تعالج الدراسة الموضوع تحت العناوين الفرعية التالية: المجتمع و "الدولة داخل دولة" في ظل الانتداب؛ المجتمع والدولة في إسرائيل؛ هجرة اليهود الشرقيين والتناقضات الاجتماعية؛ المجتمع الإسرائيلي بعد سنة 1967؛ تحول علاقة الفرد والمجتمع والنظام. واستخلصت أن هذا المجتمع ما زال يعاني التناقضات والمعضلات التي لازمته منذ إقامة الدولة بسبب طبيعته وتكوينه والظروف المحيطة به، لكن هذه المعضلات أصبحت أكثر حدة. وأن السبب الذي أنتج الأوضاع هو الصراع مع الفلسطينيين. تشتمل على قائمة مراجع بالعبرية.
إن المجتمع الإسرائيلي مجتمع جديد نجم عن هجرة اليهود وبناء كيان اجتماعي وسياسي في فلسطين. من هنا، فهو مجتمع دينامي جداً: أولاً بسبب الهجرة المتواصلة، وثانياً بسبب الصراع السياسي بمستوياته وأشكاله المختلفة. لكن تأثير الصراع في التغير يختلف في الاتجاه والدرجة؛ فكان في أحيان كثيرة سبباً للجمود والثبات، وكان في أحيان أُخرى مثيراً للحركة والتغيير.
فالهجرة تعني التضخم السكاني السريع، والحاجة إلى تكيف المهاجرين في البلد وتكيف المهاجرين القدامى من جديد في إثر التغيرات التي تحدثها الهجرة واستيعاب المهاجرين. وهي تعني أيضاً استيراد فكر جديد، ومعارف جديدة، وتجارب وخبرات، وأموال وموارد بشرية (شخصية وجماعية)، وثقافات متعددة. كما أن للهجرة أهمية في تحديد تركيبة المجتمع وبنائه الطبقي والثقافة السائدة. فالمهاجرون القدامى هم الذين حددوا شكل النظام وأساليب توزيع الموارد، وهم الأقدر على التكيف، والأقرب إلى موارد المجتمع، وفرصهم أكثر في الحصول على حصة أكبر منها.
والمجتمع الإسرائيلي مجتمع جديد ليس بمعنى الوجود الماضي فقط، بل لأنه أيضاً مجتمع لم يقم على تقاليد وثقافة راسخة؛ فمؤسسو الدولة كانوا منذ البداية يعدون لبناء مجتمع منقطع عن تقاليد البلاد التي غادرها المهاجرون، على اعتبار أنهم جاؤوا من مجتمعات رأوا فيها نموذجاً سلبياً وبالياً، ومنقطع عن تقاليد المجتمع المحلي الذي لم يحسبوا لوجوده حساباً. فقد حددوا أهدافهم بإقامة نظام جديد أفضل من السابق، ومجتمع جديد، وإنسان جديد، ومستقبل مختلف عن الماضي.
هذه الرغبة في حد ذاتها، وتطورات أُخرى، أدت إلى بناء مجتمع بلا حدود واضحة سياسيا واجتماعياً وثقافياً. فقد نظر هؤلاء إلى أنفسهم بصفتهم واضعي الأسس والأطر وصانعي الأوضاع لمجتمع وكيان يهوديين غير موجودين في الواقع. لذلك امتنعوا من وضع الحدود السياسية حتى لا تحول دون التوسع والتطور، وأبقوا الحدود الاجتماعية والثقافية مفتوحة حتى لا يمتنع اليهود من الهجرة إلى مجتمع قد لا يوافقون على حدوده. لهذه الأسباب لم تحسم قضايا أساسية واجهت المستوطنين والدولة فيما بعد، وما زالت عالقة (مثل الدستور، ومن هو اليهودي، ووضع الأقلية الفلسطينية في الدولة).
المجتمع و"الدولة داخل دولة" في ظل الانتداب
تحددت ماهية المجتمع وماهية مؤسسات "الاستيطان المنظم" والعلاقة بينهما بتأثير ثلاثة عوامل:
- إن الكيان الاجتماعي اليهودي في فلسطين لم يكن متكاملاً، بل كان في مرحلة بداية التكون والتشكل.
- إن هدف المستوطنين كان إقامة كيان اجتماعي وسياسي مستقل لا الاندماج في المجتمع القائم.
- تعدد التيارات السياسية واختلاف الأيديولوجيات الاجتماعية بين المنظمات والمؤسسات التي نشطت في تجنيد المهاجرين واستيعابهم في البلد.
نتيجة لهذه العوامل، أقام المستوطنون مؤسسات تتميز في الدرجة الأولى بالشمولية: أي إن نشاطها أحاط بجميع نواحي حياة المهاجر منذ لحظة وصوله. فهذه المؤسسات زودت المستوطن بجميع أنواع الخدمات التي جعلته يستغني عن خدمات حكومة الانتداب. كذلك، فإن نوع المستوطنات التي أقامها المستوطنون كان يعتمد على الالتزام الشديد والتضحية من أجل الجماعة في سبيل تحقيق الأهداف الجماعية المشتركة. من هنا فقد كان الالتزام بين المستوطن والمنظمات والأحزاب التي انتمى إليها التزاماً متبادلاً سيطرت روح الجماعة فيه على الميول الفردية سيطرة تامة. وقد عكس نوع الاستيطان فكر التيار السياسي والاجتماعي الذي أقامه، كما عكس الأوضاع التي أقيمت المستوطنات فيها. ففي تلك المرحلة كانت الحاجة الماسة إلى إقامة أنواع من المستوطنات تشكل كل واحدة منها وحدة إنتاجية واستهلاكية كاملة، تقوم على أساس العمل التعاوني الجماعي، وتؤمن الحماية العسكرية لسكانها. من هنا فقد كان الشكل السائد للاستيطان هو الكيبوتس والموشاف، حيث أقيم 148 من النوع الأول و94 من النوع الثاني. كذلك تأثر نوع الاستيطان بملكية الأرض: فقد أقيمت 85 مستوطنة من نوع موشافاه، وهي عبارة عن قرية عادية، على أراض خاصة. بينما لم تقم أية مستوطنة من هذا النوع بعد قيام الدولة.
من هنا يتضح أن العلاقات بين الفرد والتنظيمات السياسية والاجتماعية ومؤسسات الاستيطان تميزت بدرجة عالية من الالتزام المتبادل. كما أن الكيان الجديد تميز بالتعددية السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تم التعبير عنها في أعلى مؤسسة يهودية في البلد: "كنيست إسرائيل" الذي أقيم على أساس التمثيل النسبي لجميع هذه التيارات، بيد أن التنظيمات المختلفة تمتعت بدرجة عالية من الاستقلالية.
المجتمع والدولة في إسرائيل
واجهت المجتمع الإسرائيلي منذ البداية القضايا ذاتها التي تواجهها المجتمعات الاستيطانية كافة، وهي: تأمين الهجرة الدائمة، والاستيطان، والأمن في بيئة معادية. وهذه القضايا تؤثر في صفات المجتمع وطبيعة الدولة ونوع المؤسسات التي تميز هذه المجتمعات. والمجتمع الإسرائيلي لا يختلف عن المجتمعات الاستيطانية إلا في بعض الصفات التي تميزه بسبب الأوضاع الخاصة التي أقيم فيها، وتغيُّر أشكال الصراع القومي وطبيعته.
إن أكثر ما يميز النظام الذي نشأ في إسرائيل هو المركزية؛ فالنظام السياسي نظام مركزي قوي جداً على الرغم من كونه ديمقراطياً برلمانياً؛ إذ إن التعبير عن الديمقراطية لم يتعد القيود التي وضعها النظام ولا قواعد "اللعبة الديمقراطية" كما قررها، من حيث أساليب التنافس السياسي وموضوعات النقاش والفئات التي يسمح لها بأن تشارك فيه.
وقد استطاعت الحكومة المركزية في إسرائيل أن تفرض هذا النظام بسبب القوة العظيمة التي ركزتها في أيديها. فهذه القوة نتجت من استيلائها على موارد اقتصادية هائلة، وتحديد العلاقة بين الأحزاب والتنظيمات السياسية في البلد وبين الجوالي اليهودية في الدول الغربية، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية. فالحكومة استولت على ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين، وحصلت على مساعدات أميركية كبيرة وعلى التعويضات الألمانية. وقد حددت نشاط الوكالة اليهودية ووجهته بحسب مخططاتها. من هنا، فقد أصبحت الأحزاب والتنظيمات السياسية كلها ضعيفة أمام قوة الحكومة، وقبلت بالتبعية للحصول على حصة من مخصصاتها. ولم تستطع هذه الأحزاب أن تنشط سياسياً وأن تجند دعماً لها إلا عن طريق الحصول على موارد لتمويل نشاطها. إلا إن هذه التبعية تعززت بسبب فعالية هذه الأحزاب في جميع مجالات الحياة وبسبب كونها تقدم خدمات عديدة لأعضائها، خصوصاً أن هناك مستوطنات كاملة تابعة لها.
أقامت الدولة نظاماً اقتصادياً مركزياً لا شبيه له في المجتمعات الغربية. فهذا الاقتصاد مخطط له وموجَّه مركزياً. وتقوم السلطة المركزية بتمويل المشاريع الاقتصادية بصورة مباشرة، وهي تمتلك 94% من الأراضي، وجميع الثروات الطبيعية في البلد.
إضافة إلى ذلك، فقد فرضت الحكومة على جميع أنواع وسائل الإعلام رقابة صارمة لا تختلف عن الرقابة المتبعة في أي دولة دكتاتورية. كما أن جهاز التعليم نظام موحد تسيطر الدولة عليه.
من هنا يتضح أن الدولة قلصت استقلالية جميع الفئات والتيارات التي سادت قبل قيامها [قيام الدولة]، ومنعت بصورة خاصة أي تنظيم عسكري من الاستمرار في النشاط. لذلك، فإن التعددية التي سادت قبل ذلك أصبحت في حدود القيود التي فرضتها الدولة وتحت هيمنتها ورقابتها.
لقد تم تبرير صفة المركزية دائماً بأنها حتمية للصراع السياسي وللخطر الأمني الناجم عن عداء الدول العربية لها، لا سيما أن الصراع اكتسب شكل النزاع بين دول بعد سنة 1948. وقد كان لهذه المركزية آثار عميقة على طبيعة العلاقات بين المجتمع والدولة وعلى نوع ودور المؤسسات التي توسطت بينهما، وطبيعة العلاقة بين هذه المؤسسات وأفراد المجتمع. ويمكن اختصار طبيعة هذه العلاقات على النحو التالي:
- إن قوة الدولة في إسرائيل تمثلت في قوة السلطة التنفيذية؛ فجميع القوانين التي تم تشريعها في إسرائيل تؤكد هذه القوة لأنها لا تحدد معايير التعامل، وخصوصاً معايير توزيع الموارد على المؤسسات والأفراد.
- إن المؤسسات التي قامت في إسرائيل تتميز كلها بشمولية الأدوار التي تقوم بها: فهي تقدم عدداً كبيراً من الخدمات في وقت واحد، وتعالج كلها القضايا الأساسية الثلاث التي تواجه المجتمع الإسرائيلي وتعتبرها من مهماتها: الهجرة، والاستيطان، والأمن.
- إن الدولة لم تعترف بشرعية التنظيم والاحتجاج على أساس طبقي، أو على أساس المنشأ، أو على أساس قومي. ولذلك، فإن جميع المحاولات من هذا النوع تم إفشالها بالوسائل كافة.
- إن الدولة منعت أي نوع من المبادرات الجماعية أو الفردية السياسية أو الاقتصادية. فالدولة هي التي تخطط وتنفذ، وهي التي تحدد مهمات الفئات والمؤسسات والأفراد.
- لم تفصل السلطة الحاكمة بين الدولة والحزب الحاكم، ماباي، على اعتبار أن مصالحهما واحدة. ولذلك فقد هيمن لدى الإسرائيليين إدراك وشعور بأن الحزب هو "المؤسسة" وهو "السلطة والدولة".
إذاً، فالدولة وضعت نفسها فوق المجتمع، وكانت، إلى حد كبير، بعيدة عنه، ومنعته في الوقت نفسه من المبادرة إلى إقامة المؤسسات التي يمكن أن تتوسط بينهما. وكان هذا الوضع، كما أسلفنا، يبرر بالمشكلات الأمنة الناتجة من النزاع السياسي مع الدول العربية. ولذلك، فإن لهذا النزاع أثراً كبيراً في تشكل الدولة والمجتمع في إسرائيل، وفي العلاقة بينهما.
تكونت النخبة السياسية التي تسلمت زمام السلطة من مهاجري شرق أوروبا (لا سيما بولندا وروسيا) من الهجرة الثانية (1904 – 1914)، والهجرة الثالثة (1919-1923). وكانت سلطتها مطلقة في تحديد "قواعد اللعبة" وكذلك في أسلوب ومعايير توزيع الموارد وتحديد الأهداف السياسية والاقتصادية. وكان المفهوم ضمناً أن قيم إسرائيلية عامة يجب أن تتبناها جميع الفئات، حتى تلك التي لم تحظ بالقوة والموارد، وإن كانت "قواعد اللعبة" في غير مصلحتها. لذلك، فإن جماعات كثيرة في أطراف المجتمع كان عليها أن تتكيف مع النظام السياسي والثقافي الجديد الذي أقامتها النخبة، ولا سيما المهاجرين الجدد.
تسلمت الدولة وظائف الوكالة اليهودية وأدوارها، ووضعت الحد بينهما. ثم تم تحديد نشاط الوكالة بواسطة قانون "الوضع الخاص للوكالة اليهودية"، فضمنت بذلك استقلالية الدولة عن الحركة الصهيونية والجوالي اليهودية. ومن أجل تمييز الدولة من المؤسسات المحلية، وخصوصاً الهستدروت، اقر رئيس الحكومة الأول، دافيد بن – غوريون، مفهوم ومبدأ "المملختيوت" كرمز وهدف وسياسة. وكان ذلك يعني عملياً السيطرة على المؤسسات الرئيسية؛ ومن هنا فقد بادرت الدولة إلى السيطرة على الجماعات العسكرية، ومكاتب العمل، وممتلكات اللاجئين الفلسطينيين، وإلى تأميم جهاز التعليم واحتكار توزيع الموارد المالية التي تدفقت من الخارج (الجباية اليهودية، والمساعدات الأميركية، والتعويضات الألمانية). إضافة إلى ذلك، فقد خنقت المؤسسة الحاكمة جميع محاولات التنظيم والمبادرة على المستوى المحلي، ومنعت محاولات التجديد كافة، وخصوصاً في العلاقة بين الدولة والمجتمع.
هجرة اليهود الشرقيين والتناقضات الاجتماعية
على الرغم من الخلافات الأيديولوجية بين التيارات الكثيرة التي انضمت إلى مؤسسات "الاستيطان المنظم"، فقد كانت جميعها متفقة على المبادىء الأساسية للحركة الصهيونية، وكانت منسجمة اجتماعياً وإثنياً، على اعتبار أنها تنتمي إلى الأصول الاجتماعية الإشكنازية نفسها.
وأدت هجرة اليهود الشرقيين بعد إقامة الدولة إلى تحولات جوهرية في المجتمع الجديد، وهي:
- تحول جذري في البناء الطبقي، فقد أدت الهجرة إلى حراك سريع نحو الأعلى لعدد كبير من السكان القدامى؛ إذ تضخم الجهاز الإداري بسرعة، واستوعب جزءاً كبيراً منهم، ومُنحوا الوظائف في جهاز التعليم والمهن الحرة والجيش والحكم العسكري. وكان منهم رجال العلم والبحث والأدب والفن وغير ذلك. وضمنت هذه الأعمال دخلاً عالياً نسبياً ومكانة اجتماعية وقوة سياسية. كما توجه جزء منهم إلى المبادرة الاقتصادية بدعم ومساعدة من الدولة، فنشأت بذلك طبقة وسطة جديدة من صنع الدولة وتابعة لها.
أما بالنسبة إلى الشرقيين، فقد سببت الهجرة لجزء كبير منهم الحراك نحو الأسفل، ولا سيما أنهم كانوا في عِداد الطبقة الوسطى في مجتمعاتهم الأصلية، فتحولوا في الغالب من موظفين وتجار إلى عمال بسطاء في الزراعة.
- أضافت الهجرة الجديدة إلى الدولة قوة بسبب ضخامة عدد المهاجرين، لكنها سببت عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على ميزانية الدولة. وقد تم استيعابهم على نحو سريع نسبياً، وبثمن منخفض، إذ استُوعبوا في مستوطنات أقيمت على أنقاض القرى الفلسطينية المهجورة، وخصوصاً في المناطق الحدودية، وأقيمت مستوطنات جديدة خاصة بهم تسمى "مد ن التطوير". كذلك بقي عدد كبير منهم في معسكرات انتقالية أعواماً عدة. وتم توطين جزء صغير منهم في الضواحي العربية في المدن، ولا سيما في اللد والرملة وعكا وحيفا ويافا والقدس.
وتميز استيعاب المهاجرين الشرقيين بتوطينهم في المناطق البعيدة عن مركز البلد، ولا سيما في شماله وجنوبه. وهكذا تحولوا إلى فئة محيطية هامشية جغرافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
- لم يُعتبر الشرقيون استمراراً للهجرات الإشكنازية السابقة، ولذلك سميت هجرتهم "الهجرة الجماهيرية" بدلاً من "الهجرة السادسة". كما أن طبيعة أعمالهم لم تحسب ضمن الأعمال الطليعية والبطولات التي يمكن أن تترجم إلى مكانة وقوة سياسية.
- تحول الشرقيون بعد فترة وجيزة من وصولهم إلى شريحة اجتماعية تابعة للدولة والنخبة الحاكمة، وشكلوا دعماً لها. وكانت تعبئتهم سهلة، فساهموا في تقوية الدولة في وجه الفئات والطبقات القائمة.
- شكل الشرقيون بعد أعوام قليلة من توطينهم مشكلة اجتماعية – اقتصادية كبيرة وعبئاً ثقيلاً. إذ بدأوا يطالبون بتوزيع أكثر عدالة للموارد وبالمساواة في الفرص. لكن الدولة كانت دائماً ترد مطالبهم بحجة المشكلة الأمنية وعدم إمكان معالجة المشكلات كلها في وقت واحد، وهو ما عبَّر عنه موشيه دايان بمشكلة "رفع العلمين": "علم الأمن" و"علم الرفاه الاجتماعي". وقد ساعد هذا الادعاء في مأسسة ظاهرة الفقر واستيعابها واحتوائها.
هكذا يمكن القول إن هجرة الشرقيين أدت إلى تغيير التركيب الاجتماعي في إسرائيل على نحو جوهري. ومن هنا زعزعة الانسجام الذي ميز مختلف الفئات من اليهود الإشكناز.
ولقد واجهت الدولة في الفترة نفسها مشكلة وجود الأقلية الفلسطينية، لكن علاج هذه المشكلة كان أسهل من علاج مشكلة الشرقيين نسبياً بسبب اعتبارهم خارج حدود المجتمع الإسرائيلي؛ إذ تم عزلهم جغرافياً و اجتماعياوثقافياَ. وكان الأمر الذي سهل هذه العملية إمكان استعمال أواليات وأساليب خاصة بهم لا يمكن استخدامها مع الفئات اليهودية؛ فكان استخدام الحكم العسكري وسيلة سهلة نسبياً، وفرضت عليهم أنظمة الطوارىء الانتدابية. ومن جهة أُخرى مُنحوا المواطنة الإسرائيلية وحق الاشتراك في العملية السياسية. لكن ممارسة ذلك الحق، عن طريق التصويت في الانتخابات، فُرضت عليهم فرضاً بحيث شكلوا دعماً مضموناً للحزب الحاكم.
واجه المجتمع الإسرائيلي في الفترة الواقعة بين سنة إنشاء الدولة (1948) وحرب 1967 انقسامات وتناقضات كبيرة وعميقة وأعباء ثقيلة ما كان في وسعه معايشتها لولا عاملين:
- المساعدات المالية الخارجية التي مكّنت الدولة من الوفاء بالتزاماتها في تقديم الخدمات وتوزيع الموارد على الأفراد ومختلف الفئات التي تم ضمان تعبئتها وولائها.
- النزاع السياسي والعسكري مع الفلسطينيين وتحوله في هذه المرحلة إلى نزاع بين دول؛ فالشعور بالخطر الأمني طغى على الإسرائيليين بصورة عامة، وشكّل محوراً لتضامنهم وتماسكهم.
شكل هذان العاملان أساساً قوياً لنجاح حزب ماباي، بقيادة دافيد بن – غوريون، في إقامة نظام حكم مركزي قوي جداً لا مثيل له في الأنظمة الديمقراطية. فقد سيطرت الحكومة على معظم الموارد الاقتصادية، ووجهت عملية استثمارها، ونجحت نجاحاً كبيراً في تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية. وكان هذا النجاح يعزز قوة الحكم المركزي وشرعيته في نظر أفراد المجتمع وفئاته، ويعمق تبعيتها له. وإذا أضفنا عامل الصراع السياسي والشعور بالخطر الأمني الذي شكل تبريراً للسياسات المتبعة كلها وألغى شرعية أية معارضة على أساس اقتصادي أو اجتماعي أو قومي، نجد أنه أدى إلى منع ظهور التناقضات والخلافات على السطح، ومنع التعبير عنها إلى حد كبير. إلى ذلك ينبغي إضافة عامل آخر مهم في سياسة الحكومة في إسرائيل: فقد اتبعت سياسة عدم الحسم في القضايا الجوهرية، والتي واجهت المجتمع الإسرائيلي، ولجأت إلى الحلول الموقتة والبراغماتية في جميع المجالات، وضمنت بذلك الهدوء وعدم الاحتجاج أو اللجوء إلى المقاومة العنيفة.
لم تلغ هذه السياسة النقاش بين التيارات والفئات المختلفة لكنها، كما ذكرنا، خفضت من حدته وحافظت عليه في مستوى يمكن التعايش معه. وقد نتج من ذلك مجتمع يتميز بأنماء خاصة من الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبأنماط خاصة من العلاقات والسلوكيات. وكانت هذه الأنماط حاسمة في التقليل من فرص وإمكانات تغيير السلطة السياسية في إسرائيل، وأدت إلى تزييف العملية الديمقراطية بسبب تشويه المصالح والصراعات والانقسامات وقمع المبادرات المحلية.
نتيجة لهذه الأوضاع طور الإسرائيليون نمطاً من السلوك السياسي يتصف بالتدخل غير الفعال، ويتميز بما يلي:
- نسبة عالية من الاستماع ومشاهدة الأخبار في وسائل الإعلام.
- قراءة الصحف اليومية.
- النقاش اليومي في القضايا السياسية واتخاذ المواقف منها.
- نسبة تصويت عالية في الكنيست.
من جهة أُخرى، فإن عدد الفعالين في الحياة السياسية، على المستوى المحلي أو المستوى القطري، ضئيل جداً. وهنا يبرز التناقض بين التدخل والمشاركة في الحياة السياسية وبين شيوع فكرة أنه لا أمل للفرد أو للجماعة بالتأثير في السلطة التي تطورت على خلفية قوة الدولة والسلطة.
المجتمع الإسرائيلي بعد سنة 1967
تعتبر نتائج حرب 1967 واحتلال الأراضي الفلسطينية والعربية من أهم الأحداث والعوامل التي أثرت تأثيراً عميقاً في المجتمع الإسرائيلي على جميع المستويات وفي المجالات كافة. فهذا المجتمع تحول إلى مجتمع آخر، بل يمكن القول إنه مجتمع جديد، يختلف اختلافاً جوهرياً وجذرياً عن المجتمع الذي عرفناه في المرحلة السابقة. ليس من الممكن الإشارة إلى هذا المتغير أو ذاك كمتغير أساسي كان له تأثير أكبر من غيره في عملية التحول، بل إن عملية التحول كانت اجتماعية شاملة شكل المجتمع الإسرائيلي ومضمونه، وغيرت شخصية الإنسان الإسرائيلي وقيمه وسلوكياته. لكن لغرض التحليل، سنيمز بين المجالات والمستويات المختلفة لفهم هذه التحولات وفهم البناء الاجتماعي الذي نجم عنها:
1- كان التحول في الاقتصاد الإسرائيلي من أكثر النتائج وضوحاً وبروزاً بعد الحرب مباشرة. فقد بدأت فترة ازدهار اقتصادي لم تعرف الدولة مثيلاً لها قبل الحرب أو بعدها، واستمرت حتى تشرين الأول/ أكتوبر 1973. وعلى الرغم من توقف النمو السريع بعد ذلك، فإن الاقتصاد الإسرائيلي لم يعد إلى سابق عهده؛ إذ حدثت تحولات بنيوية عميقة تمثلت في:
- تطوير قطاع الصناعات العسكرية والصناعات الدقيقة.
- تطوير قطاع الخدمات بحيث تحول إلى أكبر قطاع اقتصادي.
- اندماج العمال الفلسطينيين من الأراضي المحتلة في الاقتصاد الإسرائيلي، وتحول وجودهم إلى ظاهرة بنيوية دائمة.
- بتأثر التحولات السابقة حدثت تحولات عميقة في البنية المهنية والبنية التشغيلية لجميع فئات القوى العاملة في إسرائيل.
أحدثت هذه التحولات تحسناً في مستوى المعيشة بصورة عامة شمل جميع القطاعات والفئات الاجتماعية. غير أن الركود الاقتصادي منذ سنة 1974 أثبت على نحو قاطع أن التحولات الاقتصادية لم تقلص الفجوة بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، وخصوصاً بين اليهود والإشكناز واليهود الشرقيين وبين هاتين الفئتين والأقلية الفلسطينية. فقد كانت الفئة الأولى هي المستفيدة الرئيسية من التحولات الاقتصادية في المدى البعيد؛ إذ إنها تملك الموارد الاقتصادية والخبرة والمعلومات والمؤهلات العلمية، كما تملك قدرة النفوذ إلى موارد الدولة وفرص الحصول على عقود العمل. فهي الأقدر على التكيف والتأقلم في الأوضاع كلها.
وكان تطوير الصناعات العسكرية والدقيقة من صنع هذه الفئة وفي مصلحتها. فهذه الصناعات تضم كبار ضباط الجيش، ووزارة الدفاع وكبار موظفيها، وفئات اجتماعية أُخرى مرتبطة بها هي النخب الإدارية والصناعية والثقافية والإعلامية. وكانت جميع هذه الفئات قبل الحرب قريبة من حركة العمل (أعضاء كيبوتسات، أعضاء حزب العمل، حركات الشبيبة إلخ...). وقد تعززت مكانتهم في المرحلة الجديدة وتحولوا إلى شريحة اجتماعية – سياسية مميزة: فهم موظفو الدولة أو المؤسسات التابعة لها، ووظيفتهم تحقيق مصالحها وبالتالي تحقيق مصلحتهم في الحصول على المنافع الاقتصادية والمراكز الاجتماعية المرموقة. ثم أن اليهود الإشكناز هيمنوا على فرع الخدمات بفضل مؤهلاتهم الأكاديمية العالية وبصورة خاصة في القانون والبحث العلمي والهندسة والطب والإدارة والحسابات والاتصالات، غلخ.
أما بالنسبة إلى اليهود الشرقيين فقد تحرروا من الأعمال الشاقة في الزراعة والبناء وبعض قطاعات الصناعة (النسيج والغذاء) ذات الدخل المتدني. واتجه كثير منهم إلى التعهدات والمقاولات الثانوية، مستغلين العمال الفلسطينيين. وفتحت أمام أعداد كبيرة من الشباب فرص العمل في المهن الفنية في الصناعة بسبب مؤهلاتهم فيم مجال التكنولوجيا التي حققوها في التعليم المهني.
وهكذا يمكن القول إن التحولات الاقتصادية غيرت من وضع جميع الشرائح الاجتماعية في سوق العمل، لكنها أوجدت تقسيم عمل اجتماعي جديداً لا يختلف في جوهره عن التقسيم السابق من حيث تدرج هذه الشرائح بحسب أصولها الثقافية والقومية. لا بل تشير المعطيات والأبحاث إلى أن الفجوة بين الإشكناز والشرقيين وبين هاتين الفئتين والأقلية الفلسطينية كبرت وتعمقت، وخصوصاً في الثمانينات. وقد أدت هذه التطورات إلى تعميق وترسيخ الدمج بين البعد الثقافي والإثني والبعد الطبقي بحيث يحدد الأول المكانة الطبقية للأفراد والجماعات، الأمر الذي كان له تأثير كبير في التطورات السياسية في المجتمع الإسرائيلي.
2- غيرت نتائج حرب 1967 التركيب الديموغرافي والاجتماعي في إسرائيل؛ فقد بات هناك ثلاث جماعات مختلفة متميزة في مكانتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية:
- الأكثرية اليهودية.
- الأقلية الفلسطينية التي حصلت على المواطنة الإسرائيلية.
- الفلسطينيون في الأراضي المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة).
لم تضم إسرائيل الأراضي المحتلة بل وضعتها تحت سلطتها من الناحية العملية. فهي لم توسع جدودها رسمياً وقانونياً لكنها سيطرت على جميع الموارد (خصوصاً الأرض والمياه)، وفرضت القوانين والأنظمة التي تخدم مصلحتها، وبدأت ترسل المستوطنين الذين يمثلون سيادتها.
وأدى هذا الوضع الجديد إلى تطورات كثيرة وتحولات عميقة في المجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً على المستويين السياسي والأيديولوجي. فدولة إسرائيل كانت قد تبلورت كدولة لادينية، لكن مع تأثير للدين والثقافة الدينية، ولا سيما في تحديد الهوية الإسرائيلية بأبعادها القومية والثقافية والمدنية، وفي إضفاء الشرعية على الكيان الإسرائيلي: فالدين هو الذي حدد أرض الميعاد، وزود الصهيونية بأهم رموزها الثقافية والقومية، أي اللغة (لغة التوراة)، وهو القاسم المسترك لجميع المهاجرين من ثقافات مختلفة، وقد زودهم بالتقاليد الجماعية المشتركة (الأعياد والمناسبات). من هنا فقد شكل الدين العنصر الأساسي في صد الخطر على الهوية القومية الإسرائيلية والذي تمثل في الوجود الفلسطيني. إذ أصبح هذا الوجود يهدد مقومات الهوية ومقومات دولة إسرائيل كدولة يهودية – صهيونية، وذلك للأسباب التالية:
- على الرغم من عدم ضم الأراضي المحتلة رسمياً، فقد باتت ذات "وضع موقت دائم"، وهو وضع مريح لدولة إسرائيل من الناحية الاقتصادية يمنع تحول الدولة إلى دولة "ثنائية" القومية رسمياً وقانونياً لكنه يغير تركيبة سكانها عملياً.
- كان الاستيطان في الأراضي المحتلة يكرس الوجود الإسرائيلي فيها ويرسخه، وهو ما يعني استمرار وجود الجانبين (اليهودي والفلسطيني) وزيادة الاختلاط بينهما في ظل غياب إمكان تهجير الفلسطينيين بصورة جماعية.
- أخذت العلاقات الاقتصادية تترسخ وتتعمق نتيجة للاستثمارات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة واندماج العمال الفلطسينيين في سوق العمل الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى تبلور مصالح قوية ضد إنهاء الاحتلال، وأصبح البعض يعتقد أن تغيير واقع الاحتلال لم يعد ممكناً.
- بدأت العلاقات السياسية والثقافية بين الفلسطينيين من جانبي الخط الأخضر تتوثق وتتعمق، وهو ما أشعر الإسرائيليين بخطر وجود أقلية فلسطينية كبيرة. وقد زاد في هذا الشعور توقف الهجرة اليهودية إلى البلد، وعدم وجود مؤشرات على إمكان استئنافها، وخصوصاً من الاتحاد السوفياتي السابق. ومن هنا فالخطر الديموغرافي أصبح حقيقة واقعة.
- في هذه الفترة بالذات كان الفلسطينيون في إسرائيل يعيشون مرحلة جديدة من العمل السياسي، ويشددون على المطالبة بحقوقهم المدنية، أسوة بسائر المواطنين اليهود. فقد ظهرت حركات سياسية جديدة، ونشأت الأطر التمثيلية القطرية، وحدثت تحولات سريعة وكبيرة في أنماط تصويتهم في انتخابات الكنيست، وأخذوا يعتبرون أنفسهم فلسطينيين. وكانت حصيلة هذه التطورات التحول في أساليب العمل السياسي الجماعي، ومقاومة السياسية المتبعة نحوهم، والتي تكللت بإعلان إضراب "يوم الأرض" الأول في نهاية آذار/مارس 1976.
لم يكن هذا الشعور بالخطر من جانب الإسرائيليين منفصلاً عن الآثار التي تركتها حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. فقد أثبتت تلك الحرب أن نشوة الانتصار في حرب 1967 كانت مبالغاً فيها، وأن الخطر على أمن الدولة والمجتمع ما زال قائماً. كما أثبتت الحرب فشل التيار العمالي، وبالتالي فشل فكره ومبادئه وعدم إمكان استخدامه بديلاً من الدين في بلورة الهوية القومية الإسرائيلية. وأكثر من ذلك، فإن هذا الفكر، حتى لو لم يفشل، فهو يشكل خطراً على هذه الهوية لأنه لا يستطيع استثناء غير اليهود.
في ظل هذا الشعور بالخطر نشأ في المجتمع الإسرائيلي تياران سياسيان – أيديولوجيان سرعان ما اندمجا في تيار واحد: تيار قومي متعصب أخذ يتجه نحو الأصول الدينية ويستخدمها في تثبيت وترسيخ الهوية القومية الإسرائيلية المقتصرة على اليهود، وتيار ديني أخذ يترجم مبادئه إلى توجه قومي متعصب، مستنداً إلى أسس مختارة من الدين اليهودي. وهكذا بدأت النخب الدينية، التي كانت في المحيط سابقاً تقترب من المركز السياسي – الاجتماعي ومن الرموز الثقافية السائدة، وتراكم قوة سياسية.
في هذه الأجواء نشأت حركة "غوش إيمونيم" التي رفعت شعار "أرض إسرائيل الكاملة" بوصفه أحد مركّبات المثلث: شعب إسرائيل، توراة إسرائيل، أرض إسرائيل.
3- بعد حرب 1967 تفاقمت التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية، لكن نشوة الانتصار بعد الحرب، والشعور بالأمان والازدهار الاقتصادي، وتعزيز قوة الدولة والقيادة السياسية في مقابل المجتمع، كل ذلك لم يسمح بظهور حركات معارضة على السطح باستثناء حركة الفهود السود التي مثلت تذمر اليهود الشرقيين في أوائل السبعينات. وقد بدأت التناقضات كلها تبرز بعد حرب 1973: فقد اشتدت المطالبة بمعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصاً من جانب اليهود الشرقيين والفلسطينيين الحاملين المواطنة الإسرائيلية، وزاد ضغط المتطرفين المتدينين لتوجيه الموارد نحو الاستيطان في الأراضي المحتلة. وبدأت هذه الفئات تقترب أكثر من المركز السياسي، لكنها لم تكن تتميز بالالتزام العميق نحو المجتمع، ولم تكن على استعداد لتحمل أعباء المهمات القومية الجماعية. وحاولت السلطة معالجة هذه المطالب بالأساليب التي اتبعتها سابقاً؛ فقد أجرت تعديلات على قانون الضمان الاجتماعي لمصلحة اليهود الشرقيين، وعملت على شراء ولاء زعاماتهم، وبدأت تشعرهم بأهميتهم عن طريق الاحتفالات بالأعياد والمناسبات الخاصة بهم وبحسب تقاليدهم وشعائرهم. كما أن شملت في مناهج التعليم جزءاً من تراثهم. واستحدثت أيضاً وسائل جديدة في جهاز التعليم مثل "الإصلاح"، الذي كان يهدف إلى دمجهم في الإشكناز اجتماعياً وثقافياً.
أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فقد أدت مطالبتهم بالمساواة إلى بداية الاعتراف بالتمييز ضدهم. ووضِعت خطط لتشغيل خريجي الجامعات. وقرر حزب العمل قبولهم أعضاء فيه، وبدأت الهستدروت تعلن خططاً لدمجهم دمجاً حقيقياً في مؤسساتها. وفي هذه الفترة تم تأسيس عدد كبير من المدارس الثانوية في القطاع الفلسطيني، ووضِعت التقارير بشأن الإجحاف في مناهج التعليم. وفي الوقت نفسه كان هناك محاولات لتشجيع الشباب منهم على الهجرة إلى الخارج. لكن هذه الوسائل كلها لم تمنع الصدام العنيف مع السلطة في "يوم الأرض" سنة 1976.
وفي هذه الأثناء، كان المجتمع الإسرائيلي يخوض نقاشاً جذرياً يتعلق بماهية الصهيونية، وذلك بين التيار الذي يعتقد أن تجسيد الصهيونية يجب أن يكون في إقامة دولة ديمقراطية متقدمةوالتيار الذي يرى تجسيد الصهيونية في العودة إلى البلد وتخليصها من الأعداء. وكان التيار الثاني هو التيار الديني – القومي المتعصب، الذي أشرنا إليه. وقد نتج من ذلك مفهوم جديد للطليعي الصهيوني: فبدلاً من الطليعي الذي ضحى من أجل الجماعة إلى درجة غياب شخصيته ومصالحه اصبح الطليعي هو الذي يستوطن الأرض، وعلى الجماعة أن تحميه وأن تعتني بحاجاته المادية وبتوفير وسائل وجوده.
4- في هذه المرحلة كانت حركة حيروت تعزز قوتها وتتعاظم بعد أن حصلت على شرعية من جانب الدولة وحزب العمل. فقبيل حرب 1967 أُقيمت حكومة وحدة وطنية بمشاركتها، وهو ما أضفى عليها الشرعية، في حين أدى ذلك إلى إضعاف حزب العمل. فإقامة هذه الحكومة يمكن اعتبارها بداية التمييز بين مصالح الدولة ومصالح الحزب، وبصورة بارزة، ولأول مرة منذ إقامة الدولة. وتعزز هذا التمييز بسبب الانتصار في الحرب الذي عزز قوة ممثل بحكومة تضم جميع التيارات.
كانت حركة حيروت الرابح الرئيسي من مجمل التطورات والتحولات التي حدثت بعد حرب 1967، وبصورة خاصة بعد حرب 1973. إذ إنها استغلت ميول العناصر الدينية والقومية المتطرفة والمحافظة ودمجتها في التذمر والاحتجاج على خلفية التمييز ضد اليهود الشرقيين. ولاقت دعايتها بشأن الفساد والتقصير العسكري في حرب 1973 رواجاً بين هؤلاء، إلى جانب تحميل حزب العمل مسؤولية الفشل في الدمج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
المجتمع الإسرائيلي تحت حكم الليكود
شكّل مجمل التغيرات التي أحدثتها حرب 1967 وحرب 1973 الخلفية التي أوصلت حزب الليكود إلى الحكم سنة 1977. وكانت هذه المرة الأولى التي يتبدل فيها الحزب الحاكم في إسرائيل. ولم يكن هذا التغيير مجرد انقلاب سياسي بل كان تغييراً كبيراً في موقف الإسرائيليين من السلطة، وأدى إلى تحولات ليست بسيطة في العلاقة بين المجتمع والدولة. إذ بدأت مرحلة جديدة في هذا المجال شاع فيها النقد المتواصل للقيادة السياسية والمطالبة برفع الأعباء التي تفرضها قدسية الدولة وهالتها على الجمهور. وقد يكون أهم النتائج التي ترتبت على تغيير الحزب الحاكم بدء مرحلة جديدة من المبادرة والنشاط الفردي والجماعي على المستوى المحلي. فالضغط من أجل فتح مجال النشاط أدى إلى تغيير قانون الانتخابات للسلطات المحلية بحيث أصبح انتخاب الرؤساء مباشراً وشخصياً. وكان أهم نتائج تغيير القانون إضعاف قوة وأهمية الأحزاب السياسية، ونشوء قيادة جديدة شابة اشتقت قوتها من الجمهور مباشرة لا من فعاليتها الحزبية وتدرجها في أجهزة الأحزاب. وكان هذا التغيير جوهرياً في الحياة السياسية والاجتماعية بحيث أصبح التزام المرشحين نحو الجمهور المحلي التزامهم تجاه الحزب وجهازه هو المعيار الأساسي لانتخابهم. كما أن أهمية هذا التغيير كانت بارزة جداً في نشوء قيادة جديدة من اليهود الشرقيين سرعان ما تحولت من قيادة محلية إلى قيادة سياسية على المستوى القطري. ومن ناحية أُخرى فإن قيادة جديدة من الإشكناز ظهرت لأول مرة في حزب الليكود والحركة الديمقراطية للتغيير مكونة من ضباط الجيش ورجال الأعمال والأكاديميين (يطلق عليهم في القاموس السياسي الإسرائيلي لقب "الأمراء").
وقد جمع حزب الليكود بين فكر الحزب الليبرالي الذي يدعو إلى التحول إلى اقتصاد السوق الحرة وبين التطرف القومي مثلته حركة حيروت، واستغل شعور اليهود الشرقيين بالتمييز والحرمان.
وكان هذا الدمج ناجحاً جداً في إحداث الانقلاب السياسي، كما أشرنا، لكنه كشف عن مدى التناقض الذي عاناه الحزب بعد تسلمه السلطة عند اضطراره إلى اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات فعلاً. فالتحول إلى سياسة الاقتصاد الحر يتناقض مع الحاجة إلى دعم السلع الأساسية وتوزيع الموارد على الشرائح الدنيا، وخصوصاً الشرقيين الذين يشكلون القوة السياسية الرئيسية للحزب. لكن حزب الليكود اكتشف أيضاً مدى أهمية السيطرة على موارد الدولة والتحكم في عملية توزيعها في التعبئة السياسية. من هنا فقد اتبع في سياسته الاقتصادية طريقاً مزدوجة: قلل من التدخل المباشر في العمل الاقتصادي، لكنه لم يلغه نهائياً، وعمق التزام الدولة بتقديم الخدمات.
أدى التحول الجزئي إلى الاقتصاد الحر إلى نشوء شريحة جديدة من رجال الأعمال جمعت ثروتها من جهدها الذاتي ومن مواردها الذاتية. كما توسعت العمليات الاقتصادية غير الرسمية. وبهذا نشأت شريحة من الطبقة الوسطى مختلفة عن تلك التي نشأت نتيجة تحويل أموال الدولة إلى الملكية الخاصة وتطوير الصناعات العسكرية في زمن حكم حزب العمل. ومن جهة أُخرى بادرت الحكومة إلى مشاريع قطرية ومحلية لتحسين أوضاع الشرقيين مثل: "مشروع ترميم الأحياء". كما أنها زادت في الخدمات المقدمة للجمهور، وأصدرت التعليمات بإصلاح نظام مخصصات الأولاد التي يدفعها التأمين الوطني بحيث يمنع تآكل مخصصات العائلات اليهودية الكثيرة الأولاد، وهي في أغلبيتها العظمى من اليهود الشرقيين. هذا بالإضافة إلى السياسة الاقتصادية التي اتبعتها عشية الانتخابات سنة 1981 وسنة 1984، والتي اتسمت بتوزيع الموارد على الجمهور من دون حساب.
وقد أشاعت هذه السياسة المتناقصة شعوراً بالرفاه الاقتصادي في معظم الشرائح الاجتماعية لكنها لم تغير جذرياً في البناء الطبقي القائم، وخصوصاً أنها لم تقلص الفجوة بين الإشكناز واليهود الشرقيين، كما اتضح في وقت لاحق.
إن المعطيات الرسمية بشأن هذه الفجوات تثبت أن اليهود الإشكناز يتمتعون بمكانة أعلى من مكانة اليهود الشرقيين في المجالات التالية:
- التعليم (متوسط سنوات التعليم ونوع التعليم ومستواه).
- التوزيع المهني: حيث يسود الإشكناز في الوظائف الأكاديمية والعلمية وفي المهن الحرة والوظائف الإدارية المرموقة. أما اليهود الشرقيون فقد توجهوا إلى المقاولات الثانوية، والمصالح المستقلة الصغيرة، والخدمات الشخصية والفنية، والمطاعم وورشات تصليح السيارات، إلخ...
- مستوى الحياة: ما زالت الفوارق واضحة في مستوى الدخل، والكثافة في السكن ونوع الأدوات الاستهلاكية المعمِّرة، ومنطقة السكن، والمدخرات المالية.
وقد تبين أنه تم تحت حكم حزب الليكود توارث هذه الفجوات والفوارق، ولم يُبذل مجهود كاف لإجراء تغيير جوهري ووقف إعادة إنتاجها. كما تبين أن الاقتصاد الحر كان في مصلحة الشرائح العليا التي تمتلك الموارد المادية والبشرية، وهي تتألف من الإشكناز بصورة مطلقة.
إن إعادة إنتاج الفجوات على أساس المنشأ والثقافة هي سبب استطاعة اليهود الإشكناز المحافظة على صورة متعالية والنظرة إلى الشرقيين كأنهم "عرب أدنى منزلة" أو يهود لم يستطيعوا بعد التخلص من الثقافة العربية المتخلفة التي تحد من قدراتهم، ولذلك فهم يحتاجون إلى الرعاية. ولهذا فإن الإشكناز يسمحون لهم بالتعبير عن تراثهم لأنه أصبح تاريخاً لا يؤذيهم ولا يغير من صورة الدولة.
إن هذه الصورة للشرقيين لم تتغير فحسب، بل تعمقت وترسخت منذ صعود الليكود إلى الحكم بسبب المواجهة السياسية مع الإشكناز. لكن يمكن القول إن مواقف الإشكناز أصبحت أقل حدة، وذكية، ومرنة، ومغلفة.
ليس هناك شك في أن هذا التنافس من خلال تصويت الشرقيين لحزب الليكود قد غير من مكانتهم السياسية على نحو خاص. فهم يتقلدون زمام الأمور في التجمعات السكنية التي يشكلون فيها أكثرية. وقد انتهى عهد تعيين المسؤولين من الإشكناز. كما أن نسبة تمثيلهم في الكنيست والحكومة ارتفعت بحيث شكلوا ثلث أعضاء الكنيست سنة 1993، وربع أعضاء الحكومة. وتحسن وضعهم في الهستدروت (السكرتير العام السابق كان من أصل يمني) وفي الوكالة اليهودية (أمين صندوق الوكالة)، وحصلوا على تمثيل ضئيل في قيادة الجيش. كذلك تغير وضعهم في الأحزاب الكبيرة بحيث باتوا يشكلون ثلث أعضاء مركز حزب العمل ونصف أعضاء مركز حزب الليكود.
وعلى الرغم من هذا التغير البارز في مكانتهم السياسية ومن أنهم يركزون قوتهم (80%) في التصويت لحزب الليكود وأحزاب اليمين، فإن هذه القوة لم تترجم إلى تأثير في اتخاذ القرار. فالإشكناز ما زالوا يسيطرون على المراكز الحساسة، ويقررون الأولويات القومية واعتبارات تحديد السياسة الخارجية. لهذه الأسباب يمكن اعتبار نشوء حزب شاس، الذي يمثل المتدينين الشرقيين، عبارة عن محاولة من جانبهم لتغيير الواقع. وتجدر الملاحظة أن الطابع الديني هو الغالب على هذا الحزب بسبب عدم شرعية التكتل على أساس المنشأ في المجتمع الإسرائيلي.
إن مسألة التناقض بين الإشكناز والشرقيين لم يعبَّر عنها بالتكتل السياسي على هذا الأساس، ولم تظهر حركات احتجاج أو صدامات عنيفة بين الجانبين. لكن ذلك لا يلغي هذا التناقض والشعور لدى الشرقيين بالتمييز ضدهم، إذ يعبَّر عنه في التصويت وفي الاحتجاج على مطاردة قيادتهم وملاحقتها، كما حدث في قضية الوزير السابق أبو حتسيرا وفي قضية الوزير أرييه درعي. ولذلك يمكن القول إن التوتر بين الجانبين أشد كثيراً مما يظهر على السطح.
تثير أوضاع الشرقيين شعورهم بفشل حزب الليكود في تغيير أوضاعهم تغييراً جوهرياً. ولذلك من الممكن أن يتم التعبير عن هذا الشعور وعن التذمر في المستقبل في حال تراجع حدة الصراع مع الفلسطينيين والدول العربية.
لكن حزب الليكود سبب لدى الجمهور الإشكنازي في حد ذاته خيبة أمل، وأثار معارضة قوية بسبب مواقفه السياسية ومغامراته العسكرية. فسياسته الاقتصادية لم تكن بحسب توقعات أصحاب رؤوس الأموال الذين يرغبون في إنهاء سيطرة الحكومة وتحكمها في المجال الاقتصادي، وتحويل الاقتصاد الإسرائيلي إلى اقتصاد رأسمالي حر.
وقد أدى مجرد صعود الليكود إلى الحكم إلى إضعاف التزام الحركات الاجتماعية والسياسية الرئيسية، مثل حركة الكيبوتسات وحركات الشبيبة التي شكلت في الماضي الطليعة في تنفيذ المهمات القومية. وكان هذا التحول مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالخلاف المتعلق بتحديد المهمات القومية نفسها، وهو ما يشير إلى ضعف الإجماع القومي في إسرائيل.
لقد برز هذا الضعف بصورة واضحة في ردات الفعل على غزو لبنان سنة 1982. فالمعارضة لهذه الحرب تركزت على كونها أول حرب لم تفرض على إسرائيل، ولذلك فهي غير ضرورية. وكانت فداحة الخسارة في الأرواح سبباً في إشاعة جو التشاؤم واليأس بين الجمهور الإسرائيلي. كما أن هذه الحرب أثارت الشك في النظام السياسية والنخبة السياسية وفي مدى حرصها على مصالح المجتمع وأمنه. وكان لهذه الحرب أثراً مهماً في تغيير نظرة الإسرائيليين إلى السلطة وهيمنتها عليه وطريقة تصرفها في موارده. وبرز ذلك في أسلوب وشدة النقد لسياسته، وفي ظهور أحزاب جديدة على الساحة السياسية كان لها أثر في الحياة العامة، لكن تأثيرها الواضح على المدى البعيد كان في التحول السياسي في المجتمع الإسرائيلي الذي نشاهد نتائجه هذه الأيام.
أما مواقف الليكود من مصير الأراضي المحتلة فقد أبرزت تناقضاته الداخلية: فالليكود ضد الانسحاب من الأراضي لكنه لم يعرض خطة عملية لحل المشكلة الديموغرافية الناتجة من ذلك. وقد تعمق هذا التناقض بعد إقامة حكومة الوحدة الوطنية سنة 1984. إذ أثبتت هذه الحكومة أن الإجماع لا يشكل حلاً للمشكلات المتفاقمة، وخصوصاً بما يتعلق بالنزاع السياسي. فالوحدة كانت في مثابة "فيتو" متبادل في القضايا المختلف بشأنها أيديولوجياً.
وعمقت هذه التطورات خيبة الأمل من التيارات السياسية الرئيسية، وأبرزت الفجوة بين الأيديولوجيا وبين الممارسة العملية، لا سيما أن الفوارق بين هذه التيارات أخذت تتلاشى. من هنا بدأ الجمهور الإسرائيلي يفسر الوضع بأنه فشل المجتمع الإسرائيلي لا فشل حزب محدد، وأخذ يطرح التساؤلات حول الغايات والأهداف الجماعية لهذا المجتمع. وقد ساهم في تعميق الشعور بالفشل على نحو خاص كون المعارضة الرئيسية لحكم الليكود من النخبة العمالية. فهذه النخبة ذات تاريخ عريق في خدمة مصالح الدولة، وهي تشغل وظائف مرموقة، وهي الفئة المهيمنة في مجال الإنتاج الأدبي والثقافة والإعلام.
من جهة أُخرى فإن حزب الليكود أدخل بمبادرته المجتمع الإسرائيلي في مرحلة جديدة من الصراع. إذ جدد الاستيطان في الأراضي المحتلة بأشكال مختلفة تماماً عن أشكال الاستيطان السابقة، وأضاف ذلك أعباء أمنية واقتصادية جديدة.
كان هذا الاستيطان أيديولوجياً – سياسياً في نوعين من المواقع: في المناطق الكثيفة بالفلسطينيين، وعلى حدود إسرائيل – الأراضي المحتلة (الخط الأخضر). وهو يختلف نوعياً عن الاستيطان السابق لتولي الليكود الحكم بأن المستوطنات لا تشكل وحدات مستقلة عسكرياً واقتصادياً ولا تتصف بأي نوع من العلاقات التعاونية. إذ تعتمد اقتصادياً على العمل في المدن الإسرائيلية القريبة أو في الإدارة الإسرائيلية في المناطق المحتلة وعلى تمويل الدولة. وللدلالة على الأعباء المالية التي سببها الاستيطان نشير إلى أن 95% من ثمن شقق السكن تم تمويله من ميزانية الدولة على هيئة منح أو قروض سهلة وطويلة الأمد تتحول مع الزمن إلى منح. ومن الناحية الأمنية اعتمدت المستوطنات على حماية الجيش في أماكن السكن وفي التنقل داخل الأراضي المحتلة.
ولقد أدى مجمل سياسات حزب الليكود إلى تعميق التناقضات في المجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً بين التيار اليميني المتطرف والتيار اليساري الجديد نشأ بعد غزو لبنان سنة 1982.
وكان ظهور هذا التيار السياسي اليساري الجديد متميزاً إلى حد كبير عن اليسار الإسرائيلي التقليدي. فهو لا يحمل أيديولوجيا اجتماعية مبلورة، ويستمد قوته ودعمه من الشرائح المدنية الوسطى، ويتمحور فكرة حول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وشكل هذا التيار نقيضاً للتيار القومي – الديني المتطرف من حيث الحلول التي يطرحها، لكنه يلتقي معه في المنطلقات الأساسية. فالتياران يسعيان لعودة إسرائيل إلى وضع الدولة القومية النقية من الغرباء. فبينما يسعى التيار اليميني للتمسك بالأراضي المحتلة وتحين فرصة تهجير الفلسطينيين أو فرض نظام تفرقة عنصرية يتجاهل وجودهم، وبهذا يحافظ على صبغة الدولة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، فإن التيار الآخر (اليساري) يضيف صفة الديمقراطية إلى هدف الحفاظ على صبغة دول إسرائيل القومية والثقافية، ويعتقد أن تحقيق ذلك في ظل الاحتلال أمر مستحيل.
واشتد التناقض بين هذين التيارين واحتد النقاش مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية سنة 1987. إذ وجد كل منهما تبريراً وتأكيداً لمواقفه السابقة. فالانتفاضة أضافت أعباء جديدة على المجتمع الإسرائيلي والنظام السياسي. وكانت هذه الأعباء اقتصادية وأمنية واجتماعية – نفسية. وقد أبرزت الوجه السلبي للنظام الذي لم ينفذ الوعود التي قطعها على نفسه. فحرب 1967، التي كانت تمثل قمة النجاح بعد عقدين من قيام إسرائيل، أصبحت تمثل قمة الفشل.
وأدى استمرار الانتفاضة إلى إعادة إجراء الحسابات في المجتمع الإسرائيلي والنظام السياسي:
- لم تعد الدولة قادرة على ضمان الأمن الشخصي للإسرائيليين حتى داخل الخط الأخضر.
- تحول الجيش الإسرائيلي إلى شرطة على حساب التدريبات والاستعداد لحرب شاملة.
- أخذت الأرباح من العمل الرخيص تتضاءل بسبب الإضرابات المتواصلة، وأخذ هذا العمل في حد ذاته يشكل خطراً على الأمن الداخلي.
وقد فشلت الدولة في تقنين ومأسسة هذا الصراع العنيف وفي ابتداع "قواعد لعبة" جديدة تتيح لها إطالة أمد الوضع القائم.
لم يكن سهلاً على المجتمع الإسرائيلي استيعاب التحول الذي سببته الانتفاضة في إعادة النظر في معنى الأحداث التاريخية، التي شحنت بمعان جماعية وفردية كبيرة وشكلت مصدراً للفخر والتميز الإيجابي. وكان معنى إعادة النظر في كل شيء تقريباً ظهور المعضلات القيمية الأساسية التي تأجل بتها منذ قيام الدولة، وهي تعني بالذات إعادة النظر في علاقة الدولة بالمجتمع، وفي جوهر المجتمع والدولة الذي يطمح الإسرائيلي إلى تحقيقه، وفي شخصية الإسرائيلي كفرد وطموحاته وأهدافه ومصيره.
لقد ظهر واضحاً أن الإسرائيلي كفرد، والمجتمع بكامله، لم يعودا قادرين على تحمل الأعباء التي فرضتها عليهما قدسية الدولة وهيمنتها، والغموض الذي يغلف حياة الفرد بسبب عدم الحسم في القضايا القيمية الأساسية والتصور الذاتي لنفسه بالمقارنة مع الآخرين. ومن هنا بدأ الانسحاب من تصور أن يكون الإسرائيلي "نوراً للغرباء"، والميل إلى أن يكون "مثل كل الغرباء"، أي أن يكون إنساناً طبيعياً لا بطلاً أسطورياً.
إن اتجاه "مثل كل الغرباء" يمثل تياراً كبيراً بين الإسرائيليين في وجه التيار المعاكس الذي يسعى لتجديد الصورة الذاتية القائمة والذي يمثله اليمين الديني – القومي المتطرف. فالتيار الأول يميل إلى الفردانية والمتعة الآنية من الموارد المتوفرة، والتخلص من الأعباء الجماعية المرهقة. ويميل الآخر إلى تأجيل المتع الفردية الشخصية والتضحية بها من أجل مستقبل الجماعة.
وقد ارتبط هذا التعارض بالموقف من حل القضية الفلسطينية. فالتيار الأول يدعو إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة بأقل ثمن ممكن، وبلورة هوية إسرائيلية قومية على أسس علمانية ومواطنة على أسس شمولية، ومن هنا العودة إلى دولة يهودية ديمقراطية خالية من الغرباء. أما التيار الآخر فيميل إلى المحافظة على هوية يهودية "خاصة" تقوم على التعصب الديني وضم الأراضي المحتلة أو إبقاء الوضع القائم موقتاً حتى لو كان الثمن التنازل عن المبادىء الديمقراطية.
هذا التعارض ليس نظرياً أو مجرداً، بل إنه يعني الحسم عملياً في قضية الصراع السياسي والعلاقة بين الدولة والمجتمع وبينها وبين الدين وجوهر النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية.
وجاءت التحولات السياسية على المستوى العالمي منذ سنة 1989 فحسمت الصراع بين هذين الاتجاهين. فقد كان تأثيرها في أطراف النزاع العربي – الإسرائيلي عميقاً بحيث أجبرتها على حسم الصراع السياسي، فكانت النتيجة في مصلحة التيار "اليساري" الإسرائيلي، وفي مصلحة تحول المجتمع الإسرائيلي والإنسان الإسرائيلي. وبدأت مرحلة جديدة من التغيير تظهر بوادرها في الأحزاب السياسية والصراعات داخلها بين الأجيال التي أقامت الدولة وبين الأجيال التي تمثل الإنسان الإسرائيلي "الجديد"؛ السياسي البراغماتي المتحرر نسبياً من الأيديولوجيا ومن التصور الذاتي بأنه "نور للغرباء" و"البطل" القادر على صنع المعجزات.
كان أهم التحولات انهيار الاتحاد السوفياتي، وفقدان الدعم لمنظمة التحرير على المستوى الدولي، وانتهاء الحرب الباردة. إذ أدى ذلك طبعاً إلى تغير الخريطة السياسية للعالم وفي أوروبا بصورة خاصة، وعدم استتباب الأوضاع السياسية والاقتصادية فيها. فقد حدثت انقسامات وقامت دول جديدة على أسس إثنية وقومية، وتوفرت الأوضاع لظهور أنظمة حكم يمينية متطرفة. ولهذا فإن أوروبا انشغلت بنفسها أساساً، وخصوصاً أن توحيدها قد تشوش. أما الولايات المتحدة فهي أيضاً مشغولة بقضاياها الداخلية، لا سيما القضايا الاقتصادية، التي أهملتها فترة طويلة بسبب الحرب الباردة، وأصبحت تقرر تدخلها في النزاعات بين الشعوب والدول بحسب مدى تأثيرها في المصلحة القومية الأميركية المباشرة: فهي تهمل نزاعات محلية كثيرة، منها النزاعات القديمة ومنها النزاعات الجديدة، وتترك الأطراف المتنازعة "تلعب لوحدها" بينما تلقي بثقلها لحل النزاعات التي يمكن أن تؤثر في النظام العالمي "الجديد" ومنها النزاع العربي – الإسرائيلي.
وكانت إسرائيل الطرف الرئيسي الرابع من هذه التحولات. فقد هاجر إليها نحو نصف مليون من اليهود الروس، وهو ما خفف من وطأة المشكلة الديموغرافية، وزود الدولة بموارد إنسانية ذات كفاءة علمية ومهنية لم تعرف مثلها منذ الثلاثينات. وقد أثر ذلك في موازين الصراع، وأكسب إسرائيل مناعة جديدة. ومن جهة أُخرى، فإن طلب الضمانات من الولايات المتحدة لتمويل استيعاب المهاجرين شكل وسيلة ضغط على الليكود للدخول في المفاوضات والمشاركة في مؤتمر مدريد. إذ إن الهجرة سببت ضغطاً على جهاز الخدمات (التعليم، والصحة، والمساعدات الاجتماعية)، ورفعت من تكاليف الحياة (أجور السكن وثمن الشقق)، وزادت في حدة البطالة في سوق العمل. وهذه الهجرة تختلف عن الهجرات السابقة من ناحية تركيبها المهني: فهي تضم قوى بشرية ذات مستوى علمي ومهني عال جداً، وبهذا فإنها تشكل دعماً جديداً للمجتمع الإسرائيلي. لهذا السبب، ونظراً إلى ضخامة حجمها، فهي تكرس وترسخ هيمنة الإشكناز على اليهود الشرقيين وعلى الأقلية الفلسطينية، وتزيد في التناقضات الاجتماعية والثقافية في المجتمع الإسرائيلي. إذ إن هذه الهجرة تتميز عن الهجرات السابقة بأنها ليست هجرة صهيونية – قومية أو دينية؛ فالمهاجرون وصلوا إلى إسرائيل كلاجئين بسبب غياب الخيارات الأُخرى، وهم لا يلتزمون بالمصالح الجماعية والقومية، ويرغبون في التخلص من وصاية النظام والجهاز البيروقراطيين.
بهذا، فإن المهاجرين الروس ينضمون إلى شرائح المجتمع الإسرائيلي الوسطى التي تبدي تذمراً من قوة الدولة ونظامها السياسي والاقتصادي، وتشعر بأن الدول تحد من مبادراتها وحرية حركتها في المجال الاقتصادي وفي تحديد نوع ومستوى الخدمات التي تحصل عليها، وخصوصاً في مجالي التعليم والصحة. وهي قادرة على توفير مستوى أفضل من الخدمات وتمويلها لكن النظام القائم لا يسمح لها بذلك. كذلك تبدي هذه الشرائح تذمرها من إجبارها على تمويل الخدمات ودعم السلع الأساسية للشرائح الدنيا، وخصوصاً الشرقيين. وفي المقابل، فإن هؤلاء يدّعون أن سوء أوضاعهم ناتج من تمييز هذه الشرائح التي تتشكل من الإشكناز ضدهم. كما أن المجتمع الإسرائيلي عموماً أخذ يبدي تذمراً ظاهراً من طريقة توزيع الموارد في الدولة، ولا سيما بسبب حصة المتدينين والكيبوتسات الكبيرة نسبة إلى حجم كل من الطرفين وكذلك التذمر من تمويل الاستيطان في الأراضي المحتلة.
تحول علاقة الفرد والمجتمع والنظام
تفاقمت التناقضات في المجتمع الإسرائيلي في مختلف المجالات والمستويات بفعل التطورات المذكورة أعلاه (الانتفاضة، والنظام العالمي، والهجرة). وقد بدأت التناقضات تظهر بصورة واضحة في علاقة الفرد بالمجتمع والنظام، وفي ظهور جيل القيادة الجديد الذي يحاول نقل المجتمع الإسرائيلي إلى مرحلة جديدة تتميز بالتحرر من الأيديولوجيا والسياسة المثقلة بالأعباء الجماعية. وكانت بداية التحول في حزب الليكود، حيث انتصر السياسي الجديد، الذي يمثل الجيل الثالث في إسرائيل، على القيادات التقليدية المشحونة بتجارب الماضي والمؤمنة بحتمية الصراع الأبدي مع الفلسطينيين والعرب. وقد شكل هذا التغيير قفزة كبيرة من دون المرور في الجيل الثاني من القيادة. ثم حدث تغيير مشابه في حزب العمل تمثل في ظهور مجموعة "الأمراء" الشباب الذين احتلوا أعلى المراكز في جهاز الحزب بسرعة قياسية. لكن قيادة الحزب، وعلى رأسها يتسحاق رابين، استطاعت أن تستوعب ما يجري من تغيير في علاقة الفرد بالمجتمع والنظام وأن تدرك مدى أهمية تخفيف الأعباء عن كاهل الأفراد. من هنا كان قرارها التاريخي بالتوصل إلى حل للقضية الفلسطينية. لكن اقتناع الإسرائيليين بالتوصل إلى حل جذري وعادل لم يتكامل بعد؛ فهم في حالة تناقض بين الحاجة إلى التخلص من الأعباء التي يسببها الاحتلال وبين رغبتهم في السيطرة وعدم اقتناعهم بالاعتراف بالحقوق الكاملة للفلسطينيين. والاتفاقات بين الجانبين تعكس تماماً هذا التناقض. ونجد التناقض نفسه بين الرغبة في تغيير النظام وأنماط العلاقات وبين التخوف من هذا التغيير. لذلك فالتحولات تتميز بالتردد، وبالتقدم خطوة ثم التراجع إلى الخلف مرة أُخرى. وكان أبرز مثل لذلك سن قانون الانتخاب المباشر لرئيس الحكومة بعد انتخابات الكنيست سنة 1992، وتراجع المبادرين إلى سن قانون في الوقت الحاضر محاولين إلغاءه عقب "ثورة رامون" في انتخابات الهستدروت. فانتصار الفرد على الجهاز الحزبي العريق والمتشدد أصبح خطراً على الثقافة السياسية السائدة، ويثير التخوف من التحول السريع. لذلك فإن "الأمراء" الشباب أنفسهم يحاولون وقف التيار. لكن ظاهرة حاييم رامون في حزب العمل ثورة حقيقية في المجتمع الإسرائيلي، وتعكس التغيير الذي يتوق الأفراد إليه، وخصوصاً وضع حد لسيطرة المجتمع والنظام والأجهزة البيروقراطية على الفرد. من هنا، فالمجتمع الإسرائيلي يعيش مرحلة تغير وانتقال. وهذه المرحلة ما زالت في بدايتها، وتتسم بالكثير من التناقضات. إذ إن النخب السياسية والإدارية تحاول التمسك بمراكز القوى التي أوجدتها، والمتمثلة في الأجهزة الحزبية والمؤسسات والشركات الحكومية والشبه حكومية والهستدروت. وإزاءها تقف نخب جديدة شابة تعتمد أساساً على مميزاتها وإنجازاتها الشخصية والفردية، وهي مدعومة بقوى اجتماعية ترغب في التخلص من الأعباء الجماعية والمهمات القومية، وتصارع ضد النظام من أجل إبراز ذاتية الفرد وإنجازاته وحقه في تحقيق سعادته على النحو الذي يحدده بنفسه. وبسبب هذا الصراع، يلاحظ التناقض، في حالات كثيرة، بين أنماط السلوك الفردية المستمرة في التغير وبين أنماط المؤسسات القائمة منذ قيام الدولة، وحتى قبل ذلك.
إن هذا التحول لا يعكس بالضرورة مرحلة جديدة في جوهرها بالنسبة إلى العلاقة مع العدو الخارجي ممثلاً بالفلسطينيين. فانتصار الفرد ومصالحه، وتراجع الأيديولوجيا القومية السياسية لا يعنيان باضرورة تحولاً جذرياً في هذه العلاقة، ذلك بأن المصالح الفردية يمكن أن تتجمع وتتكثف لتشكل مصلحة جماعية في السيطرة الاقتصادية والسياسية، كما هي في كل مجتمع رأسمالي.
الخلاصة
ما زال المجتمع الإسرائيلي يعاني التناقضات والمعضلات عينها التي لازمته منذ إعلان إقامة دولة إسرائيل بسبب طبيعته وتكوينه والظروف المحيطة به. لكن هذه المعضلات أصبحت أكثر حدة وإلحاحاً مما كانت عليه بسبب طول الفترة الزمنية المثقلة بالضغط الخارجي. وقد حدثت في هذه الفترة تطورات كثيرة وتحولات عميقة فيالمجتمع الإسرائيلي أثقلت عليه الأعباء التي لازمته وأضافت أعباء جديدة. ولم يعد في استطاعة هذا المجتمع اللجوء إلى الحلو البراغماتية الموقتة وتأجيل الحسم في قضاياه الأساسية. وهذا الإلحاح لحسم الأمور مرتبط ارتباطاً وثيقاً بشخصية الإنسان الإسرائيلي الذي أنهكته الأعباء الثقيلة الناتجة من تحمل المهمات القومية الجماعية. فهذه الشخصية تتميز عن شخصية الإسرائيليين الأوائل بالفردانية، والميل إلى تحقيق الذات، وتحقيق السعادة الشخصية والمتعة الآنية في الحياة عن طريق الإنجازات الشخصية والإبداع بالطرق والأساليب التي يحددها هو لا الجماعة أو النظام. ولذلك فهو يميل إلى التخلص من عبء المهمات الجماعية، وعبء الدولة وتوجيهها وتحكمها في موارده وقدراته ومصيره. هذه الميول كانت نتيجة للتغيير في القيم الاجتماعية والانسحاب من التصورات السابقة للذات، كجزء من الجماعة، بتأثير الأعباء والمهمات الجماعية. وهي تحتم عليه حل المعضلات الأساسية التي يمكن اختزالها إلى معضلة جوهرية واحدة: الهوية؛ فتحديد الهوية يقرر ماهية الدولة، وأسلوب استخدام الموارد، والعلاقة مع المحيط والعالم الخارجي، ونوع المؤسسات، ومعايير تحديد السياسة الاجتماعية والاقتصادية والسلوك الجماعي والفردي. لكن الإنسان الإسرائيلي ما زال متردداً في خطواته. وهناك نخب منتفعة من النظام وأنماط العلاقات القائمة، وترى مصلحتها في استمرارها. على هذه الخلفية يمكن فهم توجه الإسرائيليين نحو الاتفاق مع الفلسطينيين بحيث يضمن الاتفاق مصالحهم ويخفف من الأعباء التي تثقل كاهل الفرد والمجتمع. وهذا التوجه ليس دليلاً على تغير جوهري في المواقف، وليس دليلاً على الاعتراف بحقوق الفلسطينيين كشعب، بقدر ما هو تخلص من الأعباء التي تنتج من السيطرة عليهم في ظل غياب حلول أُخرى. وهو في حد ذاته يعني رفض سيطرة الدولة على المجتمع، وهيمنة الجماعة على الأفراد، وطمس ذواتهم. إن تحول المصالح الفئوية والشخصية والأفكار والمواقف السياسية، وبحث الفرد عن ذاته يدفعان في اتجاه إخضاع الدولة للمجتمع وإخضاع المجتمع لمصلحة الفرد وسعادته. وتحقيق ذلك يتطلب، قبل كل شيء، التخلص من السبب الذي أنتج الأوضاع القائمة وهو الصراع مع الفلسطينيين.
المراجع*
أبيب، أبيه. "المجتمع الإسرائيلي: مجتمع في مرحلة تبلور". تل أبيب: وزارة الدفاع، الأركان العامة، 1990.
أريان، آشر. "السياسة والنظام في إسرائيل". تل أبيب: زمورا – بيتان، 1990.
رام، أوري (محرر). "المجتمع الإسرائيلي: نظرة نقدية". تل أبيب: بريروت، 1993.
غال، رؤوبين (محرر). "الحرب السابعة: اثر الانتفاضة على المجتمع الإسرائيلي". تل أبيب: الكيبوتس الموحد، 1990.
غولدبيرغ، غيورا. "الأحزاب في إسرائيل: من أحزاب شعبية إلى أحزاب أصوات". تل أبيب – راموت: جامعة تل أبيب، 1992.
هوروفيتس، دان، وليساك، موشيه. "ضائقة الطوباوية: إسرائيل مجتمع مرهق". تل أبيب: عام عوفيد، 1990.
يوفال، شلومو. "النظام في دولة إسرائيل". تل أبيب: عام عوفيد، 1991.
* المراجع كلها باللغة العبرية.