نُشرت هذه الدراسات أول مرة كمجموعة واحدة تحت غلاف كتاب مقوَّى سنة 1990، وكانت تهدف إلى أن تكون بمثابة تكملة لكتاب المؤلف الرئيسي Birth of the Palestinian Refugee Problem, 1947-1949 الذي صدر أول مرة سنة 1987. وقد تم توسيع هذه المجموعة من تسع دراسات إلى عشر دراسات، يضاف إليها دراسة جديدة بعنوان: “Yosef Nahmani and the Arab Question in 1948". والواقع أن هذه الدراسة، المثيرة للاهتمام، تبحث، فيما تبحث، في موضوع أنشطة الطرد و"النقل" (Transfer) التي مارسها نحماني (زميل فايتس في الصندوق القومي اليهودي) والجيش الإسرائيلي في الجليل الشرقي، ليس فقط سنة 1948، بل وصولاً فيما بعد إلى حرب السويس في تشرين الأول/أكتوبر - تشرين الثاني/نوفمبر 1956. والواقع أن الدراسات في هذه المجموعة كانت في معظمها قد نشرت عند أواخر الثمانينات. وكان أهمها دراستان (أي: “The Causes and Character of the Arab Exodus from Palestine: The Israel Defence Forces and Intelligence Service Analysis of June 1948”; “Yosef Weitz and the Transfer Committees, 1948-1949”)، نشرتا أول مرة سنة 1986، غير أن دراسات أُخرى أقل أهمية طرأ بعض التعديلات الطفيفة عليها في هذه الطبعة من الكتاب ذي الغلاف الرقيق، وأُخذ في الاعتبار بعض الوثائق الجديدة التي برزت إلى العيان. وعلى الرغم من أن هذه المجموعة وكتاب ...Birth هما كتابان مختلفان، فإنه يجب التعامل معهما بصفتهما يمثلان دراسة رئيسية واحدة. أقول هذا مع الترحيب الكبير بالوثائق الجديدة كافة، وبالتطور الإضافي الذي طرأ على أفق الموضوعات الواردة في هذه المجموعة.
لكن، بالمقارنة بكتاب Birth…، فإن هذه المجموعة بغلافها الرقيق تلقي الضوء الساطع (ويا للسخرية) على موضوع "النقل" برمته (و"النقل" كلمة ملطّفة تعني الطرد)، وعلى علاقة هذا الموضوع بالجدل المستمر بشأن حوادث سنة 1948 وما تلاها. وقد ارتأى المؤلف (وفي الأمر بعض الغرابة) أن يبدأ الصفحتين الأُوليين من المجموعة (في دراسته: “The New Historiography”) بعمليات الطرد المشهورة التي جرت في اللد والرملة في تموز/يوليو 1948. ويكتب (ص 2): "في 12 و 13 تموز/يوليو، نفذ لواءا يفتاح وكرياتي أوامرهما فطردا من بقي من سكان هاتين المدينتين وعددهم بين 50 ألفاً و60 ألفاً ومن اللاجئين إليهما [إلى اللد والرملة] وإلى جوارهما." هذا "الطرد" الأكبر المنفرد و"المطلق" يوازي ما نسبته نحو 10% من مجموع اللاجئين بأكمله. ومما يثير الانتباه أيضاً أن دراستين اثنتين (من أصل عشر) تحملان العنوانين التاليين: “Yosef Weitz and the Transfer Committees, 1948-1949”; “The Transfer of Al Majdal’s Remaining Arabs to Gaza, 1950”. وفي دراسة ثالثة تحمل عنوان: “Yosef Nahmani and the Arab…”، والتي تتكامل بصورة خاصة مع الفصل المعقود لفايتس ولجان النقل لسنة 1948، ثمة قسم بعنوان: “The Transfer Abroad of the (Palestinian) Maghrebi Communities and other Israeli Arab Villages”. وهذه الدراسة الجديدة التي كان على عنوانها أن يشمل لفظة "نقل"، تبيّن أيضاً أن نحماني كان يدعو إلى النقل منذ أواخر الثلاثينات. أمّا الفصل المتعلق بـِ "نقل" أهل المجدل، فقد ازداد حجمه إلى الضعف، وذلك كي يشمل مواد وثائقية جديدة (جُلّها من محفوظات الهستدروت) والتي (على حد تعبير المؤلف) "تلقي ضوءاً جديداً ومهمّاً، وخصوصاً على أطوار النقل الأخيرة، حيث تم اللجوء إلى العنف المنظم بغية إخراج العرب إلى غزة" (ص vii). وحتى في النص الوارد على غلاف هذه المجموعة، يعِدُ المؤلف بأنه سيفسّر "كيف ساهم يوسف فايتس، وهو مسؤول كبير في الصندوق القومي اليهودي، ولجنتا النقل اللتان رأسهما، في الترويج لخروج [الفلسطينيين]."
في الفصل الرابع، وهو الأكثر جاذبية، وربما الثاني من حيث أهميته ضمن دراسات هذه المجموعة بأسرها، يجدر أن نستشهد بالكلام التالي: "إن أعمال فايتس و›لجنتيه للنقل‹، إحداهما عيّنت نفسها بنفسها وشبه رسمية، نشطت في أواخر أيار/مايو وفي حزيران/يونيو 1948، والأُخرى رسمية نشطت منذ أواخر آب/أغسطس حتى تشرين الثاني/نوفمبر، تمثل فصلاً رئيسياً حافلاً بالعبر داخل قصة اللاجئين الفلسطينيين. فخروج الفلسطينيين كان رواية فرارٍ ›طوعي‹ كما هو رواية طرد، وثمة عدة درجات دقيقة بين بين. إن أعمال فايتس... تلقي الأضواء على أسباب وتطور عملية الخروج في صفوف أهل الريف العرب، وعلى تطور سياسة الييشوف أيضاً التي كانت هي السبب جزئياً. وقد قام فايتس، سنة 1948، بصفته رئيساً قوياً ونشيطاً لدائرة الأراضي في الصندوق القومي اليهودي وعضواً في لجان رئيسية للتنسيق بين الإدارات، بدور أساسي كمنفذ ومستشار وداعية في هجرة عرب فلسطين والاستيلاء على الأراضي والقرى العربية"؛ "في بداية ربيع سنة 1948، بادر فايتس إلى، أو حرض على طرد عدد من مجتمعات المزارعين العرب من أراضٍ يملكها الصندوق القومي اليهودي"؛ "سرعان ما أدرك فايتس ضرورة اتخاذ القرارات وتطبيق السياسات على المستوى الوطني بغية إنجاز ›النقل‹ والذي وحده كان يستطيع أن يحل ›المشكلة العربية‹ في الدولة اليهودية الجديدة"؛ "أُحبطت جهود فايتس في أن يصبح الأداة التنفيذية الأساسية لما كان يسميه ›سياسة النقل‹. فقد اختار بن - غوريون أن تجري الأحداث بعيداً عن أضواء التعيينات والتشجيعات العلنية، وأن من الأفضل لها أن تتم على المستوى المحلي من جانب المستوطنات اليهودية ووحدات من جيش الدفاع، وخصوصاً تحت غبار المعارك" (ص 155 - 156)؛ "كان فايتس [سنة 1948] في موضع يسمح له بأن يطور ويؤثر في صنع قرار فيما يتعلق بالسكان العرب على المستوى الوطني، وأن يشرف على تنفيذ السياسة على المستوى المحلي" (ص 105). وفي هذا الفصل، يكرر موريس الحديث عن "سياسة للنقل" كأمر واقع [de facto] (إن لم نقل شبه رسمية) يبدو أن بن - غوريون اعتنقها وكان عارفاً تفصيلاتها على جميع مستويات صنع القرار، عسكرياً وسياسياً.
والواقع أن موضوع "النقل" (أو الطرد) يُثار مراراً وتكراراً في هذه المجموعة، أي عشرات المرات حرفياً، وفي مختلف الفصول والموضوعات. وعلى سبيل المثال، فإن الفصل الثاني، وهو بعنوان “Mapai, Mapam, and the Arab Problem in 1948”، يبحث، فيما يبحث، "في سجال أيديولوجي خلقي رئيسي جرى في دهاليز الحكومة الإسرائيلية أو بالقرب منها سنة 1948 بشأن السياسة التي يجب اتباعها حيال العرب [الفلسطينيين]" (ص 7). ففي أوائل أيار/مايو كتب أهرون كوهين، وهو من حزب مبام (والذي سرعان ما أصبح عضواً في حكومة الحرب التي ألّفها حزب مباي)، مذكرة داخلية نقدية بعنوان "سياستنا العربية في وسط الحرب"، جاء فيها ما يلي: "تُنفَّذ حالياً عملية طرد مقصودة للعرب... قد يفرح البعض لكنني، بصفتي اشتراكياً، خجلان ووجلان.. أن نربح الحرب ونخسر السلام... إن دولة [إسرائيل]، عند قيامها، ستحيا بالسيف"؛ "إن عملية ›نقل‹ للعرب إلى خارج منطقة الدولة اليهودية كانت تتم عملياً"؛ "ولهذه العملية أهداف سياسية معينة، وليست مرتبطة فقط بالضرورة العسكرية" (ص 60 - 61). أمّا داخل حزب مباي الحاكم، فكان ثمة صوت وحيد منتقد هو صوت يوسف شبرنزاك، من الهستدروت، الذي قال ما يلي في مناظرة داخلية في مركز مباي جرت بُعيد عمليات الطرد في اللد والرملة: "ثمة شعور بأن هناك حقائق تُخلق على الأرض... السؤال ليس عودة العرب أو عدم عودتهم، بل ما إذا كان العرب يُطردون الآن أو قد طُردوا سابقاً... وهذه الحقائق تُخلق بناء على أوامر"؛ يبدو أن هناك "نمطاً من الأعمال الهادفة إلى الاستيلاء على الأراضي وإخلائها من العرب بالقوة" (ص 56 - 57). غير أن شبرنزاك كان استثناء. فقد اتخذ بعض قادة مباي موقفاً صريحاً وواضحاً يساند النقل، وذلك خلال نقاش داخلي جرى في حزيران/يونيو: "إن.. نقل العرب إلى خارج البلد هو في نظري أحد أكثر الأمور العادلة والخلقية والصحيحة التي يمكن القيام بها. وهذا هو رأيي... منذ أعوام كثيرة" (هذا ما قاله شلومو لافي، وهو زعيم في حركة الكيبوتس التابع لمباي)؛ ليس ثمة شيء "أكثر خلقية، من وجهة نظر علم الأخلاق الإنساني العالمي، من أن نُخلي الدولة اليهودية من العرب وأن ننقلهم إلى مكان آخر... وهذا يتطلب [استخدام] القوة" (هذا ما قاله أفراهام كاتسنلسون) (ص 57 - 58). أمّا أهم قادة مباي، أي بن - غوريون وشاريت وغولدا مئيرسون (مئير) وليفي شكولنيك (إشكول) وإليعيزر كابلان، فقد كانوا في الأساس سعداء في ممارسة مهماتهم من دون أي وخز للضمير حيال طرد العرب.
غير أنه، وإذا ما أصبحت فكرة (أو مفهوم) النقل أوضح كثيراً في كتاب 1948 and After… مما كانت عليه في كتاب Birth…، فإنها لا تزال تعوزها الخلفية التاريخية الملائمة التي يُفهم الموضوع من خلالها. وعلى سبيل المثال، لا ينبس المؤلف في الدراسة التي بعنوان: “Yosef Weitz and the Transfer…” بكلمة بشأن الموضوع الأهم، وهو أن فايتس كان منذ كانون الأول/ديسمبر 1937 قد وضع خطة شبه رسمية لـ "النقل"، كما أنه رأَس "لجان النقل" التابعة للوكالة اليهودية، والتي بدأت تعمل منذ سنة 1937 وما تلاها. إن الولع الشديد الذي أبداه فايتس بموضوع نقل العرب، وذلك عبر عقد من الزمن قبل سنة 1948، وما تلا ذلك من "تحضيرات" وعمليات استكشاف وافق بن - غوريون وشاريت عليها، واستمرت حتى أواخر سنة 1944، والتي سافر خلالها وفي إحدى المرات في رحلة استكشافية إلى منطقة الجزيرة في سورية في أيلول/سبتمبر 1941 - هذه الأمور كلها هي بالضبط ما دفعته على نحو طبيعي، وربما حتمي، إلى أن يرئس "لجان النقل" سنة 1948، وأن يحاول أن يصبح المخطط الأكبر لما سمّاه "سياسة النقل" للييشوف في السنة ذاتها. والأمر ذاته يقال في نحماني وأنشطته في مضمار النقل سنة 1948، إذ إن جذور ذلك تعود إلى عضويته ومشاركته الفعالة في لجنة النقل التابعة للوكالة اليهودية في سنتي 1937 و1938، وهذه حقيقة لا يذكرها موريس. غير أن غياب أي نقاش جدي وملائم لمفهوم النقل في العقد السابق لسنة 1948 في هذه المجموعة أمر يمكن تفهّمه؛ إذ من شأن ذلك أن يقوّض حجة المؤلف الأساسية التي فحواها أنه لم يكن ثمة أي خلفيّات أو تصميم مسبق، ولا أي استباق للأمور أو أي مبادرات من جانب القيادة الصهيونية. فالأمر كله طرأ فجأة. لكن، ماذا نقول عن "لجان النقل" وخطط "النقل" الرسمية والصادرة عن الوكالة اليهودية منذ سنة 1937 وما تلاها. وماذا نقول أيضاً عن النقاشات الرسمية المستفيضة بشأن النقل حتى أواسط الأربعينات؟ كان بن - غوريون، كما يعلم موريس، يدعو، و"بهوس"، إلى "نقل قسري" في أواخر الثلاثينات. ولا توجد أي دراسة موثوق بها لهذا المفهوم، الذي كان جزءاً مهمّاً من الخلفية التاريخية لسنة 1948، إلاّ في الدراسة التي صدرت سنة 1992 لكاتب هذه السطور، وهي بعنوان: Expulsion of the Palestinians: The Concept of “Transfer” in Zionist Political Thought, 1882-1948*
غير أنه مما يثير الاهتمام أن الاستنتاجات التي توصل موريس إليها أُعيد صوغها بصورة ملحوظة (وإنْ لم يكن على نحو أساسي) منذ صدور كتاب Birth…، فاتخذت منحى في اتجاه إلقاء مزيد من المسؤولية على الأعمال التي قام بها قادة الصهاينة العسكريون وزعماؤهم السياسيون. وها هي استنتاجاته الحالية: "نشأت مشكلة اللاجئين العرب جراء الحرب، لا جراء التخطيط، يهودياً كان أو عربياً"؛ "كانت في جزء منها نتاج أعمال مقصودة، كي لا نقول شريرة، قام بها قادة عسكريون وسياسيون يهود" (Journal of Palestine Studies, vol. xxi, no. 1 (Autumn 1991), p. 114). وفي حين أنه يرد في كتاب Birth أن أعمال الطرد التي قام الجيش الإسرائيلي والهاغاناه بها، كانت "جزءاً صغيراً فحسب"، نجد موريس يكتب ما يلي في كتاب 1948 and After…، بطبعته ذات الغلاف الرقيق: "في الجزء الكبير منها، كانت مشكلة [اللاجئين] نتاج أعمال عسكرية وسياسية يهودية" (ص 49). لكن تبقى مشكلة تحديد الحجوم في عبارة "في الجزء الكبير". هل تسببت هذه الأعمال بطرد ثلث المجموع الكامل للذين طُردوا، أم ربما أكثر من الثلث؟ والدراسة الثالثة (وهي إحدى أهم دراستين في المجموعة) نشرت أول مرة سنة 1986. وهذه الدراسة، التي تحمل عنوان “The Causes and Character…”، تتضمن ليس فقط بعض أهم اكتشافات المؤلف في حقل الوثائق، بل تُبرز إلى العيان أيضاً الإشكاليات التي تكتنف استنتاجاته. وتقرير الاستخبارات هذا وثيقة ذات أهمية فريدة صدرت قبل بضعة أسابيع من عمليات الطرد التي تمت في اللد والرملة، وهي تغطي الفترة حتى 1 حزيران/يونيو 1948 (عند هذا التاريخ كان نحو 300 ألف - 400 ألف فلسطيني قد أصبحوا لاجئين)، وهي تصل إلى الاستنتاج التالي: "من الممكن القول إن 55 في المئة على الأقل من الذين أُخرجوا قد تم إخراجهم بفعل عملياتنا [التي نُفذت على يد الهاغاناه/جيش الدفاع الإسرائيلي] وتأثيراتها" (ص 89). واستناداً إلى هذا التقرير يقترح موريس، من تلقاء نفسه، "أن العمليات العسكرية اليهودية تسبّبت فعلاً بإخراج 70 في المئة من مجموع الخارجين العرب"، وذلك حتى 1 حزيران/يونيو (ص 101). وفي النصف الثاني من سنة 1948 تم إخراج نحو 300 ألف - 400 ألف فلسطيني أيضاً إلى المنفى. وبالنسبة إلى الفترة حتى 1 حزيران/يونيو، يعرض موريس تمييزاً مثيراً للجدل، وهو تمييز أساسي فيما يتعلق باستنتاجاته: التمييز بين الطرد المطلق المباشر من جهة، وبين بعض الكلمات الملطّفة أو المبهمة من جهة أُخرى، مثل "التسبب بـ"، و"الترويج"، و"التسرّع في"، و"التشجيع على"، و"الوكز"، و"الإيحاء"، للناس بالهرب من خلال وسائل ضغوط عسكرية ونفسية متنوعة. ويقترح موريس في الختام أن نسبة 5 في المئة فقط هي ربما نسبة الذين "طُردوا" فعلاً في الفترة حتى 1 حزيران/يونيو (ص 102)، وبذا يترك وراءه تناقضات صارخة بين البراهين التي يسوقها والاستنتاجات التي يستنتجها. وهو لا يقرّ بحدوث حالات طرد كثيرة، سوى فيما يتعلق بالنصف الثاني من الخروج، أي في اللد والرملة والجليل الأوسط في تموز/يوليو، وفي النقب الشمالي في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، وفي الجليل الأعلى في تشرين الأول/أكتوبر وأوائل تشرين الثاني/نوفمبر، وهي عمليات تشكل في مجموعها هذا "الجزء" من الخروج الذي سببته أعمال مقصودة من جانب القادة العسكريين والسياسيين اليهود. وتدل الدراسة الثالثة هذه، وربما أكثر من أي دراسة أُخرى في المجموعة، على نقاط القوة ونقاط الضعف معاً في رواية موريس، إذ إن الشواهد التي يسوقها قد يفسّرها فعلاً كثيرون ممن لا يستسيغهم المؤلف، تفسيرات شتى.
كان موريس، ولا يزال، بصفته مؤرخاً وضعياً، أقوى ما يكون في مجال الشواهد والتوثيق، وخصوصاً الإسرائيلية منها، وهذه الحقيقة تم الاعتراف بأنها أكبر ميّزاته كمؤرخ. ومع ذلك، يبدو أنه لا يعرف إلاّ القليل القليل عن التاريخ الشفهي الفلسطيني المتنامي حجماً والصادر في الأعوام الأخيرة، والذي من شأنه أن يشكّل جزءاً مهمّاً من أي رواية موثوق بها لما جرى سنة 1948 ولغير ذلك من الحوادث البارزة في التاريخ الفلسطيني. والانطباع الذي يخرج المرء به هو أن موريس يعاني، للأسف، مشكلات في اللغة، الأمر الذي يفسّر أيضاً ضحالة المصادر العربية في روايته؛ إذ إنني لم أجد سوى هامش واحد فقط لمصدر عربي (ليس باللغة العربية) بين ما يزيد على 640 هامشاً استخدمها في هذه المجموعة. ويقول لنا موريس أيضاً في هذه المجموعة أنه استخدم أكثر من عشرة مصادر كانت إمّا باللغة الإنكليزية وإمّا مترجمة إلى العبرية. وإذا أخذنا في الاعتبار هذا الحاجز اللغوي المهم المفترض، فهل يمكن لأحد أن يكتب روايات موثوقاً بها جازمة عن حوادث وأمور ذات أهمية بالغة في التاريخ الفلسطيني من خلال الاستخدام الحصري أو الواسع لوثائق رسمية إسرائيلية (وفي كثير من الأحيان تقارير للاستخبارات) والقليل القليل من المصادر العربية أو التي باللغة العربية؟ لكن ثمة أيضاً تحيزاً معادياً للعرب؛ إذ يكتب موريس (ص 34) "أن المذكرات السياسية العربية في الأربعينات والخمسينات لا يوثق بها في الغالب؛ فهي تخدم غايات خاصة وغير دقيقة في معلوماتها." والأمر ذاته لا يقال، طبعاً، عن المذكرات السياسية والوثائق الرسمية التي كتبها سياسيون أو ضباط عسكريون إسرائيليون - صهاينة (يستخدمها موريس بكثافة، وفي كثير من الأحيان من دون تمحيصها في دراساته)، فهي لا "تخدم غايات خاصة". ولمجرد كون وثيقة رسمية ما كُتبت سراً ولغايات داخلية، فهل يعني هذا أن مؤلفها لم يتأثر بدوافع سياسية؟ لقد كنت أنا أيضاً أعتقد، ويا للسذاجة، أن المذكرات السياسية كافة، لا العربية فحسب، تخدم، وإلى درجة بعيدة، أغراضاً شخصية، غير أنه ما زال في الإمكان استخدامها بدقة وبروح نقدية. وما دمنا نتكلم على موضوع "خدمة الغايات الذاتية"، فإن عنوانيّ دراستين من دراسات موريس هما:“Mapai, Mapam…” وYosef Nahmani”"؛ هذان العنوانان يستعيران، وبصورة غير نقدية ومن دون استخدام علامتي الاقتباس (في العنوانين ذاتهما) ألفاظاً ذات مدلولات مغرضة، صاغتها الزعامة الصهيونية، وتُستخدم تقليدياً لوصم الفلسطينيين بأنهم خطر داهم، والألفاظ هي: "المشكلة [الديموغرافية] العربية" و"المسألة العربية".
لكن، للأسف، يبقى موريس في مجموعته هذه عرضة لنقطتي ضعف رئيسيتين: الأُولى هي أن استنتاجاته لا تنبع بالضرورة من أدلته، والأُخرى هي أن دراساته ما زالت تنقصها الخلفية التاريخية الملائمة التي يمكن من خلالها رسم صورة للخروج سنة 1948. كما أن القارئ يخرج بانطباع أن المؤلف هو عدة أشخاص تتصارعهم حقائق متنافرة. ففي مناظراته مع منتقديه من الإسرائيليين (شبتاي طيفت مثلاً)، ينحو موريس نحو تأكيد أن القيادة الصهيونية "استحوذت" عليها الدعوة إلى نقل العرب في الثلاثينات وأوائل الأربعينات، وأن بن- غوريون كان يدعو منذ ذلك الحين إلى نقل "قسري"، وأن هذا الأمر كان لا بد له من أن يؤثر في تفكيره سنة 1948. غير أنه ينكر، في مناظراته مع المؤرخين الفلسطينيين (مصالحة مثلاً)، (وهنا نستشهد بكلامه هو)، "أن القيادة الصهيونية خلال الثلاثينات وأوائل الأربعينات كانت تناقش، وتدعم عموماً حلاً لـِ ›المشكلة العربية‹ في الدولة المقبلة يعتمد على النقل." وينكر أيضاً أن يكون لهذا الأمر علاقة ذات شأن بما حدث سنة 1948 (ص 37). والأدلة المتاحة تشير إلى أن "سياسة نقل" عملية ورسمية قد اعتُمدت في زمن ما من سنة 1948، ثم نُفّذت عملياً، وربما لم يكن هذا التنفيذ قد تم بانتظام على امتداد هذه الفترة، وواكبه بعض الالتباس واختلافات في التطبيق بين منطقة وأُخرى. لا أرى شخصياً أي مشكلة في الإقرار بأن الخروج سنة 1948 كان أمراً معقداً، غير أن هذا الأمر لا يتناقض مع وجود سياسة النقل. لقد جرى الخروج، وفي الجزء الكبير منه، تحت وطأة الحرب والعمليات العسكرية. ومع ذلك، فإن موريس نفسه يقول إن الخروج "كان فيه قواسم مشتركة وأنماط... في معظم الأرجاء وفي معظم الأوقات" (ص ix). من هنا، وحتى لو قبلنا استنتاج موريس المثير للشك، وهو أن [مسألة] الخروج كانت فقط "وفي جزء منها... نتاج أعمال مقصودة، كي لا نقول شريرة، قام بها قادة عسكريون وسياسيون يهود"، وأن مشكلة اللاجئين كانت "في الجزء الكبير منها" نتاج أعمال عسكرية وسياسية يهودية، أليس من الضروري عندها أن نَصِف هذه الألفاظ: "في الجزء الكبير منها" أو في "جزء منها"، بأنها تنم في الواقع عن النقل والطرد؟
إن دراسة موريس الأولى، والتي هي بمثابة مقدمة، تمتاز بصورة بارزة من سائر المجموعة فيما يتعلق بأهدافها وأسلوبها ومتنها. وكونها دراسة سجالية (هجومية ودفاعية معاً)، فإنها تنبئنا عن المؤلف كشخصية سياسية أكثر مما يدل عنوانها عليه: "كتابة التاريخ الجديدة: إسرائيل وماضيها" (“The New Historiography: Israel and its Past”). ويوجّه موريس هجومه الأعنف ليس فقد في اتجاه شبتاي طيفت، وهو أشهر مناوئيه من الإسرائيليين، بل أيضاً في اتجاه الفلسطينيين من أصحاب التيار المركزي (بمن فيهم إدوارد سعيد ووليد الخالدي ونور مصالحة) ممن أقّروا علناً لموريس وغيره من التنقيحيين بكثير من الميّزات الحسنة. فها هو موريس، الذي يفتخر بتعلّقه بالحقيقة التاريخية والفوارق الدقيقة بين الأحكام التاريخية، ينبذ إدوارد سعيد (الذي لم يكن قط عضواً قيادياً في منظمة التحرير، وقد أصبح في الأعوام الأخيرة من معارضيها الأشداء)، واصفاً إياه بأنه "يمارس الدعاية للمنظمة" (ص 28). والأنكى من ذلك والأبعد عن الاستقامة، هو ما يفعله حين يجعل الخالدي مشاركاً لشريف كناعنة في رأيه الشخصي القائل إن أعمال موريس "جزء من الدعاية الإسرائيلية - الصهيونية... [وهي] أخطر كثيراً من الخط السابق في الدعاية الإسرائيلية" (35 - 37). إن موريس الذي كتب هذه الإضافات في أيار/مايو 1993، كان حتماً يدرك أن الخالدي، وعلى الرغم من انتقاداته المشروعة، قد استخدم في كتابه All That Remains كثيراً من الأدلة التي ساقها موريس في Birth…. ويبدو أن موريس لم يهتم، للأسف، بإجراء أي مناظرة بناءة وبعيدة عن العاطفة مع الباحثين الفلسطينيين في التيار المركزي، الأمر الذي كانت مجلة Journal of Palestine Studies قد أملت بالشروع فيه سنة 1991. وعوضاً من ذلك، اختار موريس، ويا للسخرية، أن ينبذهم، مستخدماً عبارات تشابه العبارات التي استخدمها كناعنة في نبذه هو. أمّا مشاعره المناهضة للعرب، فإنها تمنعه من الاعتراف بالحقيقة الواضحة وهي أن الأكاديميين الفلسطينيين الرئيسيين لا ينتمون إلى كتلة واحدة منتظمة، بل إن لهم آراء مختلفة بشأن ما حدث سنة 1948، تماماً كتلك التي يملكها زملاؤه هو من المؤرخين التنقيحيين.
إن هذه الدراسة الأولى تعكس أيضاً العواطف التي ما زالت متأججة (من الألم والتحيّز وغيرهما من العوامل المكبوتة التي أوجدها الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ونمّاها) بقدر ما تعكس المناظرة الجارية بشأن الحقائق التاريخية المتناقضة لسنة 1948. وبعد أن نصّب موريس نفسه حَكَماً أخيراً لـِ"الحقيقة التاريخية"، فإنه يلتفت إلى ما يسميه "الحقيقة النفسية" (ص 39)، أي إلى النظرية (أو الأوالية) النفسية للشعور بالذنب وإلقاء اللوم. إن على الفلسطينيين إذاً أن يكفّوا عن لوم الإسرائيليين (أو أي شخص آخر) على المأساة التي حلّت بهم سنة 1948، وعلى المؤرخين الفلسطينيين الحاليين أن يكفّوا أيضاً عن تبرئة آبائهم وأجدادهم "من كامل المسؤولية (›الشعور بالذنب‹) لما حل بهم من فقدان الأرض والكرامة والشرف، والاتهام بالجبن وانعدام الكفاءة." هذا أقرب ما يصل موريس إليه في مضمار "إلقاء اللوم على الضحية"، الذي يتضمنه كلامه، وهو أمر كان يتفاداه عموماً في دراساته الأُخرى. ولا جدال في أن على المؤرخين الفلسطينيين الحاليين أن ينحوا منحى انتقادياً عند تفحص ما قام آباؤهم به من أعمال سنة 1948. غير أن موريس يود أن نقبل دراسته كاملة متكاملة؛ فيريدنا أن نقبل الأدلة والاستنتاجات معاً، ويريدنا، وهذا الأسوأ، أن نتقبل وجهة نظره الصهيونية ونظرياته في علم النفس.
لديّ أنا وموريس أمر واحد مشترك على الأقل، فقد تخرجنا كلانا في الجامعة العبرية في القدس، على الرغم من التفاوت شبه المؤكد في تجاربنا**. وهجومه الصارخ على الأكاديميين الفلسطينيين في التيار المركزي (ص 38 إلخ..) يذكّرني ببعض المناظرات التي كنا، نحن الطلبة الفلسطينيين، نخوضها مع زملائنا الإسرائيليين في حرم الجامعة. في تلك الأيام، سمعت أول مرة بالفكرة القائلة إن "السكان الأصليين" كانوا لا يستطيعون الكلام إلاّ بلغتهم الخاصة، وذلك حتى مجيء الأوروبيين (أو المستشرقين) الذين علّموهم قواعد لغتهم النحوية وهيكليتها. وخلال تلك الأيام (في أواسط السبعينات). كانت الحكمة السائدة في الجامعة العبرية هي أن الإسرائيلي وحده (يهوشواع بورات) هو الذي يستطيع أن يكتب أفضل دراسة عن الحركة الوطنية الفلسطينية. وفيما بعد، وحين كتب زئيف شيف وإيهود يعري كتابيهما بشأن اجتياح إسرائيل للبنان سنة 1982 وبشأن الانتفاضة، سمعت الزعم ذاته من بعض معارفي من الإسرائيليين (وأنا لا أنتقص هنا، طبعاً، من أهمية هذين الكتابين). وفي الصفحة 38 نعثر على الزعم ذاته: الباحثون الإسرائيليون وحدهم (موريس وبورات مثلاً) هم الذين أنتجوا أفضل الدراسات عن التاريخ الفلسطيني. وعلى امتداد دراسته: “New Historiography” يشيد موريس بزملائه التنقيحيين (شْلَيم، بابه، مِلْشتاين، بار - جوزف، وغيرهم) غير أنه لا ينسب إلى أي مؤرخ فلسطيني أي فضل في المساهمة في تطوير كتابة التاريخ الجديدة عن سنة 1948 وما بعدها. فهو يشير إلى كتاب نزّال “The Palestinian Exodus from Galilee, 1948” بأنه مصدر فقط لا غير، لكنه لا يشير إلى دراسات حازت الإعجاب، مثل All That Remains لوليد الخالدي (1992)، و"طرد الفلسطينيين...." Expulsion of the Palestinians… لمصالحة. ولا ريب في أن موريس يعرف هاتين الدراستين حق المعرفة. فالأمر عنده يبدو على نحو أن التاريخ الفلسطيني شأن داخلي يتناظر المؤرخون التنقيحيون (الصهاينة) فيه، وهم أبطال هذا الانتصار الأكاديمي، على ما يُفترض. أمّا ما يتضمنه كلام موريس بشأن المؤرخين الفلسطينيين، فهؤلاء ليس في إمكانهم قطعاً أن يشاركوا على قدم المساواة في هذا الجهد العلمي، ولا حتى أن يكونوا من المساهمين الكبار فيه.
لا ينبغي للتاريخ وكتابته أن يكونا بالضرورة، لا حصراً ولا في الجزء الأعظم منهما، من صنع المنتصرين والفاتحين. بل يمكنهما أن يكونا بمثابة فرصة لبدء الحوار عبر الفوارق القومية. فالتاريخ، كغيره من الجهود العلمية، هو جهد مشترك، وفي بعض الأحيان جهد متصل، ويمكن للجميع (من الفلسطينيين، والإسرائيليين النقديين، وغيرهم) أن يساهموا فيه، وقد ساهموا فيه فعلاً. وسرّني شخصياً العثور في الأعوام الأخيرة على بعض الدراسات الجيدة والنقدية لبعض الأكاديميين الإسرائيليين (هنري روزنفيلد وغرشون شافير مثلاً). والمؤرخون الفلسطينيون الذين ما زالوا يعيشون في فلسطين أو في المنفى لهم أيضاً أن يفخروا بإنجازاتهم؛ فقد ساهموا في الأعوام الأخيرة مساهمة كبرى في دراسة تاريخ فلسطين، ودراسة تاريخ الشرق الأوسط العربي وغيره أيضاً (ولا نذكر هنا سوى بعض البارزين منهم كإدوارد سعيد وهشام شرابي ووليد الخالدي). ومن أجل التواضع العلمي، لا ينبغي لموريس أن يذهب بعيداً في إحساسه بالانتصار واستعلائه، بل يجب أن يركز على الجهد المتمثل في تطوير المعرفة العلمية المشتركة.
* صدر هذا الكتاب بالعربية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان: "طرد الفلسطينيين: مفهوم ›الترانسفير‹ في الفكر والتخطيط الصهيونيين، 1822 ـ 1948".
** في المناسبة، وما دمنا نتحدث عن التجارب المختلفة لعرب إسرائيل ويهودها: في خريف سنة 1988 رُفض رفضاً قاطعاً طلب تقدمتُ به للسماح لي بالاطلاع على بعض الوثائق المهمة التي نُزعت عنها صفة السرية، والتي استشهد بها في كتابه Birth. وناشدتُ المسؤولين عن المحفوظات في الكيبوتس الموحد، في إفعال، مشيراً إلى أن موريس كان قد استخدم تلك الوثائق من قبل، غير أن كلامي ذهب أدراج الرياح. وفي نهاية الأمر قُدّم لي فنجان من القهوة بلطف، وسُمح لي بالاطلاع على بعض الكتب التي نشرها الباحثون في المعهد بشأن بعض الموضوعات الصهيونية.