الشرق الأوسطية والتطبيع الثقافي مع إسرائيل: البعد التاريخي وإشكالات راهنة
كلمات مفتاحية: 
التطبيع
إسرائيل
الشرق الأوسط الجديد
الإسلام
الثقافة العربية
نبذة مختصرة: 

يطمح المقال إلى تقديم وجهة نظر ويثير أسئلة عبر مدخلين: مدخل تاريخي (مفهومي) يتعلق. بماذا يعني الشرق الأوسط والشرق الأوسطية بالنسبة إلى تجربتنا التاريخية العربية ـ الإسلامية (المعاصرة)، وماذا تعني الشرق الأوسطية الجديدة، من زاوية ثقافية؟ والمدخل الثاني مدخل راهن ونقدي، يحاول أن يناقش مسألة ما يسمى التطبيع الثقافي، انطلاقاً من السؤال: هل التطبيع الثقافي مع إسرائيل ممكن، وأين هو مكمن الخطر في مجال قطاعات الثقافة، وبالمقارنة بين الوضعين؟

النص الكامل: 

شاعت في الآونة الأخيرة، ولا سيما بعد حرب الخليج الثانية ونهاية الحرب الباردة، مفردات انتعشت من داخل مقولة "النظام الدولي الجديد"، التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، واكتسبت معاني جديدة بالتلازم الحدثي والظرفي مع التداعيات والنتائج العالمية والإقليمية التي ترتبت على ذلك. ومن بين هذه النتائج عربياً دخول الصراع العربي - الإسرائيلي مرحلة جديدة، هي مرحلة الإعداد والتمهيد لـ "حل سلمي" عبر مفاوضات بدأت في مدريد، وتتابعت في اتفاقات ثنائية، وما زالت تتابع عبر مفاوضات متعثرة وصعبة، لكنها في سياقها العام سائرة نحو "حل سلمي".

في هذا المسار، استخدمت مفردات "الشرق الأوسط الجديد" والنظام "الشرق الأوسطي" و"السوق الشرق الأوسطية" و"التطبيع". ومؤخراً، وبمناسبة إثارة قضية أدونيس في الصحف في إثر تجميد عضويته في اتحاد الكتّاب العرب بسبب محاورته مثقفين إسرائيليين في أحد المؤتمرات، شاع تعبير "التطبيع الثقافي"، الذي اعتبره البعض أنه أشد الأخطار هولاً على الأمة؛ فكان أن جرَّ هذا الموضوع إلى سجالات ثقافية وبيانات ومقالات نشرت في الصحف، تشارك فيها مثقفون وكتّاب ملتزمون، ومستقلون، ومن اتجاهات مختلفة.

ما يهمنا من زاوية - المقاربة الثقافية - لهذا المسار ما رافقه من تعبيرات في الخطاب الفكري - السياسي، الأمر الذي من شأنه أن يعطي المفردة الحدثية والظرفية أبعاداً نظرية وتاريخية ومستقبلية، مبرِّرة ومؤسِّسة لمشروع ما، أو معارضة له ومعترضة عليه.

وهذا يعني أن الخطاب الثقافي، أي الفكري والنظري والتاريخي، يمكن أن يعطي المفردة السياسية، التي نشأت في ظرف زمني محدّد، أبعاداً استراتيجية بالمعنى الشامل لكلمة استراتيجيا، أي نظرة شاملة للتاريخ وحركته في الحاضر وباتجاه المستقبل.

وأمامنا، لتوضيح ما أقصده، ثلاثة نماذج عالمية من الخطابات الفكرية (الاستراتيجية)، التي رافقت الحدث الدولي وواكبت التداعيات الإقليمية الناجمة عنه، وحاولت أن تضفي على تفسير الحدث ودلالاته نظرات فكرية شاملة:

1 - خطاب فوكوياما بشأن نهاية التاريخ.

2 - خطاب هانتنغتون: صدام الحضارات.

3 - خطاب شمعون بيرس: "الشرق الأوسط الجديد".

ومن المؤسف القول إن الفكر الاستراتيجي العربي، وباستثناء قلة من الكتابات الجدية، لا يزال يعيش مرحلة ردة الفعل على الحدث أو مرحلة التعليق عليه، بل إنه يفتقر من حيث المنهج إلى الصفة الاستراتيجية نفسها. ولا شك في أن لهذا الواقع المؤسف أسبابه التي لا ترتبط بمدى قدرة الباحث العربي الذاتية، بل بجملة من الأسباب، أهمها انعدام القرار العربي أو هامشيته أو تبعيته، وهزال دور الثقافة والعلم في صناعة القرار السياسي.

وأرجح أن الخطاب الثقافي العربي الذي واكب مفردات الشرق الأوسطية والتطبيع - مع استثناءات قليلة - غرق في أسلوب سجالي، ولم يقدّم وجهة نظر بديلة تُحمَل محمَل "العالمية"، أي أن هذا الخطاب لم يصبح عالمياً، على غرار ما حدث للخطابات والنصوص التي أشرت إليها. وفي أي حال، قد يكون من الصعب، أو من المستحيل، كما أسلفت، أن يتمّ ذلك في ظل ما يعيش العالم العربي فيه من ترد وتشرذم واستتباع واستفراد وحالة انعدام وزن.

تأسيساً على هذه المقدمة، تطمح الورقة إلى تقديم وجهة نظر وتثير أسئلة عبر مدخلين:

1 - مدخل تاريخي (مفهومي): ماذا يعني الشرق الأوسط والشرق الأوسطية بالنسبة إلى تجربتنا التاريخية العربية- الإسلامية (المعاصرة)، التي حملت مشاريع وحدوية وإقليمية مختلفة، ودلالات جيو- سياسية وثقافية معينة، وكيف عبرت هذه المشاريع عن نفسها على مستوى المصطلح والتوظيف السياسي في الدراسات والاستراتيجيات، وماذا تعني الشرق الأوسطية الجديدة، من زاوية ثقافية؟

2 - مدخل راهن ونقدي، يحاول أن يناقش مسألة ما يسمى التطبيع الثقافي، انطلاقاً من السؤال: هل التطبيع الثقافي مع إسرائيل ممكن، وأين هو مكمن الخطر في مجال قطاعات الثقافة، وبالمقارنة بين الوضعين؟

فكرة الشرق الأوسط وأفكار أُخرى في التاريخ المعاصر، ودلالاتها في الحاضر

في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، شاعت مقولة الخلافة الإسلامية والجامعة الإسلامية، وتجاذبتها وظائفياً قوى مختلفة المواقع والأهداف:

- السلطان عبد الحميد، لتقوية نفوذه السلطاني في العالم الإسلامي.

- مفكرون إصلاحيون، أمثال جمال الدين الأفغاني، لاستنهاض العرب والمسلمين في مشروع وحدوي ونهضوي.

- والإنكليز كذلك، في استراتيجيتهم ودبلوماسيتهم، لتأمين حرية العبور والتبادل في سوق إسلامية تمتد من شرقي المتوسط والخليج حتى الهند، وكامتداد لسياسة بريطانيا في غضون القرن التاسع عشر حيال ما سمي "المسألة الشرقية".

وفي الحرب العالمية الأولى، بل قبلها بأعوام، وصولاً إلى معاهدة لوزان سنة 1923 ومفاعيلها، برزت فكرة "الخلافة العربية" بديلاً من الخلافة العثمانية. وقد تمّ ذلك في سياقات تاريخية معقّدة تخلّلتها مستويات من الوعي القومي ومشاريع الدول القومية لدى العرب والأتراك وشعوب أُخرى في الشرق، كما اخترقتها أو تقاطعت معها مشاريع مناطق النفوذ، ومعاهدات الإلحاق والتقسيم، وخطوط سكك الحديد، والمرافئ والممرات بين إيران والخليج والبحر الأحمر والشاطئ الشرقي للمتوسط.

وفي نطاق سياسات مناطق النفوذ هذه، استُخدمت مقولة "الشرق الأوسط" في أدبيات السياسة البريطانية، ومقولة "المشرق" (Levant) في أدبيات السياسة الفرنسية. وكانت هذه وتلك تعابير جيو - سياسية وجيو - استراتيجية حملت هموم مخططات الدول الأوروبية الكبرى تجاه "شرقها" بالمعنى الجغرافي، ومن ضمن استراتيجيا اقتسام مناطق النفوذ فيما بينها، ولا سيما في إثر اكتشاف النفط في كل من إيران والعراق والجزيرة العربية.

ومنذ الأربعينات حتى الستينات، وربما ما زالت آثار ذلك قائمة حتى اليوم، اجتاحت المنطقة أيديولوجيات قومية لها مشاريعها أيضاً في الجغرافيا السياسية والبشرية؛ بعضها تحقق في إطار موازين القوى الدولية، وبعضها الآخر ما زال مشاريع مستقبلية تندرج في برامج أحزاب أو تصورات نخب ومثقفين؛ من ذلك:

- قوميات قطرية للدول الناشئة، حيث حاولت نخب كل دولة أن تؤسس لكيانها تاريخاً وثقافة وحدوداً "طبيعة تاريخية" في الخطاب السياسي والتاريخي والثقافي، وفقاً لنموذج الدولة/الأمة (Etat/Nation).

- قوميات إقليمية، حيث جرت محاولات فكرية لتأسيس تصورات لأمم تتلاءم مع فلسفة المكان والبيئة الجغرافية لإقليم معين: مصر - وادي النيل، سورية الطبيعية، المغرب العربي...

- قوميات تتراوح بين التصور الديني للأمة (قومية الإخوان المسلمين)، والتصور اللغوي والإتنولوجي لها (قومية العروبيين)1.

وكانت الثقافة المحلية، كإنتاج أدبي وفني وكخطاب فكري وتاريخي وفلسفي، في قلب هذه المشاريع، سواء كمادة موضوع ومعطيات، أو كأداة تثبيت وتبرير ودعوة انخراط وتعبئة.

وفي موازاة هذه الأيديولوجيات القومية، ظلّت تصعد إلى السطح أيديولوجيات وأفكار تصدر عن تصوّر أوسع لحدود القوميات ومداها الحضاري والتبادلي. من ذلك مثلاً:

- الدعوة إلى المتوسطية كإطار جغرافي - تاريخي لحوض المتوسط، الذي نمت فيه حضارات وأمم ودول تصارعت، لكن كان بينها دائماً علاقات تبادل وتأثر وتأثير وتحديات واستجابات. وكان كل ذلك يتم في نسق من الخصوصية الجغرافية - التاريخية لدول المتوسط، والتي سمّاها بروديل "العالم المتوسطي"، والتي لا تظهر إلاّ عبر دراسة ما سمّاه "الفترات الممتدة" (Longues durées) ومستويات التاريخ الثلاثة: الجغرافي - التاريخي الثابت، والحضاري المتغير ببطء شديد، والحدثي المتقلب بسرعة. ومن ذلك أيضاً:

- الدعوة إلى نوع من التنسيق والتعاون بين دول العالم الإسلامي. ولقد سبق للمفكر الجزائري مالك بن نبي أن سمّى هذ النوع من التنسيق "كومنولثاً إسلامياً"، حيث توافقت الإسلامية هنا، كثقافة وحضارة، مع نهوض محور عالم ثالثي إفريقي - آسيوي (محور طنجة - جاكرتا) في مرحلة صعود حركات التحرر الوطني في العالم الثالث.

وإذا وضعنا الدعوات الأيديولوجية ذات الطابع الفكري والنخبوي جانباً، والتفتنا إلى الواقع المؤسسي لأشكال التعاون والتنسيق، فإننا سنقع على إنجازين لا يستهان بهما على صعيد حركة التاريخ في العالمين العربي والإسلامي، وإن كانا يحملان نواقص كثيرة:

- قيام جامعة الدول العربية ومنظماتها على مستوى البلاد العربية.

- قيام منظمة المؤتمر الإسلامي ومؤسساته على مستوى بلاد العالم الإسلامي سنة 1969.

ومهما يكن من أمر النواقص والسلبيات والعوائق، فإنه يمكن القول إنه كان في قيام هذين الإنجازين، وفي إطار الممكن في ظل القطريات والدول الوطنية، تحقيق نسبي لقسط من فكرة الوحدتين: الوحدة العربية والوحدة الإسلامية.

لكن من المؤسف أنه لم يجر أي تطوير فعلي لهاتين المؤسستين على الرغم من وجود أنظمة وهياكل وخطط ومشاريع دراسات. وما حدث هو أن الأولى (جامعة الدول العربية) اخترقتها الأزمات القطرية والإقليمية ومشكلات الحدود والحروب الأهلية، فانفجرت بنية العلاقات القائمة بين الدول العربية. وجاءت حرب الخليج الثانية لتقضي على ما بقي مما درجنا على تسميته "النظام الإقليمي العربي". وهذا ما أثر سلباً بدوره في منظمة المؤتمر الإسلامي، التي قامت في الأساس لحماية القدس في إثر حريق المسجد الأقصى سنة 1969.

أين تقع مقولة "الشرق الأوسط" في هذا الشريط السريع من تاريخ الأفكار والمؤسسات؟ من الملاحظ أن تعبير "الشرق الأوسط"، الذي استخدم في الحرب العالمية الأولى كتعبير جيو - سياسي وجيو - استراتيجي بالنسبة إلى مناطق النفوذ الواقعة شرقي الدول الغربية، لم يستمر استخدامه لاحقاً إلاّ للتعبير عن وجود أزمة أو طرح موضوع - أي موضوع، أكان سياسياً أم ثقافياً - يمت بصلة إلى العالم الإسلامي، أو إلى أي مكان يراوح موقعه بين إيران وتركيا ومصر والمغرب، وأحياناً تمتد الدلالة إلى الباكستان وبعض مناطق الشرق الأقصى. ولعلَّ هذا ما نلاحظه في كتاب أميركي لافت، كُتب في فترة 1951 - 1953، وصدر بعنوان "الشرق الأوسط في مؤلفات الأميركيين"2.

في هذا الكتاب محاضرة للعالِم جورج سارتون بعنوان "حضانة الشرق الأوسط للثقافة الغربية"، أُلقيت بناءً على دعوة من مكتبة الكونغرس الأميركية سنة 1951، وفيها تحفّظ يبديه سارتون تجاه تعبير "الشرق الأوسط". ولعله من المفيد استعادته عبر النص الذي يورده سارتون، لدلالته اليوم على "ضلال" شيوع المصطلح في هذه المرحلة. يقول سارتون معلقاً على عنوان المحاضرة: "ولكن حب الحقيقة يحملنا على أن نبدي تحفظاً، أو كما يقول المحامون: أن نقدِّم اعتراضاً. إن الثقافة العربية التي كانت الثقافة الزعيمة منذ القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر، ثم بقيت على غاية من الأهمية ثلاثة قرون أُخر (ولنذكر أن ستة قرون ليست شيئاً يسيراً)، قد درجت من مهدها، لا شك في ذلك. ولكن الفتوح الإسلامية حملت هذه الثقافة شرقاً إلى الهند وأواسط آسيا حتى الصين ثم غرباً إلى إسبانيا ومراكش، أي إلى طرف العالم. فإذا نحن سمينا هذه الثقافة إذن، ثقافة الشرق الأوسط فحسب، فإننا نكون جئنا شيئاً غريباً؛ إذ إن هذه الثقافة كانت امتدَّت في العصور الوسطى من الشرق الأقصى إلى المغرب الأقصى. ولنذكر أيضاً أنه كان لهاتين التسميتين قبل كولومبس واكتشاف أميركا قيمة مطلقة، لأن العالم المعروف يومذاك لم يكن يتجاوز هذين الحدين. ففي القرن العاشر للميلاد أصبح القطر الأندلسي والقطر المغربي مركزين أصليين للثقافة العربية. بعبارة أُخرى كان جزء أساسي مما ندعوه بالشرق الأوسط يومذاك في المغرب الأقصى تماماً، آخر العالم غرباً. وهكذا نجد أن التعبير: (الشرق الأوسط) تعبير مضلل. فنحن دائماً شعوب شرقية بالنسبة إلى جيراننا الغربيين، وغربيون بالمقارنة إلى الشعوب التي تعيش شرقنا. ولكننا نقبل هذا التعبير كما نقبل كلمات أُخرى كثيرة، على أنها بقايا من جاهليتنا الماضية." وفي الحاشية ملاحظة: "في الكتب الصينية التي تتحدَّث عن أواسط آسيا والشرق الأوسط يستخدم تعبير أخبار البلاد الغربية" (ص 44 - 45).

فإذا كان سارتون يقبل هذا التعبير بوصفه بقايا من تاريخ "جاهليته"، فهل يفترض بنا أن نقبله بوصفه من نتاج حاضر الأمر الواقع؟

إن هذا التعبير بدأ يكتسي، كما قلنا، دلالات ومعاني جديدة مع نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج، والدعوة الأميركية إلى نظام عالمي جديد، وخصوصاً مع بدء المفاوضات العربية - الإسرائيلية. وجاء كتاب شمعون بيرس "الشرق الأوسط الجديد" تعبيراً عن مسارات سياسية في الصراع العربي - الإسرائيلي، ومحاولة بحث عن صيغة ملائمة لاندراج إسرائيل في منطقة يُنزع عنها مواصفات الجغرافيا - التاريخية وسمات التاريخ الحضاري والثقافي، ويُشدّد فيها على الجغرافيا - الاقتصادية المعاصرة في نظام السوق العالمية، ليخلق فيها نواة سوق شرق أوسطية تتوسع بالتدريج انطلاقاً من إسرائيل كنواة ودورها كقوة جاذبة ومهيمنة اقتصادياً وتكنولوجياً وأمنياً ومدنياً.

وتقدّم إسرائيل، وبتعابير أدبياتها، نفسها على هذا النحو: قاعدة تكنولوجية متقدّمة في شرق عربي "متخلف"؛ دولة "ديمقراطية" في وسط "دكتاتوريات"؛ قوة أمنية رادعة في عالم عربي "عدواني". فهي من هذه الزاوية تدعي حمل مشروع هدفه خلق "شرق أوسط جديد".

ويبدو أن هذا الدور يتقاسمه عملياً ووظيفياً حزبا الليكود والعمل. وما كتابا "الشرق الأوسط الجديد" لشمعون بيرس، و"مكان تحت الشمس" لبنيامين نتنياهو (نشرت "السفير" فصلاً من هذا الأخير بتاريخ 18/4/1995)، إلاّ التعبير عن استراتيجيا إسرائيلية متكاملة تبحث عن سلام مشروط بغلبتين: الغلبة الاقتصادية، والغلبة العسكرية. فـ "المكان" الأمني الذي يتحدث بنيامين نتنياهو عنه هو الشرط المؤدي فعلاً إلى تكوّن "الشرق الأوسط" الاقتصادي الذي يتحدث شمعون بيرس عنه، أي أن الاقتصاد، مضافاً إليه "الردع الإسرائيلي المستديم"، هو الذي يشكل الحائط "الذي يضرب العرب رؤوسهم به." والرهان الإسرائيلي هو أن يحدث "انقلاب سيكولوجي" في موقف العرب من إسرائيل، لأن هؤلاء، كما يقول نتنياهو، "لن يضربوا رؤوسهم في الحائط إلى الأبد."

في مقابل الطرح الإسرائيلي، ماذا نجد لدى العرب على مستوى الفكر السياسي (الاستراتيجي)؟

بدلاً من أن يبحث العقل السياسي العربي، عن "شرق أوسط" عربي - إسلامي - إفريقي - آسيوي (وليُسمح لنا باستخدام هذا التعبير على طريقة جورج سارتون)، فإنه يستسهل نسج العلاقات الثنائية مع إسرائيل، لتُعطى هذه الأخيرة دور اللاعب الرئيسي والمحوري في المشروع الشرق الأوسطي الذي تتهيأ لقيادته بوزنها العسكري أولاً (رؤية نتنياهو)، وطموحها الاقتصادي والتكنولوجي ثانياً (رؤية بيرس).

والواقع أن أمام العرب أوراقاً مجمَّدة أو منسية، بل إن أمامهم نوافذ مغلقة يمكنهم لو فتحوها أن يُطلوا على محيط شرق - أوسطي، غير إسرائيلي وغير أميركي. والتجربة التاريخية - الجغرافية، التي هي في أساس علم الجيو - بوليتيك اليوم، تقدم معطيات قلَّما يستفيد العقل السياسي العربي منها، ولو من ناحية براغماتية.

من هذه المعطيات مثلاً، الأدوار الإقليمية والعالمية الكبرى التي كان يقوم فيها تداخل وتشابك الدوائر العربية - التركية - الإيرانية. وهذه الأدوار تمثلت في قيام الدول الكبرى في المنطقة، أو في تقرير السياسات والاستراتيجيات في مناطق العالم الإسلامي. ويُقصد بالعالم الإسلامي، من ناحية البعد الجغرافي - التاريخي، ذلك المحور الإفريقي - المتوسطي - الآسيوي الذي سمّاه مالك بن نبي: محور طنجة - جاكرتا (أيام باندونغ)، وسمّاه الجغرافي المصري جمال حمدان "الهلال الإسلامي".

وفي هذا الصدد، يسهل ملاحظة كيف أن هذا الهلال يربط بأطرافه وخطوطه وطرق مواصلاته ما بين المتوسط الأوروبي والأطلسي الإفريقي والشرق الأقصى الكونفوشيوسي. وهذا ما يلاحظه الباحث الاستراتيجي الأميركي هانتغنتون عندما يشير - بهدف البرهنة عن نظريته في صدام الحضارات - إلى العلاقة التحالفية بين الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية، ومدللاً على ذلك بالعلاقة بين سورية وإيران من جهة والصين وكوريا من جهة أُخرى.

ومهما يكن من أمر نقاش خلفية هذه العلاقة التي لا نحسب أنها ذات طبيعة ثقافية وحضارية فحسب، فإن في الإشارة تنبيهاً للعرب إلى أن النوافذ الممكنة للخروج من الدائرة الشرق الأوسطية الإسرائيلية الضيقة تقع خارج الجدران الإسرائيلية.

ونضيف من خلال التجربة الجغرافية - التاريخية العربية الحافلة بالدروس الجيو - سياسية أن دائرة العلاقات العربية - التركية دائرة غنية، على الرغم من إشكالات اليوم بشأن قضية المياه، وذكريات الأمس القريب غير السارة بشأن مسائل القوميات، وأن دائرة العلاقات العربية - الإيرانية هي أيضاً لا تقل غنى؛ لكن يبقى أن تتكوّن الدائرة "العربية - العربية" بعد أن انفرط عقدها قبل الاكتمال، ليتحقق شرط تمكن العرب من التعامل مع الدوائر الأُخرى.

وفي مناسبة ذكر إعادة تكون الدائرة العربية، نكتفي بطرح التساؤل انطلاقاً من حدث ذي دلالة. هل يستطيع المثلث العربي القائم على محور: القاهرة - دمشق - الرياض، والذي تجلَّى في قمة الإسكندرية (28 - 29/12/1994)، والذي هو أيضاً، وبمعزل عن المعطيات السياسية الراهنة، من ثوابت الجغرافيا - التاريخية، أي أنه أدى في التاريخ دور المحور الجيو - سياسي لمشاريع الوحدات والدول الإقليمية القوية في التاريخ العربي، نقول هل يستطيع هذا المثلث أن يُبعث وينفِّذ بعض الاقتراحات الاقتصادية والإنمائية من الدراسات الكثيرة، والتي لخّص بعضها الأمين العام لجامعة الدول العربية الدكتور عصمت عبد المجيد في تقريره الذي قدّمه إلى مؤتمر القمة آنذاك، لنأمل ببداية تنسيق اقتصادي تمهيداً لسوق عربية تكون بديلاً من المشروع الذي قدّمته إسرائيل في مؤتمر الدار البيضاء؟

"تطبيع ثقافي" أم تشريط نفسي بسبب العجز الأمني الذاتي والاقتصادي؟

كانت الدراسات الصهيونية التي تناولت تاريخ فلسطين وإتنولوجيتها في مرحلة ما قبل سنة 1948، تشدّد على كونها أرضاً "كوزموبوليتية" وذات ديموغرافيا تعددية بلا هوية حضارية أو ثقافية، وعلى أنها "موزاييك طوائف وأديان وإثنيات" من دون طابع عام وجامع. والآن، ومنذ قيام إسرائيل، ومناطق "الشرق الأوسط" تخضع في الجامعات الغربية ومراكز الدراسات الإسرائيلية، ولدى الباحثين الإسرائيليين، لدراسات وفقاً للمنهج نفسه. والراجح أن دراسات برنارد لويس بشأن شعوب الشرق الأوسط تقدّم "مرجعية علمية" لهذا النوع من الدراسات. فوفقاً لهذه الرؤية، يُنظر إلى "الشرق الأوسط" بأنه هو أيضاً "موزاييك قوميات وإثنيات وأديان." وبما أن إسلامية العرب تمنعهم - كما يرى لويس - من إقامة دولة قومية عصرية علمانية تمارس قطيعة مع الإسلام وتاريخه، على غرار ما فعلت الدولة الكمالية، فإن الشرق الأوسط، ولا سيما في قسمه العربي، يصبح مكاناً لتعايش جماعات إثنية ودينية لا يمكن أن ينتظم التعايش فيها إلاّ في إطار مصالح تديرها سلطة من خارج هذا المكان - أو تضبطها سلطة رادعة في المكان نفسه. وتراوح نظرة الثقافة السياسية الإسرائيلية إلى طريقة ضبط هذا المكان الشرق الأوسطي (العربي) بين "الجاذبية" الاقتصادية التي يعِد بها مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي يتخيله بيرس وبعض العرب، وبين "الرهبة" التي يلوّح بها مهدداً مشروع "السلام الممكن" الإسرائيلي القائم على الردع النووي عند بنيامين نتنياهو.

ولا شك في أن للثقافة دورها في هذا الرهان الإسرائيلي؛ لكن أي نوع من الثقافة؟ إن ما يدعوه الخطاب الإسرائيلي "انقلاباً سيكولوجياً" في ذهنية العرب، "وكفّاً" عن "ضرب الرؤوس في الحائط" هو نوع من التدجين أو التشريط (conditionnement)، وفقاً لمصطلح المدرسة السلوكية الأميركية (Béhaviorisme). وهذا "التشريط" المراهن عليه ليس "تطبيعاً ثقافياً" بالمعنى الذي يؤديه تعبير التطبيع (Normalisation)، أي جعل الأمور طبيعية وعادية. إن العقل الاستراتيجي الإسرائيلي الحاكم يراهن على نشر نوع من حالة ذهنية أو سيكولوجية لدى العرب تكون بلا مضمون تاريخي ولا بُعد وطني أو قومي، أي حالة "لا ثقافية"؛ حالة نفسية - بيولوجية تحوّل كل عربي إلى فرد معزول، وتحوّل كل جماعة إلى أقلية مستفردة، وكل دولة إلى سلطة قامعة، وكل مجتمع إلى مشروع حرب أهلية. والواقع يشير إلى أن إسرائيل ليست هي التي ستقوم بهذه المهمة، بل واقع حال العرب، ودور إسرائيل هو الدفع بذاك الاتجاه واستثمار معطياته إلى الحد الأقصى. ودروس التجربة اللبنانية ملآنة بدلالات هذا الاستثمار ومخاطره في أثناء الحرب والاحتلال. كما أن التجربة الفلسطينية في غزة وأريحا والضفة تقدّم الآن معطيات مماثلة للاستثمار السياسي الإسرائيلي بـ "امتياز".

وانطلاقاً من هذه النظرة الإسرائيلية المزدوجة إلى نسيج العلاقة مع العرب، فإن إسرائيل لا تملك ثقافة، بالمعنى الإنساني والعالمي، تصدرها إلى العرب، أو تخترق بها الثقافة العربية.

فالثقافة السياسية الإسرائيلية يتوزعها نموذجان أو اتجاهان:

1) ثقافة تقليدية وتلمودية، تتجه نحو أصولية يهودية متعصبة وغير قابلة للتعايش مع الآخر، وهي متواصلة في أصولها المرجعية ومصالحها الراهنة مع الحركات الإنجيلية الأصولية الأميركية التي انتعشت منذ عهد ريغن.

2) ثقافة صهيونية (علمانية) مأزومة تحاول أن تكيّف وتفسّر التراث اليهودي الديني، منذ انتصار عصر القوميات في أوروبا حتى الآن، في فكر سياسي "علماني" معاصر مبرر لنشأة دولة إسرائيل، ومواكب لتطورها، ومستجيب لحاجاتها في التوفيق بين العلمانية واليهودية وبين السياسي والديني، وبين حداثتها و"تراثها"3.

وأعتقد أن لا هذه ولا تلك ثقافة مؤهلة لاقتحام الثقافة العربية بتراكيبها الغنية العميقة، والمؤلّفة من عناصر إسلامية ومسيحية عربية، وعناصر بيئة إقليمية تضرب بجذورها في عمق الحضارات القديمة، من مصرية وبابلية وأمورية وأشورية وآرامية وكنعانية - فينيقية. ناهيك بالحضارة العربية - الإسلامية التي استوعبت خلال قرون كل تلك المنوّعات.

وتأسيساً على نظرة التاريخ الشامل في المنطقة بدوائرها الإقليمية الأساسية: الجزيرة؛ الهلال الخصيب (أو المشرق)؛ وادي النيل؛ المغرب العربي... يتموضع التراث اليهودي القديم داخل هذا الإطار الحضاري الواحد المتنوع، لا خارجه. بل إن هذا التراث يصبح، وكما يثبت جل الدراسات الحضارية المتخصصة، مجرّد اقتباس عن حضارات المنطقة بدوائرها الثلاث: مصر، وبلاد كنعان، وبلاد ما بين النهرين4.

وعليه، فإن إعادة النظر في المقولة - الأسطورة التي سادت الفكر الأوروبي الحديث، والتي تنسب مرجعية الحضارة الغربية الحديثة إلى الجذور اليهودية واليونانية، مهمّة ثقافية وعلمية تحتمها لا ضرورات البحث العلمي المعاصر فحسب، بل أيضاً حاجات المشروع الحضاري العربي المعاصر. وقد سبق لباحثين ودارسين غربيين أن تنبّهوا إلى إغفال الأسطورة الغربية السائدة لدور المرجعيات الأُخرى المكونة للحضارة الغربية الحديثة؛ وهي مرجعيات حضارات شرقي المتوسط ووادي النيل، والتي يرى البعض أنها كانت مرجعيات للحضارة اليونانية نفسها؛ ناهيك أيضاً بإغفال دور المرجعية الحضارية العربية - الإسلامية التي قامت بدور التوليف والهضم والإضافة والإبداع والتوصيل إلى أوروبا، والتأثير فيها عبر فنوات وجسور المتوسط، ولا سيما عبر صقلية وإسبانيا.

أمّا الثقافة الصهيونية، فإنها الثقافة الإسرائيلية المعاصرة، ذات المنهجية البراغماتية الغربية، ولا سيما الأميركية، وذات الموضوع التراثي اليهودي المستخدم كحقل استثمار أيديولوجي - سياسي، وبالتماثل المعكوس مع قوميات أوروبا الشوفينية والعنصرية (الوجه الآخر للاسامية ومن الطبيعة العنصرية نفسها، أي أنها والنازية عنصران متكاملان).

تحاول هذه الثقافة السياسية اليوم أن تتكيّف وفق التحولات الدولية و"المفاهيم العلمية" المستجدة، لتتجاوز أزمتها المفاهيمية القديمة المتمثلة في فكرة "أرض الميعاد"، ومأزق الاستيطان، والتوسع الجغرافي بلا حدود، وذلك من خلال الانتقال إلى مفهوم (صهيوني) أكثر تلاؤماً مع مفاهيم السلطة العالمية السائدة اليوم: النظام العالمي والسوق، وما يتبعهما من شعارات "ليبرالية" مزعومة، وخطاب "علموي" مرتكز إلى ما تشكله سلطة المعرفة وعصر المعلومات والاتصال من قوة تأثير ونفوذ وقدرة على المبادرة، وحذق في اتخاذ القرار، وإتقان في صناعته، وإشراك أوسع النخب والاتجاهات والتخصصات في بلورته والمساهمة في تكوين حقوله وخلفياته.

ولعل في هذه النقطة - على ما أرى - يكمن ما يسمى "الخطر الثقافي" الإسرائيلي الجديد؛ فهو ليس "تطبيعاً ثقافياً"، كما يحلو للبعض أن يقول ويتوهّم وينذر ويحذّر ويتخذ قرارات الفصل أو التجميد لكاتب أو شاعر أو باحث حاور أو جادل مثقفين أو باحثين إسرائيليين. "التطبيع الثقافي" - على ما أرى - هو "المنديل الأحمر" الذي يلوَّح به أمام الثور الهائج، كما كان مالك بن نبي يقول عندما درس العلاقة الملتبسة القائمة بين ثقافة المستعمِر وثقافة المستعمَر في الخمسينات والستينات، ورأى أن الكثير من الشعارات والمناهج التي انزلق إليها بعض مثقفي حركات التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا بوعي أو بغير وعي، هو من نوع ما سمّاه "القابليات للاستعمار".

وأخشى أن يكون بعض شعارات اليوم، وإنْ اتسم بالرفض الشكلي، نوعاً من التركيز على "المنديل الأحمر" ونوعاً من القابليات للشرق - الأوسطية، أو نوعاً من أساليب الاستدراج التي سيستفيد المشروع الصهيوني الجديد منها في تجاوز أزمته ومآزقه.

ومن يعرض تاريخنا النضالي العربي (الشكل القومي منه كما الأشكال الوطنية) يعجب لكثرة أشكال "الاستدراج" و"القابليات" التي حركتنا نحن العرب - على اختلاف قطرياتنا وانتماءاتنا الوطنية. ونأمل بأن تكون آخرَ فصول تلك القابليات وذاك الاستدراج - وكي لا نذهب أبعد من ذلك في ضرب الأمثلة من تاريخنا المعاصر - فصولُ الحرب اللبنانية، وفصلا حرب الخليج الأولى والثانية.

والحقيقة أن الشعوب العربية لم تقصّر قط في بذل التضحيات، بل قد تكون من أكثر شعوب العالم بذلاً للتضحيات. ومع هذا، كان الثمر قليلاً والنتائج ضئيلة. ومن يتطلع إلى الثورة الجزائرية والمقاومة الفلسطينية يهاله الفارق الشاسع بين كبر التضحيات وسوء النتائج.

كثيرة هي الأسباب التي حاول الكتّاب والباحثون العرب، ومن مواقع أيديولوجية ومنهجية مختلفة، أن يفنّدوها لتفسير ما حدث ويحدث. واللافت، مهما تتعدد الأسباب، أن مشهد التراجع أو التردي يتكرر من "النكبة" إلى "النكسة" إلى "الكارثة"، إلى مشاهد من الحروب الأهلية والإقليمية، وتناقص معدلات النمو، وازدياد المديونية، وتفاقم الفقر وسوء توزيع الثروة والدخل، وانتشار البطالة والهجرة، وازدياد الفساد، وترهل الإدارة، وتراجع المؤسسات العلمية والبحثية، وانخفاض المستوى، وانتشار الأمية5.

وفيما يخص المسألة الثقافية وعلاقتها بما حدث ويحدث، دعونا نطرح جانباً من جوانبها، جانب الثقافة السياسية. ولنكن أكثر تحديداً فنطرح جانب البحث العلمي ومناهج العمل في المؤسسات الأكاديمية والبحثية، باعتبارها قطاعاً من قطاعات الثقافة، ولنسأل عن موقع المثقف - الباحث في الإنتاج والسياسة وصناعة القرار، وبالتالي في عملية "التطبيع" أو "اللاتطبيع"؛ في عملية الحرب أو اللاحرب؛ في عملية السلم أو اللاسلم.

ولنضع جانباً بيانات "القيادات الثقافية" في الأحزاب أو الاتحادات، التي تدعونا إلى مواجهة "التطبيع الثقافي" - أي مناطحة "المنديل الأحمر" - ولنواجه بعض الأرقام والمعطيات الإحصائية في قطاع الأبحاث العلمية لدى إسرائيل ولدى الدول العربية مجتمعة.

في مقالة للزميل أنطوان حداد بعنوان: "اتساع الفجوة العلمية بين العرب وإسرائيل"6، بعض معطيات رقمية احتسبها الكاتب من الكتاب السنوي الإحصائي الصادر عن اليونسكو سنة 1993، ومن تقرير التنمية البشرية لسنة 1993. ومن المفيد في هذا السياق إيراد بعضها:

"إسرائيل تنفق سنوياً نحو 1.581 مليار دولار على البحث والتطوير، أي تقريباً نصف ما ينفقه العرب مجتمعين (3.15 مليارات دولار) و25 ضعف ميزانية البحث والتطوير في مصر التي لا تتجاوز 62 مليون دولار. ويعني ذلك أن كل باحث إسرائيلي يتمتع بميزانية سنوية تبلغ 63.240 دولاراً، بما فيها الراتب، وهي أعلى ميزانية فردية على الإطلاق في العالم، فيما يكتفي نظيره المصري بـ 2500 دولار سنوياً، بما فيها الراتب طبعاً."

وفي مجال إصدار الكتب، "يصدر عن العالم العربي سنوياً نحو 6400 كتاب جديد تشكّل 0.8 في المئة من مجمل العناوين الصادرة في العالم، والتي بلغ عددها 842.000 كتاب بعد عام 1990. إذاً نسبة ما ينتجه العالم العربي من كتب هي 0.8 في المئة من الإنتاج العالمي، فيما يشكل العرب 4.2٪ من سكان العالم."

والخطورة هنا لا تقتصر على مدى اتساع الفجوة العلمية بين العرب وإسرائيل، بل تتجاوز ذلك لتطرح أبعاداً أخطر بشأن موقع البحث وقيمته الاجتماعية والسياسية في مجال العلوم الإنسانية والاستراتيجية والسياسية، ونظرة السلطة إليه، وبشأن قيمة الإبداع الفني والثقافي في بلادنا العربية. وإذ لا تتسع هذه العجالة لمعالجة الجانب الإبداعي في الثقافة العربية، نسوق بضع ملاحظات تتعلق بمدى قيمة البحث العلمي في مجال علوم الإنسان والمجتمع والاقتصاد والسياسة، ومدى قيمة الباحث والمؤسسة الأكاديمية والبحثية في بلادنا العربية.

يستخدم العالِم الفرنسي بيير بورديو تعبير "رأس المال الرمزي" للإشارة إلى قيمة أنماط من العلاقات التبادلية بين البشر، تخضع للأعراف والعادات والقيم والأخلاق، وتنتظم قناعات وأشكالاً من الإيمان. وهذه القيمة لا تدخل في الحسابات المالية، ولا يُنظر إليها من زاوية التراكم والتكلفة والأسعار والريع والربح وفائض القيمة، بل إن تكلفتها المادية - وقد تكون كبيرة - لا يقابلها بالضرورة ربح مادي مباشر، لكن يبقى لها وظيفة عامة اجتماعية وسياسية ومعنوية، من شأنها أن تؤمّن شروط تراكم الثروة الوطنية في المدى البعيد، وشروط إعادة إنتاج ركائز السلطة الوطنية، وتماسك الجماعة واستقرارها، ومرونة العلاقات وسيولتها.

في تاريخ الحضارة العربية، في إبان ازدهارها، أدت الأوقاف دوراً بارزاً فيما سمّاه بورديو دور "رأس المال الرمزي"؛ إذ من خلالها كان يتم الإنفاق على دُور العلم، والبيمارستانات (المستشفيات)، ومختلف الخدمات الاجتماعية.

وفي زمننا المعاصر، وفي سياق نشأة الدولة العربية الحديثة، تقهقرت أوضاع الوقف، أو صادرت الدولة بعضه أو كله، ولم تقم الدولة بواجبها الاجتماعي والعلمي والخدماتي على الوجه المطلوب. وبلغة الاقتصاد السياسي المعاصر، لم يقم القطاع العام بواجبه كما يجب تجاه المجتمع والجامعة والمدرسة والبحث العلمي. كما لم يقم القطاع الخاص (رأس المال) بمهماته كرأس مال تراكمي بعيد المدى، إذ إنه لم ينتج "رأس ماله الرمزي"، واكتفى بالاستفادة من البنى التقليدية كرأس مال رمزي مساعد في المضاربات العقارية والتجارة الوسيطة والمقاولات، وكلها قطاعات من الاقتصاد قلّما تتطلب إنتاجاً لمعرفة، أو أبحاثاً في التنمية أو في علم الاجتماع الاقتصادي والاستثمارات البعيدة المدى.

أمّا أهل الدولة والسياسة، فهم أيضاً، قلّما يحتاجون إلى أبحاث ودراسات في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا والتاريخ وعلم النفس في مجتمع تقليدي تفكك، عاشوه واختبروه وأتقنوا استخدام رموزه ومفرداته وأساليب بناء السلطة فيه. فأي نفع من تطوير جامعة أو إنشاء مركز أبحاث؟ وإذا كانت السياسات الإقليمية والدولية على المستوى الخارجي قد ضاق هامشها أكثر فأكثر بالانتقال من الثنائية القطبية إلى المركزية القطبية، فأي نفع أيضاً في إنشاء مراكز دراسات استراتيجية وجيو - سياسية؟ وإذا كانت السياسات الاقتصادية الكبرى في المنطقة، ومنها السياسات الشرق الأوسطية، يُخطط لها عبر البنك الدولي والمؤسسات العالمية والشركات المتعددة الجنسيات، فأي حاجة أيضاً إلى الدراسات الاقتصادية والإنمائية المحلية؟

إلاّ إن هذه التساؤلات النقدية كلها لا تدعو إلى استسلام المثقف، أكان عالماً أم باحثاً أم مبدعاً. إن التحديات الراهنة، بل إن التجربة التاريخية برمتها منذ أوائل القرن، تطرح بإلحاح نمطاً جديداً من السلطة والدولة؛ نمطاً جديداً من التنمية؛ نمطاً جديداً من رجل الأعمال والصناعي والتاجر؛ نمطاً جديداً من العلاقة بالعلم والبحث وبالمؤسسة الأكاديمية والبحثية وبمجالات الإبداع الفني على اختلافها؛ نمطاً جديداً من فلسفة السياسة العربية.

أتساءل وأنا أكتب هذه السطور: لماذا يوجد في الولايات المتحدة وألمانيا ودول أُخرى عشرات، وربما مئات "المؤسسات البحثية" الخاصة التي تحمل اسم هذا الشخص أو ذاك؟ وهذه المؤسسات لا تكتفي بتشجيع الأبحاث داخل بلادها، بل تشجّع وتموّل أنشطة علمية وبحثية خارجها. وأتساءل لماذا لا نجد في بلادنا العربية مثل هذه المؤسسات، وفلسفة الوقف التي كانت جزءاً من حضارتها وُجدت في الأساس من أجل تأمين الخدمات العلمية الاجتماعية؟ وإن وُجد مثل تلك المؤسسات، في حالات نادرة، لماذا تتقلّص وظيفتها لتصبح وظيفة جاه واستعراض، بدلاً من أن تكون وظيفة إنتاج للمعرفة؟

أتساءل أيضاً، انطلاقاً من معاناة الوضعية اللبنانية واستجابةً لممكنات وشروط مقاومة التطبيع الثقافي، عن دور الجامعة اللبنانية وأسباب إعاقة إنمائها وتطويرها، وأحصر سؤالي في حقل صغير صغير جداً: كيف السبيل إلى تزويد مكتبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بكتب ودوريات أضحى غيابها سبباً من أسباب مأزق الدراسات العليا وضعف مستواها؟ يشكو البعض تدني المستوى، ويرفض هذا البعض في الوقت نفسه البدء بخطوات الحد الأدنى لتأهيل الجامعة اللبنانية.

في دراساتي التي تناولت فيها مواقع النخب العربية تجاه الدولة العثمانية من جهة والغرب من جهة أُخرى، توقفت ملياً، وبشيء من القلق والحيرة، عند تساؤلات: لماذا فضّل بعض النخب الغرب على الدولة العثمانية، ولماذا تردد البعض الآخر؟ ولماذا كان ذاك الإرباك والالتباس في مواقف المثقفين تجاه مصائر المنطقة؟ ووجدت أن ما سمّاه مالك بن نبي لاحقاً "القابلية للاستعمار" تمليها وقائع مرّة: "جاذبية" الاستعمار من جهة، وبؤس واقع الحال من جهة أُخرى.

لقد وجد "مثقف النهضة" أن الغرب يقدّم المدرسة والجامعة والمستشفى والطريق وسكة الحديد، بينما تعجز دولته عن تقديم أي شيء، بل يتطاول سلطانها في المقابل لمنع الكتاب، وكم الأفواه، ومنع الكتابة، وملاحقة المفكرين. أمام هذه المفارقة ينتصب إشكال صعب وخيار أصعب، لا تنفع حيالهما النصائح ولا التحذيرات، ولا سيما عندما يوضع خيار "المصير القومي" في مواجهة مع خيار "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان"، من تعليم وصحة وإنتاج فكري وثقافي وإبداع وحرية تعبير.

صحيح أن الأفكار الأخيرة (الديمقراطية وحقوق الإنسان) كانت ولا تزال شعارات لا تأخذها الدول الكبرى على محمل الجد بالنسبة إلينا وإلى دول العالم الثالث، بل تستخدمها مجرد أوراق سياسية، يستيقظ ضميرها حيال خرقها ساعة يشاء، وينام مستقر البال ساعة يشاء، وصحيح أن المشروع الشرق الأوسطي لن يكون جنة الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ عبره ستُسحق الطبقات الوسطى مع الطبقات المعدمة وستدوس الرأسماليات الاحتكارية الكبرى على أصل ليبراليتها وديمقراطيتها المزعومة، و"مجتمعها المدني" الذي صعدت على أنقاضه، صحيح كل هذا، لكنه، مهما يكن، لا يبرر الفصل بين "المصير القومي" ومصير الإنسان العربي المرتبط بشرطين هما شرطا وجوده: حريته وحقوقه.

إن "الموقف الثقافي" يبدأ من تلمّس المشكلة في أجزائها الصغيرة وفي أشكالها المعيشة لا في مفرداتها الكبرى كـ "التطبيع" و"المصير" و"الرفض" و"الثورة"...

وإلى من يخشى ويتخوّف من تطبيع المجتمعات العربية ثقافياً، يستحسن أن يقرأ تجربة المجتمع المصري في الممانعة الثقافية. لكن كي تصمد هذه الممانعة في أي مجتمع عربي، وفي حال التطبيع أو عدمه، لا بد لها من شروط إنمائية واستراتيجية وحضارية. فالخوف على مجتمعاتنا العربية ليس من التطبيع الثقافي، وإنما من الفقر والعوز والجهل والأمية وسياسات التفرّد والانقسام والفردية، وحب السلطان، وسياسات التجهيل، وامتهان النخب العلمية والفكرية والثقافية، ودفع العلماء إلى الهجرة، والباحثين إلى البطالة أو الجمود أو التسبيح بـ "مجد السلطان".

بهذا المعنى تتجاوز الثقافة العربية المقاطعة، كما تتجاوز التطبيع. إنها شرط ومؤشر في الوقت نفسه: مؤشر على حالة العرب عندما يحاربون ويقاطعون، وعلى حالتهم عندما يفاوضون ويسالمون.

لقد كانت هذه الحالة مؤشراً في مرحلة سابقة على سوء إدارة الحرب، فهل نتعظ ويتم تحويل الثقافة إلى حالة نهوض، أي إلى حالة علم ومعرفة وإبداع على المستويات كافة؛ حالة ينتفع العرب بها سواء في حربهم أو في سلمهم. بهذا الشرط، وهي شرط لا يبنى بين ليلة وضحاها، بل بتراكم تاريخي نملك بداياته، يمكن أن نواجه مرحلة الحرب ومرحلة التطبيع. وكما قال الإمام علي: "إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً."

ولا بأس في نقل هذه الجدلية الغنية في الموقف الفلسفي - الوجودي إلى حقل العمل من أجل السلم والحرب معاً - من أجل السلم العادل، ومن أجل الحرب العادلة أيضاً.

 

المصادر:

1قارن بشأن هذه التصورات بكتاب: ناصيف نصّار، "تصورات الأمة المعاصرة" (بيروت: دار أمواج، 1994).

2 مجيد خدوري (تحرير)، "الشرق الأوسط في مؤلّفات الأميركيين"، ترجمة عمر فروخ ومحمد مصطفى زيادة وجعفر خياط (القاهرة: مكتبة الأنجلو - مصرية، 1953).

3 راجع كتاب:

Colloque des intellectuels juifs, politique et religion (Paris, 1981).

وهو كتاب غني بدلالاته على الجهد التوفيقي الذي يبذله مثقفون صهيونيون في هذا الاتجاه.

4 J.H. Breasted, The Dawn of Conscience (New York, 1934).

وأيضاً: سيجموند فرويد، "موسى والتوحيد"، ترجمة عبد المنعم الحفني (الدار المصرية، 1978).

5 بلغت نسبة الذين يحسنون القراءة والكتابة بين الكبار (ما فوق 15 عاماً) 51٪ سنة 1990 في مقابل 74٪ في دول شرق آسيا، و84٪ في دول جنوب شرق آسيا، و85٪ في دول أميركا اللاتينية.

6 نشرت في "النهار"، 17/8/1994.

السيرة الشخصية: 

وجيه كوثراني: مؤرخ وأستاذ جامعي - لبنان.