تجديد تعهده بأن يعرض على الجمهور أي اتفاق يتم التوصل إليه مع سورية واتفاق الحل النهائي مع الفلسطينيين، للحصول على موافقته عن طريق استفتاء عام.
كان انتخاب بنيامين نتنياهو دليلاً على تفضيل الإسرائيليين السلام المشروط بضمان الأمن، إضافة إلى وحدة مدينة القدس وتأكيد عدم اقتلاع المستوطنين. وكان تأكيد اليمين الإسرائيلي هذه الأمور مدخلاً إلى حالة الشعور باليقين والوضوح. كذلك فإن مصير الضفة الغربية بالذات مرتبط، في وعي الإسرائيليين وقناعاتهم، بمسألة قيمية من الدرجة الأولى: الاستيطان والأيديولوجيا. ومن الواضح أن يتسحاق رابين وشمعون بيرس اعتبرا أن السلام وضمان الأمن عن طريق تحقيقه أهم من الاستيطان والأيديولوجيا، بينما ترتب القيادة الحالية الأولويات بصورة معاكسة.
تواجه عملية السلام أزمة حقيقية، في الوقت الحالي، لأن اتخاذ القرارات الحاسمة مسألة في غاية الصعوبة. لقد اعترف اليمين الإسرائيلي، وعلى رأسه نتنياهو، باتفاقات أوسلو كواقع فرض عليه لكنه لم يوافق عليه شكلاً ومضموناً. وتشير التطورات، أو بالأحرى الجمود منذ تنفيذ اتفاق الخليل، إلى صعوبة تغيير مواقف صانعي القرار. أمّا لو افترضنا أن نتنياهو شخصياً ـ وكذلك قيادة الليكود ـ يمكن أن يقرر التحرك إلى الأمام والاستمرار، بطريقة أو بأُخرى، في عملية السلام فإنه يواجه مشكلة معقدة وصعبة تتعلق بقدرته على اتخاذ مثل هذا القرار. ولو افترضنا أن نتنياهو يمكن أن يتخذ، بسبب الضغوط الأميركية والدولية، قراراً بتنفيذ المرحلة الثانية من الانسحاب، فإن المؤشرات كلها تبين أنه سيقع في ورطة سياسية بسبب تركيبة حكومته، قد تضطره إلى تقديم موعد انتخابات الكنيست. وفي أحسن الحالات، فإنه لو ضمن بقاءه في الحكم بعد اتخاذ مثل هذا القرار فسوف يجمد العملية عند هذا الحد.
ومن هنا يتضح أن العملية تواجه معضلتين: تتمثل الأولى في عدم اقتناع نتنياهو نفسه بها، والثانية صعوبة ضمان اكثرية، في الحكومة وفي الائتلاف، تمنح هذا القرار الشرعية اللازمة. بالنسبة إلى المعضلة الأولى تلاحَظ قدرة نتنياهو على المراوغة والتملص من الضغوط الخارجية والداخلية، من أجل اتخاذ القرار للاستمرار في العملية السلمية. ويظهر أن استراتيجيته هي عدم الحسم وانتهاز الفرص التي تساعده في المراوغة منتظراً ملل النظام الأميركي وحدوث ما يمكن أن يعزز موقفه. وكان الصحافي عكيفا ألدار أشار إلى هدف نتنياهو أنه "التخلص من اتفاق أوسلو، وهو غير ملزم بأن يفعل شيئاً وإنما فقط ألاّ يفعل شيئاً."[39] أمّا الصحافي يوئيل ماركوس فكان رأى أن نتنياهو "لا يسعى لتحقيق هدف استراتيجي محدد وإنما يقوم بألعاب للبقاء في الحكم."[40]
أمّا المعضلة الثانية فتتعلق بتركيبة الائتلاف الحكومي وقوة الأحزاب الصغيرة. إذ نجمت هذه التركيبة عن طريقة الانتخابات الجديدة التي اضطرت الأحزاب الكبيرة إلى عقد صفقات مع الأحزاب الصغيرة مضمونها تصويت مؤيدي الأخيرة للمرشح لرئاسة الحكومة والتنازل عن هذه الأصوات في انتخابات القوائم الحزبية. وكانت النتيجة تعزيز قوة الأحزاب الصغيرة، وخصوصاً المتدينة والعربية، وإضعاف موقف رئيس الحكومة المنتخب وقدرته على اتخاذ القرار في القضايا الحاسمة. ويمكن اعتبار الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو أكثر الحكومات في تاريخ إسرائيل تمثيلاً لتركيبة المجتمع الإسرائيلي إثنياً وطبقياً وثقافياً وعقائدياً. وكان من المفروض أن تكون هذه الميزة مصدر قوة للحكومة ورئيسها. لكنها في الواقع تشكل، في الوقت نفسه، أكثر أسباب ضعف رئيس الحكومة وعجزه عن اتخاذ القرارات. فالحكومة تجمع بين تناقضات كثيرة جداً يصعب التوفيق بينها في معظم المجالات. هذا إضافة إلى التناقضات داخل الأحزاب نفسها، أحزاب الائتلاف والمعارضة على حد سواء. وهذا الوضع يشير إلى ضعف الإجماع حتى على القضايا المهمة التي شكلت قاعدة الإجماع الإسرائيلي وكان الاتفاق عليها يعتبر مسلماً به.
إن معضلة صنع القرار ليست في تناقض المواقف نفسها، وإنما في بنية النظام التي توجد هذه المعضلة وتزج البلد في أزمة حقيقية عميقة. فمن جهة، هناك رئيس حكومة منتخب مباشرة من الجمهور، ومنه يفترض أن يستمد شرعيته، ومن جهة أُخرى هو عاجز عن اتخاذ القرارات الحاسمة لأن مصيره رهن إرادة الأحزاب الصغيرة. فالقانون الإسرائيلي، الذي انتُخب بموجبه رئيس الحكومة، لم يضع الأسس لنظام رئاسي ولذلك لم يحد من قوة الأحزاب ودورها في اتخاذ القرار وإنما منحها فرصاً أكثر للابتزاز. كما أضاف إلى تعقيد هذه المعضلة التداخل بين مختلف القضايا، الداخلية والخارجية، وعدم إمكان سلخ القضايا الداخلية عن سياقها الاجتماعي والثقافي ولا مصادرة الشؤون الخارجية من المجتمع.
في ضوء هذا الوضع يمكن فهم المواقف والسلوكيات المتناقضة التي تميز الحكومة الحالية. فمن جهة، يحاول رئيس الحكومة أن يتحرر من الضغوطات والابتزاز وأن يحتكر اتخاذ القرارات، لا بالضرورة في مصلحة عملية السلام، لكن لمصلحته الشخصية في استحداث نظام رئاسي، ومن جهة أُخرى هو يحتاج إلى دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تشاركه الموقف السياسي في القضايا الخارجية. تقترح الحكومة قوانين جديدة لسنها في الكنيست ذات مضامين ليبرالية تحمي الحريات الشخصية وتتقدم خطوات في اتجاه خصخصة الاقتصاد والخدمات، وفي الوقت نفسه تدعم قوانين أُخرى في مصلحة المتدينين ومنحهم الموارد المادية والمعنوية لتوسيع قاعدتهم المجتمعية وتعزيز قوتهم في مقابل الاتجاهات الفردانية. وعلى هذا الأساس وصف وزير الخارجية المستقيل، دافيد ليفي، الحكومة بـ "أنها حكومة توافق وتعارض كل شيء، فهي تؤيد وترفض في الوقت نفسه، وتقف موقفاً إيجابياً وسلبياً، وتعد ولا تفي."[41]
يعكس هذا الوصف بدقة حقيقة التناقضات التي تميز الحكومة الحالية في إسرائيل، والتي تعكس، بدورها، طبيعة النظام السياسي القائم وعجزه عن الحسم في القضايا المصيرية. وتؤكد هذه الحالة الحاجة إلى قيادة تتميز بقناعات عميقة وراسخة وبالعزم على الحسم واتخاذ القرار. إن تاريخ إسرائيل شهد الكثير من الحالات التي حسمت فيها القيادة السياسية، أو أن زعيماً سياسياً يتمتع بالكاريزما وبالرصيد الجماهيري حسم قضايا مصيرية حصلت على دعم الجمهور بعد اتخاذ القرار. من أهم هذه القرارات كان قرار مناحم بيغن إعادة سيناء كاملة والتنازل عن المستعمرات التي كانت موجودة فيها، وقرار يتسحاق رابين توقيع اتفاق أوسلو.
الخاتمة
توضح هذه الدراسة أن عملية صنع القرار في إسرائيل تعقدت إلى حد بعيد، وأدخلت النظام السياسي الإسرائيلي في أزمة عميقة، بعد العقدين الأولين من قيام الدولة. وتتميز هذه العملية، في المرحلة الحالية، بعدم الوضوح والتناقضات وبتشابك قنوات صنع القرار وتداخلها، إضافة إلى تداخل أنواع ومستويات متعددة من القضايا كانت معزولة بعضها عن بعض، وكانت مسؤوليات وصلاحيات بتها واتخاذ القرار بشأنها واضحة إلى حد بعيد. والحالة السائدة اليوم تجعل من عملية الحسم في القضايا المهمة، وخصوصاً المصيرية منها، عملية صعبة ومعقدة، وهي عبارة عن مخاطرة. كما تبين لنا أن هذا التحول في مسألة صنع القرار بدأ يتبلور في الوقت الذي أصبحت فيه إسرائيل مضطرة إلى حسم قضايا تمس القيم العليا للإسرائيليين وتعني حسم كثير من الأمور التي تحدد صبغة الدولة وطبيعة العلاقات الداخلية، وهي أمور تم تأجيل حسمها فترة طويلة. كما أن أزمة صنع القرار كانت متلازمة مع أول تقصير في المواجهة العسكرية مع العدو الخارجي (حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973)، والتي تسببت بالتشكيك في كفاءة صانعي القرار. لكن الأزمة كانت تتعمق وتتفاقم، مع مرور الوقت، بسبب التحولات العميقة التي مر بها المجتمع الإسرائيلي منذ سنة 1967. وكانت نتيجة هذه التحولات نشوء مجتمع جديد وإنسان جديد لا يمكن التعامل معهما وقيادتهما بالأساليب التقليدية التي استخدمها النظام السياسي في السابق. إذ تداخلت القضايا الداخلية والخارجية إلى حد بعيد، وظهرت قوى اقتصادية واجتماعية لا تخضع لإرادة السلطة وفي إمكانها ممارسة الضغوط عليها، كما تعمقت الانقسامات الداخلية ولم يعد في الإمكان توريتها وتقنينها. وفي ظل عجز الترتيبات التقليدية عن تنظيم العلاقات في المجتمع الجديد، وعجز المؤسسات التي ساهمت في بلورتها والحفاظ عليها، وجمود الأيديولوجيا وغياب القيم والمعايير، أصبح التغيير في النظام السياسي ضرورة حتمية من أجل بلورة أساليب جديدة ناجعة في صنع القرار، وفي الوقت نفسه المحافظة على الاستقرار. وتبين الدراسة أيضاً أن التطورات في المجتمع الإسرائيلي لم تكن متوازنة وغير متوازية في النظم والمجالات كافة. أمّا أكثر مظاهر عدم التوازن وضوحاً فهو الفجوة بين تطور المجتمع وتطور البنى المؤسسية، وخصوصاً بنية النظام السياسي. فهذا النظام تأخر كثيراً في تحوله عن النظم الأُخرى وأصبح عاجزاً عن قيادة المجتمع وصنع القرار بالمستوى الذي تحلى به في السابق. وفي ضوء الأهمية القيمية للقضايا المطروحة، فإن اتخاذ القرار مشحون بالمخاطر ويتسبب بإحداث أزمات سياسية واجتماعية عميقة. فالقيادة لم تعد قادرة على احتكار الشؤون الخارجية وعزلها عن المجتمع، ولم يعد "المطبخ السياسي" قادراً على اتخاذ القرارات وتنفيذها. فالقضايا جميعها أصبحت متداخلة، وكذلك المصالح، كما أن القوى الاجتماعية والسياسية أصبحت هي الأُخرى متداخلة ومتشابكة وتمارس تأثيرها في عملية صنع القرار. وهذان التداخل والتشابك ينعكسان، بصورة واضحة، على مواقف الأحزاب السياسية من القضايا المتعددة وتنوع هذه المواقف داخل كل حزب على حدة.
إن الاستنتاج الأساسي الذي يمكن أن نخرج به من هذه الدراسة هو أن أزمة صنع القرار لا يمكن التغلب عليها إلاّ بسن قوانين أساسية جديدة، أو تعديل القائمة منها، تلغي التناقضات التي يعانيها النظام السياسي وتحدد أساليب اتخاذ القرار وقنواته بصورة واضحة.
هذا الحل يمكن التوصل إليه على المدى البعيد، لكن إسرائيل تعيش مرحلة حاسمة تضطرها إلى اتخاذ قرار في القضية السياسية الأساسية التي تواجهها وهي استمرار العملية السياسية أو تجميدها. ونرى أن صفة التعقيد والتداخل والتشابك يمكن استغلالها، إيجابياً أو سلبياً، من جانب القيادة في حالة اقتناعها بحل معين للأزمة الحالية، عن طريق المقايضة مع الأحزاب السياسية والفئات المختلفة، إذ تتم مبادلة الموقف السياسي بإنجازات وامتيازات على المستوى الداخلي. ويمكن أن نضيف إمكاناً ثانياً لحل الأزمة الراهنة، يفترض إيجابية الاستمرار في العملية السياسية حتى التوصل إلى حل نهائي، ويتمثل في تكتل الجماعات والقيادات المؤيدة لهذا الاتجاه، من كل التيارات، شرط أن تقتنع بضرورة وضع هذه القضية على رأس أولوياتها وعزلها عن المصالح المشتركة مع القوى المعارضة لهذه العملية.
[1] أنظر: ح. هرتسوغ، "الطائفية السياسية" (تل أبيب: الكيبوتس الموحد، 1986) (بالعبرية).
[2] أ. ز. كلايمان، "الاقتصاد السياسي لإسرائيل: اشتراكية دولة على مفترق طرق"، في: "إسرائيل نحو عام ألفين"، تحرير م. ليساك وب. كنيه ـ باز (القدس: الجامعة العبرية، 1996)، ص 196 ـ 212 (بالعبرية).
[3] المصدر نفسه، ص 210 ـ 211.
[4] أ. نويباخ، وآخرون، "تحديات الاقتصاد الإسرائيلي" (تل أبيب: المعهد الإسرائيلي الدولي ومكتبة معاريف، 1990) (بالعبرية).
[5] كلايمان، مصدر سبق ذكره، ص 212.
[6] "تقرير مراقب الدولة"، رقم 41 (1991)، ص 595 ـ 613 (بالعبرية).
[7] "تقرير مراقب الدولة"، رقم 43 (1993)، ص 732 ـ 744 (بالعبرية).
* حالة تتميز بعدم وضوح القيم والمعايير الاجتماعية، أصلها من كلمة (Anomie) الفرنسية.
[8] إريك كوهين، "إسرائيل كمجتمع ما بعد صهيوني"، في: "الأسطورة والذاكرة: سيرة الوعي الإسرائيلي"، تحرير د. أوحانا، ور. ويستريخ (القدس، تل أبيب: معهد فان ـ لير والكيبوتس الموحد، 1996)، ص 158، 165 ـ 166 (بالعبرية).
[9] المصدر نفسه، ص 160.
[10] المصدر نفسه، ص 162.
[11] المصدر نفسه، ص 162.
[12] لمزيد من التفصيلات عن تحولات المجتمع الإسرائيلي أنظر: يوسي ميلمان، "الإسرائيليون الجدد: نظرة شخصية إلى مجتمع في حالة تغير" (القدس، تل أبيب: شوكن، 1993)، ص 249 ـ 158 (بالعبرية).
[13] يشير الصحافي آرييه كسبي، استناداً إلى تقارير الشرطة، إلى أن معدلات الجنوح والجريمة في إسرائيل ارتفعت في الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة بوتيرة عالية جداً فاقت كثيراً ارتفاعها في أوروبا. فمعدلات جرائم القتل كانت حتى قبل عقد من أدنى المعدلات في العالم بينما أصبحت اليوم ضعف المعدلات الأوروبية (2.5 لكل 100 ألف نسمة في مقابل 1.26 في أوروبا). ملحق "هآرتس"، 15/5/1998.
[14] D. Shimshoni, The Israeli Democracy: The Middle of the Journey (New York: The Free Press Macmillan Publishers, 1982), p. 223.
[15] يوناتان شابيرا، "مجتمع في أسر رجال السياسة" (تل أبيب: مكتبة بوعاليم، 1996)، ص 134 (بالعبرية).
[16] حانه كيم، "القطاع الثالث"، "هآرتس"، 13/1/1998.
[17] ميلمان، مصدر سبق ذكره، ص 9.
[18] شلومو أفينيري، "دولة إسرائيل بين التضامن والتعددية"، في: إسرائيل نحو عام ألفين"، مصدر سبق ذكره، ص 349، 388 ـ 394.
[19] A. Arian, Politics in Israel: The Second Generation (NM.: Chatham House Publisher, 1989) (Revised Edition), p. 296.
[20] موشيه نجبي، "نمر من ورق: الصراع بشأن حرية الصحافة في إسرائيل" (تل أبيب: مكتبة بو عاليم، 1985) (بالعبرية).
[21] E. Yachtman-Yaar, “Who is Afraid of a Free Press,” Democracy, Vol. 19, Winter 1989, p. 21.
[22] قدم الوزير نفسه، في وقت لاحق، قانوناً جديداً ينظم عمل الموساد وعلاقته بالسلطة.
[23] غيورا غولدبرغ، "الأحزاب في إسرائيل: من أحزاب جماهيرية إلى أحزاب انتخابات" (تل أبيب: جامعة تل أبيب، إصدار راموت، 1992)، ص 15 ـ 16 (بالعبرية).
[24] يتسحاق غلنور، "أزمة النظام السياسي الإسرائيلي: دور الأحزاب المركزي"، في: "إسرائيل نحو عام ألفين"، مصدر سبق ذكره، ص 144 ـ 175.
[25] E. Yachtman-Yaar, “The Israeli Public and its Institutions,” Israeli Democracy, Vol. 3, No 3, 1989,
pp. 7-11; Y. Peres, “Most Israelis are committed to Democracy,” Israeli Democracy, No 1, 1987,
pp. 16-19.
[26] في سنة 1990، ساعد حزب شاس حزب العمل في إسقاط حكومة الوحدة بهدف تعزيز موقفه في المساومة مع الحزب نفسه في الحكومة التي تقام على ائتلاف ضيق. وعلى الرغم من أن الحكومة أقيمت بقيادة الليكود، فإن حزب شاس حقق هدفه وتحول إلى حزب حيوي في الائتلاف الجديد.
[27] غولدبرغ، مصدر سبق ذكره، ص 259.
[28] شابيرا، مصدر سبق ذكره، ص 113.
[29] شبتاي طيفت، "موشيه دايان" (تل أبيب: شوكن، 1971)، ص 586 (بالعبرية).
[30] يوسي بيلين, "ثمن الوحدة" (تل أبيب: شوكن، 1985)، ص 586 (بالعبرية).
[31] المصدر نفسه، ص 136.
[32] كوهين، مصدر سبق ذكره، ص 116.
[33] غلنور، مصدر سبق ذكره، ص 162.
[34] E. Cohen, “The Changing Legitimization of the State of Israel,” Studies in Contemporary Jewry (1986), No 2, p. 116.
[35] Jacob and Michal Shamir, The Dynamics of Israeli Public Opinion on Peace and Territories (Tel Aviv: Tel Aviv Univ., The Tami Steinmetz Center for Peace Research, 1993).
[36] يعقوب بار ـ سيمان ـ طوف، "الانتقال من حالة الحرب إلى السلام ـ تعقيد اتخاذ القرار: دراسة في الحالة الإسرائيلية"، سلسلة التقارير رقم 6، 1996، ص 107 (بالعبرية).
[37] زئيف شطيرنهل، "كوكتيل إسرائيلي"، "هآرتس"، 13/9/1996.
[38] بار ـ سيمان ـ طوف، مصدر سبق ذكره، ص 108.
[39] "هآرتس"، 18/1/1998.
[40] المصدر نفسه، 9/1/1998.
[41] المصدر نفسه.