بعد وضع الإطار النظري لمسألة التعددية، تتناول الدراسة الأسئلة التالية: هل عبرت مظاهر التعددية، غير المنكورة، عن تطور سياسي أو عن إضافة إلى قيم الثقافة الفلسطينية؟ هل نقلت المجتمع بعيداً عن محددات السلوك السياسي التقليدية الأبوية الطابع؟ ما الفارق بين ممارسات القوى والأطر التي سادت قبل النكبة عن تلك اللاحقة لها؟ وكيف فهمت هذه الأطراف التعددية السياسية في المراحل كلها؟
I النظرية التعددية منهج ينظر إلى الحياة على أساس أن هناك، أو ينبغي أن يكون هناك، أشياء متعددة على الصعد كافة، فلسفياً وثقافياً، وقيمياً واجتماعياً. وتعني التعددية السياسية في هذا الإطار ضرورة وجود تنوع في الأطر الأيديولوجية والمؤسسات والممارسات الاجتماعية، ومن ثم تولي اهتماماً مميزاً بالأحزاب، والتنظيمات السياسية، وجماعات المصالح، والعملية الانتخابية، وتداول السلطة عبر أواليات محددة، أكثر من أية نظرية أُخرى. إنها تركز على أهمية تعدد الأقنية التي تمكن المواطنين من التعبير عن مصالحهم وآرائهم ومن مراقبة ممثليهم والتأثير في تطور السياسات العامة.(1)
إن التعدد السياسي، بعبارة أُخرى، يشير إلى وجود أكثر من تصور واتجاه بشأن مسار المجتمع وأهدافه، وغالباً ما يتم التعبير عن هذه الظاهرة من خلال وجود أكثر من حزب واحد أو قوة سياسية واحدة.(2) ومع ذلك، ربما لا يخلو الحزب الواحد من تنوع نسبي في الرأي. وقد شهدت النظرية التعددية تطورات قادت إلى تصورات أكثر تعقيداً للحركة السياسية، وأهمها تلك التي تتناول أدوار وأنشطة القوى المدنية المنظمة، كالجمعيات والنقابات والروابط النوعية والمؤسسات الاقتصادية.
وفي الممارسة، يقترن الحديث عن التعددية الحديث عن الديمقراطية. فإذا كان للنظام الديمقراطي ثلاث أواليات محددة هي: التعدد التنظيمي المفتوح؛ أي حرية تعددية الأحزاب والتنظيمات السياسية من دون قيود، وتداول السلطة عبر انتخابات حرة، ومنظومة قانونية تحترم حقوق الإنسان وحرياته، فإن التعددية، أو الأوالية الأولى، هي الشرط الذي لا غنى عنه للأواليتين الأُخريين، لأنه من دونها لا يمكن تداول السلطة ولا ممارسة الحقوق الفردية والجماعية.(3)
وتتضمن التعددية السياسية، في الممارسة أيضاً، وجود الأطر الدستورية القانونية التي تهيئ المناخ لوجود التنوع المؤسسي والتنظيمي داخل المنظومة السياسية، وتوثق مبدأ الفصل بين السلطات، وتكفل المساواة وحرية التعبير للمواطنين كافة من دون تمييز، والاستجابة للأعراف والمواثيق الدولية الخاصة باحترام كرامة أبناء المجتمع، مع مراعاة أن تجري هذه الترتيبات كلها بطرق سلمية، تتحلق حولها جميع القوى السياسية وغير السياسية في المجتمع.(4)
وفي معظم الدراسات المتعلقة بالنظم السياسية المقارنة تجري محاولات لمقاربة النماذج المختلفة للتعددية السياسية في ضوء هذا الإطار النظري. ومع أن القضية الفلسطينية شغلت مساحة واسعة من الاهتمامات البحثية العربية والأجنبية، فإن هناك جوانب يبدو أنها ظلت بعيدة عن دائرة الضوء، وفي طليعتها ما يتصل بالحرية السياسية الداخلية عامة، وما يتصل بالنظام السياسي وطبيعته خاصة.
وحين مضى مؤخراً الزمن الذي كان الحديث فيه عن هذه الجوانب يعبِّر عن حالة ترف فكري، بذريعة غلبة الصراع مع الآخرين وأولويته، اكتشف المعنيون من الفلسطينيين وغيرهم، أنهم في صدد حقل شبه مجهول، تنطوي مقاربته على شيء من المجازفة. وظهر لهم أن قضايا من نوعية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو السلطة والمعارضة في الإطار الوطني، والتطور الدستوري والحياة النيابية، ومصادر الشرعية السياسية، ومستوى المشاركة الشعبية في الانتخابات العامة، وتداول السلطة، والأداء الديمقراطي للنظام عموماً، أو داخل القوى السياسية وفيما بينها، وعلاقة المجتمع المدني بهذه القوى ظهر لهم أن مثل هذه القضايا لم ينل حظاً وافراً في الأدبيات الفلسطينية.
يعنينا من ذلك في هذا المقام أنه في غمرة الاستنفار البحثي الذي أملاه هذا الاكتشاف، وضرورة التعرض لملامح المرحلة المقبلة من التطور السياسي الفلسطيني، نشأت مدرسة تدفع باتجاه أن المجتمع الفلسطيني طالما انحاز بوضوح إلى التعددية السياسية بمضمون ديمقراطي، مستنتجةً أن النظام الفلسطيني العتيد لن يحيد في ممارساته مستقبلاً عن هذه القاعدة.(5) وبصيغة أُخرى، ترى هذه المدرسة أن لدى الحالة الفلسطينية ما ينطبق مع الخصائص النظرية للتعددية السياسية، قبل النكبة وبعدها.
موضوعياً، لا تخلو هذه الرؤية من عمومية طاغية، وربما احتاج توكيدها إلى أكثر من النظرة العابرة. صحيح أن الواقع الفلسطيني بتكويناته السياسية والأهلية المدنية، عبّر منذ وقت مبكر عن تعددية ظاهرة، وأن أبناء المجتمع الفلسطيني اصطفّوا في جميع الأطوار السياسية التي مرت بهم خلف أكثر من برنامج وقوة سياسية، وعرفوا الحياة الحزبية وتكوين الأطر الجبهوية والتحالفات، مثلما عركوا الانشقاقات والانقسامات من منطلقات سياسية مختلفة، وظهرت بينهم معسكرات الأكثرية والأقلية والأغلبية المعارضة، كما ظهرت التكوينات المدنية النوعية بمختلف ضروبها. لكن الذي يبقى موضوعاً لتساؤلات كثيرة هو المضمون الديمقراطي لهذه الحالة، أو ما إذا كانت التعددية الطافية على السطح تنم عن جوهر ديمقراطي متغلغل في الثقافة السياسية وفي تضاعيف العقل والذاكرة الجمعية الفلسطينية، بما يشي بديمومة واستمرار في المراحل المقبلة.
فهل عبّرت مظاهر التعددية، غير المنكورة، عن تطور سياسي أو عن إضافة إلى قيم الثقافة السياسية الفلسطينية؟ وهل قادت التعددية البنيوية إلى تغيير وظيفي نوعي، فنقلت المجتمع بعيداً عن محددات السلوك السياسي التقليدية - الأبوية الطابع - نحو علاقات أكثر حداثة وارتقاء؟ وما الفارق بين ممارسات القوى والأطر التي سادت قبل النكبة عن تلك اللاحقة لها؟ وكيف فهم مختلف هذه الأطر في المراحل كلها قضية التعددية السياسية؟
في غياب أواليات أُخرى، فإن أحد المداخل المطروحة والمتاحة للتعامل مع هذه التساؤلات، التي تتضمن قدراً من التعقيد والجدية، هو استلهام دلالات التقاليد السياسية الفلسطينية في مراحل مختلفة، بما يمكن أن يغني الحوار الدائر بشأن طبيعة النظام الفلسطيني المقبل.
بيد أنه لا ينبغي أن يغرب عن البال أن لهذه المنهجية محاذير، لعل أبرزها أن التقاليد القديمة عرضة للتغير، وربما للانقطاع، وهو ما يجعل محاولة إسقاط الماضي كله على الحاضر، بهدف استشراف المستقبل، عملاً محفوفاً بإمكان التجاوز والخطأ في كثير من الأحيان. لكن المطمئن بالنسبة إلى هذه المقاربة أن التقاليد الثقافية والسياسية لأي مجتمع لا تنقطع بالمعنى المطلق، لا سيما إذا كانت الفترة المنصرمة بين الماضي والحاضر محدودة عموماً، كما هي الحال بالنسبة إلى أوضاع المجتمع الفلسطيني. ثم إن هذا المجتمع سعى عامداً، على الأرجح، لتمثل الكثير من قيمه الراسخة، باعتبار ذلك من وسائل الحفاظ على الكينونة والبقاء.(6) وكان مما ساعد في ذلك، معايشة الفلسطينيين، باستثناء ما عرف بعد النكبة بعرب 1948، للواقع الحضاري العربي العام، الذي شدهم دوماً إلى ثقافتهم السياسية الأم، وافتقار القوى الفلسطينية، اللاحقة لفترة الانتداب وبداية الشتات، إلى وجود برنامج شامل للتغيير الاجتماعي والثقافي المبرمج.
II مثلما أنه لا يمكن فهم تعددية ما بعد النكبة من دون استبصار تعددية عهد الانتداب، فإنه من الصعب معالجة هذه الأخيرة من دون الرجوع إلى أصولها الضاربة في أواخر العهد العثماني. إن معظم الجهود البحثية المتعلقة بالتبلور السياسي في عهد الانتداب يلاحظ الصلة الوثيقة بين الخلفية العشائرية وبين القوى السياسية والحزبية، ويلاحظ أن التصعيد القيادي قد احتكم إلى الثقافة السياسية الموروثة عن التركيبة الاجتماعية، وان التعدد السياسي مثّل مظهراً خارجياً للتدافع العائلي الأكثر أصالة نحو كل من السلطة والنفوذ، الأمر الذي يرتد بدوره إلى القرن الثامن عشر.(7)
فقد عرفت فلسطين التعارضات والنزاعات بين أكثر من محور عائلي مرتبط بجهاز الدولة العثمانية. وكان لكل محور منها تصوره لحدود نفوذه وسطوته المحلية، وحتى توجهاته الخارجية. فبعض العائلات، على سبيل المثال، كان مؤيداً للوجود المصري بقيادة إبراهيم باشا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، والبعض الآخر كان يفضل النفوذ العثماني المباشر، الذي ارتبطت به هيمنته المحلية.(8) وقد توارثت العائلات المتنازعة الصدارة السياسية طوال العهد العثماني والشطر الأكبر من عهد الانتداب. وبمراجعة أسماء النواب الفلسطينيين في مجلس المبعوثان، في أثناء أدوار انعقاده، تتأكد هوية العائلات الكبرى وسيطرتها على تمثيل البلد. وبالتوازي مع تلك التعددية العائلية التقليدية، برزت على الساحة الفلسطينية تصورات متعددة بين الناشطين والمثقفين الفلسطينيين، عبر مشاركتهم كمؤسسين بفعالية، موزعين على الاتجاهين اللذين سادا الساحة العربية، عشية أفول الحقبة العثمانية: الاتجاه المنادي باستقلال العرب على أساس قومي، والاتجاه الداعي إلى الحفاظ على الرابطة العثمانية من منطلقات دينية، والذي عُرف باتجاه اللامركزية. ولا يقدح في ذلك التنوع في التوجهات السياسية كون الفلسطينيين "قد شاركوا بصفتهم من أبناء سوريا الكبرى، والشيء المهم في هذا السياق هو أن حلول سلطة الانتداب الحاكمة، بعد زوال الحقبة العثمانية، لم يواكبه تغير جذري مميَّز في البنية الاجتماعية - الاقتصادية على الصعيد الفلسطيني، الأمر الذي كان له تجليات بالنسبة إلى البنى السياسية التي ظهرت تباعاً؛ فقد استمر المجتمع بهيكليته المكونة من فئتين: فئة أولى من أعيان المدن ووجهاء القرى، وفئة ثانية تكونت من شريحة عريضة من الفلاحين والبدو ومن قطاع محدود من البرجوازيات المتوسطة والصغيرة. وفي كلا الفئتين، ظلت العائلة هي الركيزة الأهم للمكانة، بحيث "كان الولاء العائلي يسبق ما عداه من ولاءات بما فيها الوطني أحياناً." وكان على العائلات الضعيفة أن ترتبط بالعائلات الأقوى نفوذاً وجاهاً، وأن تتقرب إلى زعامات هذه العائلات.(9) ومن جانبها، فإن سلطة الانتداب سعت لتكريس هذه البنية، باعتمادها، كما كانت حال العثمانيين من قبل، على الفئة الأولى تماماً من دون غيرها.(10)
هذا التسلسل الاجتماعي - الاقتصادي ترك تداعيات بالغة في طبيعة التعددية السياسية؛ فالشعور بالخطر الصهيوني المتقاطع مع خطر الاستعمار البريطاني لم يُزِل الفوارق البنوية المقسِّمة للمجتمع بصورة رأسية، بل إنه ربما أضاف عنصراً داعماً لهذه الفوارق، لأن المؤسسات السياسية البازغة، ومنها تلك التي يفترض أنها أكثر تطوراً، كالأحزاب، حملت بين جوانحها السمات الوراثية الغائرة، معيدة بذلك، إلى حد كبير، إنتاج العصبيات العشائرية والزعامات المحلية، أو الفئوية الضيقة الأفق والمتنافسة، وأخفقت في تحقيق حالة "الالتحام الوطني" الشامل من القمة إلى القاعدة، رأسياً وأفقياً. ولا نعني بهذه الحالة إلغاء الفوارق النوعية في التوجهات السياسية، بل أن يسبق الولاء الوطني ما عداه، وأن يتحدد الانتماء لا على أساس المجموعات الصغيرة، ممثلة بعائلة أو طائفة أو طبقة بعينها، بل على أساس الفكرة والاختيار السياسي والأيديولوجي. وبذلك فقدت الساحة السياسية إحدى أهم خصائص التعددية السياسية ذات المضمون الديمقراطي، باختفاء الاختيار الحر لأبناء المجتمع للجهة التي يناصرونها طبقاً لأهوائهم السياسية الرشيدة، لا طبقاً لما ترتبه البنى الاجتماعية ت الاقتصادية الجامدة.(11) وقد ظلت هذه النقيصة تلازم المنظومة السياسية الفلسطينية، باستثناء بعض القوى العقائدية والمنظمات الشعبية المدنية، طوال عهد الانتداب.
بعبارة أُخرى، فإنه على الرغم من بروز مظاهر التعددية، ممثلة في انتشار القوى والمحاور السياسية، وما يمكن وصفه بالأغلبية والمعارضة، والتحالفات والانشقاقات، والأطر الجبهوية، وغير ذلك مما يتصل بالتنوع مباشرة ويعبر عنه، فإن هذه المظاهر اتسمت في جلها بالتعبيرات القبلية، ولم تتمكن من اختراق البنى التقليدية الإرثية المتعددة الأسماء.
وأكثر من ذلك، فبمرور الوقت كانت تلك القوى المتدافعة تجنح، من المنطلقات الإرثية، إلى المأسسة والتأطر والتمترس خلف واجهات تبدو أكثر جاذبية لجمع الأنصار أنفسهم. ففي العشرينات برز محوران، الأول مثّله كل من اللجنة التنفيذية للمؤتمرات الوطنية، والجمعية الإسلامية - المسيحية، والمجلس الإسلامي الأعلى، وسيطر عليه آل الحسيني عموماً. والآخر عبّرت عنه الجمعيات الوطنية الإسلامية، وحزب الزراع (1924)، والحزب الحر (1927)، وسمّاه البعض "الثورة المضادة".(12) وبهذا تكون ظاهرة المعارضة أسبق زمنياً من تبلور الهيكلية السياسية للنزاع الأشهر بين آل الحسيني وآل النشاشيبي. لكن ذلك النزاع أضحى في الثلاثينات أكثر استقطاباً، نتيجة اتجاه المعسكرين إلى تكوين الأحزاب، وميل القوى الزعامية الأُخرى إلى محاكاتهم تباعاً. فطبقاً لدراسات مختصة "كان النزاع بين الأُسر المتنفذة ومحازبيها، احد أهم عوامل حالة الانتشار التنظيمية بعامة والحزبية بخاصة في عهد الانتداب."(13) وهو ما يعني أن التعددية، الزاحفة باطراد في تلك المرحلة، لم تكن انعكاساً لتطور أصيل في الفكر السياسي، ولا كانت تعبيراً عن حالة تحديث اجتماعي - اقتصادي، ولا هي ساهمت في إجراء نقلة نوعية على صعيد الممارسة الديمقراطية. فالأحزاب، مثلاً، كانت أُطراً فضفاضة لتجمع الأنصار خلف قيادة مركزية. ولم يكن الوصول إلى تلك القيادة أمراً متاحاً من خلال أوالية قانونية محددة، أو عبر الانتخابات الداخلية الحرة، وكانت العضوية تتم بإجراءات شديدة الصرامة، وأحياناً بموافقة شخصية من زعيم الحزب.
جاء في قانون الحزب العربي الفلسطيني (1935) ضرورة أن توافق اللجنة التنفيذية على العضو الجديد، وذلك بغض النظر عن إجازة الفرع لطلب العضوية.(14) وفي أكبر حزبين عرفتهما تلك المرحلة (حزب الدفاع الوطني والحزب العربي الفلسطيني)، لم يكن ثمة تسجيل للأعضاء، ولم تمارس تجربة نقاش مفتوح - أو مغلق - على صعيد الفروع، ولم يكن هناك تثقيف سياسي أو حتى اجتماعات منتظمة، وتركز النشاط على لقاءات أو تظاهرات احتفالية ذات طابع سياسي. واعتمدت الحركة الحزبية على فعالية عدد محدود من الأعضاء المتحلقين حول الزعيم فيما يشبه الحاشية، أو "الشلة". وكانت الرابطة العائلية أو الصلة الشخصية أهم كثيراً من الرابطة الفكرية والعقد السياسي. وبذلك ظلت الأحزاب مجرد تشكيلات فوقية انعدم رباطها التنظيمي بالجماهير. وجاءت في صورة عشيرة صغيرة، يُعدّ رئيس الحزب فيها بمثابة زعيم العشيرة.(15)
لا يُنتظر من بُنى هذه خصائصها الداخلية أن تنتج ممارسة سياسية ديمقراطية ذات قيمة. ولم تكن الأسس، أو المنابع، الأُخرى للظاهرة التعددية أكثر تحفيزاً على النزوع الديمقراطي. ففضلاً عن الجذر العائلي القبلي للظاهرة، كان هناك محددات أُخرى، كالتنافس بين الريف والمدينة، وبين جيليْ الشباب والشيوخ، ونسبياً أيضاً، الافتراق الموغل في القدم بين قيسيين ويمنيين.
من ناحية، كان بعض زعامات الريف يشعر بمرارة وهو يرى أعيان المدن يتولون قيادة الحركة الوطنية وينطقون باسم الفلسطينيين كلهم. وهنا سعى الطامعون منهم في زعامة موازية لتنظيم أنفسهم، وبرزت في هذا السياق أطر تنظيمية، كجمعية تعاون القرى (1924)، ومؤتمر الفلاحين والزارعين (1933)، علاوة على حزب الزراع الذي سبقت الإشارة إليه. وتعكس مطالب هؤلاء منهج تفكيرهم ودافعهم السياسي؛ إذ نجد بين هذه المطالب "المساواة بين الريف والمدينة"، أو "مناشدة حكومة الانتداب بحماية الفلاحين من جشع أهل المدن"، أو "تمثيل القرويين في قيادة الحركة الوطنية بما يتفق وعددهم." وكأن المدينة والريف يعيشان في عالمين مختلفين متضادين.
ومن ناحية أُخرى، غالباً ما أظهرت العناصر الشابة ميلاً إلى الحدة والعنف في مواقفها تجاه موضوع الساعة، وهو الحركة الصهيونية والانتداب، على خلاف الجيل الأكبر سناً. ونجم عن ذلك أكثر من محاولة شبابية للتنظيم من أجل كسر احتكار الشيوخ المزمن للعمل السياسي، وإيجاد منابر للتعبير عن الذات.
أما ادعاء الفارق بين قيس ويمن فيرتد إلى زمن بعيد، وقوامه التمييز بين القبائل والبطون بحسب الموطن الأصلي، بغض النظر عن مدى صحة الادعاء أو الحدس أو التحري التاريخي.(16)
هذه الأسس كلها اشتركت في تعزيز الجانب التقليدي في العمل التنظيمي، ونفت عن التعددية المتواترة آنذاك عدداً من الخصائص الضرورية للتعبير عن تطور بنيوي ووظيفي لدى المنظومة الاجتماعية - الاقتصادية - السياسية. فالتعددية، كمظهر للرقي السياسي، تفترض وجود شبكة معقدة ومحكمة من الضوابط والقواعد التي تهتدي القوى الحزبية والمؤسسات بها - وهي شبكة تتمكن من اختراق النماذج العشائرية والشخصانية والمِنْطَقية الجهوية الموروثة لمصلحة خيارات سياسية وأيديولوجية واضحة غير ضيقة، وغير مرتبطة بأولويات الزعامات، مهما يكن مصدر شرعيتها.(17) ولا شك في أن فقدان هذه المنطلقات أحدث فجوة بالغة الأثر في الحياة السياسية الفلسطينية. ومن ذلك أن اختفاء الزعماء وأصحاب المناصب الأولى، لسبب أو لآخر، كما حدث في إبان ثورة 1936 - 1939، كان يؤدي إلى شلل شبه كامل في حركة القوى السياسية.
في أجواء هذه التعددية السياسية ذات العمق العشائر، لم يكن ثمة فرصة لتنمية واحد من أبرز التقاليد الديمقراطية، وهو تقليد الانتخابات الداخلية، كأوالية للتصعيد القيادي والترقي الداخلي بالنسبة إلى معظم القوى. وبذلك لم تزدهر في الفضاء الاجتماعي والسياسي فكرة الاختيار الحر من خلال المشاركة في الترشيح أو التصويت، ولم تعرف القوى السياسية من أعلن عدم ارتياحه أصلاً لفكرة الانتخاب. ففي قانون حزب الاستقلال (1931) نعثر على ما نصخ "... وعدم الاهتمام البتة لفكرة أكثرية وأقلية، وما يتبعها من سياسات انتخابية لا يراد بها وجه الله والوطن.."(18) ويذكر عزة دروزة، أحد مؤسسي الحزب، أنه "كان الرأي السائد أن لا يكون الحزب قائماً على عمليات انتخابية، حيث تتكون الهيئة المركزية للحزب وفروعه تكويناً اختيارياً وتعيينياً، وأن لا يكون قائماً على فكرة تكثير المسجلين وإنما يهتم باختيار الأعضاء المخلصين لمبادئ الحزب."(19) أما على الصعيد العام، فقد تم التوافق على اختيار الهيئات الممثلة للمواطنين عبر التراضي بين مختلف القوى. لكن السلطة الانتدابية من جانبها، كان في إمكانها الطعن في شرعية هذه الهيئات، كونها غير منتخبة.(20) مهما يكن من أمر، فإن تعددية عهد الانتداب لم تنسق مطلقاً مع إمكان انطلاق مشروع نظام ديمقراطي راسخ. وكان الانهيار السياسي المصاحب للنكبة من أهم مؤشرات فشل تلك التجربة وعدم تجذرها في الواقع الفلسطيني العام.
III لم تَخْلُ الأعوام الفاصلة بين عام النكبة (1948) وعام نشأة منظمة التحرير الفلسطينية (1964) من العمل السياسي الفلسطيني بالمعنى المطلق. حقاً، كان هناك حيرة بالغة تجاه كيفية إعادة منظومة القوى الذاتية، ولو على النحو السابق للنكبة على الرغم من نقائصه الكثيرة بيد أنه لم يحدث انقطاع كامل في النزوع التعددي؛ فقد توزعت الفعاليات السياسية على مساحة واسعة من القوى العربية،(21) بحيث أخذت الأحوال هيئة ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث كان البعد القومي طاغياً. وكان تزامن النكبة مع صعود الحركة القومية العربية عاملاً مؤثراً؛ إذ انخرط الفلسطينيون في الأحزاب والتنظيمات القومية، وساهموا في بعضها بتميّز، متخذين أحياناً موقع القلب. كما كانت أولوية القضية الفلسطينية في معظم تلك الأحزاب عاملاً مؤثراً آخر من عوامل الانغماس فيها.(22)
ومن الملاحظ أنه كلما اقتربنا من توقيت إنشاء منظمة التحرير، اتسعت دائرة التنظيمات الفلسطينية الذاتية (الوطنية)، وانكمشت نسبياً عملية التعلق بالقوى القومية العربية. وهناك من يقدر عدد التنظيمات الفلسطينية، عشية قيام المنظمة، بنحو أربعين منظمة وحركة وجيهة، ضم قسم منها بضع مئات، وضم قسم آخر أقل من ذلك كثيراً.(23)
وفي نظر البعض، كان من الطبيعي أن تزخر الساحة الفلسطينية، وهي على عتبة تطور مهم، بشتى القوى والمواقف والاتجاهات، الأمر الذي تجلى في بيانات تلك القوى، غداة صدور قرار مؤتمر القمة العربي الأول (1964) وخلال جولة أحمد الشقيري الإعدادية، كما اتضح تماماً في أثناء انعقاد المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول. لقد شهد ذلك المؤتمر خمسة تيارات هي:
- فريق الشقيري، وكان يضم الذين ارتبطوا بشخصه من الفئات والأوساط الاجتماعية الفلسطينية العليا. وكان الفريق المهيمن على أنشطة المؤتمر وتوجهاته، كونه الأكثر عدداً ونفوذاً.
- فريق ممثلي حركة القوميين العرب والناصريين الآخرين، وكان أمْيَل إلى فكر الشقيري.
- فريق البعثيين، وكان محدود العدد والفاعلية، وعلى خلاف بيِّن مع مدرسة الشقيري وأصلها الناصري.
- فر يق من الساسة المنخرطين في الحياة الأردنية العامة.
- ممثلو حركة "فتح"، الذين شاركوا بصفتهم الشخصية.(24)
وخارج المؤتمر، وعلى مقربة منه، كان هناك تيار سادس يصنف في صف المعارضة من خارج المنظمة الوحيدة، محوره الهيئة العربية العليا وقواها التقليدية.
والمدهش أن هذا الفريق الأخير احتفظ لنفسه بعد سنة 1948 بصفة المعارض الدائم لنشأة أية قوة تنظيمية بديلة منه، على الرغم من فشله في بعث الحياة السياسية الفلسطينية، أو في إغنائها ولمّ شعثها. فقد سبق أن عارضت الهيئة العربية إنشاء الاتحاد القومي الفلسطيني في قطاع غزة (1958)، تماماً كمعارضتها بروز منظمة التحرير لاحقاً. ومما يضاعف الدهشة أن الاعتراض على قيام المنظمة تأسس على أنها "قامت دون انتخابات عامة تمكّن الفلسطينيين من اختيار ممثليهم ومؤسستهم الكيانية الجامعة"،(25) على الرغم من أن تلك الهيئة نفسها لم تنشأ عن انتخابات عامة. فكأن تلك القوة التقليدية، التي سبق أن تبوأت قيادة السياسة الفلسطينية قبيل النكبة، كانت تعي أهمية البعد الديمقراطي للتعددية السياسية، لكنها دفعت به في مواجهة من اعتبرتهم خصوماً، فيما يعد تعبئة تحريضية للرأي العام لاستعدائه على المنظمة، حين اقتضت الحاجة ذلك.
IV واضح أن التعددية ظلت سمة لصيقة بالحركة السياسية الفلسطينية في أثناء ما يمكن أن تسمى فترة الحيرة الكبرى (1948 - 1964)، وهي سمة اختلفت استجابة منظمة التحرير لها عبر مرحلتين من عملها، تمتد الأولى بين سنتي 1964 و 1968، وهي مرحلة التأسيس، وقد تأثر فيها موقف المنظمة من التعددية بشخصية الشقيري، مؤسسها ورئيسها الأول، وتستمر الثانية منذ سنة 1968 إلى الوقت الراهن، وفيها برزت انعكاسات مواقف الفصائل والقوى التي انضوت تحت لواء المنظمة أو بقيت خارجها، مؤلفة معالم نظام سياسي أقرب إلى التكامل.
تعد مرحلة التأسيس نموذجاً لمحاولة وضع "الكل في واحدة"، من دون مراعاة للفوارق النسبية في الاتجاهات السياسية. فقد شارك ممثلو الاتجاهات كافة في المؤتمرات الوطنية الأول والثاني والثالث قبل سنة 1968، بصفاتهم الشخصية لا كمعبرين عن تيارات سياسية أو تيارات فكرية وأيديولوجية بعينها. وكانت تلك الصيغة تنتصر لمنهج الشقيري، الذي لم يكن ميّالاً إلى الحزبية أو التعددية. وهذا أمر لم ينكره الرجل في سلوكه أو في شهادته الشخصية. ليس ذلك فقط، بل إنه عارض مبدأ الانتخابات العامة. وقد رد على المطالبين بانتخابات المجلس الوطني بأن "مطالب الفلسطينيين هي انتشار المعسكرات لإجراء الانتخابات، كما أنهم أكدوا أن حركات التحرر لا تبدأ بالانتخابات وإنما بالتطوع والفداء. إن تحرير فلسطين لا يتطلب مرشحين ومنتخبين، ولكن [يتطلب] متطوعين وفدائيين ومن أراد أن يرشح نفسه للشهادة والتضحية فليتفضل."(26)
وقد تكررت عبارات هذه العقلية التعبوية على نحو غير مباشر، آخذة صيغة شبه دستورية بشأن الموقف من التعددية السياسية، حين نصت المادة التاسعة من الميثاق القومي، قبل تعديله سنة 1968، على أن "المذاهب العقائدية، سياسية كانت أم اجتماعية أو اقتصادية، لا تشغل أهل فلسطين عن واجبهم الأول في تحرير وطنهم. والفلسطينيون جميعاً يشكلون جبهة وطنية واحدة، ويعملون لتحرير وطنهم بكل مشاعرهم وطاقاتهم الروحية والمادية."
كان ذلك النص يحمل في طياته تهمة صريحة بأن العقائد السياسية والاجتماعية والاقتصادية تشغل معتنقيها عن الواجب الوطني. وذلك مما يجافي الصواب والحقيقة، لأن وضعية الشعب الفلسطيني لم تكن مطابقة لذلك النص. وكما سبقت الإشارة، كان ثمة فلسطينيون ناشطون انتسبوا إلى القوى الحزبية العربية، أو أنشأوا منظمات لها الكثير من ملامح الحزبية، قبل تكوين منظمة التحرير الفلسطينية بوقت طويل أو قصير.(27) لكن المثير أن أعضاء المؤتمر الوطني الأول ممن ينتمون إلى منظمات حزبية أو شبه حزبية، ويعتزون بعقائدهم وتوجهاتهم، قد أجازوا هذه المادة،(28) الأمر الذي يشير إلى أن أولئك الأعضاء سرعان ما انحازوا إلى رؤى الشقيري الإدماجية، واضعين جانباً خلفياتهم التعددية. ويبدو أن الرغبة في إبراز المؤسسة الفلسطينية الجامعة، بعد مرحلة الحيرة، كانت من القوة بحيث غلبت على ما بعدها.
غير أنه لم يمض وقت طويل حتى أيقن كثير من هؤلاء أن ذلك الموقف كان، في التحليل الأخير، يتيح مجالاً واسعاً لتمرير البعد السلطوي في شخصية قائد المنظمة، وخصوصاً أن صيغة الميثاق القومي (الدستور تقريباً) ركزت بين يديه صلاحيات جمة، سياسية وإدارية ومالية.
وهكذا، فإنه غداة إنشاء المنظمة، تملص الاحتجاج في أعلى المستويات - من أعضاء اللجنة التنفيذية - الذين يفترض أنهم معينون من جانب رئيس المنظمة، من أسلوب الشقيري وانفراده في تعديل نصوص الميثاق وتفسيرها بما يخالف الميثاق وروحه، ومن تصريحاته التي لا تعبر سوى عن اجتهاده الشخصي’،(29) وكذا من استئثاره بالسلطة واستعماله وسائل الإعلام للتركيز على ذاته، واعتماد المناورات لضرب العاملين في المنظمة بعضهم ببعض.(30) وهذه حقائق لم ينكرها الشقيري نفسه؛ فقد جاء في مذكراته"أنه كان يتخذ عدة قرارات دون الرجوع إلى اللجنة التنفيذية أو المجلس الوطني، وأنه لم يكشف لأحد من المسؤولين في المنظمة عن نتائج مفاوضاته مع الزعماء العرب والأجانب."(31)
والواقع أن إهمال البعد التعددي في تكوين المنظمة تمخض عن نمط سلطوي في إدارتها وممارساتها الداخلية، لا يبتعد كثيراً ن التقليد العشائري الذي هيمن على أداء القوى السياسية السابقة على النكبة. وبهذه الطريقة لم تتمكن قيادة المنظمة في مرحلتها الأولى من اجتذاب القوى الفلسطينية المشبعة بروح العصر، الأمر الذي أبقى كثيرين خارج إطارها.(32)
من هنا، برزت أولى أشكال المعارضة للمنظمة من تلك القوى في الخارج، وكذا من قوى أُخرى داخلها استشعرت ضرورة أن تكون ممارسات المنظمة أكثر مجافاة للأسلوب السلطوي الأبوي الذي سيطر على الممارسة في مراحل سابقة.
V باستقالة الشقيري في كانون الأول/ديسمبر 1967، وولوج الفصائل تباعاً إلى المنظمة سنة 1968، بدأ النظام الفلسطيني مرحلة جديدة - مرحلة قامت على الاعتراف بالتعددية وتكريسها عملياً. فقد أسقط الميثاق الوطني المعدل (1968) العداء للحزبية، وأعطاها شرعية قانونية دستورية. فقد جاء في مادته الثانية أن "الجماهير الفلسطينية تشكل منظمات وأفراداً جبهة وطنية واحدة"، وبذلك لم يتستر الميثاق بعبارات إنشائية على التباينات القائمة داخل الشعب الفلسطيني، ولم ينكر وجود العقائد والتنظيمات المختلفة.(33)
ومع دوام الأوضاع الحائلة دون إجراء انتخابات عامة للمجلس الوطني للسلطة التشريعية للمنظمة، جرى التقرب من صيغة ديمقراطية أكثر صواباً من أسس التشكيل السابق، وأكثر ابتعاداً عن المزاجية والعشوائية، بتحديد نظام الحصص (الكوتا) للفصائل الفدائية، والتنظيمات الشعبية، والكفاءات المميزة من المستقلين. ولما كان من المفترض أن لهذه الفصائل والتنظيمات كلها أساليبها الداخلية لانتخاب قياداتها عموماً، فقد أضحى المجلس أكثر اتساقاً مع مفهوم التعددية، لا سيما أنه جرى أيضاً إقرار نظام داخلي للمنظمة يقلص من سلطات الرئيس، ويفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويقر لا بتعدد القوى فقط، بل أيضاً باستقلالية كل تنظيم بشؤونه الداخلية ومنع التدخل فيها، فلم يجعل الوحدة الوطنية مفهوماً مطابقاً لدمج الفصائل والقوى، أي إلغاء التعددية.(34)
كان إقرار المنظمة بالتعددية وتضمينها في صلب مواثيقها بمثابة استجابة موضوعية للواقع، كما عبّرت عنه التنظيمات والفصائل التي انضمت إليها، فضلاً عن التعامل مع الواقع الفلسطيني العام. لقد اعترفت تلك التنظيمات، وإن بصيغ ودرجات ترحيب مختلفة نسبياً، بالتعدد السياسي كظاهرة طبيعية لا ينبغي تجاوزها، لأن لها أسباباً موضوعية في الحياة السياسية الفلسطينية. فحركة "فتح" مثلاً، رأت أن التعدد التنظيمي حقيقة قائمة، ويعود ذلك إلى عاملين: الأول، وجود تنظيمات تنطلق من دوافع وطنية بحتة، وتعكس الشعور الفلسطيني بضرورة العمل من أجل العودة، ذلك الشعور الذي لا يكمن في فئة أو جماعة معينة. والعامل الآخر هو وجود تنظيمات، معظمها صغير، تمثل مدخلاً لبعض الأنظمة العربية إلى المقاومة لتطويقها ضمن الخطوط السياسية لتلك الأنظمة. واعتبرت "فتح" أنه ينبغي تحجيم هذا التنوع بالوسائل السلمية، لأن النضال متاح من خلال التنظيمات القائمة.(35)
ومن جانبها، اعتبرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن التعددية الفلسطينية تعزى إلى وجود ثلاثة أنواع من التنظيمات، الأول: التنظيمات التي كرست وجودها من خلال فاعليتها القتالية، والتفاف الجماهير حولها، وممارساتها الحزبية المستقلة عن الأوضاع العربية. والثاني: التنظيمات التي اكتسبت وجودها من ارتباطها بأنظمة عربية وطنية يسعى العمل الفلسطيني لكسبها. والثالث: التنظيمات الصغيرة التي لا مبرر لوجودها أصلاً؛ إذ إن فكرها السياسي لا يختلف عن فكر التنظيمات الموجودة، لكن ينبغي الإقرار بوجودها لا القضاء عليها، وإشراكها في أية صيغة للوحدة الوطنية.(36)
وكان لتنظيم "الصاعقة" وجهة نظر أخرى، جوهرها أن التعدد التنظيمي في التجربة الفلسطينية يعود إلى عدم وجود التنظيم الثوري، القادر على أن يكون محور استقطاب رئيسياً لجميع الفصائل، والافتقاد للنظرية الثورية التي يلتقي عندها الجميع ويبشر بها. فضلاً عن أن الثورة تمثل تجسيداً للواقع العربي على الرغم من أنه أُريد لها أن تكون رداً على هذا الواقع. ومن هنا حدث انغلاق تنظيمي وفكري، وصار كل فريق يبحث عن مبرر لوجوده أكثر من الانشغال بالقواسم المشتركة مع الآخرين. هذان إلى جانب وجود تنظيمات قامت لإرضاء نزعة الذاتية عند بعض هواة الزعامة الفردية.(37)
أما الجبهة الشعبية - القيادة العامة فمن رأيها أن التعددية كانت مبررة قبل هزيمة حزيران/يونيو 1967، لأنها عبرت عن تحسس الشعب الفلسطيني لقضيته طبقاً للتوزع الجغرافي، الذي فرض معطيات متفاوتة بين تجمع فلسطيني وآخر، وهو ما ساعد في إيجاد الظاهرة.
بيد أن نتائج الهزيمة أوجبت بعد ذلك نظرة مغايرة؛ فتعدد التنظيمات يشكل أزمة سياسية في وجه حركة المقاومة، لأنه يؤخر الوحدة الوطنية، ويمزق ولاء الشعب الفلسطيني، ويفتح باباً لولوج التناقضات العربية فيها، ويؤدي إلى تبعية تنظيمات معينة للدول العربية.(38)
ومع تباين هذه التفسيرات النسبي، فإن الفصائل الفلسطينية كلها تلتقي عند نقطة أن التعددية السياسية هي إفراز طبيعي للواقع الفلسطيني، وأنها تحمل شيئاً من الواقع العربي، وأنه لا يمكن تجاهل كلا الواقعين.(39) وهذا تفسير معقول حتى الوقت الحاضر. وثمة من يضيف عوامل أُخرى، كاختلاف تجارب الزعامات الفلسطينية، وقيادات الفصائل من النواحي الاجتماعية والفكرية ومن حيث تأثير التجارب التاريخية والسياسية الخاصة.(40)
VI إن مما لا شك فيه هو أن اتجاه التعددية السياسية قد تعمق، بمرور الوقت، في الثقافة السياسية الفلسطينية، وأصبح أكثر نضجاً في عهد منظمة التحرير، بحيث أخذ يطال مجالات أُخرى، غير دائرة العمل المتصل بالحركة السياسية المباشرة. فانتشرت التنظيمات المدنية الشعبية بصورة مطردة، وعلى نحو غطى مجالات لم يطرقها العمل المدني الجماهيري من قبل. وبذلك تمكنت هذه المنظومة السياسية المدنية من تأطير المجتمع والحفاظ على حد معقول من الخدمات للمجتمع الفلسطيني وفي أوضاع بالغة السوء أحياناً، سواء في الشتات أو تحت الاحتلال.(41)
ومن الناحية الظاهرية الشكلية، ربما يظهر للمراقب أن تغييرات طرأت على جذور هذه التعددية. فقد تبلورت تعددية الثلاثينات والأربعينات في سياق قبلي وعشائري إلى حد بالغ، كما سبقت الإشارة، بينما أبرزت تعددية الستينات وما بعدها نمطاً يميل إلى التعبير عن رؤى ومدارس فكرية أيديولوجية واضحة الأبعاد. ومن الناحية الشكلية أيضاً، يظهر للوهلة الأولى أن تعددية عهد المنظمة قد اقتربت بصورة أكثر وضوحاً من البعد الديمقراطي في ممارساتها السياسية، وذلك خلافاً لما كانت الحال عليه في المرحلة السابقة.
ومع ذلك، فإن نظرة أكثر شمولية وعمقاً ومنهجية، ومتحررة من آثار العموميات ومتوغلة في التضاعيف والتفصيلات، قد تخرج بنتائج مختلفة بالنسبة إلى مستوى التغيير في الثقافة السياسية الحاكمة للممارسات في المرحلتين.
وفي طليعة هذه النتائج إمكان الزعم أن مستوى الأداء الديمقراطي داخل القوى المختلفة، وفيما بينها، أقل كثيراً مما يتوقع في حالة مجتمع خاض نضالاً ثورياً مديداً، يفترض أنه بلغ بتأثيره جوانب حياته كلها.
فمن ناحية أُولى، ظهرت منظمة التحرير إطاراً جامعاً يُعنى بقضايا فصل السلطات، والأداء المؤسسي، وتداول الحوار الجاد بشأن صناعة القرار، وتوازن التمثيل بين الفصائل والحركات السياسية... إلخ. وهذه تفصيلات مهمة فيما يخص الطموح إلى تعددية فاعلة. لكن أحد العناصر الجدية التي لازمت مسار المنظمة كان الشكوى المستمرة من التقهقر المزمن في دور المؤسسات التشريعية. لقد رأي البعض، وهو محق، أنه ليس من الطبيعي أن تظل هذه المؤسسة الأهم على حالها جسداً لا يلتئم إلا كل بضع سنين، ويضم أعضاء معينين في معظمهم من جانب عاملين آخرين في مؤسسات المنظمة وفصائلها واتحاداتها، وأنه ليس مفيداً أن يكون دور المجلس الوطني مجرد تأمين الشرعية للصفقات السياسية والتنظيمية التي تعقدها قيادات التنظيمات السياسية. فبما أن عضوية المجلس قائمة على التعيين، لا على الانتخابات العامة، فإن الفصائل تحظى تلقائياً بولاء الأكثرية من أعضاء المجلس.(42)
ولفت البعض الآخر أيضاً إلى أن بلوغ عدد أعضاء المجلس الوطني زهاء خمسمئة عضو، إرضاء للتوازنات والطموحات السياسية بين القوى المختلفة، بغض النظر عن وزن هذه القوى الحقيقي بين الفلسطينيين، جعل اجتماعات المجلس أشبه بعملية احتفالية لا جدوى منها، حيث يجري التداول الحيوي بخصوص القرارات خارج المجلس في معظم الأحوال. وقد كان مما ساعد في قيام هذه الوضعية، التي تتعارض والديمقراطية في الحقيقة، وحيث أن المؤسسات السياسية أو المدنية بلا وظيفة حقيقية، هو نظام الحصص، الذي يحدد مسبقاً تكوين المؤسسة التشريعية، وباقي المؤسسات، بحيث يكون القرار من صلاحية الفصائل والقوى السياسية، ويؤول، من ثم، إلى زعماء هذه الفصائل بسبب هيمنتهم عبر البنى المركزية الصارمة على صعيدها الداخلي.(43)
ومن ناحية ثانية، تتعزز التعددية إذا سرى البعد الديمقراطي داخل كل قوة على حدة، وتمثلتها هذه القوى في تضاعيفها، الأمر الذي يعد مؤشراً قوياً وضمانة مؤكدة للالتزام بالروحية نفسها بين مختلف القوى. فليس منطقياً أن يطالب بعض القوى بعضها الآخر بما لا يلتزمه الأول في بنيته الداخلية. فلا ديمقراطية من دون ديمقراطيين. هذه جزئيات افتقدتها على نحو صارخ القوى المنضوية تحت لواء المنظمة، ما من تنظيم التزم معالجة التباينات الداخلية في الأداء والتوجهات، وهذا أمر جائز وممكن، بالوسائل الديمقراطية أو بالحوار الداخلي الإيجابي، بل بالانقسام، وأحياناً بإعادة الانقسام، حتى تحولت قضية التعددية، بمرور الوقت، إلى حالة من التشرذم غير المبرر. وقد انتقلت عدوى عقلية الانقسام هذه إلى داخل مؤسسات المنظمة الأُم؛ فالقوى المعارضة، عوضاً من أن تمارس رؤاها داخل الساحة العامة وفي مؤسسات المنظمة ومن أن تتحمل نتائج المعالجة الديمقراطية والوصول إلى حلول عبر الحوار، آثرت الغياب عن المجلس الوطني، أو المؤسسات الأُخرى، ومقاطعتها، والمعارضة من الخارج، تاركة الساحة للذين تتهمهم بالسلطوية والانفراد بالقرار، وتقول إنها لا تأتمنهم على المصير والقرار الوطنيين.(44)
هذه "العقلية الانقسامية" إلى حد التبعثر الذي لا يعود إلى خلاف جذري في الفكر والهدف في معظم الأحيان، تطال جميع التيارات الموجودة على الساحة السياسية، القومية منها والوطنية والماركسية، من دون استثناء التيارات الإسلامية، داخل المنظمة وخارجها، في الأغلبية الموالية والمعارَضة على حد سواء. فهذه التيارات كافة تعرضت للتوزع أجنحة ومجموعات، ثم صارت فصائل وتنظيمات وجبهات، ولكل جناح موقفه الفرعي من المسألة الديمقراطية على صعيده الداخلي وعلى صعيد النظام الفلسطيني برمته.(45)
ومن المقرر أن افتقاد الحس الديمقراطي داخل مختلف القوى ينتقص من صدقية خطابها ومطالبها المتكررة بالديمقراطية على الساحة الفلسطينية العامة. كما يسحب منها إمكان جذب رجل الشارع الفلسطيني. وتتجلى صحة هذه الملاحظة بالنظر إلى إمكان الإدعاء بضيق مساحة التجنيد لمعظم الأطر القائمة، بل ربما جاز القول إن بعض هذه الأطر لم يعد قادراً على إلحاق كوادر جديدة به، ليس لعدم رغبته، بل لعدم قدرته. وبذلك تجمدت القوى المرتبطة به، ربما عند الحد الذي توفر له منذ مطلع السبعينات.
ومن ناحية ثالثة، لم تَخْلُ الساحة الفلسطينية، في ظل تعددية منظمة التحرير، من عيون وأصوات تتابع عن كثي وتنتقد تفشّي ما تعتبره ظواهر مرضية خطرة، كالفساد الشخصي، وترهُّل المؤسسات وغيابها لمصلحة الإشادة غير الصحيحة بالمبادرة الفردية، وانتشار الشكلية ومظاهر الموالاة للأشخاص والقيادات، والتحلق حولها لتبادل المنافع على حساب العمل المؤسسي والانضباط، وشيوع روح التملق بدلاً من النقد والنقد الذاتي، وانتشار الوشاية وسمة التآمر عوضاً من الموازين الموضوعية لقياس الفاعلية والجدارة، واللجوء إلى مصادر دعم خارجي من هذا النظام أو ذاك بدلاً من الأداء على أساس الكفاءة واعتماد الفعل الصحيح مصدراً لتعزيز النفوذ.(46)
وأشار كثيرون أيضاً إلى الأداء السلطوي للقيادات في الصف الأول، وحيازة هذه القيادات صلاحيات واسعة، واتخاذها قرارات خطرة سياسياً وإدارياً ومالياً وإعلامياً، مع تجاوز الأنظمة والمؤسسات.(47) وبصفة عامة، فإن شيوع هذه الخصائص يعني، في التحليل النهائي، وجود ظلال واسعة للعقلية القبلية و"الشللية" التي عرفتها تعددية ما قبل النكبة.
ومن ناحية رابعة، فإنه في غياب الاحتكام الكامل إلى ضوابط قانونية عامة، أو الاهتداء بالحوار الديمقراطي في الأحوال كافة، والاستعاضة عن ذلك بالانقسام والارتداد إلى الروح العشائرية و"الشللية"، أطل الاقتتال الداخلي بين مختلف القوى، وأحياناً داخل القوة الواحدة - وهو نموذج لم يحتل مساحة واسعة في الساحة الفلسطينية العامة، لكنه كان موجوداً في أية حال.(48) فلم يخْلُ الأمر من اللجوء إلى التمرد والاحتكام إلى السلاح من أجل فرض الرؤى المتصلة بكيفية التعاطي مع القضية الوطنية الأُم، وأفضل السبل لبلوغ الأهداف العليا للحركة الوطنية. هذا بالإضافة إلى أسباب تتعلق بالطموحات الديمقراطية. حدث هذا، مثلاً، في إبان حركة الانشقاق في "فتح"، حين كان بين مطالب المنشقين سنة 1983 "أن يكون تنظيم فتح التنظيم القائد لا تنظيم القائد، وأن يطبق المركزية الديمقراطية والقيادة الجماعية، وان تكون قرارات المؤتمر العام هي الخط الحاكم للحركة."(49) وحدث أيضاً خلال الصدام بين حركتي "حماس" و"فتح" في سنتي 1990 و1992، حين طالبت "حماس" بأن تكون الانتخابات، لا التعيين، هي وسيلة اختيار أعضاء المجلس الوطنين أو أن تكون حصتها، طبقاً لنظام الكوتا، 40% من عدد المقاعد.(50)
وتمثل حالة الصدام المسلح أسوأ ما يمكن أن يواجه الممارسة الديمقراطية في أي وقت وفي أي مجتمع. ذلك بأن التعددية في مضمونها تمثل الحل الأمثل للتدافع السلمي بين جميع الرؤى والقوى والتصورات السياسية، بينما يعبّر القتال والتدافع المسلح عن فشل ذريع لهذه التعددية؛ إذ لا جدوى من تعددية لا تتمكن من إقرار السلم الاجتماعي والسياسي العام في المجتمع.
ومن ناحية خامسة، أهدرت القوى السياسية الفلسطينية في الممارسة أحد المبادئ المهمة للتعددية الديمقراطية، حين دأبت على تكريس مؤسسات المجتمع المدني الموروثة وغير الموروثة (كالعائلات والجمعيات والنقابات والروابط والاتحادات والجامعات والصحف والمجلات والدوائر الفكرية) في صراعاتها ومنافساتها الداخلية، وسعت لاستقطابها وتوظيفها في أجوائها الصاخبة. فخالفت بذلك سنن العلاقة بين العمل السياسي والعمل المدني، وحرفت القوى المدنية عن أدائها الصحيح كقوة حماية اجتماعية واقتصادية نوعية للجماهير، تعمل باستقلال عن التدافعات السياسية. وعموماً، أخذت القوى السياسية بالاتجاه الإدماجي، الذي يعني تحكمها في مسار المجتمع المدني وتوجهاته.(51)
فقبل النكبة، حاولت الحركات الشعبية، وخصوصاً النقابية منها، سلوك طريق مستقل عن القيادات السياسية، والابتعاد عن رغبة الأخيرة في زجها في التنافس القائم فيما بينها، لكن المحاولة لم تفلح تماماً، تحت وطأة ضغوط القوى السياسية في تلك المرحلة. حتى كانت السنوات، التي ازدهرت فيها القوى المدنية، هي سنوات غياب القيادات السياسية التقليدية في إبان ثورة 1936 - 1939. وكان العكس صحيحاً أيضاً؛ إذ انعكست المؤسسات المدنية، عادة، في حضور العمل السياسي.(52)
وقد تكررت التجربة بعد فترة، وإن في سياق تاريخي واجتماعي واقتصادي وسياسي مختلف، في عهد منظمة التحرير. فمعظم القوى المدنية، داخل الوطن المحتل وخارجه، جرى تأسيسه أو ربطه بعد التأسيس بالفصائل السياسية، العلمانية منها والدينية، بحيث غاب البعد النقابي والخدمي، وتدهورت الكفاءة المهنية في غمار أولوية الأبعاد السياسية. هذه العلاقة غير الصحية ديمقراطياً أدت إلى حسم عمليات الترقية والتوظيف، وتسلم المناصب، والانتخابات النوعية في المؤسسات المدنية، عبر أجواء التنافس السياسي أساساً، الأمر الذي أضاع أهم خصائص العمل المدني من حوار مفتوح، وشفافية، وانشغال بالمصالح الشعبية، واستقلال في الرأي.
وكانت المحصلة مزيداً من التفتت الداخلي في إطار البنى المدنية نتيجة العدوى السياسية. وأصبح على البنى المدنية استرضاء القوى السياسية من أجل الحفاظ على الوجود وتنفيذ المهمات. لقد تقوضت، بفعل هذه العلاقة المعيبة، صلابةُ المجتمع المدني، وأخذت القوى الاجتماعية في الأزورار عنه درءاً للأخطار المحدقة بالمنافسات داخله، وذلك بعد أن كان التكاتف المدني قد حقق نتائج باهرة في إبان الانتفاضة.(53)
والواقع أن الإصرار على تبعية المدني للسياسي في الأحوال كلها يجافي منطق تعميق التعددية؛ فلو تصرفت القوى السياسية كوصية على المؤسسات المدنية، أو حاولت الحلول محلها، لتصبح جهازاً جامعاً مانعاً للأنشطة الحياتية كافة، لأجهزت على المجتمع، لأن قوانين القوى السياسية شبه الثابتة والمجردة والعامة، تخالف ما تخضع القوى المدنية له من نسبية في العمل والأداء والعادات والمصالح، بما يسمح لها بالتجديد والإبداع والعفوية الخلاقة بحسب الأحوال وطبيعة النشاط الذي تضطلع به.(54)
VII لا يَجْمُل بأية نظرة شاملة أن تلقي على المجتمع الفلسطيني ومنظومته السياسية وحدهما تبعة جمود تجربة التطور التعددي والقصور الديمقراطي المرافق له. فثمة أكثر من عامل محدد غير ذاتي، ساعد في هذه الوضعية. فما المجتمع الفلسطيني إلاّ نمط فرعي من المجتمع العربي العام وثقافته السياسية التي طالما عظّمت من شأن قيم الأبوية، والولاء، والطاعة، والانضباط، والتوحد، وما نحوها من مفاهيم إدماجية.(55)
ولا ينفي ذلك، طبعاً، أن للمجتمع الفلسطيني خصوصيته، التي أهم معالمها خوض تجربة نضالية مديدة كان ينبغي أن يترتب عليها تغيرات ظاهرة في أنماط الممارسة السياسية، والتحرر من إسار كثير من التقاليد المحبطة والتعجيزية. بيد أن هذه التجربة أحيطت بقيود شديدة داخل الوطن المحتل وفي الشتات، عربياً وخارجياً على حد سواء، بحيث خضع التطور السياسي الفلسطيني لرقابة صارمة من مختلف النواحي.
يتصل بهذه الناحية أن تقويماً لتجربة التعددية الفلسطينية لا يمكن أن يجري بقدر من الحيادية من دون أخذ مسار الصراع الأكبر في محيطها في عين الاعتبار. فقد سبقت الإشارة إلى ما تمخض عن الصراع مع الآخرين المتعددي الأسماء من إهمال لجوانب النظام الداخلي وعلاقات القوى السياسية وطبيعة ممارساتها في البيت الفلسطيني، الأمر الذي حال مطولاً دون وضع التجربة في قيد النقد المعمق لإصلاح مسارها. ولا ندري الآن ما هو الطور الذي كان يمكن للتجربة أن تبلغه لو أنها تفاعلت بمعزل عن بيئة الصراع الأكبر من حولها وما هو حجم الدور الذي فرضته هذه البيئة في حرف المنظومة الفلسطينية عن الأبعاد الأكثر ديمقراطية للتجربة التعددية.
ومع ذلك، يمكن الزعم أن هذا الدور كان عظيماً لأنه كان هناك دوماً ما يحول دون قدر معقول من الحرية السياسية، والانفتاح، والاتصال الداخلي، والتطور الحر. وعلى سبيل المثال، فقد رفضت القوى السياسية في عهد الانتداب إجراء انتخابات عامة أو وضع دستور لفلسطين، لا لعدم الإيمان بجدواها للممارسة الديمقراطية فقط، بل أيضاً لأن السياق الصراعي كان سيفرض على الفلسطينيين الاعتراف بالمنظومة اليهودية على قدم المساواة، على الرغم من أن العنصر اليهودي لم يكن يمثل، حين طرح ذلك العرض، أكثر من 10% من المجموع العام للسكان.(56)
إن هذا كله لا يتنافى وضرورة الاعتراف بوجود مساحة واسعة من القصور الذاتي الفلسطيني؛ فالعوامل الخارجية ليست بدورها العنصر المحدد الوحيد لنقيصة الأداء الديمقراطي في هذه التجربة التعددية، التي كان يمكنها أن تشكل نموذجاً رائعاً في محيطها الإقليمي، لأن البناء السياسي والثقافي والعلمي الفلسطيني، وخصوصاً بعد النكبة، انطوى على تنوع ظاهر، وهو ما كان يقتضي حتماً بروز تعددية سياسية أكثر أصالة. كما أن الساحة الداخلية لم تفتقر يوماً إلى قوى تتابع وتفحص وتنتقد وتسعى للتصحيح. وهذه الخاصية الأخيرة هي التي تنعقد عليها آمال كبيرة بإمكان تحقيق الطموحات، بحكم النواحي المواتية التي توفرها صيغة الكيانية المقبلة، بغض النظر عن مضمون هذه الكيانية، ولا سيما أن حجم هذه القوى يكبر، وأحاديثها تجهر بالقول مع مرور الوقت.
وطبيعي أنه يمكن في ضوء هذه المقاربة، تفهم الأدبيات السياسية التي لا تجعل التعددية، الحزبية أو غير الحزبية، شرطاً كافياً لضمان الحريات الديمقراطية أو خاصيةً لصيقة بالثقافة السياسية الديمقراطية.
إن التعددية، كمفهوم مجرد، موجودة في المجتمعات الإنسانية كافة، وذلك بحكم التباين النسبي بين الأطر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية داخل كل جماعة، مهما تكن درجة رقيها الحضاري. لكن اتخاذ هذا الوجود علة للادعاء بثقافة سياسية ديمقراطية في جوهرها، في هذا المجتمع أو ذاك، من دون استثناء المجتمع الفلسطيني في مختلف أطواره السياسية، إنما هو أمر يجب عدم الاحتجاج به على إطلاق القول.
المصادر:
(1) للتفصيلات، أنظر: جابر سعيد عوض، "مفهوم التعددية في الأدبيات الغربية المعاصرة" (القاهرة: مركز الدراسات والبحوث السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، كانون الأول/ديسمبر 1993).
(2) إسماعيل صبري عبد الله، "الديمقراطية داخل الأحزاب الوطنية وفيما بينها"، "المستقبل العربي"، العدد 64، حزيران/يونيو 1984، ص 157، 158.
"مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 20، خريف 1994، ص 15 – 38.
(3) وحيد عبد المجيد، "الديمقراطية في الوطن العربي"، "المستقبل العربي"، العدد 138، آب/أغسطس 1990 ، ص 84.
(4) أحمد ثابت، "التعددية السياسية في الوطن العربي.. تحول مقيد وآفاق غائمة"، "المستقبل العربي"، العدد 155، كانون الثاني/يناير 1992، ص 4، 5. وللمؤلف نفسه، "التعددية السياسية" (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1990)، ص 18.
(5) راجع، مثلاً: مجموعة مؤلفين، "الدولة الفلسطينية: حدودها ومعطياتها وسكانها" (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1991)، ص 501.
(6) أنظر خصوصاً: روز ماري صايغ، "الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة"، ترجمة خالد عايد (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1980)، ص 149 – 221 ـ 223؛ وجيه ضياء الدين، "الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشعب الفلسطيني" في: مجموعة باحثين، "الفلسطينيون في الوطن العربي" (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1978)، ص 143 ـ 185.
(7) للتفصيلات، أنظر: علي محافظة، "الكوابح الاجتماعية للحركة الوطنية الفلسطينية (1918 – 1936)"، "المستقبل العربي"، العدد 34، كانون الأول/ديسمبر 1981، ص 21 ت 36.
(8) سمير عثمان، "حركة التطور والصراع داخل عائلات فلسطين الحاكمة"، "شؤون فلسطينية"، العدد 121، كانون الأول/ديسمبر 1981، ص 85 ـ 98.
(9) غسان سلامة، "المجتمع والدولة في المشرق العربي" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)، ص 131؛ بيان نويهض الحوت، "القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين، 1917 ـ 1947" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1981)، ص 132؛ خليل السكاكيني، "كذا أنا يا دنيا.. يوميات خليل السكاكيني" (بيروت: الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين، 1982) ص 196.
(10) علي سعود عطية، "الحزب العربي الفلسطيني وحزب الدفاع الوطني (1934 ـ 1937)، (القدس: جمعية الدراسات العربية، 1985)، ص 31.
(11) أنظر: برهان غليون، "الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي"، "المستقبل العربي"، العدد 135، أيار/مايو 1990، ص 28، 30.
(12) الحوت، مصدر سبق ذكره، ص 175، 180، 183، 184، 192؛ عبد القادر ياسين، "كفاح الشعب الفلسطيني حتى العام 1948" (الطبعة الثانية) (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981)، ص 86 ـ 88.
(13) محافظة، مصدر سبق ذكره، ص 26، 27.
(14) أنظر: "ملف وثائق فلسطين" (الجزء الأول) (القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، 1969)، ص 567.
(15) عطية، مصدر سبق ذكره، ص 379، 380.
(16) محافظة، مصدر سبق ذكره، ص 31 ـ 34.
(17) للتفصيلات، راجع: محمد عايد الجابري، "المسألة الديمقراطية والأوضاع الراهنة في الوطن العربي"، "المستقبل العربي"، العدد 157، آذار/مارسن ص 14، 15.
(18) أنظر: بيان حزب الاستقلال (1931) في: "ملف وثائق فلسطين" (الجزء الأول)، مصدر سبق ذكره، ص 539.
(19) محمد عزة دروزة، "القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها" (الجزء الأول) (دمشق: دائرة الإعلام والثقافة، منظمة التحرير الفلسطينية، 1984)، ص 103.
(20) الحوت، مصدر سبق ذكره، ص 132.
(21) إدوارد سعيد آخرون، "الواقع الفلسطيني: الواقع والحاضر والمستقبل" 0القاهرة: دار الفكر للدراسات، 1986)ن ص 33.
(22) أنظر: عيسى الشعيبي، "الكيانية الفلسطينية: الوعي الذاتي والتطور المؤسساتي" (بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1979)، ص 43.
(23) المصدر نفسه، ص 105.
(24) أسعد عبد الرحمن، "منظمة التحرير الفلسطينية: جذورها، تأسيسها، مساراتها" (نيقوسيا: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية" 1987) ص 77، 78.
(25) الشعيبي، مصدر سبق ذكره، ص 106.
(26) عبد الرحمن، مصدر سبق ذكره، ص 75.
(27) أنظر: فيصل حوراني، "الفكر السياسي الفلسطيني (1964 ـ 1974)" (بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1980)، ص 51.
(28) المصدر نفسه، ص 82.
(29) أنظر: تصريح فايز صايغ، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بشأن الأزمة في المنظمة في: "ملف وثائق فلسطين" (الجزء الثاني)، مصدر سبق ذكره، ص 1362 ـ 1363.
(30) شفيق الحوت، "عشرون عاماً في منظمة التحرير الفلسطينية" (بيروت: دار الاستقلال، 1986)، ص 101.
(31) عبد الرحمن، مصدر سبق ذكره، ص 93.
(32) فيصل حوراني، "الديمقراطية الفلسطينية في الممارسة"، "شؤون فلسطينية"، العدد 233/234، آب/أغسطس ـ ايلول/سبتمبر 1992، ص 13.
(33) حوراني، "الفكر السياسي..."، مصدر سبق ذكره، ص 140.
(34) حوراني، "الديمقراطية..."، مصدر سبق ذكره، ص 16.
(35) غازي خورشيد، "دليل حركة المقاومة الفلسطينية" (بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1971)، ص 36.
(36) المصدر نفسه، ص 127.
(37) المصدر نفسه، ص 100، 101.
(38) المصدر نفسه، ص 205 ـ 206.
(39) راجع للمزيد: "حديث خالد الحسن حول مشكلات العمل الفدائي الفلسطيني"، "شؤون فلسطينية"، العدد 4، أيلول/سبتمبر 1971، ص 281 ـ 283؛ حسين حجازي، "حول الانقسامات الفلسطينية"، "شؤون فلسطينية"، العدد 170/171، أيار/مايو ـ حزيران/يونيو 1987، ص 33 ـ 51.
(40) أنظر بالتفصيل: آلان جريش، "شعار الديمقراطية في الثورة الفلسطينية"، "شؤون فلسطينية"، العدد 122/123، كانون الثاني/يناير ـ شباط/فبراير 1982، ص 157، 158.
(41) محمد خالد الأزهري، "تطور المجتمع المدني الفلسطيني"، "شؤون فلسطينية"، العدد 225/226، كانون الأول/ديسمبر 1991 ـ كانون الثاني/يناير 1992، ص 13 ت 22؛ جورج العبد، "المجتمع المدني في ظل الانتفاضة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 5، شتاء 1991، ص 105 ـ 126.
(42) جميل هلال، "إشكالات التغيير في النظام الفلسطيني السياسي"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 15، صيف 1992، ص 36، 37.
(43) المصدر نفسه، ص 32.
(44) بيان نويهض الحوت، "أزمة الهوية الوطنية: العوامل والتحديات"، "المستقبل العربي"، العدد 18، شباط/فبراير 1994، ص 45.
(45) أنظر للمزيد: زياد أبو عمرو، "الإسلاميون الفلسطينيون: التعددية والديمقراطية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 12، خريف 1992، ص 88 ت 100؛ فايز سارة، "الحركة الإسلامية في فلسطين، وحدة الأيديولوجيا وانقسامات سياسية"، "المستقبل العربي"، العدد 124ن حزيران/يونيو 1989، ص 57؛ عزمي بشارة، "من أجل تجنب نهاية ساخرة لإحدى مآسي القرن"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 16، خريف 1993، ص 42 ـ 44؛ "التقرير الاستراتيجي العربي لعام 1985" (القاهرة: "مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، 1986)، ص 301 وما بعدها.
(46) فيصل حوراني، "مجلس الأغلبية والطريق الجديد"، "شؤون فلسطينية"، العدد 140/141، تشرين الثاني/نوفمبر ت كانون الأول/ديسمبر 1984، ص 4.
(47) حوار مع خالد الفاهوم، "التشرذم لا يخدم المعارضة ولا القضية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 15، صيف 1993، ص 109 ـ 113.
(48) أنظر: عثمان، مصدر سبق ذكره، ص 98 وما بعدها؛ نبيل حيدري، "منظمة التحرير الفلسطينية وحركة "حماس" ت الصراع في شأن النفوذ"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 13، شتاء 1993، ص 115 ـ 127.
(49) أنظر: سميح شبيب، "م.ت.ف.: التطور وصراع الإرادات" (الجزء الثاني)، "شؤون فلسطينية"، العدد 154/155، كانون الثاني/يناير ـ شباط/فبراير 1986، ص 21؛ "التقرير الاستراتيجي العربي لعام 1985"، مصدر سبق ذكره، ص 304.
(50) حيدري، مصدر سبق ذكره، ص 120.
(51) راجع للمزيد: ثابت، "التعددية السياسية..."، مصدر سبق ذكره، ص 4 وما بعدها.
(52) مذكرات حسني الخفش، "حول تاريخ الحركة العمالية الفلسطينية" (بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1973)، ص 43؛ سميح شبيب، "الحركة الشعبية الفلسطينية في عهد الانتداب البريطاني"، "شؤون عربية"، العدد 205، نيسان/أبريل 1990، ص 23، 36.
(53) أنظر: ساره م. روي، "ديناميات جديدة للتفكك الاجتماعي"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 16، خريف 1993، ص 327 ـ 342؛ أياد برغوثي، "الانتخابات في المؤسسات الفلسطينية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 13، شتاء 1993، ص 110، 114.
(54) برهان غليون، "بناء المجتمع المدني العربي: دور العوامل الخاصة والموضوعية"، "المستقبل العربي"، العدد 58، نيسان/أبريل 1992، ص 118، 119.
(55) سعد الدين إبراهيم، "المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي" (القاهرة: مركز دراسات التنمية السياسية والدولية، كانون الأول/ديسمبر 1991)، ص 16.
(56) سلامة، مصدر سبق ذكره، ص 589.