الدولة الفلسطينية المستقلة خيار واقعي
كلمات مفتاحية: 
إقامة الدولة الفلسطينية
عملية السلام
حل الدولتين
النزاع العربي - الإسرائيلي
نبذة مختصرة: 

يتناول المقال آفاق عملية السلام بعد فوز حزب الليكود في الانتخابات الإسرائيلية، وبعد النقاش السلبي الذي ساد أوساط السياسيين والمفكرين الفلسطينيين بهذا الشأن، وبشأن الحلول النهائية للصراع الفلسطيني ـالإسرائيلي، واتساع هذا النقاش ليشمل فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة ومسائل أخرى كانت تعتبر من المسلمات الفلسطينية، حيث ظهر في صفوف المفكرين والباحثين الفلسطينيين من يدعو إلى عدم التسرع في إعلان قيام الدولة على الأرض، ومن يشكك في جدوى الإعلان وفي مردوده. ويرى الكاتب أن موت عملية السلام لا يعني أن خيار الحرب أصبح الخيار الوحيد، وإن الخيارات الأخرى البديلة من خيار الدولة المستقلة ليست واقعية ومرفوضة، وأن مقومات الدولة المستقلة متوافرة. ويدعو إلى تشجيع المواطن والمفكر وصانع القرار في إسرائيل على تقبل فكرة التعايش في دولتين متجاورتين، ويرى أن هذا الأمر مهمة فلسطينية وعربية ودولية من الدرجة الأولى، لأن من غير الممكن لأي حكومة إسرائيلية الأخذ بخيار الدولة الفلسطينية كحل نهائي للصراع إلا إذا توافرت غالبية شعبية (51 %) تؤيد مثل هذا الخيار. ويرى الكاتب أن طريق الدولة الفلسطينية ليست سالكة، وأن ميلادها سيمر بمخاض دموي وعسير جداً، خصوصاً بعدما أصبحت المستوطنات تغطي مساحة واسعة من أراضي الضفة والقطاع.

النص الكامل: 

 

فوز اليمين الإسرائيلي أربك الجميع

منذ فوز حزب الليكود في الانتخابات الإسرائيلية واتضاح سياسته المعادية للسلام، وإلى الآن، ما زال يدور نقاش سلبي واسع في أوساط السياسيين والمفكرين والباحثين الفلسطينيين بشأن آفاق عملية السلام، والحلول النهائية للصراع الفلسطيني العربي ـالإسرائيلي. وبعد تنصل بنيامين نتنياهو من الاتفاقات والتفاهمات التي تمت في عهد حزب العمل، وانتعاش حركة مصادرة الأراضي، وعمليات توسع الاستيطان في الضفة الغربية... إلخ، ارتفعت وتيرة النقاش وزادت سلبيته، وسادت الشكوك في بقاء عملية السلام في قيد الحياة، وفي فرص تقدم المفاوضات على مسارها الفلسطيني ـالإسرائيلي. وعقب تراجع دور الإدارة الأميركية في رعاية المفاوضات، توسعت دائرة البحث السلبي وشملت جهات إقليمية ودولية كثيرة، وتنوعت قضايا البحث عند شرائح واسعة من الفلسطينيين، وطالت فكرة الدولة المستقلة، ومسائل أُخرى كثيرة كانت تعتبر مسلّمات فلسطينية. وبعثت الحياة من جديد في أفكار قديمة متنوعة نسيها الناس فترة ليست بقصيرة منها: الترحيل (الترانسفير)؛ الخيار الأردني؛ ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل؛ بقاء الوضع على ما هو عليه؛ حكم إداري ذاتي موسع؛ دولة فلسطينية في غزة وتقاسم وظيفي في الضفة... إلخ كانت اعتُبرت جميعها، بعد اتفاق أوسلو سنة 1993 وبعد انتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني سنة 1996، في عداد الحلول التي عفّاها الزمن وتجاوزتها الأحداث. ومع تدهور حالة عملية السلام على المسارات جميعاً، وتصاعد عمليات الاستيطان في الضفة الغربية أكثر فأكثر، تم نبش وإحياء عدد من الأفكار الأكثر قدماً والأكثر شمولية، مثل التخلي عن فكرة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على أراضي الضفة والقطاع لمصلحة فكرة قيام "دولة ديمقراطية علمانية موحدة"، أو فكرة "دولة ثنائية القومية"، اللتين طرحتهما الفصائل الفلسطينية أواخر الستينات لتطوير موقفها في اتجاه الواقعية، وقدمتهما إلى العالم بديلاً من مقولة "تحرير فلسطين وطرد اليهود منها"، التي سادت الفكر السياسي الفلسطيني منذ "النكبة" سنة 1948 حتى هزيمة حزيران/يونيو 1967.

مع اقتراب انتهاء المرحلة الانتقالية، في الرابع من أيار/مايو 1999، وتيقن القوى المحلية والإقليمية والدولية من موت عملية السلام على مسارها الفلسطيني ـالإسرائيلي، تجدد الحديث عن الدولة الفلسطينية وكانت وجهته سلبية. وطُرحت تساؤلات بشأن آفاق الحل النهائي بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. وخطا البحث خطوة إلى الأمام حين أعلن رئيس السلطة الفلسطينية تصميم الجانب الفلسطيني على ملء الفراغ وذلك بأن يُعْلَن، في 4 أيار/مايو المقبل، قيام الدولة الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية جميعها التي احتلت في الخامس من حزيران/يونيو 1967، وأعلن أن القدس الشرقية المحتلة ستكون عاصمة لها. سخر بنيامين نتنياهو من التوجهات الفلسطينية واعتبرها ابتزازاً وتهديداً لأمن إسرائيل، وهدد بإلغاء جميع الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، وباتخاذ الإجراءات العملية التي يراها ضرورية للحفاظ على أمن إسرائيل وعلى وجودها وعلى مصالحها الاستراتيجية، بما في ذلك إعادة احتلال الأراضي والمدن الفلسطينية المحررة. وما زالت الحرب الكلامية مشتعلة بين الطرفين، وأظنها ستحتدم أكثر فأكثر في الشهور القليلة المقبلة. وتحدث بعض غلاة اليمين المتطرف عن طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية وضمها إلى إسرائيل إذا أقدموا على إعلان الدولة من طرف واحد. وفي مواجهة هذا الموقف المتطرف ظهر في صفوف المفكرين الإسرائيليين الواقعيين مَن اعتبر التوجهات الفلسطينية نتيجة طبيعية لعملية السلام، ولمسار تطور الصراع العربي الفلسطيني ـالإسرائيلي بعد خمسين عاماً، ونتيجة حتمية للواقع السكاني القائم على الأرض؛ إذ يعيش في الضفة الغربية وقطاع غزة، الآن، ثلاثة ملايين إنسان فلسطيني تقريباً، بالإضافة إلى مليون إنسان آخر يعيشون في إسرائيل. وظهر، أيضاً، في الشارع الإسرائيلي قوى حزبية جدية، يتزعمها حزب العمل وحركة ميرتس، تدعو إلى مساعدة الفلسطينيين في إقامة دولتهم باعتبارها، كما قال يوسي ساريد وشمعون بيرس: "ضرورة لا غنى عنها لقيام سلام حقيقي مع الفلسطينيين، وضرورة للمحافظة على ديمقراطية دولة إسرائيل وبقاء هويتها يهودية."

وفي المقابل، ظهر في صفوف المفكرين والباحثين الفلسطينيين من يدعو إلى عدم التسرع في إعلان قيام الدولة على الأرض، ومن يتساءل عن قيمة الإعلان ويشكك في جدواه وفي مردوده. وهناك الآن من يبهت الدولة الفلسطينية المستقلة كتوجه وكفكرة، ويرى أن الوضع على الأرض يولد "كياناً سياسياً" ملتبس المعالم وناقص السيادة ومعظم أراضيه محتلة، ويمكن أن يطلق عليه كل النعوت والصفات والأسماء ما عدا دولة مستقلة. وهناك من يعتقد أن تطور الصراع يفرض تجاوز موضوع الدولة المستقلة ويستوجب البحث عن صيغة بديلة. بالإضافة إلى أنه يروج فكرة "دولة ديمقراطية علمانية موحدة على أرض فلسطين التاريخية"، أو "دولة ثنائية القومية عربية ـيهودية على أرض فلسطين كلها"، كأنهما أكثر واقعية من الدولة الفلسطينية المستقلة... أو كان الفلسطينيين في وضع يسمح لهم بتقرير لا مصيرهم وشكل نظامهم السياسي فحسب، بل أيضاً مصير شعب ودولة إسرائيل، بما في ذلك تحويلها من دولة يهودية إلى دولة ديمقراطية علمانية موحدة، أو دولة ثنائية القومية..! وكأن الذي يرفض قيام دولة فلسطينية مستقلة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، ويهدد بإعلان الحرب ضدها، ويعمل بكل السبل لإيجاد حقائق تحول دون قيامها... سيقبل التخلي عن إسرائيل كدولة يهودية، لمصلحة قيام "دولة ديمقراطية علمانية موحدة" أو "دولة ثنائية القومية" يتعايش فيها سكانها في ظل العدل والمساواة.

حقائق ملموسة لا يمكن تجاوزها

لا شك في أن التباين الفلسطيني بشأن الحل النهائي للقضية الفلسطينية طبيعي، وفي أن الخلاف بشأن صيغة العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي وأسس إنهاء الصراع بينهما صحي تماماً. فلكل وجهة نظر ركائزها النظرية والعملية، وعند أصحابها أسلحة فكرية وسياسية تمكنهم من استخدامها في الدفاع عن وجهات نظرهم. إلاّ إن أحداً لا يستطيع إنكار أن قبول القيادة الإسرائيلية التفاوض مع ممثلي الشعب الفلسطيني وتوصُّل الطرفين إلى اتفاقات ثنائية أقفلا الطريق أمام أي دور عربي مركزي في حل المسألة الفلسطينية. إن الاعتراف الإسرائيلي بالمنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني، وتوقيع الكثير من الاتفاقات معها، أضعفا الخيار العربي كطريق ووسيلة لإنهاء الصراع الفلسطيني ـالإسرائيلي، وثبّتا الخيار الفلسطيني طريقاً وحيداً لحل الصراع الفلسطيني ـالإسرائيلي المزمن. وبعد هذه الاتفاقات وبعد الخطوات التي تمت على الأرض، لم يعد في إمكان أحد إعادة أوضاع الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ما كانت عليه قبل سنة 1967، أي إلحاق الأولى بالأردن والثاني بمصر. ومن البديهي القول إن بقاء الوضع على ما هو عليه غير ممكن. فالوضع القائم الآن لم ينه الصراع، وهو مرفوض من الفلسطينيين والعرب، ويحمل في طياته عوامل وعناصر متعددة قادرة على إشعال حرائق كبيرة في أكثر من مكان في المنطقة.

من الواضح أن مواقف حزب الليكود، وتجربة السلطة الفلسطينية منذ قيامها وإلى الآن، هما اللتان أثارتا وتثيران الأسئلة عن دقة وصحة الاستمرار في اعتماد خيار الدولة المستقلة هدفاً أساسياً للفلسطينيين. كما أن اختلال ميزان القوى لمصلحة إسرائيل، وانغلاق آفاق عملية السلام، دفعا عدداً من الباحثين الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين إلى اعتبار فكرة الدولة مستحيلة التحقيق في المنظور القريب، ولا تمثل حلاً عملياً للصراع الفلسطيني ـالإسرائيلي. وأظن أن انتعاش هذه الأفكار ووجهات النظر، الجديدة القديمة، انتعاش عابر وموقت، وما كان لها أن تبرز من جديد لو فاز حزب العمل في الانتخابات. ولا أدري إذا كان أصحابها سيواصلون التمسك بها وترويجها لو تألفت حكومة وحدة وطنية في إسرائيل مثلاً، أو تحركت عملية السلام من جديد، أو نفذ بنيامين نتنياهو استحقاقات المرحلة الانتقالية، أو جرت انتخابات مبكرة وفاز حزب العمل فيها، أو تحولت أقوال السيدة الأميركية الأولى، هيلاري كلينتون، عن الدولة الفلسطينية إلى موقف أميركي رسمي، مثلاً.

إنني أعتقد أن الباحثين والمفكرين يرتكبون خطأً فادحاً إن هم أخضعوا تفكيرهم، فيما يتعلق بالمصير الفلسطيني وبتحديدهم الخيارات الفلسطينية، لتقلبات موقف الناخب في الشارع الإسرائيلي. ويخطئون أكثر إذا أخضعوا فكرة الدولة الفلسطينية لمواقف اليمين القومي والديني المتطرف الحاكم في إسرائيل، وإذا سمحوا لتعقد عملية السلام، وتراجع دور رعاتها، بالتأثير في خيارهم وتوجاتهم الاستراتيجية، وإذا انساقوا وراء الأحلام والأفكار النظرية الجميلة المجردة، وسيطرت أمنياتهم ورغباتهم الذاتية على أذهانهم، وتجاوزوا عدداً من الحقائق والوقائع أهمها:

طريق السلام يؤدي إلى دولة مستقلة

إن موت عملية السلام الحالية لا يعني أن خيار الحرب أصبح الخيار الوحيد للحل من الآن ولأعوام كثيرة مقبلة. فقد سار الجميع على درب السلام لحل خلافاته مع الطرف الآخر بالطرق السلمية لاعتبارات دولية وإقليمية، ونتيجة إدراكه أن تجربة الحرب لم ولا تحقق أهدافه. صحيح أن العرب والإسرائيليين كانوا متشككين في إمكان تحقيق خطوات جدية عبر المفاوضات، لكنهم الآن، وبعد تحقيق ما تحقق من اتفاقات ومن علاقات، أصبحوا أسرى هذه العملية ومتورطين في تفصيلاتها، وانتقل بعضهم إلى التعامل معها كاستراتيجيا. وإذا كانت القيادة الإسرائيلية ـلاعتبارات عملية متنوعة داخلية وخارجيةـ ليست بحاجة إلى شن حروب كبيرة لتنفيذ توجهاتها، فمن الواضح أن كلاً من موازين القوى العسكرية العربية ـالإسرائيلية، ومواقف القوى الدولية، لا تشجع النظام الرسمي العربي على العودة إلى خيار الحرب لحل الخلاف مع إسرائيل، ولفرض الحلول التي تعيد إلى العرب حقوقهم الوطنية والقومية المغتصبة. وإذا كان لا يزال هناك، بين العرب والإسرائيليين، من يفكرون في الحرب لتحسين مواقفهم وتعديل ميزان القوى، فأظنهم يدركون أن النتيجة الوحيدة لأية حرب جديدة هي العودة إلى المفاوضات على القواعد والأسس ذاتها، تقريباً، التي ساروا عليها منذ سنة 1991 حتى الآن. إن التطورات الدولية ومصالح القوى الكبرى التي ألزمت العرب والإسرائيليين بالذهاب إلى مدريد، وفرضت عليهم السير في دروب التفاوض لحل خلافاتهم كبديل من طريق الحروب والقتال، ما زالت قائمة حتى لو قل اهتمام الإدارة الأميركية والعالم بصنع السلام في المنطقة. ولا يستطيع المشككون في خيار الدولة المستقلة الادعاء أن تجدد عملية السلام الحالية بصيغة أو بأُخرى، أو ميلاد عملية سلمية جديدة، يقفلان الأبواب أمام إمكان قيام دولة فلسطينية مستقلة. لكن في الإمكان الجزم أنها لم ولن تتضمن ما يمكن أن يكون له صلة ما بفكرة الدولة العلمانية الموحدة، أو بفكرة الدولة ثنائية القومية. فكلتا الفكرتين مرفوضة بالمطلق من أحد طرفي الصراع والطرف الثاني لم يعد يفكر فيهما.

الاتفاقات تفتح الأبواب على الدولة المستقلة

على الرغم من تخاذل الإدارة الأميركية في الدفاع عن الاتفاقات التي رعتها، فإنه لا يجوز اعتبار بنيامين نتنياهو مطلق الحرية في التصرف. ويجب التمييز بين رغباته الذاتية ورغبات حكومته وبين إمكان تنفيذها. فالتعمق في دراسة أسس عملية السلام والاتفاقات التي انبثقت منها يبين أنها ذات أبعاد دولية، ولها قيمتها ووزنها في حسابات الربح والخسارة عند الأطراف كافة، ولا مصلحة لأي طرف في الإقدام من جانب واحد على إلغائها. فبعض الأفكار التي يفكر فيها اليمين الإسرائيلي انتهى، وبعضها الآخر شبه مستحيل إعادة الحياة إليه. وإذا كان استمرار الليكود في السلطة يعطل إمكان تطوير وتوسيع الاتفاقات الموجودة، ويعرقل التقدم على طريق الدولة الفلسطينية، فذلك لا يعني أنه قادر على نسف الحقائق الفلسطينية التي وجدت على الأرض منذ مؤتمر مدريد حتى الآن، وإلغاء كل النتائج العملية للاتفاقات التي وقّعتها إسرائيل. إن توقف المفاوضات على المسارات جميعها، وانتهاء عملية السلام الجارية لا يقودان، بالضرورة، إلى انتهاء العمل بالاتفاقات التي تم توقيعها بين الأردن وإسرائيل، وبين منظمة التحرير وإسرائيل. فهذه الاتفاقات بنت لذاتها مرتكزات قوية على الأرض وأصبحت جزءاً من العلاقات الدولية والإقليمية. وتجربة صمود اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عشرين عاماً نموذج لذلك، ولمصير الاتفاقات العربية ـالإسرائيلية، حتى لو توترت العلاقات العربية ـالإسرائيلية وتدهورت.

وإذا كان في إمكان نتنياهو وقف عملية السلام عند حدودها الحالية من دون أن يدفع ثمن ذلك، فإنه لا يمكنه القيام بخطوات مثل: إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل بدء عملية السلام، واحتلال قطاع غزة من جديد، وتنفيذ عملية ترحيل (ترانسفير) للفلسطينيين، أو ضم الضفة الغربية وغزة إلى إسرائيل، أو إعلان ـمن طرف واحد ـإلحاقهما بالأردن. ولا تستطيع حكومة الليكود تحمل المسؤولية، أمام شعبها وشعوب الدول المجاورة لها وأمام العالم، عن النتائج والآثار المدمرة التي تحملها أية محاولات من جانبها لفرض الخيارات المرفوضة من الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والإسلامية. ومن البديهي القول إنه إذا كان من المشكوك فيه أن تؤدي عملية السلام الجارية والاتفاقات الفلسطينية ـالإسرائيلية إلى دولة فلسطينية مستقلة، فالمؤكد أنها تقفل النوافذ والأبواب على الدولة الديمقراطية أو الدولة ثنائية القومية. ويعرف قادة حزب الليكود والمفكرون الإسرائيليون أن منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً، محدوداً أو واسعاً، لا ينهي الصراع الفلسطيني ـالإسرائيلي وإنما يبقي ناره متأججة تحت الرماد. فالحكم الذاتي كحل نهائي للقضية الفلسطينية وفضته القيادة الفلسطينية، ورفضه الشعب الفلسطيني أيام مباحثات كامب ديفيد وخلال الانتفاضة، وما زال مرفوضاً حتى الآن. وأعتقد أنه سيبقى مرفوضاً في المستقبل، لأنه يبقي على الاحتلال بصيغة أو بأُخرى، ولأن الشعب الفلسطيني لا يجد فيه الحرية والاستقلال، اللذين من أجلهما تحمل العذاب وقدم تضحيات جسيمة.

إذا كان الضم والإلحاق، و"الترانسفير"، والخيار العربي، والحكم الذاتي الموسع، وبقاء الوضع الحالي، خيارات بعضها يرفضه التكتل اليميني الحاكم، وبعضها الآخر ترفضه المعارضة الإسرائيلية ويرفضه الفلسطينيون، فإنه لا يبقى أمام الحكومة الإسرائيلية إلاّ أن تختار أحد أمرين أحلاهما مر في نظر كثيرين من الإسرائيليين: الأول، التفاعل إيجاباً مع الرغبات الدولية ومع التطلعات الفلسطينية، وتسهيل قيام دولة مستقلة غير معادية لإسرائيل؛ الثاني، تجميد الأوضاع تحت سقف الحكم الذاتي بصيغته القائمة الآن أو المحسنة قليلاً، وتعطيل كامل إمكان تحويل "دويلة الحكم الذاتي" القائمة إلى دولة مستقلة. إن اعتماد الخيار الثاني ممكن إسرائيلياً، لكنه مرفوض فلسطينياً وعربياً ودولياً، وسيكون ثمنه باهظاً على إسرائيل، أولاً، وعلى الفلسطينيين وشعوب المنطقة جميعها، ثانياً. هذا الخيار سيقتل عملية السلام في منتصف الطريق، وسيؤجج الصراع بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وستمتد نيرانه، بالتدريج، إلى كل الدول والشعوب المحيطة بفلسطين حتى لو كان بينها وبين إسرائيل معاهدات أو اتفاقات سلام، وسيعيد الأوضاع إلى أسوأ مما كانت عليه قبل انطلاق عملية السلام، وسيؤدي إلى إضعاف شامل للاتجاهات الواقعية عند الطرفين وفي المنطقة ككل. إضافة إلى أنه سيقوي الإرهاب والتطرف والتعصب بكل أشكاله ـالديني والقومي والوطني ـويساعده في السيطرة على أوضاع المنطقة وتولي دفة قيادتها لأعوام كثيرة، وزجها في صراعات دموية وطائفية ودينية وعرقية، يصعب التكهن بنائجها الآن. إن اختيار القيادة الإسرائيلية لهذا الخيار يعني السباحة والتجذيف عكس تيار الوفاق الدولي، كما أنه يتعاكس مع رغبات قوى سياسية واجتماعية وازنة في المجتمع الإسرائيلي تمثل نصف الإسرائيليين تقريباً.

الخيارات الأُخرى غير واقعية ومرفوضة

إذا كانت موازين القوى، وحالة عملية السلام، وسياسة فرض الأمر الواقع التي ينتهجها اليمين الإسرائيلي وخصوصاً التوسع في الاستيطان، دفعت الكثيرين من الباحثين والمفكرين الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين إلى اعتبار فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة مستحيلة التحقيق في المنظور القريب، ولا تمثل حلاً جذرياً وعملياً للصراع الفلسطيني ـالإسرائيلي، فليس كل ما يلمع في الذهن من أفكار يمكن أن ينتج ذهباً، ويصنع حلولاً عملية على الأرض. والدعوة الآن إلى "دولة ثنائية القومية" على كل أرض فلسطين التاريخية، أو "دولة ديمقراطية علمانية موحدة" يتعايش فيها العرب واليهود من دون اضطهاد أو تمييز عرقي أو ديني... تندرج في هذا الإطار، والتفكير فيهما ضرب من تشغيل الفكر في قضايا نظرية مجردة غير قابلة للتطبيق. ولا أتجنى على أحد إذا قلت إن هذه الأفكار وهمية وغير واقعية. كما أن الفلسطينيين أقلعوا عن التفكير فيها وعن طرحها عندما تخلوا عن مواقفهم المثالية المتطرفة، وعندما طرحوا للعالم، سنة 1974، برنامجهم المرحلي لحل الصراع الفلسطيني ـالإسرائيلي. وإذا كانت موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية حاسمة في فرز الحلول وتقرير طبيعتها، وتواريخ وأشكال تبدلها وتغيرها ـكما جرى مثلاً في انشطار ألمانيا وإعادة توحدها ـفالموازين القائمة بين العرب وإسرائيل، والمرئية لأعوام كثيرة، تؤكد استحالة فرض هذه الأفكار على الإسرائيليين حتى لو آمن بها الفلسطينيون والعرب جميعهم. فإذا كان خيار الدولة الفلسطينية المستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة مرفوضاً من اليمين الإسرائيلي، فإن خيار الدولة الديمقراطية الموحدة، أو ثنائية القومية، مرفوض أكثر وبصورة أعنف من جانب اليسار واليمين الإسرائيليين على حد سواء. وأظن أنه أسهل كثيراً على المواطن اليهودي الإسرائيلي، اليساري أو اليميني، استمرار الصراع العربي ـالإسرائيلي، أو قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل، من قبول أفكار تقوده، حتماً، إلى التخلي عن الهوية اليهودية لدولة إسرائيل أو تحويلها إلى دولة عربية ـيهودية.

إن فكرة الدولة الديمقراطية الموحدة أو ثنائية القومية يمكن أن تتحول إلى أفكار عملية فقط في حال تخلت أغلبية يهودية عن الدولة اليهودية. ووقوع مثل هذا التحول غير مرئي الآن، ولا في المستقبل المنظور. وتشير الدلالات الموضوعية جميعها إلى أن المجتمع الإسرائيلي يسير في اتجاه معاكس تماماً، أي يميل نحو مزيد من التطرف القومي والتعصب الديني. صحيح أن المفكرين الإسرائيليين سيواجهون بعد عشرين عاماً مشكلة وجود أكثر من 8 ملايين نسمة على أرض فلسطين التاريخية، منهم مليونا نسمة يعيشون في إسرائيل ويحملون الجنسية الإسرائيلية، إلاّ إن نمو التيار القومي المتعصب يدفع إغلبية المجتمع الإسرائيلي إلى عدم روية هذه التطورات وعدم التفكير في حلها الآن. وعندما تحين لحظة مواجهة هذه الحقيقة، من الصعب التكهن بتوجهات إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية. إن المقدمات التي نعيشها ترجح الميل إلى البحث عن حلول أُخرى غير تغيير هوية الدولة اليهودية. وفي كل الأحوال تبقى الدولة الفلسطينية المستقلة على أراضي الضفة والقطاع ممراً إجبارياً للسلام وللدولة الديمقراطية الموحدة على أرض فلسطين التاريخية، ولأي صيغ أُخرى من التعايش المشترك في ظل نظام سياسي موحد، أو نظامين متداخلين ومتجاورين ومنفصلين في آن واحد. فالوصول إلى مثل هذه الحلول المثالية يتطلب وقوع تحول جذري نوعي في الفكر السياسي الإسرائيلي وفي بنية المجتمع الإسرائيلي، في اتجاه تخلي معظم اليهود الإسرائيليين عن صهيونيتهم، وعن الأفكار العنصرية التي ترعرعت عشرات الأعوام في أذهانهم. كما يتطلب، في المقابل، إشباع جوع الفلسطينيين وعطشهم إلى الدولة المستقلة، واستكمال بلورة وتوحيد هويتهم ومجتمعهم وكيانهم السياسي في إطارها، والتخلص من رواسب تمزيق وطنهم وتبديد هويتهم لأعوام كثيرة. وعلى الرغم من الملاحظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها عن هذه الأفكار، فإن إشغال الذهن بها يبقى مفيداً لجهة تنوير الأجيال من الفلسطينيين والإسرائيليين وتثقيفهم من خلال طرح حلول مثالية. ولا بأس بالاستمرار في طرحها في سياق سرد وتعداد أنواع الحلول لقضايا الصراع بين الشعوب، شرط عدم التشويش على فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعلى جهود ومواقف القوى الإقليمية والدولية المؤيدة لها، وعدم التأثير في الفعل الفلسطيني في الاتجاهات الواقعية الممكنة التحقيق، وخصوصاً فكرة الدولة المستقلة.

مقومات وأسس الدولة المستقلة متوفرة

بغض النظر عن مواقف اليمين الإسرائيلي التي ما زالت تعتبر الضفة الغربية "أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني إسرائيل"، فعملية السلام التي انطلقت من مدريد وما انبثق منها من اتفاقات ومن خطوات عملية ملموسة على الأرض أنهيا هذه المقولة التي بنت عليها الحركة الصهيونية استراتيجيتها طوال قرن من الزمن. إذ أقرت الحكومة الإسرائيلية بوجود كيان خاص على الأرض ذاتها، للشعب الذي اعتبره البعض، يوماً ما، شعباً زائداً في المنطقة، وسلمت بسيادته الكاملة على أجزاء منها، وبسيادة ناقصة على أجزاء أُخرى، وإذا كان عدد من زعماء العالم احتفلوا، يوم 13/9/1993، في حديقة البيت الأبيض، بالنجاح الذي حققته الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، فإن ألد أعداء الشعب الفلسطيني وأعداء الدولة الفلسطينية المستقلة لا يستطيعون إنكار أنه كان أيضاً احتفالاً بميلاد الكيان الفلسطيني. وكان جديد الاتفاقات الفلسطينية ـالإسرائيلية إعلان "قيام سلطة فلسطينية انتقالية" على جزء من الأراضي الفلسطينية، وتعهد القوة العظمى (الولايات المتحدة) الراعية للاتفاقات والمهيمنة على السياسة الدولية، ومعها أربعون دولة تمثل القارات الخمس، بدعم هذا الكيان ومساعدته مادياً ومعنوياً. أمّا ما عدا ذلك فكان تكراراً لأمور قديمة، وتثبيتاً لقضايا موجودة عملياً منذ أعوام كثيرة. وبعد الشروع في تنفيذ اتفاق أوسلو أصبح الكيان الفلسطيني حقيقة مادية، من حقائق الجغرافيا السياسية الشرق الأوسطية، قائمة على جزء من الأراضي الفلسطينية لا يمكن لأحد إنكار وجودها. فعلى أراضي الضفة والقطاع والقدس يعيش الآن ما لا يقل عن ثلاثة ملايين فلسطيني معظمهم يخضع للسلطة الفلسطينية. والفلسطينيون داخل الوطن وخارجه يزيدون، الآن، على ثمانية ملايين إنسان، موحّدين كلهم حول هدف الدولة المستقلة، ولهم الآن كيانهم الخاص بهم على "28%" من أراضيهم. كما أن كيانهم له "برلمان" و"حكومة" وجهاز إداري قوامه أكثر من 100 ألف موظف ثلثهم قوة أمنية مسلحة: شرطة وجيش واستخبارات، إضافة إلى امتلاك الشعب والكيان القضايا الرمزية الأساسية: عَلَم ونشيد وجواز سفر وإذاعة وتلفزة.

وإذا كان من الضروري تعريف هذا الكيان وتسميته باسمه الحقيقي، فهو الآن حكم ذاتي في صيغة "دويلة فلسطينية" على جزء بسيط من الأراضي الفلسطينية. وهذا "الكيان حديث التكوين"، وناقص السيادة، ومحدود الصلاحيات. لكنه يملك مقومات الحياة وقابل للنمو والتطور بسرعة، وخصوصاً إذا أجاد الفلسطينيون استغلال المواقف الدولية المؤيدة لحقهم في الحرية والاستقلال، وأحسنوا استخدام إمكاناتهم وشبكة علاقاتهم الدولية في بناء ما هو في أيديهم الآن. وأظن أن نعت الكيان الفلسطيني الآن بأبشع النعوت والصفات، مثل: دويلة مسخ، أو دويلة هزيلة ناقصة السيادة، أو تابعة سياسياً واقتصادياً وأمنياً لإسرائيل... لا يلغي حقيقة وجوده ككيان منفصل سياسياً وجغرافياً وسكانياً عن إسرائيل، وعن الدول الأُخرى المجاورة له والمحيطة به، ولا يقلل من قدرته على التطور لاحقاً إلى دولة مستقلة، ولا سيما أن مطلب الدولة المستقلة كان ولا يزال هدفاً لكل الشعب الفلسطيني. وما وُقِّع من اتفاقات بين إسرائيل ومنظمة التحرير لم يلغِ هذا الخيار. وهناك نحو ثمانين دولة تعترف بدولة فلسطين التي أعلنتها م. ت. ف. سنة 1988. وفي عرض سريع لقائمة دول العالم وتاريخ نشوئها وتطورها، نجد أن الكثير منها مما كان مستعمَراً في النصف الأول من هذا القرن، ومن ضمنه معظم الدول العربية، قد مر بمرحلة الحكم الذاتي قبل الوصول إلى الاستقلال الكامل. ونجد أيضاً عدداً آخر ينطبق عليه الآن، بصيغة أو بأُخرى، بعض هذه النعوت، علماً بأنها دول معترف باستقلالها وبسيادتها وممثلة في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لا شك في أن المقومات الأساسية لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي الفلسطينية متوفرة وموجودة منذ زمن طويل، وزادت بسرعة كبيرة بعد الانسحاب الإسرائيلي من المدن الفلسطينية وبعد انتخابات المجلس التشريعي. وستزيد في المستقبل أكثر فأكثر، وخصوصاً بعد تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق إعادة الانتشار، إذا نفذ. فالانسحاب من 9% ـ10% من مساحة الضفة الغربية، كما تعرض الحكومة الإسرائيلية على الفلسطينيين، يعني أن يصبح 93% من المواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع خاضعين للسلطة الفلسطينية. أمّا إعادة الانتشار من 13.5% من مساحة الضفة الغربية، كما اقترحت الإدارة الأميركية، فتعني رفع نسبة الخاضعين للسلطة الفلسطينية إلى 94.5% من إجمالي عدد السكان. ويفترض ألاّ يكون هناك خلاف فلسطيني في أن تحرير هذه النسبة من السكان ومن الأرض يزيد في الوقائع والحقائق التي تؤدي إلى دولة مستقلة. وبغض النظر عن الخيار النهائي الذي سترسو عليه مواقف القيادة الإسرائيلية من مسألة تنفيذ إعادة الانتشار ومساحات الانسحاب، فالثابت أن الاستمرار في التفاوض وفي تنفيذ الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين ـحتى لو بالتقسيط، وعلى دفعات متأخرة ـونجاح السلطة الوطنية في النهوض بمهماتها، وتقدم المفاوضات على المحاور العربية الأُخرى، كلها عوامل تساعد في إبعاد خيار تجميد الأوضاع تحت سقف الحكم الذاتي، وتقرب الفكر الإسرائيلي من التعامل مع خيار الدولة المستقلة. إن استمرار تمسك الفلسطينيين بهدف الدولة المستقلة وتركيز طاقاتهم في اتجاهها، وتطوير ما تراكم في أيديهم، وصب إمكاناتهم في بنائه، خير لهم ألف مرة من بعثرة جهودهم وهدر وقتهم في الركض خلف أفكار أقرب إلى سراب. وإذا كان تطور الكيان الفلسطيني الموجود على أجزاء من أراضي الضفة والقطاع يحتاج إلى وقت ربما يكون طويلاً، فالوصول إلى الدولة الديمقراطية العلمانية أو الدولة ثنائية القومية يحتاج إلى وقت أطول كثيراً، ودونهما صراع إسرائيلي داخلي شرس ومعارك طاحنة مع العرب والفلسطينيين.

وبغض النظر عن كل الملاحظات التي يمكن تسجيلها عن شعار الدولة الديمقراطية العلمانية والدولة ثنائية القومية، فإنه يبقى صحيحاً ومفيداً استمرار "عرب إسرائيل" في رفع هذا الشعار لمعالجة أوضاعهم، وتنظيم علاقاتهم بالقوى السياسية الإسرائيلية، وانتزاع ما يمكن انتزاعه من حقوقهم. لكن فوائده تتبخر وتكون عكسية إذا شمل كل الفلسطينيين المقيمين على أرض فلسطين التاريخية كافة.

الوصول إلى الدولة قَدَرُه المرور بمخاض مؤلم وعسير

من البديهي القول إن بقايا الفكر الصهيوني اليميني العنصري الاستعماري التوسعي، تحاول جاهدة تأخير حركة التاريخ وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. واستمرار تأثير هذا الفكر في المجتمع الإسرائيلي، وسيطرته على القرار السياسي الرسمي، سيجعلان طريق التعايش والسلام بين الشعبين طويلاً ومعقداً ومؤلماً. فهذا التفكير الاستعماري العنصري هو المسؤول تاريخياً عن نشوء جبال من الحقد والكراهية بين الشعبين، وهو الذي دفع الإسرائيليين إلى رفض قرار التقسيم سنة 1947، وحقن الشعوب العربية بالعداء لإسرائيل، وفجر أربع حروب كبيرة بين العرب وإسرائيل (1956، و1967، و1973، و1982). كما أنه أخّر الاعتراف الإسرائيلي بوجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني نحو خمسين عاماً، وأخّر الاعتراف بوجود م. ت. ف. ممثلاً شرعياً لهذا الشعب ربع قرن تقريباً، وأوصل الشعب الفلسطيني إلى الانتفاضة الشاملة. وهو ذاته الذي يحرك الآن قوى الائتلاف الحكومي في اتجاه تسريع الاستيطان وتوسيعه وقضى على عملية السلام. إن استمرار هذا الفكر في توجيه القرار السياسي الإسرائيلي سيجعل طريق تطور "الكيان" إلى دولة مستقلة طريقاً دموياً، وخصوصاً إذا استمر حزب الليكود على مواقفه، وأعادته الانتخابات الإسرائيلية المقبلة إلى الحكم من جديد. فنتنياهو وأركان حكومته ما زالوا يؤكدون مواقفهم المعروفة، "لا لدولة فلسطينية مستقلة"، ولا يقدمون بديلاً مقبولاً إلى الشعب الفلسطيني يقنعه بالتخلي عن هدف الدولة. ولن يسلموا بسهولة بإعلان السلطة الفلسطينية، العام المقبل، تحويل "دويلة الحكم الذاتي" إلى دولة مستقلة. فالفلسطينيون يعتبرونها مصيرية لهم، بينما تعتبرها إسرائيل مسألة حياة أو موت.

إنني أعتقد أن تشجيع المواطن والمفكر وصانع القرار في إسرائيل، على تقبل فكرة التعايش في دولتين متجاورتين مهمة فلسطينية وعربية ودولية من الدرجة الأولى. فلا يمكن لأية حكومة إسرائيلية الأخذ بخيار الدولة الفلسطينية كحل نهائي للصراع، إلاّ إذا توفرت أغلبية شعبية (51%) إسرائيلية تؤيد مثل هذا الخيار. وإذا كانت استطلاعات الرأي العام تشير إلى تأرجح نسبة المؤيدين لقيام الدولة الفلسطينية وللسلام مع العرب، فإن طمأنة المواطن الإسرائيلي على أمنه ومستقبله من قبَل الفلسطينيين والعرب والعالم، وإزالة مخاوفه تقويان تيار السلام في إسرائيل، وتضعفان مواقف القوى الإسرائيلية المتطرفة والمعارضة لقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية التي احتلت سنة 1967. وفي المقابل، فإن رفض القيادة الإسرائيلية اتخاذ خطوات عملية وجدية تؤدي، مستقبلاً، إلى دولة فلسطينية مستقلة، يقود إلى توليد شعور بالإحباط واليأس عند الفلسطينيين من عملية السلام. من الواضح أن تبديد هذا الخوف وذاك القلق الفلسطيني ـالإسرائيلي المتبادل يتطلب عملاً مضنياً، ويتطلب بذل جهود كبيرة من قوى السلام كافة. وإذا كانت مصلحة إسرائيل ومستقبل السلام والتعايش بين الشعبين يفرضان على قوى السلام الإسرائيلية السرعة في تجاوز هذه المرحلة الانتقالية من حياتها، ومن علاقاتها بالعرب وبالفلسطينيين، فالمصالح الوطنية والقومية الفلسطينية والعربية تتقاطع مع هذا الهدف. وأعتقد أن الدخول في البحث عن صفقة تاريخية عربية ـإسرائيلية تنفذ على مراحل متفق عليها هو أقصر الطرق الموصلة إلى السلام الحقيقي وأقلها ألماً وعذاباً للطرفين. ويمكن أن تكون قاعدة الانطلاق نحو هذه الصفقة كما يلي: تعيد إسرائيل إلى العرب كامل أراضيهم التي احتلت سنة 1967، وحقوقهم بما في ذلك حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم في إطار دولة مستقلة وذات سيادة، في مقابل أن يضمن العرب جميعاً حق إسرائيل في الوجود، وأن يضمنوا أمنها.

في الجولة الأولى من مفاوضات واشنطن التي عقدت بتاريخ 10/12/1991 رفض رئيس الوفد الإسرائيلي، إلياكيم روبنشتاين، التفاوض مع وفد فلسطيني مستقل وأصر، بناء على تعليمات مشددة من رئيس حكومته يتسحاق شمير، على صيغة الوفد الفلسطيني ـالأردني المشترك. وبرر رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، شمير، موقفه قائلاً: "الموافقة على الوفد المستقل تعني اليوم غرفة وغداً مدينة وبعدها دولة مستقلة." واليوم، وبعد مرور سبعة أعوام تقريباً على عقد مؤتمر مدريد (30/10/1991)، واعتكاف شمير عن العمل السياسي، أعتقد أن حركة التاريخ تؤكد أن نبوءته ستتحقق يوماً ما. ومن البديهي القول إنه سيمضي وقت طويل قبل قبول الشارع الإسرائيلي قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وقبل قبول الشارع العربي تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وستدفع شعوب المنطقة ثمن هذا التأخير. فطريق الدولة الفلسطينية ليست سالكة وليست مفروشة بالورود، وميلادها سيمر بمخاض دموي مؤلم وعسير جداً، وخصوصاً بعد أن أصبحت المستعمرات تغطي مساحات واسعة من أراضي الضفة والقطاع.

السيرة الشخصية: 

ممدوح نوفل: كاتب فلسطيني، عضو في المجلس الوطني الفلسطيني.