الديمقراطية والمستقبل الفلسطيني
كلمات مفتاحية: 
الديمقراطية
منظمة التحرير الفلسطينية
حركات التحرير الوطني
اتفاق أوسلو 1993
إسرائيل
نبذة مختصرة: 

مقتطفات من وقائع ندوة نظمها في جامعة أكسفورد بتاريخ 19/2/1994 "مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية" بالتنسيق مع "مجلة الدراسات الفلسطينية". وقد شارك في الندوة متحدثون رئيسيون ومناقشون، تناولوا في حديثهم منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها حركة تحرر وطني، وتجربتها في إطار التطورات التي قادت إلى اتفاق أوسلو وما بعده، ومغزى ما يجري حالياً في الساحة الفلسطينية بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني ومستقبله وعلاقته بإسرائيل ومحيطه العربي والدولي. وذلك من زاوية العلاقة بالديمقراطية.

النص الكامل: 

ننشر في الصفحات التالية مقتطفات من وقائع ندوة عن "الديمقراطية والمستقبل الفلسطيني" نظمها في جامعة أُكسفورد، بتاريخ 19/2/1994، "مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية" بالتنسيق مع "مجلة الدراسات الفلسطينية". ومشروع "دراسات الديمقراطية في البلدان العربية" هو مسعى أكاديمي مستقل، تأسس بدافع من الشعور بحاجة العالم العربي إلى منبر متخصص يعمل على تطوير مفهوم وممارسة الديمقراطية في البلاد العربية.

وقد شارك في الندوة متحدثون رئيسيون ومناقشون تناولوا في حديثهم، من زاوية العلاقة بالديمقراطية، منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها حركة تحرر وطني، وتجربتها في إطار التطورات التي قادت إلى اتفاقية أوسلو وما بعدها، ومغزى ما يجري حالياً في الساحة الفلسطينية بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني ومستقبله وعلاقته بإسرائيل ومحيطه العربي والدولي. وأدار النقاش: عزيز العظمة، ورغيد الصلح، وبرهان غليون. 

المتحدثون الرئيسيون:

فواز طرابلسي (باحث لبناني، عضو بارز سابقاً في الحركة الوطنية اللبنانية):

  • الديمقراطية في حركات التحرر الوطنية.

جميل هلال (باحث فلسطيني، مدير دائرة الإعلام سابقاً في م. ت. ف.):

  • عرض وتقويم لتجربة م. ت. ف. بين سنتي 1968 و1991.

يزيد صايغ (باحث فلسطيني، شارك في الوفد الفلسطيني للمحادثات المتعددة الأطراف والمحادثات الثنائية):

  • اتفاقية أوسلو وما بعدها.

عفيف صافية (المفوض العام الفلسطيني في المملكة المتحدة)؛ برهان غليون (أستاذ في جامعة السوربون الجديدة في باريس)؛ خليل هندي (أستاذ في جامعة مانشستر، عضو في مجلس الإنماء والإعمار الفلسطيني):

  • استشراف مستقبل الديمقراطية الفلسطينية. 

 

رغيد الصلح: حضرات الصديقات والأصدقاء، أرحب بكم باسم مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية الذي تأسس في مدينة أكسفورد عام 1991. ومنذ ذلك التاريخ عقد المشروع مجموعة من اللقاءات في القاهرة والرباط وعمان، كما نظم عدداً من ورش العمل في أكسفورد، تناولت قضايا تعزيز الديمقراطية في البلدان العربية وبحث أوضاع الأحزاب العربية والانتقال من الأنظمة المطلقة إلى التعددية السياسية.

إن ورشة العمل التي تعاون على تنظيمها فريق من الأكاديميين العرب المقيمين في أكسفورد بالتنسيق مع "مجلة الدراسات الفلسطينية" تعكس اقتناعاً بالعلاقة الوطيدة بين تكور الديمقراطية في فلسطين وبين مصيرها في الأقطار العربية، خاصة في منطقة المشرق. وهي من هذه الناحية، تنسجم مع نشاط المشروع، المتجه إلى تنمية الدراسات المقارنة بين التجارب السياسية العربية. 

منطق حركات التحرير

فواز طرابلسي: سأحاول التقيد قدر الإمكان بحرفية ما أنا مطالب به، أي حركات التحرر الوطني العربية وموضوع الديمقراطية. ولكن بادىء ذي بدء، أود التمييز بين التعددية والديمقراطية.

اللبس دائم خاصة في ظل النظام العالمي الجديد، حيث طرحت قضية التعددية في مواجهة ما سميت الأحادية في بلدان أوروبا الشرقية. إن التعددية هي أحد عناصر ومكونات الديمقراطية، لكنها لا تختزل الديمقراطية التي تشتمل على عناصر أساسية أُخرى تتعلق، في اعتقادي، بالانتخاب ومراقبة ومحاسبة المسؤولين، وتتعلق بالمساواة السياسية والقانونية على الأقل بين المواطنين، أكانوا داخل الأحزاب أو في المجتمع. لذلك أكرر التحذير من الخلط أو الاختزال الدائم للديمقراطية إلى مجرد التنظيمات السياسية.

نقطتي الأولى تتعلق بمنطق حركات التحرر جميعها، من زاوية العلاقة بهذا التعريف، وهو منطق قائم على التداعي والانتخاب الذاتي، بمعنى أن حركة التحرر تتأسس بأن تتداعى مجموعة من الأفراد للاضطلاع بمهمة تحررية في مجتمع معين بلا إذن وبلا انتخاب من المواطنين، وعادة في ظروف من السرية والقمع. وهذا يؤسس لشرعية لاحقة، وهي شرعية تمثيل مصالح الوطن والأمة في مواجهة أعداء محتملين، وشرعية التضحية والأسبقية في التضحية في هذا الميدان. وكلنا يعرف أن المقاييس هي في البداية أولوية حقوق المؤسسين، بصفتهم من بادر وتحمل، على اللاحقين في حركات التحرر. هناك منطق يجب وضع اليد عليه قبل التصدي لإصدار الحكم. النقطة الثانية تتعلق بالعمل المسلح. إن العديد من حركات التحرر في بلادنا كانت حركات تحرير مسلحة. وللسلاح منطق تراتب تنظيمي لا يخضع لمبدأ الانتخاب والمساواة، لأنه يقوم على الكفاءة المفترضة في العمل العسكري، ويقوم على مقاييس من نوع الجرأة والخبرة العسكرية وتعدد العمليات. وإذا أقمنا صلة بين الديمقراطية وبين حركات التحرر، فإننا نجد منطقاً متعدد العناصر، ليس في الأصل ديمقراطياً، ولا انتخابياً، ونجد شرعيات لاستمرار المسؤولين في ممارسة قيادتهم ودورهم، هي شرعيات الانتخاب الذاتي والتداعي وأسبقيات التأسيس، وأسبقيات العمر النضالي، وأسبقيات السجن، وأسبقيات العمل المسلح. أشدد على هاتين النقطتين لأنهما مدخل واقعي، حتى لا نسقط الديمقراطية كنموذج على كل مطالبة وعلى كل حالة. لقد كان النظام الكولونيالي نظام قمع وغير برلماني، كان نمط الجواب عليه، على شاكلة مادته. إذا كنا نتحدث عن الثورة الجزائرية، أو فلنقل حركة التحرر المسلح اليمنية في جنوب اليمن، وكلاهما أسس نظاماً سياسياً، فإن ما ينبغي قوله، بادىء ذي بدء، هو أن شرعية القيادة مستمدة من العناصر المذكورة. ومقياس نجاح الحركة هو جماهيريتها، هو الإقبال الشعبي عليها، بمعنى أن المواطنين ينتخبون بالمشاركة فيما تقوم به حركة التحرر وبتأييدها. طبعاً الحالة القصوى، إذا أردنا، هي حالة الأحزاب الطليعية. وأود أن أشدد هنا فقط على ما اعتبره الآية المعكوسة في العلاقة بين الطليعة والمجتمع، وهي افتراض الطليعة أن المجتمع جاهل ومريض ومتخلف، وأن الطليعة تحمل النور والوعي والضمير، وهي كفيلة بإعادة صياغة المجتمع. وأعتقد أن هنا يكمن جذر من جذرين رئيسيين للاستبداد من النمط الحزبي، المتميز عن الاستبداد البيروقراطي والاستبداد العائلي. أما الجذر الآخر فهو ادعاء تفسير النص، هو الشرعية الأيديولوجية، وكلاهما مترابط. وهو ادعاء الطليعة صحة تفسيرها لنص أو مجموعة نصوص مقدسة، سواء أكانت هذه النصوص المقدسة علمانية، بمعنى قومية وماركسية، أم دينية، بمعنى إسلامية. وهنا يقاس السلوك، ويقاس الأفراد، بمدى قربهم أو ابتعادهم، خضوعهم أو انحرافهم، عن النص، الذي يؤوله أحبار معينون، كائناً من كانوا، زمنيون أو دينيون. ما أعنيه هو أن الأحزاب من النمط العقائدي ليست تصحيحاً لحركات التحرر المسلحة، بل هي صورة مضخمة لحالتها، لأنها تستمد شرعيتها ليس فقط من الانتخاب الذاتي، وإنما أيضاً من نوع من العصمة الأيديولوجية.

هل يعني هذا أن حركات التحرر ليست مطالبة بأن تكون ديمقراطية، وهل يعني أنها لم تسع إلى نمط من العلاقات الديمقراطية؟ هذا هو السؤال الجوهري. أولاً: في الواقع، اعتمدت هذه الحركات التأييد الشعبي لها، وليس الانتخاب، مقياساً لـ"ديمقراطيتها". ثانياً: لم يمنع هذا عدداً من حركات التحرر، في ذهني مثلاً حركة التحرر الجزائرية، من أن تعيش حالة داخلية من المؤتمرات ملفتة للنظر. وأعتقد أن بين حركات التحرر الوطني المسلحة في بلادنا، كانت الثورة الجزائرية أغناها من ناحية المؤتمرات. طبعاً هذه المؤتمرات كانت داخلية، بمعنى انتخاب الأعضاء لمندوبيهم وليس انتخاب المواطنين لقيادتهم، إلا إنها مع ذلك شكلت نقاط انعطاف وحسم لعدد من الخيارات المتعددة، دون أن تمنع تصفية الخصوم. وأريد أن أشدد في هذا المجال على الصلة بين جماهيرية الحزب أو حركة التحرر وتعدديته وإمكانية الديمقراطية فيه. فعادة تحت ضغط التوسع الجماهيري، تحت ضغط تعدد المصالح التي يمثلها حزب أو حركة تحرر، يزداد الميل إلى القبول بالتعدد، إلى القبول بالاجتهاد، إلى تعدد الخيارات وضرورة النقاش والحوار، وأحياناً التسويات. هذا مدخل أساسي، ولكنه لم يؤد دائماً إلى اعتماد الحوار والمؤتمرات.

يوجد مبرر ومسوغ في معركة ذات طابع عسكري لقمع ومنع الاجتهاد والتعدد وتفادي اعتماد مقادير ممكنة من الانتخاب والديمقراطية في التنظيم الداخلي، أو هذا على الأقل هو اجتهاد القيادة أو القابضين على زمام تفسير النصوص في حركات التحرر. ولكنني أريد أن أشدد على إنه إذا كان هناك منطق مختلف لولادة وتطور ونضال حركات التحرر، فهذا لا يعني أنها في بنيانها الداخلي، في علاقاتها مع جماهيرها – وقد تكون هذه العلاقات أحياناً قمعية، وقد تكون هناك علاقات قائمة على تصفية المتعاونين وعلى إحراق قرى لأنها تعاونت مع جيش العدو.. إلخ – لا يعني هذا أن حركات التحرر في بنيانها الداخلي كانت محكومة بألاّ تكوم ديمقراطية، ولا يعني بالضرورة أنها كانت محكومة بأن تكون علاقتها مع جماهيرها قائمة على مبدأ "أيّدونا ونناضل بالنيابة عنكم"، أو "نقود نضالكم"، حتى لا نبالغ. كما لا يعني أن الهاجس الديمقراطي لم يكن موجوداً، أو لم يكن مضمراً، في عديد من مشكلات وخلافات ونزاعات وانشقاقات الحياة الحزبية العربية خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة.

أنتقل إلى النقطة الأخيرة، التي تتعلق بالانتقال من حركة التحرر، ومن طور التحرير، إلى طور السلطة. أيضاً في ميدان الحديث عن الماضي، إذا كان الحزب يبنى عادة على أنه سلطة صغيرة، بمعنى أنه – كما يعرّفه لينين – جهاز الدولة البديلة المحكوم بتغييره للدولة بالوسائل العنيفة، فإنه ليس حكومة ظل (shadow cabinet)، وإنما هو جهاز معسكر بمعنى ما، لأنه يريد تفكيك السلطة القائمة بالدرجة الأولى بوسائل عسكرية. والشيء ذاته يمكن قوله عن حركة التحرر، لأن حركة التحرر، بهذا المعنى، هي الدولة الاستقلالية في طور التكوين والبديل الذي يعد نفسه لتسلم الحكم. ولكن هذا ليس همي، وإنما همي هو التشديد على نقطة أساسية.

في التجارب التي نعرفها، هناك صلة عميقة بين قرار انفراد حركة التحرر  بالسلطة، وبين قطيعتها عن المجتمع ولاديمقراطية النظام الذي تبنيه، ولاديمقراطية التنظيم الداخلي لتلك السلطة. بمعنى أنه يمكن قياس ما فعلته حركات التحرر داخلها بمقياس أي خيار اتخذته عند استلامها السلطة. في حالتين معروفتين – مثلاً جنوب اليمن والجزائر – كان القرار هو قرار نظام الحزب الواحد القائم على شرعية الحزب الذي قاد النضال الاستقلالي. وأعتقد أن المفارقة موجودة في الحالتين. إن مجرد اتخاذ قرار الانفراد بالحكم هو اتخاذ قرار ببناء نظام استبدادي، بمعنى أن هذا النظام سيقصي ويعاقب ويضطهد أي محاولة لإنشاء تشكيل سياسي آخر، مهما كانت أسبابه ومبرراته، وسيعتبر ذلك تصديعاً للوحدة الوطنية، لأن الفكرة المضافة لفكرة شرعية النضال الاستقلالي، هي اختزال الوحدة الوطنية بوحدانية الحزب الحاكم والسلطة الحاكمة. وأريد الإشارة إلى نتيجتين ملفتتين للنظر في الحالتين اليمنية والجزائرية: الأولى أن هذا كان بدء القطيعة بين الجمهور الشعبي الواسع الذي أيّد النضال وشارك فيه، وبدء انفكاك السلطة عن جذورها، والثانية أن هذا مصدر القمع والانشقاقات داخل حركة التحرر المعنية. وهذا يعني أن الوحدانية هي أقرب طريق ليس فقط إلى القمع ووأد الديمقراطية، وإنما أيضاً إلى خسارة الصفة التمثيلية الجامعة لنزقها في التعاطي مع إمكانية التعدد وإمكانية الحوار ومع المبدأ الانتخابي. وفي حالة من هذا النوع تغلب شرعية الثورة، بمعنى شرعية الحزب الذي قاد الكفاح المسلح، على الشرعية الشعبية، وبمعنى أن هذا النمط من الأحزاب يحكم باسم ماضيه ويبني التراتب داخل السلطة بمنطق الأقدمية في هذا الماضي. وهذه الشرعية مشتركة بين كل أنواع الشرعيات المسماة ثورية، بمعنى أنها تستمد تزكيتها مما فعلته في الماضي وليس مما سوف تفعله في المستقبل. وفي اعتقادي أن هذا الصراع بين شرعيتين هو الصراع الحقيقي بين مقدمات وإرهاصات الاستبداد، ومقدمات ومسارات الديمقراطية، وليس مجرد التعددية، وأظن أنني كنت أقمت علاقة بين غياب التعددية وغياب الديمقراطية. والآن يجب القول إنه إذا كان قرار وحدانية السلطة باسم الشرعية الثورية هو سلفاً قرار بناء سلطة استبدادية، فإن تبني التعددية في السلطة انطلاقاً، أو في المجتمع أو في الدولة الاستقلالية انطلاقاً، هو شرط ضروري وليس كافياًَ للديمقراطية، والشرط الكافي هو تحويل الشرعية إلى شرعية انتخابية دورية، أي إلى حق المواطنين المعترف بهم كمواطنين وليس كرعايا في أن يجددوا التفويض لهذه السلطة أو أن يغيروها بغض النظر عن ماضيها، وبغض النظر عن شرعية ماضيها.

أريد أن أختم بنقطة أعتقد أنها تضيء كل أبحاثنا اللاحقة، وهي تتعلق بالمال. أعتقد أننا – معشر المثقفين – لا نحب الحديث عن الاقتصاد، ونحب كثيراً القيم. في كل تجربة حزبية وفي كل حركة تحرر، يوجد صراع خفي يبدأ في البداية حول من يمسك بالخزينة. وهذا الصراع يقرر بطريقة سرية من يمسك بحركة التحرر المقصودة. أعرف حالات في حركات التحرر بدأ الأمر فيها بتواقيع عديدة بالنسبة إلى الخزينة، وانتهى بالتوقيع الأوحد. ولا أعرف حالة فيها الموقع الأوحد ليس هو الأمين العام، أو الرئيس، أو الحاكم الفعلي للتنظيم. وفي اعتقادي أن هذه هي صورة مصغرة عن الوضع في المجتمعات العربية، بالمعنى الآتي: إن السؤال الكبير بالنسبة للديمقراطية في بلادنا هو مَنْ يعيل مَنْ. هل المجتمع هو الذي يعيل حكامه، الأمر الذي يمنحه حق محاسبة وتغيير الحكام المعالين من الضرائب الشعبية ومن الخزين  المقرّة في مجالس منتخبة، أم أن الحاكم هو الذي يعيل الشعب؟ في النمط الريعي النفطي السائد المعمم على المنطقة وعلى معظم حركات التحرر العربية والأحزاب – إن لم يكن عليها كلها – الآية معكوسة. الحاكم الريعي هو الذي يعيل شعبه، والعلاقة هي علاقة خزينة ريعية في يد أسرة أو فرد أو حزب تقدم أعطيات للشعب. وإذا بحثنا عن الأساس الاقتصادي المادي، عن القاعدة المادية للاستبداد (أنا ما زلت استخدم مصطلحات ماركسية تنتمي إلى الماضي)، فإننا سنجد القاعدة المادية في هذه العلاقة: مَنْ يعيل مَنْ. عندما يصبح هناك مجتمع منتج مسيطر على ثرواته وعلى خزينته بواسطة ممثلين منتخبين وقادر على أن يحدد مصاريف الحكام ومعاشاتهم، فإننا نستطيع عندئذ الحديث عن الديمقراطية. وباعتقادي، إن الحالة الفلسطينية، وهي بالغة التعبير، تمثل صورة مصغرة عن الوضع العربي، وتندرج تحت نفس العنوان، الذي هو مَنْ يعيل مَنْ.

نديم شحاده: توجد مشكلة حسابية في الذي تتكلم عنه. إن القيم ليست منسجمة مع بعضها البعض بالضرورة. عندما تتكلم عن التحرير والديمقراطية والمساواة والحرية، ليس من الضروري أن تكون كلها تكمل بعضها البعض، أو أن تؤدي كل منها إلى الأُخرى. من المعقول جداً أن تكون الديمقراطية ضد التحرير، والتحرير ضد الديمقراطية. ثم إنه يوجد هناك شيء آخر. إذا كان عندك عدة إيجابيات، ليس معنى ذلك أن النتيجة العامة إيجابية. كما أن عدة سلبيات لا تؤدي إلى نتيجة إيجابية. وهكذا مثلاً عندما سألوا غاندي لماذا لا تؤيد النضال المسلح، قال: لأن الذين سيخدمون النضال المسلح، سيحكمون بعد ذلك. وإذا كان هناك أي دور إيجابي للذين يناضلون، فإن ذلك لا يعني أنهم سيكونون إيجابيين في المستقبل. كيف تُجري الانتقال من الماضي إلى المستقبل؟ هذا هو السؤال. كما ينبغي  إجراء نوع من الترتيب للقيم لأن القيم ليست منسجمة مع بعضها بالضرورة. ينبغي أن تكون هناك أولويات فيما يختص بالقيم. 

تجربة م. ت. ف.

جميل هلال: بالطبع لن أتحدث بالتفصيل، وإنما سأطرح مجرد أفكار ومقولات معينة، لأنه من الصعب تلخيص تجربة عمرها ربع قرن في عشر دقائق أو ربع ساعة.

قبل أن أبدأ مداخلتي أريد أن أسجل ملاحظة على النقطة الأخيرة التي دار حولها النقاش، وأقول إنه يوجد فرق بين الشرعية وبين الديمقراطية. يمكن أن تكون هناك شرعية بدون ديمقراطية، ويمكن أن يكون العكس. ومن المفيد تذكر ذلك في النقاش اللاحق.

والآن سأبدأ مداخلتي بقول التالي: الحركة الوطنية الفلسطينية، أو بالأحرى م. ت. ف.، تعيش الآن مأزقاً مركباً – تعيش إشكالية ديمقراطية، تعيش إشكالية شرعية وتعيش إشكالية استراتيجية، وكلها مترابطة بعضها مع البعض. ومن هنا المأزق الفعلي في المرحلة التاريخية التي نمر فيها، والذي يختصره خبر ترونه في الصفحات الأولى من جرائد اليوم: اتفاق استخباري بين منظمة التحرير وإسرائيل.

أريد أن أطرح، بشكل سريع وبومضات خاطفة، ملاحظات على أربعة محاور، لتناول مراجعة تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية، أو تجربة منظمة التحرير الفلسطينية. المحور الأول يخص نمط نشوء م. ت. ف. وبنيتها. المحور الثاني يخص علاقة المنظمة بالمحيط العربي. المحور الثالث يتعلق بتأثير المتغيرات الإقليمية والدولية على الواقع الفلسطيني وواقع منظمة التحرير. والمحور الرابع يتعلق بإشكالية صياغة استراتيجية فلسطينية.

بالنسبة للمحور الأول، الذي هو الإشكالية التكوينية البنيوية لمنظمة التحرير، أقول باختصار شديد إن المنظمة، أو المقاومة بأجهزتها ومقراتها وكوادرها، تركزت في الخارج، وإنه كان لهذه الظاهرة تأثير حاسم، إذ ترتبت على هذه الإشكالية الإشكاليات التالية: أولاً – نشأت إشكالية بين داخل وخارج، وهذه الإشكالية ما زالت مستمرة في الواقع الفلسطيني، وخلقت مشكلة بين داخل وخارج ظهرت وتظهر في كثير من الأشكال. ثانياً – هذه الإشكالية سمحت بنمو بيروقراطي واسع داخل المنظمة وداخل فصائلها، أو بالأحرى سهلت ذلك. ثالثاً – خلقت توتراً دائماً بين المنظمة والمحيط العربي الرسمي.

هذه الإشكاليات ترتبت على الظاهرة الأبرز التي هي تمركز منظمة التحرير في الخارج، وأعني بذلك في الدول العربية المحيطة، وعدم نجاحها في التمركز في الداخل. رغم ذلك، في خلال الستينات أو أواخر الستينات والسبعينات تمكنت المنظمة من انتزاع شرعية شعبية. وهذه الشرعية الواسعة التي اكتسبتها شعبياً على الصعيد الفلسطيني، وربما على الصعيد العربي كذلك، استندت إلى التالي: أولاً – اعتمادها على الكفاح المسلح. وهنا أؤكد النقطة التي طرحها فواز أن هذا كان مصدراً هاماً من مصادر الشرعية التي اكتسبتها منظمة التحرير، خاصة وأنها لجأت إلى هذا الأسلوب بعد هزيمة 1967، مميزة بذلك نفسها عن الدول العربية التي فقدت كل مصداقية. ثانياً – أنها بدأت تجسد استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، وبالتالي الهوية الوطنية الفلسطينية. ثالثاً – وهذا ما قد يكون أمراً نادراً في حركات التحرر، تمكنت من أن تربط الشعب الفلسطيني ببعضه البعض، وبالتالي من أن توحد الشعب الفلسطيني الذي يعيش في تجمعات مختلفة، وفي أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية مفتتة، وفي أوضاع قانونية متباينة. ويعني ذلك، إذا كنا سنتكلم بلغة ماركسية، أن البناء الفوقي أوجد بناءً تحتياً. وكان هذا أحد المصادر الهامة في إرساء شرعية م. ت. ف. طبعاً يأتي بعد ذلك الاعتراف الدولي والعربي الواسع بعد العام 1974، وصياغة البرنامج المرحلي الذي نقل المنظمة من الشعار العام إلى شيء من الملموسية في تحديد برنامج سياسي تمكن من استقطاب الداخل الفلسطيني ومخاطبة مصالحه من دون أن يفقد في نفس الوقت القدرة على تعبئة الشعب الفلسطيني في الشتات.

لكن التمركز في الخارج أوجد برأيي معضلة استراتيجية بقيت قائمة حتى اندلاع الانتفاضة، وهي: في ضوء توازن القوى المختل بين الفلسطينيين وإسرائيل، كيف يمكن لمقاومة من الخارج بوسائل بدائية أن تغير في ميزان القوى بحيث تقترب من إنجاز البرنامج الذي تحمله، البرنامج السياسي الذي يهدف إلى الاستقلال. هذا سؤال استراتيجي لم تتمكن المنظمة من الإجابة عنه. وعندما جاءت الانتفاضة لتجيب ولو بشكل بدائي عن هذا السؤال، وقفت المنظمة مشلولة أمام إمكانية تطوير الانتفاضة والتعاون معها من أجل خلق معادلة جديدة تحل الإشكال بين الداخل والخارج وتعطي جواباً، ولو أولياً، عن هذا السؤال الاستراتيجي، بل بالعكس، فشلت المنظمة في التكيّف مع متطلبات الانتفاضة من حيث التجديد الديمقراطي لبنيتها، ومن حيث تطوير أساليب عملها، ومن حيث استراتيجية ملموسة وحل إشكالية العلاقة بين الداخل والخارج. وقد تعاملت م. ت. ف. مع الانتفاضة بنفس بيروقراطي سلطوي أدى إلى تراجع السمتين الهامتين للانتفاضة، وهما سمة الجماهيرية وسمة الديمقراطية، وأدى ذلك إلى بقرطة الانتفاضة وتحويلها إلى ظاهرة فصائلية، وليس إلى ظاهرة شعبية ذات أبعاد ديمقراطية.

النقطة الثانية التي أحب أن أمر عليها بشكل سريع هي ظاهرة النمو البيروقراطي الواسع داخل م. ت. ف.، وتوجد برأيي عدة أسباب تجمعت وتفاعلت لتخلق هذه الظاهرة بشكلها الساطع. السبب أو العامل الأول هو سيادة نزعة عسكرية مفرطة لها علاقة بنشوء المنظمة والنزعة التي حولت العمل الفدائي من مجموعات صغيرة من الأفراد بسلاح بسيط، تقوم بعمليات في القشرة وفي الداخل، إلى وحدات عسكرية نظامية أو شبه نظامية. العامل الثاني هو الانخراط القسري للمنظمة وفصائلها في الحرب الأهلية اللبنانية، الذي دفع م. ت. ف. إلى التجييش، وأعني بذلك إلى بناء وحدات نظامية بأعداد كبيرة (أتكلم هنا عن آلاف من الأفراد الذين انخرطوا في صفوف وحدات عسكرية). العامل الثالث هو المساعدات العسكرية والمساعدات المالية الكبيرة من الدول النفطية للمنظمة التي وفرت إمكانيات للتفريغ والمكاتب والمقرات.. إلخ. العامل الرابع هو التنافس الفصائلي السلبي الذي ساد، بحيث أصبحت كل مؤسسة وكل هيئة وكل وظيفة تتكرر عند الفصائل، من السجون، إلى القوات، إلى الروضات، إلى المجلات وأدوات الإعلام.. إلخ. العامل الخامس هو اعتماد أسلوب التفريغ كأسلوب في التعبئة السياسية بدلاً من اعتماد العمل السياسي التطوعي كمدخل أساسي، وبدلاً من بناء المنظمات الديمقراطية والشعبية والمجتمع المدني كمدخل للتعبئة السياسية. العامل الأخير يتعلق بالعلاقات المتميزة التي أقامتها منظمة التحرير مع الاتحاد السوفياتي، والتي كان لها جانب سلبي، لأنه ترتب عليها آلاف من البعثات والزيارات إلى الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية الأُخرى، التي كانت نماذج ساطعة للدول المبقرطة، ولبع الإعجاب بها دوراً في التخفيف من حدة الانتقادات التي يمكن أن تتولد ضد التضخم البيروقراطي الذي بدأ يطبع الحياة الداخلية لمنظمة التحرير بطابعه. وكل هذا جاء على أرضية غياب تشكيلة مجتمعية موحدة للشعب الفلسطيني. هناك تجمعات، ولكن لا يوجد مجتمع. هناك شعب، ولكنه بدون مجتمع. وهذا يعني أن منظمة التحرير لم تكن خاضعة لرقابة وتفاعلات مجتمع متكون. بل بالعكس، إن الذي خلق مجتمعات في الخارج، أو بالأحرى حاول أن يخلق مؤسسات مجتمع مدني، هو المنظمة نفسها (المنظمة هي التي شكلت في المخيمات لجاناً شعبية، وعملت على تأسيس نواد ومنظمات شعبية ونسائية.. إلخ، وليس العكس). ربما كان الوضع مختلفاً في الداخل، ولكن تأثير الداخل على بنية وتطور منظمة التحرير بقي محدوداً جداً.

وهناك أيضاً نظام الكوتا الذي ساد في العلاقات بين الفصائل، وأعتقد أن الجميع يعرفون ما المقصود بذلك. لقد أصبح مسؤولو الفصائل هم من يقرر الخط السياسي بكل ما يعنيه ذلك من تدوير الزوايا ومن غموض.. إلخ، ومن يحدد عضوية وتركيب الهيئات والمؤسسات الوطنية. وبين هذه الخطوة وخطوة الاستفراد بالقرار لا توجد، بالطبع، مسافة طويلة. وما يقال عن الفردية والاستفراد والاستبداد.. إلخ. بات الظاهرة الأبرز الآن بعد ما شاهدناه في أواخر الثمانينات والمرحلة الأخيرة.

وأعتقد أن الخروج من لبنان عمّق الأزمة البنيوية، لأن المنظمة فقدت بذلك مقداراً كبيراً من الاستقلالية السياسية والتنظيمية التي وفرتها لها الساحة اللبنانية، لأسباب نابعة من الوضع في لبنان، أبرزها انهيار الدولة من ناحية، ووجود حركة وطنية لبنانية نشطة في السبعينات والثمانينات من ناحية أُخرى.

إشكالية العلاقة بين المنظمة والوضع العربي الرسمي سأتطرق إليها باختصار شديد:

  • المنظمة وضعت نفسها بسبب وجودها في الخارج تحت أحكام الوضع العربي الرسمي.
  • الأنظمة تعاملت مع منظمة التحرير وفصائلها من منطلق أمني بحت، أي من منطلق تأثير وجودها على استقرار الوضع الداخلي للنظام نفسه. ومن هنا الصدامات التي حدثت تقريباً مع كل الأنظمة التي تواجدت على أرضها مقرات منظمة التحرير.
  • شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية ربما كان صحيحاً تكتيكياً لكنه استخدم من قبل الأنظمة للتدخل في شؤون المنظمة، وشجع توجهات في المنظمة لإعطاء الأولوية للعلاقة مع الأنظمة، بدلاً من إعطاء الأولوية للعلاقة مع القوى الديمقراطية والشعبية العربية. ولبنان كان الاستثناء، بسبب استثنائية الوضع اللبناني.

وإذا نظرنا إلى اتفاق أوسلو، فسوف نجد أنه يجسد بالفعل، وبشكل درامي، أزمة العلاقة بين المنظمة وبين الأنظمة العربية. تسعة شهور والمنظمة تتفاوض سراً مع إسرائيل من دون أن يدري أحد من شركائها في المفاوضات بذلك، وأعتقد أن لهذا علاقة بالخلفية التاريخية المتمثلة في العلاقة التي بنيت خلال عقدين من الزمن بين الدول العربية والمنظمة. ولا أقول هذا تبرئة للمنظمة، وإنما لمحاولة فهم لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد.

فيما يتعلق بالمتغيرات الإقليمية والدولية، فإنه كان لها بالطبع أثر كبير على كل الوضع العربي وعلى كل المنطقة، لن آثارها بالنسبة لمنظمة التحرير  وبالنسبة للوضع الفلسطيني كانت أكثر مباشرة وأشد وقعاً. إذا نظرنا إلى الفترة من حرب الـ 1967 حتى حرب الخليج الثانية، نجد أن كل ما حدث كان له تأثير مباشر وقوي على م. ت. ف. (حرب 1967، حرب 1973، اتفاق كامب ديفيد، حرب 1982، انهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة، حرب الخليج).

إذا أخذنا حرب لبنان، مثلاً، نجد أن وضع ودور الجالية الفلسطينية تغير كلياً. وإذا أخذنا حرب الخليج الثانية، مثلاً، نجد أن جالية بالكامل في الكويت اختفت. وما حصل، من الناحية الفلسطينية، هو أن المساحة السياسية التي استندت إليها منظمة التحرير في التعبئة السياسية قد تقلصت خلال الثمانينات وبداية التسعينات، وأن الجالية الفلسطينية في لبنان أصبحت تعيش مشكلات أمنية ومعيشية صعبة جداً، والجالية الفلسطينية في الكويت التي كانت تمد منظمة التحرير والداخل بدعم مالي اختفت تقريباً. وحتى في الأردن، أعتقد أن الانفتاح الديمقراطي الذي حصل في سنتي 1989 و1990 عقّد علاقة م. ت. ف. مع فلسطينيي الأردن، إذ لم يعد بإمكان م. ت. ف. القيام بالتعبئة السياسية المباشرة نظراً لأنه أصبحت هناك احزاب وقوى ديمقراطية وبرلمان... إلخ. وهذه أمور مهمة من زاوية قدرة المنظمة على التعبئة السياسية، وقدرة الجاليات الفلسطينية في الخارج على التأثير في م. ت. ف.

النقطة الأخيرة، وأيضاً بكلمات سريعة، تتعلق بإشكاليات صياغة استراتيجية فلسطينية متكاملة. إذا تطلعنا إلى ربع القرن الأخير، نجد أن انقلاباً جذرياً قد حدث في الشعارات التي رفعتها المقاومة. فقد انتقلت هذه الشعارات من التحرير الكامل وبناء دولة ديمقراطية علمانية على كل التراب الفلسطيني إلى حكم ذاتي محدود على الضفة الغربية وغزة. وهذا خلال ربع قرن فقط، أي أن نفس الجيل الذي كان يحمل الشعار الأول أصبح الآن يحمل، أو يدافع عن، أو يُفرض عليه، الشعار الثاني. كما انتقلت م. ت. ف. من الكفاح المسلح، كأسلوب وحيد، وكاستراتيجية وحيدة (الميثاق يقول هكذا، إنه ليس أسلوباً فقط وإنما استراتيجية) إلى المفاوضات بصفتها أسلوباً وحيداً واستراتيجية وحيدة. وقد ذكرت العوامل التي خلقت، في اعتقادي، هذا المأزق الاستراتيجي، وهي مرة أُخرى بإيجاز: بنية المنظمة، أسلوب عملها، عزلتها عن المجتمع الفلسطيني، العلاقات المتوترة الدائمة المحيطة في العالم العربي، فقدان قدرة كافية على طرح مبادرات.. إلخ.

أعتقد أن الأزمة الراهنة أزمة مركبة، وأريد أن أؤكد أخيراً على أهمية المؤسسات. بدون مؤسسات، من الصعب الحديث عن الديمقراطية، حتى لو توفرت القيم، وتوفرت الانتخابات الداخلية أيضاً. ليس المهم فقط أين يؤخذ القرار، بل ايضاً من يأخذ القرار. مشكلتنا الآن في الوضع الفلسطيني هي أنه لا توجد هناك مؤسسات. القرارات تؤخذ خارج المؤسسات، خارج اللجنة التنفيذية، خارج المجلس الوطني، خارج المجلس المركزي، وما تشاؤون من المؤسسات. وهنا أزمة الديمقراطية، إذا أردنا التحدث عنها بشكل ملموس، وهنا الأزمة بالنسبة للشرعية. كما أنه لا توجد الآن لمنظمة التحرير أية استراتيجية. ماذا تريد من المفاوضات؟ كيف تريد أن تبني دولة؟ كيف ستكون علاقتها مع إسرائيل؟ علاقتها مع الدول العربية؟ كل هذا متروك لردات فعل بدون أية استراتيجية تستطيع أن تعبىء حولها أولاً شعبها، وثانياً محيطها العربي.

أحمد خليفة: في الحقيقة أريد أن أتناول النقاش من عند آخر شيء ذكره جميل هلال، ثم بعد ذلك أعلق على شيء في ما سبق. لقد قال إن المشكلة الأساسية هي أنه لا يوجد عندنا مؤسسات، وأن أزمة الديمقراطية لا يمكن أن تحل إلا إذا تم بناء مؤسسات. أنا أقول إن المشكلة والأزمة الحقيقية هي أنه ليس عندنا، لا عند النُخب ولا حتى عند الناس، إيمان عميق بالديمقراطية أو بأن الديمقراطية هي التي يمكن أن تكون الحل بالنسبة لمشكلة الحكم في البلدان العربية. الديمقراطية في الخمسينات والستينات وجزء كبير من السبعينات، مثلما خبرنا الأمر سياسياً، ومثلما انعكس الأمر أيضاً في الفكر السياسي المتداول آنذاك، لم تكن قيمة عليا في الحقيقة. كانت هناك أهداف وطنية وقومية.. إلخ، ولكن نادراً ما كانت هناك كتابات تؤكد على هذه الناحية. وإذا كنا نريد أن نناقش المستقبل بعمق، فيجب أن نطل بعمق على الماضي.

نحن تكلمنا عن حركات التحرر الوطني من أجل أن نكون واعين أن م. ت. ف. هي حركة تحرر وطني، وبالتالي يسري عليها ما يسري على حركات التحرر الوطني. وإذا كان أداؤها فيما يتعلق بالديمقراطية غير مقنع، فإن هذا هو شأن حركات التحرير الوطنية كلها. والسبب الرئيسي الذي ذكره فواز من أجل أن يفسر لماذا لم تكن حركات التحرير الوطنية ديمقراطية، ولم يكن من الممكن أن تكون ديمقراطية، هو أنها كانت مواجهة بقمع شديد من المستعمر تطلّب أسلوباً معيناً لمواجهته، يقوم على اضطرار للعمل سراً، اضطرار لتنظيم محكم، اضطرار لاستخدام السلاح. وهذه كلها بطبيعتها من الصعب أن تنسجم مع الديمقراطية. وفي رأيي إن م. ت. ف. لها خصوصية، وخصوصيتها أنها حركة تحرير وطنية لم تنشأ على أرضها. بعد احتلال الـ 1967 أصبح يوجد محتل إسرائيلي، إنما نشأة م. ت. ف. هي نشأة في الخارج. وظروف القمع الشديد التي واجهتها حركات التحرير التي اضطرت أن تقاتل على أرضها لم تكن هي ظروف نشأة م. ت. ف. عندما تكونت. وأحب أن أقول إن م. ت. ف. في صيغتها الأولى، ولدت باتفاق عربي، وكانت علنية، ولم تكن مضطرة لما اضطرت إليه حركات التحرير الوطنية الأُخرى، وكان بإمكانها أن تكون ديمقراطية لو كانت الديمقراطية خياراً سائداً. وم. ت. ف. التي نعرفها الآن، والمشكّلة من الفصائل، فيها فصائل متحدرة من أحزاب نشأت خارج فلسطين ولم تكن تهدف إلى التحرير بعمل مسلح تقوم به هي نفسها، ومع ذلك ولدت هذه الأحزاب حركات سرية تتمتع بنسبة قليلة جداً من الديمقراطية بالمحصلة. وفي رأيي أنها استوردت نماذج جاهزة للعمل النضالي غلب عليها نموذج التجربة البلشفية: الحزب الحديدي والمركزية الشديدة. وعندما تحولت هذه الأحزاب إلى فصائل في المقاومة، ظلت متمسكة بالتنظيم الحديدي، رغم أن الظروف كان يمكن أن تسمح لها بقدر من الديمقراطية أكبر مما مارسته فعلاً.

فواز طرابلسي: أحب أن أبدي بعض الملاحظات وأرجو أن لا يساء فهمها. في كل مرة، في كل مشاركة في ندوة عن الديمقراطية، عندي شعور بأننا نبدأ من شيء جديد، لم نكن نألفه سابقاً، ونفسر كل ما هو سابق عليه بمنطق لماذا كان هذا الشيء الجديد غائباً، وأحياناً نسميه أزمة الديمقراطية. في رأيي إنه يوجد ظلم أكثر من اللازم لأنفسنا ولتجربتنا ولتاريخنا في هذا التمرين الفكري.

دعوني ألعب دور محامي الشيطان وأقول من نديم شحاده إنه يوجد تعارض بين الديمقراطية والتحرير. ودعوني أقول قبل ذلك شيئاً. لا يمكن تفسير التاريخ، لا يمكن تفسير الماضي، بالحاضر أو بالمستقبل، نعم يوجد تعارض بين التحرير والديمقراطية. وأنا، بصفتي ساهمت في مثل هذه الحركات خلال الثلاثين سنة السابقة، لم يكن رأيي قبل ثلاث سنوات، وأعرف أن كل الحاضرين الآن هنا لم يكن رأيهم، فيما يخص الديمقراطية، هكذا. والشيء الثاني هو أن ما فعلناه لا يقاس فقط بمقياس الديمقراطية. الحروب لا تنتج ديمقراطية. ونحن نحكم من مقياس نتاج تاريخي على كل التاريخ. وهكذا في رأيي سقطة تضيعنا وتخرجنا من الموضوع الفعلي. وفي رأيي إن حركات التحرير لا يمكن قياسها بمقياس هل كانت ديمقراطية أم لا. هذا شيء يرجعنا دائماً إلى الوراء. فلنرجع إلى البداية. أحمد خليفة يقول إن حركة التحرير الفلسطينية بدأت في الخارج. لماذا نقول أنها بدأت في الخارج ولا نفسر؟ لنتكلم بوضوح – بدأت في الخارج لأن أكثرية الشعب كانت في الخارج. ومن وحي الذي يقوله جميل ينتج أن كل شيء غلط. المشكلة، إذا أردنا أن نتكلم بوضوح، هي أننا نتكلم عن شعب، الجانب الأساسي في نمط الاستعمار الذي تعرض له هو جانب إجلائي، مجتمع حل محله مجتمع وليس آلة قهر واستغلال اقتصادي، وأكثرية سكانه موجودة عند جيران عرب يطرحون دائماً السؤال: ما هي العلاقة بين النضال الفلسطيني والقضية الفلسطينية وسائر القضايا العربية. وإذا كنا نريد أن ندخل إلى الموضوع الفلسطيني من مدخل واقعي، فليس السؤال الوحيد هو سؤال الديمقراطية. إن التحرير أيضاً قيمة اجتماعية أساسية، وقد تكون، في كثير من الحالات، متعارضة مع الديمقراطية. السؤال الأساسي، في رأيي، هو كيف الانتقال إلى وضع ما، وما هي الكلفة، وما هي الخيارات، وعلى حساب ماذا تتم. مشكلتنا أننا نريد دائماً كل شيء. نريد العدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني، والاقتصاد الوطني، ونريد الوحدة العربية، ونريد الديمقراطية في نفس الوقت. أنا أقترح منهجياً الآتي: إذا كنا سنتكلم عن جزء من الوطن العربي وعن الشعب الفلسطيني، فيجب أن يبدأ الموضوع بالخصوصيات البديهية المتعلقة به، وبتاريخ حقيقي لا يجعل هذا التاريخ عنوانه غياب الديمقراطية. ممكن أن يقال لي إن هناك أمكنة كان فيها خيارات أُخرى. وممكن أن يقال لي إن العمل المسلح خطأ. ولكن لا أحد عنده تجربة بالعمل  المسلح يمكن أن تقنعه بأنك تستطيع أن تجري انتخابات في الوحدات الفدائية. مثلاً، جرى بناء تشكيلات عسكرية. جميل يتكلم عن ذلك وكأنه غلطة، كأنه أحد عناصر البيروقراطية. لماذا؟ حركات التحرير تبني جيوشاً، تبدأ بمجموعة مقاتلين وتنتهي بجيش. الجيش بيروقراطي، والمثل الوحيد لجيش شعبي هو المثل الذي لا نقدر أن نكرره، المثل الصيني، الذي هو قارة يوجد بها مليار إنسان.

بإيجاز أقترح أن نأخذ بعين الاعتبار عنصر الزمن، وأن التحرير له منطق لا يُحاسَب فقط بمنطق الديمقراطية، وإنما يحاسَب بمنطق التحرير.

برهان غليون: أنا أعتقد أنه ينبغي أن نرجع لقليل من المنهجية لنتقدم بالكلام. إن موضوع النقاش اليوم هو: الديمقراطية في الحركة الوطنية الفلسطينية. طبعاً، هدف الحركة الوطنية الفلسطينية ليس بناء الديمقراطية، هدفها تحرير فلسطين. لكن هذا لا يمنع أن تكون هناك مناقشة للموضوع ضمن إطار هذه الحركة. النقطة الثانية، نحن لا نتحدث عن م. ت. ف. هذه هي إحدى المؤسسات التي حاولت فصائل حركة التحرير أن تستخدمها لأجل أن تؤطر نفسها. نريد أن نفهم تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية من الناس الذين عاشوها. هل هي ديمقراطية؟ هل هي رجعية؟ هل هي استبدادية؟ نريد أن نفهم من الذين عاشوا داخل المنظمات – هل كان هناك فيها حد أدنى من اتخاذ قرار ديمقراطي، من العلاقات المعقولة بين القيادة والقاعدة؟ وبالنسبة لـ م. ت. ف.، هل نجحت عندما انتقلت الفصائل إليها أم فشلت؟ لقد كانت م. ت. ف. إطاراً جديداً لصنع جبهة، وإحدى الإيجابيات في م. ت. ف. أنها استطاعت أن تجمع الفصائل المتعددة وتمنعها من الصدام باستمرار فيما بينها، أو من أن تصفي بعضها البعض. هل ساهمت م. ت. ف. كإطار جامع في تأكيد حد أدنى من التعاون والتبادل والحوار بين المنظمات، أم كانت وسيلة لهيمنة فتح على الفصائل الأُخرى؟

وفيما يتعلق بالجمهور، أي المستوى الثالث، هل كان المجلس الوطني الفلسطيني مجرد صيغة سخيفة، لم تؤثر إطلاقاً على السياسة الفلسطينية ككل؟ أم كان له وزن ما في تمثيل بعض الحساسيات وبعض المصالح الوطنية.. إلخ. وهنا أريد أن أرجع إلى فواز وجميل، هل هذه المؤسسات التي عملت داخل المنظمات أو م. ت. ف. نفسها – المجلس الوطني الفلسطيني والمؤسسات الأُخرى – ما زالت مستمرة، أم إنها انهارت، أن إنها فقدت قدرتها على العمل؟ وإذا كانت انهارت أو فقدت قدرتها على العمل، ما هي العناصر التي سمحت بتجاوزها أو بتحييدها؟

أعني أنه يهم المرء، قبل أن تتخاصموا فيما بينكم، أن يسمع الوقائع التي تثبت فيما إذا كانت الممارسات داخل الحركات والمنظمة والمجلس الوطني صفراً ولا قيمة لها، أم أنه كان لها قيمة، وهي تفسر لماذا استطاعوا أن يخلقوا من شعب مشتت في عدة دول، جزء منه تحت الاحتلال، من أناس تكونوا في بيئات مختلفة، حركة عمرها فعلاً 25 سنة. لم يكن سهلاً، وكان تحدياً كبيراً، أن تخلق حركة تعيش 25 سنة، وأن تجمع هذا الشتات. يجب ألا نستسهل كثيراً التجريد والقول إن كل حركات الوطنية مثل بعضها، وألا نستسهل كثيراً القول إن المؤسسات التي بنيت خلال 25 سنة، لا قيمة لها، ولا تستحق أن ننظر في طبيعة أمرها، وكيف كانت تعمل. هذه باعتقادي يجب أن تكون موضوعات النقاش.

يوسف شويري: أريد أن أوضح شيئاً ورد في كلام فواز وجميل وبرهان، وهو الارتباط بين الشرعية والديمقراطية. أنا في تصوري أنه لا يجب النظر إلى مسألة الشرعية وكأنها مسألة ثانوية وليس لها أهمية، فواز مثلاً قال إن هناك طريقتين لاكتساب الشرعية: طريقة تفسير النص، ومن هو أولى بتفسير النص، ويمكن أن نأخذ ميشال عفلق كنموذج لذلك، حيث إنه اكتسب شرعية عبر مواصلة تفسير النص وإثبات أنه المرجع في تفسير هذا النص؛ وطريقة الممارسة، ويمكن أن يكون عبد الناصر نموذجاً لذلك، حيث إنه أخذ شرعيته مما أنجزه، أو ما حاول إنجازه، وبغض  النظر عن تفسيره للنصوص. ما قبل هذين النموذجين، كان عندنا شرعية أُخرى، يمكن أن تسمى شرعية طبقة الأعيان أو أولاد العائلات. وهذه الشرعية مرتبطة بأذهان جيلنا خاصة بالليبرالية والديمقراطية في العالم العربي، إذ إنه في سنوات الأربعينات والخمسينات كان هناك نوع ما من الديمقراطية وتعدد الأحزاب والانتخابات، وتم أكثر هذه الأمور في ظل أولاد العائلات وطبقة الأعيان. بعد ذلك نشأت شرعيات أُخرى. كما أنه توجد شرعية رابعة تنشأ الآن، ويمكن أن نسميها شرعية سد الفراغ، والحركات الإسلامية هي نموذج لهذه الشرعية. الشرعيات السابقة لها فشلت بشكل أو بآخر، ونجم فراغ عن هذا الفشل، والحركات الإسلامية تحاول أن تسد هذا الفراغ. ولكن هذه الشرعية قد تكون شرعية سلبية وليست إيجابية. أما أبو عمار فلا أستطيع أن أضعه في أي من هذه الشرعيات، وقد يكون فريداً في نوعه.

في رأيي، إن تبخيس تجربة م. ت. ف.، والنضال الفلسطيني، يسيء ليس فقط إلى الحركة الفلسطينية، بل وأيضاً إلى النضال العربي ككل، وبغض النظر عن كيف كانت الممارسة. لكن أنا أعتقد أنه ليس صحيحاً القول إنه كان يوجد غياب مؤسسات. كل من تابع الحركة الفلسطينية خلال عشرة أو عشرين عاماً يعرف أنه كانت هناك مؤسسات. وثانياً، لا أعتقد أن الاحتجاجات الفردية، التي مفادها أن شخصاً واحداً هو الذي يأخذ كل القرارات، تفيد الحركة الفلسطينية، لأننا يجب أن نعي مسألة الشرعية. إذا كان هناك شخص لديه شرعية، أو مؤسسة لديها شرعية، فيجب أن تتبع أسلوباً غير أسلوب الاحتجاج والمناشدة.

المسار السياسي العربي يؤكد أنه لا يفرز ديمقراطية، وإنما يفرز شيئاً آخر. والحركات الإسلامية هي نموذج على هذا الشيء. ويجب أن نعي أن الشرعية لا تنشأ بين ليلة وضحاها، بل تبنى على برامج وعلى نضال وعلى تفكير.. إلخ.

جميل هلال: أريد أن أعلق على ما قاله فواز. أولاً، أنا غير مقتنع ان هناك تعارضاً جازماً ودائماً بين الديمقراطية والتحرير. هذه نظرية قدرية غير صحيحة، وعندنا مثل فلسطيني، وأكثر من مثل فلسطيني، يدلل على أنها غير صحيحة. فالانتفاضة أفرزت، ولو لفترة قصيرة، لجاناً شعبية استمرت عاماً تقريباً، ومارس الناس من خلالها الديمقراطية وقاوموا الاحتلال، والذي تدخل ليحبط هذه التجربة هو بيروقراطية الخارج. وبالنسبة للعمل العسكري، أنت تنظّر دون أن تأخذ بالاعتبار خصوصيات الوضع الفلسطيني. جيش التحرير الفلسطيني – كم عملية يقوم بها في السنة؟ يوجد 20 ألف شخص تحت اسم جيش التحرير الفلسطيني، ومنذ نحو عشرين سنة وهؤلاء لا يمارسون أي دور عسكري. هذه بيروقراطية، وأثقلت على الوضع الفلسطيني. أنا لم أختزل البيروقراطية فقط في التجييش. ذُكرت من ضمن عشرين نقطة، منها التفريغ، ومنها المركزية الشديدة، ومنها أموال الخليج.. إلخ. والبيروقراطية لا تنبع كلها من أسباب ذاتية، وبعضها ينبع من أسباب موضوعية. إلى ماذا نريد أن نصل هنا؟ ما أريد أن أفسره الآن هو لماذا هناك انفضاض عن م. ت. ف. وفصائلها، ولماذا هناك الآن شيء اسمه "حماس" يمثل قوة سياسية جماهيرية. أريد أن أفسر هذا تاريخياً. أنا لا أقول إن الديمقراطية جيدة أو سيئة، ولم أختزل المسألة بالديمقراطية، وتعمدت من البداية أن أفصل بين الديمقراطية وبين الشرعية. وعددت لماذا تمتعت م. ت. ف. بشرعية حتى أواخر الثمانينات. أنا لم أفهم وظيفة هذا الاجتماع، أن نعدد السلبيات والإيجابيات، أو نقدم كشف حساب بما هي السلبيات وما هي الإيجابيات. نحن هنا لنجيب على أسئلة، وأنا من الناس الذين عاشوا هذه التجربة. ولم نكن دائماً نشكو من غياب الديمقراطية – أحياناً كنا وأحياناً لم نكن. في حصار بيروت، لم يكن من المعقول أن نطلع بـ"مانشيتات" في الجرائد: نريد الديمقراطية تحت القصف". كان كل الجهد للصمود، وكان هذا موقفاً صحيحاً؛ ولكن بعد بيروت، لم يعد هناك قصف. وأنا كنت موجوداً في تونس، وكانت المؤسسات تجتمع، وتلتقي، وتناقش وتحاور، ولكن بعد ذلك، هذه المؤسسات تراجعت. والآن توجد مؤسسات ولكنها تغيّب عن قصد. القرار يؤخذ خارج المؤسسات. الذين يأخذون القرار الآن هم ثلاثة أو اربعة، قد لا يكونون هم نفس الأشخاص دائماً، ولكن يوجد واحد منهم ثابت، والكل يعرف من هو. في النهاية القرار المالي بيده، والقرار السياسي والدبلوماسي بيده، والآن أصبحت المفاوضات مباشرة في يده. والخشية أن يتحول هذا إلى حكم فرد واحد.

فوزية الفلكي: عندي ملاحظتان في الواقع. الملاحظة الأولى، فهمي أنا لندوة اليوم، هو أننا ننظر إلى إمكانية تنفيذ مشروع ديمقراطي في المرحلة التالية، عندما يقوم الكيان الفلسطيني. ولأننا نحن ننظر إلى هذه الإمكانية، فيجب بالتالي أن نحلل المعطيات القائمة على الأرض. هل يمكن لهذه المعطيات القائمة، بما فيها تجربة م. ت. ف. والمؤسسات والتنظيمات، أن تقودنا في المستقبل إلى تنفيذ مشروع ديمقراطي في الكيان الفلسطيني، المستقبلي، أم أنها ستخذلنا؟ وماذا نفعل من أجل أن نتوصل إلى ذلك؟ الملاحظة الثانية هي التالية: من البداية وحتى الـ 1982 كان الاعتماد تماماً على الخارج. المؤسسات في الخارج، مساحات المناورة السياسية في الخارج، المال في الخارج، مصدر الشرعية مستمد من التجمعات الخارجية. لم يكن هناك رفض من الداخل لذلك. بعد الخروج من بيروت، أي بعد سنة 1982، ضعفت المنظمة والمؤسسات الفلسطينية، وضعف نفوذ م. ت. ف. في المجتمع الذي خلفته في الشتات، وخاصة في لبنان. ظلت القيادة موجودة في تونس، ولكن العلاقة والترابط أصبحا علاقة مهمشة أو علاقة ليست عضوية ومستمرة. الانتفاضة حلت أزمة قيادة منظمة التحرير، وسلطت الأضواء على الداخل، لكن تجربتها لم تكتمل.

وما أفكر به الآن كهاجس أساسي هو: هل توجد إمكانية للمؤسسات الفلسطينية التي تكونت وتبلورت في الخارج أن تسهم في مرحلة بناء كيان المشروع الديمقراطي، أو إننا بحاجة إلى مؤسسات أُخرى، ومكان هذه المؤسسات الأُخرى هو في الداخل وليس في الخارج؟

هاني الحسن: أحب أن أبدأ الكلمة باختصار وأقول إن أستاذنا الكبير ياسين الحافظ، قال في كتابه الشهير "الأيديولوجية المهزومة" شيئاً مهماً: عندما نريد أن نتخلص من وسخ الطفل، يجب ألاّ نلقيه مع أوساخه. ونحن اليوم، عندما نقيّم التجربة الفلسطينية، يجب ألاّ ننسى، كما قال بعض الإخوة، أن هذه الثورة الفلسطينية الفريدة من نوعها في تاريخ حركات التحرر الوطنية هي أول حركة في الوطن العربي استطاعت أن تحمل السلاح 28 سنة في وسط آبار النفط، وفي وسط التناقضات العربية، ثم استطاعت بعد ذلك أن تعيش دون أن تسقط. وحتى لا أتفرع في الموضوع كثيراً ونبقى في موضوع الديمقراطية، أود أن أقول إن مؤرخ المستقبل سيجد، بدون شك، أن تاريخ حركة فتح في النهاية هو تاريخ هذه التجربة، لأن فتح هي التي وضعت بصماتها عليها، ليس من حيث أنها هي فقط صانعة النضال، وإنما أيضاً من حيث أنها كانت تتحكم إلى حد كبير في مجريات الأمور. وبمقدار ما هي مسؤولة عن خير كثير فهي مسؤولة أيضاً عن سلبيات كثيرة حدثت. أنا شخصياً أرى أن أي حركة تحرر ينطبق عليها دور الأنبياء، ولا ينطبق عليها دور الحزب السياسي في مجتمع ديمقراطي، لأن الأنبياء يظهرون في وسط خراب كبير، ولا أقصد النبوة بمعناها الديني، بل بمعناها العلمي. بوذا، النبي محمد، عيسى، وربما لينين بالنسبة لروسيا، لم يكن يهمهم ما يقول الناس، بل ما كان يهمهم هو انتزاع الشرعية، لأنهم كانوا يعتقدون أن غالبية الناس تؤيد آراءهم ولكنها عاجزة عن التعبير عنها.

وبالتالي نحن في فتح عندما بدأنا، وضعنا عدة أسس. أول أساس هو أنها ثورة حتى النصر، وثورة حتى الإنجاز، وليس ثورة حتى الاستشهاد، لأن المقياس هو: هل أنجزت أم لم تنجز؟ ثانياً، وهنا يجب أن نميز بين ثلاث مراحل، مرحلة 1965 – 1970، ومرحلة 1970 – 1987، والمرحلة الحالية التي هي مرحلة أوسلو. عام 1987 هو عام إعلان جنيف، الذي أعتبره بداية الخروج عن  الخط السياسي الفلسطيني. قبله نتكلم عن شيء، وبعده نتكلم عن شيء آخر، لأن كل حركة تحرر وطني تبدأ المشاكل فيها والتصفيات عندما تصل إلى الاستقلال، لأن حركة التحرر الوطني هي خليط من البشر. مثلاً، نحن في فتح، كي لا نتبنى عقيدة، تبنينا فكراً سياسياً، وأقمنا جبهة تتعايش الأيديولوجيات فيها في إطار حركة واحدة على أساس خط فكري واحد. ونحن منذ بداية نشأتنا التفتنا إلى ضرورة نشر الديمقراطية بين الناس، ولم تكن عندنا – حتى عام 1987 – مدرسة الأمين العام، ولم يكن عندنا أن الحزب يقود الشعب.

عندما استلمت فتح المنظمة كان أمامها أحد طريقين: إما التصادم مع القوى الأُخرى والاستفراد – وقد كنا في ذلك الوقت قادرين على الاستفراد – وإما أن نكون ديمقراطيين. وبدلاً من أن نستفرد، ونحن في وسط الدائرة بعد معركة الكرامة، رجعنا إلى أطراف الدائرة، وقبلنا مشاركة الجميع، التي اسمها الكوتا. ولكن هذه الكوتا هي أيضاً من إبداعات الديمقراطية الفلسطينية للسبب التالي: كل مؤسسة في منظمة التحرير كانت تتشكل على أساس الكوتا التالية – ثلث تعينه المنظمات، وثلث يأتي من النقابات على أساس الانتخاب، وثلث من المستقلين يتفق عليه. وكان يؤخذ في عين الاعتبار التمثيل الجغرافي في الداخل والخارج، وخاصة التواجد الجغرافي. وهذه الآلية هي التي جعلت فتح لا تتفرد بالقرار الفلسطيني، رغم أنه كانت لديها أغلبية دائماً. في عام 1987، عندما جرى التصويت في المجلس الوطني الفلسطيني على ما يسمى الآن بـ"قرار الإجماع الفلسطيني"، سرى القرار لأنه حصل على أكثر من ثلثي الأصوات، ولولا ذلك لما كان سرى لأن التصويت جرى علناً وبرفع الأيدي.

لذلك، الشرعية الفلسطينية استُمدت فعلاً من الشعب. نحن ولدنا في رحم الناصرية، وولدنا والناصرية غير راضية عنا، وظل عبد الناصر يقاومنا من عام 1965 حتى 1967، ولكنه وهو يكبو بهزيمة الـ 1967، أصبح أعظم ثوري، لأنه أدرك أنه يجب أن يستمر في المواجهة وألاّ يخضع، وبدأ يبني القوى الازمة من أجل النهوض. وهكذا أصبح يتعاون مع الحركات الشعبية بشكل آخر، وتعامل مع  حركة فتح رغم أن الشقيري كان عنده ويستطيع أن يصنع منظمة بالمعنى العام.

لنأخذ مثلاً، النقطة المهمة التي تطرق إليها أخي فواز، وهي قصة المال. عندما نشأت المنظمة كان العضو الوحيد الذي ينتخب مباشرة من قبل المجلس الوطني الفلسطيني هو أمين الصندوق القومي، ولا سلطة لأحد عليه بين فترتي المجلس، ولا يحق لأحد – نظرياً – أن يعزله أو يأمره. وساد هذا الوضع فترة طويلة. لذلك أقول إنه من المهم التمييز بين الفترات، بين فترة ما قبل حرب الخليج وبعدها مثلاً. عندما كان صلاح الدباغ مسؤولاً عن الصندوق القومي، كان متمسكاً بقرارات المجلس الوطني، ولم يكن يسمح بصرف أي شيء حتى لو قال له ذلك أبو عمار. صحيح أنه لكثرة المضايقات قدم استقالته في الدورة التالية، لكنه صان المال. والدكتور حنا ناصر كان صلباً أيضاً، ومثله الدكتور يوسف صايغ، الذي لم يمكث طويلاً. عظمة الديمقراطية الفلسطينية هي أن أحداً منهم لم يعزل. ولو أنهم تحملوا الضغط وبقوا، لكان الوضع أصبح مختلفاً. وفعلاً عندما تختل هذه القضية تخرب الأمور. نحن في فتح عندما بدأنا، قلنا إنه لا يجوز لأحد أن يجمع بين القرار العسكري والقرار المالي، وكان هذا دائماً قانوناً في فتح، ولكنه انهار بعد أحداث الخليج، ومن هنا غضبنا على جويد الغصين، لأنه لم يستقل، بل خضع.

المهم الآن، يا إخواني، هو: ماذا سيجري في المرحلة المقبلة؟ وأنا لن أتكلم عن المرحلة المقبلة إلاّ بعد أن أسمع أخي يزيد، لأن البند الذي سيتحدث عنه هو في الحقيقة المفصل بين الماضي والحاضر. طريقة أخذ القرار حتى حرب الخليج كانت دائماً أن القرار لا يؤخذ بدون اتفاق الفصائل. واتفاق الفصائل كان شيئاً مهماً، لأنه لا توجد حركة تحرر تستطيع أن تجري انتخابات، ولو كان ممكناً إجراء الانتخابات في أي مكان لكنا أجريناها.

النقطة التي قالها أخي جميل، وهي إن م. ت. ف. حالياً تعاني أزمة شرعية، نقطة مهمة جداً. لماذا؟ لأن م. ت. ف. تخلت عن العقد الوطني الذي عقدته بينها وبين الشعب، والذي هو الميثاق. وما هو حاصل حالياً هو أنه لم تعد هناك م. ت. ف.، ولم تعد هناك حركة تحرر، بعد الاتفاق الذي جرى. وتوجد أزمة ديمقراطية لأننا اقتربنا من استلام أرض. الوحدة حول الأيديولوجية، وحول الرؤية السياسية، لم تعد الآن قائمة. اليوم هناك فريق استفرد بالرؤية، ولكي يستفرد أولاً بالرؤية، يجب أن يسيطر على المال. ولكي يستفرد بالرؤية، يجب أن يمنع رابين الناس في الداخل من العمل، ويجب ويجب ويجب... هناك مخطط دولي موضوع لصالح رؤية معينة، ولصالح أن تدخل مجموعة إلى الداخل كي تستلم الأرض. وكي يحدث هذا، لا بد من أن يصفي فريق فريقاً آخر. ولكن يجب دائماً ألا ننسى أن التجربة الفلسطينية حتى حرب الخليج كان فيها أفضل ما يمكن أن تصنعه حركة تحرر.

أزمة الثورة الفلسطينية، يا إخوان، موجودة منذ أوسلو وما بعد، أو بالأحرى منذ مدريد وما بعد، وليس ما قبل مدريد.

فادية فقير: أنا أتحدث من الهامش، أما مغيبة على كل المستويات، وهذا برأيي له نتائج إيجابية وسلبية. كامرأة، أجد أنه من أسباب المعضلات السياسية في العالم العربي، عدم وجود اتجاه أو سلوك ديمقراطي عند الفرد. وبرأيي إن الدكتاتورية تبدأ عندما نقمع الجانب الأنثوي، ثم نقمع المختلف والآخر.. إلخ. الأسرة تقوم على وجود بطريرك على قمتها، على رأسها، هو الكائن الأوحد، وصاحب القرار الأوحد، وهذا النمط يتكرر بأشكال متعددة، مثل الأميبيا، في المجتمع العربي بكل فئاته. ولا جدوى من التحدث عن الديمقراطية بدون فك الارتباط مع الماضي القمعي، وإعادة صياغة الفرد، للتغلب على الخوف من الذات، والخوف من الآخر. وتبدو لي هذه المعادلة في مركز إشكالية غياب الديمقراطية في العالم العربي.

فواز طرابلسي: أحب أن أزيل بعض الالتباسات، حتى لا يظهر القسم التقديمي وكأنه خُتم على زعل أو استفزازات. أعتقد أنه سيفيدنا كثيراً في البحث في الموضوع الفلسطيني إذا أخذنا في عين الاعتبار أن المقياس الرئيسي، وليس الأوحد، لمحاسبة حركة تحرر، هو تحقيق الهدف المقامة من أجله، وهو التحرر بمعناه الاستقلالي الوطني، مع كل نواقصه ومع كل مشاكله. كثير من الأشياء التي قيلت هي برأيي صحيحة، ولكن لا تمس الديمقراطية، بمعنى أنه توجد مؤسسات في م. ت. ف. لكن هذه المؤسسات ينطبق عليها هاجس التوحيد أو هاجس التأطير الشعبي، وهذا عنصر مساعد للديمقراطية، وليس ديمقراطية. وما زلت أصر أن التحالفات ليست ديمقراطية، بل هي تحالفات أحزاب تنتخب نفسها ذاتياً. الديمقراطية شيء آخر. الجواب بالنسبة إلى اللجان الشعبية في الانتفاضة هو أنها مظهر من مظاهر اتساع التأييد الشعبي لخط سياسي معين، أو مبادرة شعبية بغض النظر عن الخط. إنما وجود اللجان الشعبية، وتقلص وجودها، لا يدخلان في باب الديمقراطية مباشرة. الديمقراطية عنصر مساعد في حركات التحرر، وليست المقياس الوحيد أو الرئيسي للحكم عليها.

والآن، البحث له معنى إذا طرح سؤال بسيط جداً: هل تستطيع حركة التحرر الوطني الفلسطيني على أبواب تحولها إلى دولة أن تتفادى هذا المنطق شبه الحديدي الذي حاولت أن أعطي عناصره؟ السؤال الكبير – وهنا مصدر الالتباس مع جميل في الحديث عن الشرعية – هو: ما الذي تقدمه قيادة للناس ولنفسها من أجل اكتساب الشرعية؟ تقدم الأسبقية في حمل السلاح، تقدم التضحيات، تقدم الخبرة القتالية – هذا هو ما تقدمه حركة التحرر. لا تقدم أنها منتخبة.

هل يمكن اعتبار الماضي ماضياً؟ هل يمكن لحركة تحرر أن تصل إلى الحكم وتقول: نحن مثلنا المرحلة الماضية، والآن نضع المستقبل بيد الناس؟ في رأيي هذا هو السؤال، وهذا يفتتح موضوع الديمقراطية.

نادراً ما حصل أن حركة تحرر وطني عند استلامها الحكم قالت: "هذه مرحلة جديدة". بالعكس، كل الحركات قالت: "وصلنا للحكم، هذا هو الفوز الأعظم لنضالنا، ونحن أمام مرحلة طويلة قادمة هي مرحلة حكمنا، لأننا نحن الذين حررنا البلد." هنا القطيعة برأيي. القرار الديمقراطي هنا هو أن يعتبر قادة حركة التحرر أنهم أدوا دورهم، وأن يحتكموا إلى الناس لكي يقرر هؤلاء من سيحكمهم في المرحلة القادمة. قرار الاحتكام إلى الناس يسير طبعاً في اتجاه عكسي للاتجاه الذي سار فيه القسم الأكبر من تجارب حركات التحرر، وبالنسبة لـ م. ت. ف. نحن في رحلة لم يحسم فيها الموضوع نهائياً في القيادة الفلسطينية.

المؤسسات، وهنا أشير إلى كلام برهان، حاسمة، لكن هناك مؤسسات وظيفتها ومقياس فعاليتها التوحيد، وهناك مؤسسات وظيفتها ومقياس فعاليتها التمثيل. وهما ليسا نفس الشيء. ما يقوله جميل صحيح، إن القاعدة الشعبية لـ م. ت. ف. آخذة في التقلص، والصفة التشاورية التشاركية لمؤسسات م. ت. ف. آخذة في التقلص، وبالتالي الانفصال بين الداخل والخارج يزداد. ولكن هذا من مشاكل الاتفاق، وليس موضوعاً تنظيمياً.

رغيد الصلح: أريد فقط أن أبدي ملاحظة سريعة جداً. فواز في بداية ورشة العمل أشار إلى إمكانية التباين بين حركات تأخذ بشيء من الديمقراطية وحركات لا تأخذ بذلك، أي أن الحركات لم تسر كلها على خط واحد. وفعلاً التمييز دقيق وحقيقي من الناحية التاريخية. مثلاً: حركة عبد الكريم الخطابي، كان فيها شيء من المجالس التمثيلية، وكان فيها شيء من التعبير عن الرأي العام، وتوازن مع قوى الكفاح المسلح. وأيضاً أتاتورك حاول أن يكون نوعاً من المجلس التنفيذي قد يكون هناك اختلاف حول مدى تمثيله ولكنه حاول. في حركة فرنسا الحرة بزعامة ديغول، كان هناك مجلس تمثيلي، مثل كل الشرائح، ووُجد فيه نوع من التصويت والمراقبة ولجنة تنفيذية. لكن ونحن نتطلع إلى الماضي، إلى التجربة، لم تجر محاولة لتلمس أو لوضع اليد على الأسباب التي تدفع في هذا الاتجاه أو ذلك. لماذا كانت هناك حركات معينة اتسمت بشيء من الانفتاح، بمراعاة نوع من أنواع الديمقراطية وإشراك أوسع قاعدة شعبية في عملية صنع القرار ورسم السياسة، وحركات أُخرى اتجهت إلى النخبوية؟

برهان غليون: لا أريد أن أفتح سجالاً، ولكن ليس مفيداً يا فواز التأكيد باستمرار على نفس الفكرة، على أنه لا يُتحدث بالديمقراطية فيما يتعلق بالحركات والأحزاب.. إلخ، وإنما يُتحدث في الديمقراطية في ميدان حكومة وحق شعب، وأن هدف حركة التحرير ليس الديمقراطية. أيضاً هدف الحكومات ليس الديمقراطية. هدف الحكومات هو الإنجاز. هدف أي حكومة هو تنفيذ برنامج اجتماعي اقتصادي.. إلخ. الديمقراطية ليست هدفاً، بل طريقة، قاعدة في العمل السياسي، ويمكن أن نتحدث عن الديمقراطية سواء داخل تنظيم، أو داخل أسرة، أو داخل جمعية صغيرة، وبهذا المعنى، لها علاقة كبيرة بالمؤسسات، ويُحكى بها سواء داخل الحزب أو داخل تجمع أو داخل تحالف. يمكن أن تكون العلاقات علاقات سيطرة أو لا تكون. وهذا لا ينبغي أن يكون موضوع سجال، وإلا في النهاية لن يبقى أي معنى حتى للندوة.

وأهمية الحديث اليوم، ليست في محاكمة الماضي ومحاكمة م. ت. ف. باعتبار أننا لم نُدع لشرح وتفسير وفهم أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية ككل، ولا مشكلة م. ت. ف. أتصور أننا دعينا كي نرى إلى أي حد كانت توجد عناصر لممارسة الديمقراطية داخل هذه الحركة يمكن أن نبني عليها من أجل المستقبل. أتصور أن هذه هي الفكرة الأساسية، ولم يقل أحد أن م. ت. ف. كانت حركة لتنفيذ الديمقراطية، ويجب أن يكون الإنسان مجنوناً لكي يعتقد أن الحركة الوطنية الفلسطينية نشأت لتحقيق الديمقراطية. من أجل ذلك أقول إن الوقائع مهمة. أعني أنني لا أريد أن يقول لي الناس الذين عاشوا التجربة من الداخل رأساً إن المنظمة كانت كارثة. توجد أمامي مظاهر، ويهمني أن أفهم كيف تكونت هذه المظاهر. شخصياً أعتقد أن المنظمة لم تكن كارثة. يجوز أن الكارثة هي أن المؤسسات التي بنيت في إطار هذه الحركة المهمة قد انهارت، ويفيدني جداً أن أعرف من الناس الذين عاشوا التجربة لماذا انهارت. لماذا مؤسسة المجلس الوطني الفلسطيني، التي أعتقد أنها كانت مؤسسة مهمة جداً في تاريخ الحركة، لم تعد فعالة؟ هل هو نظام الكوتا، مثلاً؟ هل يمكن أن نناقش لماذا م. ت. ف.، كإطار لتلاقي روافد فلسطينية، وكانت تجربة فذة – وأنا أقولها بالمقارن مع الحركات الوطنية الأُخرة التي اعتمدت التصفيات – لماذا م. ت. ف. كإطار لتحالف عدة تيارات فلسطينية، لم تعد فاعلة؟ وذلك حتى نعرف هل يمكن الإحياء. هل يمكن المراهنة على نفس المؤسسات من أجل دولة ديمقراطية فلسطينية في المستقبل، أم أن هذه كانت فعلاً مظاهر شكلية تخفي سلطة مطلقة، يقودها زعيم واحد، أو أربعة أشخاص؟ باعتقادي أن فتح حركة وطنية وأنها كانت مختلفة كلياً بتكوينها التنظيمي عن الأحزاب الشيوعية. وهنا مهم أن نعرف كيف أصبحت حركة شعبية.

جميل هلال: الحوار قد يكون أصبح أوضح الآن، لكن أحب أن أؤكد على القضايا التالية: أنا مع المقولة الديمقراطية ليست هي المقياس الوحيد في محاكمة أية تجربة، وبالذات التجربة الفلسطينية المعقدة التي تتداخل فيها عوامل متعددة تؤثر فيها. لكن أحب أن أحذر من الأحكام المطلقة، ويجوز أننا تعلمنا – بثمن مرتفع جداً من الأحداث التي وقعت تحديداً في الدول الاشتراكية – أن نتجنب الأحكام المطلقة. لم يعد ممكناً حتى نفسياً أن أقبل مثلاً أن يقال إنه يوجد تناقض بين حركات التحرر والديمقراطية، كقانون مطلق. وهذا غير صحيح أيضاً، في رأيي كانت هناك مجالات في الساحة الفلسطينية كان من الممكن أن يُوسع فيها إطار الديمقراطية، وأنا أستخدم الديمقراطية كمفهوم بمعنى أوسع قليلاً من العلاقة بين حاكم ومحكوم، بمعنى المشاركة السياسية لأكبر عدد ممكن من الناس في اتخاذ القرارات التي تمس حياتهم. 

أوسلو وما بعد

يزيد صايغ: كنت أتمنى أن أشارك في تقييم الماضي، لأن هذا الموضوع يهمني كثيراً. لكن لن أدخل فيه، إلا في تعليق واحد. يبدو لي أنه لا يوجد اتفاق على فهم واحد، أو على فهم متقارب، بشأن ماذا نقصد بكلمة ديمقراطية أصلاً، خاصة عندما نتحدث عن الماضي. عندما نريد أن نتحدث عن المستقبل، ربما نتفق أكثر، لأنه واضح أن هناك شيئاً لا نريده، بل نريد عكسه. لكن عندما نأتي ونقيم الماضي، يبدو لي أن الإخوان الذين تحدثوا حتى الآن، استخدموا الديمقراطية بمفهوم معين، أو في إطار معين أو في تقييم ممارسة معينة، دون أن تكون هناك أرضية مشتركة بين المفاهيم. وألخص هذه الفكرة بأن الديمقراطية التي كانت في الساحة ليست هي الديمقراطية بالمعنى الانتخابي. كانت توجد ديمقراطية بمعنى ليبرالية معينة، ليبرالية غير انتخابية. أعني أنه ما دام الكل قابلاً بإطار واحد جامع للجميع، الذي هو المنظمة ومجالسها.. إلخ، وقابلاً بحد أدنى من الالتقاء السياسي في بعض القضايا وبعض أساليب التعامل فيما بين الأطراف، وما دام هناك تسامح ومشاركة في مجموعة أمور، منها موارد، منها حصص، منها أحياناً إلى حد ما صنع القرار أو التأثير في القرار في المراتب العليا، ما دام ذلك موجوداً، "كان ماشي الحال". الأخ هاني سمى ذلك ديمقراطية، البعض الآخر لا يعتبرها ديمقراطية، ولكن أنا أسميها ليبرالية. وهناك مسألة أُخرى واضحة عندما نتحدث عن الديمقراطية، وهي أنه يوجد غموض عندنا بالنسبة لما تعنيه، وما الذي يجسدها. البعض علق على بعض الأمور – على الدستور، على التعددية، على الانتخابات، على الأشكال والأدوات التي من خلالها تتم المراقبة والمحاسبة – ولكن لدي إحساساً أن ذلك لا يكفي. يوجد خطأ ما. إذن كيف نتناول الموضوع؟ أنا هنا أود أن أتناول الموضوع بشكل آخر.

أظن أن الفارق الأساسي بين المرحلة الماضية والمرحلة الحالية أصبح واضحاً، وهو أن الجسم السياسي الفلسطيني المركزي سينتقل من الخارج إلى الداخل. في الخارج كان عرضة لمجموعة تدخلات من حكومات عربية، وكان جزء من وظيفته عسكرياً، وكان يعيش حالة شتات أو اتكال على قاعدة مشتتة. في الداخل توجد قاعدة اجتماعية وقاعدة اقتصادية وقاعدة جغرافية واحدة موحدة محددة. وهذا الفارق الجوهري يعني أن القيادة الفلسطينية التي نعرفها، وهي قيادة م. ت. ف. – وطبعاً أنا لا أفترض أنه لن تحصل أية تغييرات في شكل المنظمة أو وجوهها أو أحزابها التي هي الفصائل – هذه القيادة ستضطر لأول مرة لأن تدير نظاماً سياسياً متصلاً بجمهور واحد محدد واضح، ومتصلاً باقتصاد سياسي. في الماضي كانت قرارات المنظمة، سياساتها، قضاياها.. إلخ، لا علاقة لها مباشرة باقتصاد واضح محدد، ولا أحد يحاسبها أو يعاتبها على صناعة لم تنجح أو زراعة فشلت. هذه لم تكن قضايا. وهذا يعني أيضاً أن المنظمة لم تكن تتعامل مع قوى وشرائح اجتماعية محددة من زاوية العلاقة بأساليب الإنتاج وعلاقات الإنتاج. لم تكن تتعامل مع شريحة رجال الأعمال، مثلاً، إلا بصفتهم وطنيين، أعني أن عبد المحسن قطان أو حسيب الصباغ أو عبد الحميد شومان.. إلخ، لم تكن علاقتهم بالمنظمة علاقة مصلحة اقتصادية – مثلاً يريدون قانوناً معيناً للاستثمار، ومن هنا لديهم دافع لأن "يلعبوا سياسة". إنما اليوم، من الآن فصاعداً، البنية السياسية للسلطة الفلسطينية ستضطر للتعامل مع شرائح اجتماعية لها مواصفات اقتصادية، سواء كانت عمالاً أو فلاحين، تجاراً أو سماسرة. وستدخل كل هذه الفئات لأول مرة في الحساب بشكل لم تكن تدخل فيه بالماضي.

الجانب الثاني يتعلق بالبناء النظري، أو بالأداة التحليلية التي أحاول أن أوفرها، وهو بنية السلطة السياسية الفلسطينية الموجودة حالياً، وما سينتج عن هذه البنية – بأساليب عملها، أساليب تنظيمها، أساليب تعاملها مع قاعدتها ومجتمعها أو قنوات التأثير والتأثر – عندما تنتقل إلى الداخل وتبدأ بالاتصال مع الجمهور المحلي. النظام القيادي الفلسطيني، أو النظام السياسي الفلسطيني الذي عندنا – بغض النظر عن البدايات، وشرعية البدايات وديمقراطية البدايات – يتسم بتركيز كبير جداً للسلطة السياسية ولصنع القرار في يد شخص واحد، هو ياسر عرفات. وهذا الشخص الواحد أصبح يمارس سلطته وسيطرته السياسية أيضاً لأنه أصبح في وضع المسؤول الأول عن أهم المؤسسات كلها في الساحة الفلسطينية. هو رئيس الدولة، ورئيس اللجنة التنفيذية، وعملياً رئيس فتح، وقائد عام للقوات المسلحة، ورئيس السلطة الوطنية التي ستنشأ، ورئيس المجلس الاقتصادي، وأتصور أنه أيضاً رئيس "كم نقابة وكم لجنة". أهم المؤسسات في الساحة الفلسطينية ماضياً، والتي ستكون من أهم المؤسسات في المستقبل، يمسك بها كلها شخص واحد. وأنا هنا في تركيزي على شخص ياسر عرفات، لا أقصد أبداً أن أدين أحداً أو أن أبرىء أحداً، فهذا ليس موضوعي. موضوعي هو الشكل القيادي، وأسلوب السيطرة، والنظام السياسي الذي سيستلم الوضع في الداخل، وما ذكرته هو أهم صفاته. ومن صفاته أيضاً مثل ما قال عدد من الإخوان، مركزية القرار المالي، وهذا فعلاً أمر مهم جداً، ويقترن بمسألة التعيينات. يوجد شخص واحد قادر على أن يعين، يقيل أو ينقل أشخاصاً من مكان إلى آخر، وهاتان القدرتان – القوة المالية وقوة التعيين – متلازمتان، وهما من أهم العناصر في بناء جهاز الدولة.

من نتائج هذه الحالة في الماضي، وأعتقد أنها ستنتقل كطريقة تعامل – على الأقل في البداية – إلى الوضع الجديد في داخل الأراضي المحتلة، أنه سيكون هناك تعدد للمؤسسات، وأيضاً تشتيت للمؤسسات التي يمكن أن تكون لها قوى ذاتية تنافس أو تتحدى أو تعرقل سياسات القائد الأعلى أو القيادة العليا. فمن سمات آخر عشرين سنة – ليس فقط في فتح وإنما في كل التنظيمات – أن كل جهاز أصبح ثلاثة أو أربعة، وكلها تابعة لنفس الشخص أو نفس القيادة، فقط لأنه توجد منافسات داخلية، وليس فقط منافسات، وإنما أيضاً زبائنية – أعني الزلم، الجماعة، الشلة. عندما كنا في الماضي نتحدث عن هؤلاء في الساحة الفلسطينية، كنا نتحدث عنهم في معرض الاتهام، بمعنى أن وجود "زلم لفلان" و"شلة لفلان"، و"جماعة لفلان"، هو شيء سخيف. لكن يوجد جانب آخر لهذا الموضوع كنا نغفله، وهو الجانب الأهم. الزبائنية هي أيضاً أسلوب لتنظيم المجتمع في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، وهي شكل من الأشكال الشائعة كثيراً، وموجودة في كثير من الدول العربية، وهي دول بكل معنى الكلمة. الشبكات الزبائنية هي سمة من سمات هذه الدول، وهي راسخة داخل الحزب الحاكم، داخل السلطة، وداخل مختلف المؤسسات الرئيسية، لأنه من خلالها تتم عملية تشتيت لمراكز القوى البديلة أو المضادة، وبنفس الوقت عملية إرضاء لمجموعة مصالح ومجموعة أشخاص، لأنك بهذه الطريقة تستطيع أن تعطي كل واحد حصة أو مجالاً، وهو بدوره يعطي للذين يتبعونه. هذه ظاهرة كانت واضحة جداً في السابق، ونُقلت في السنوات الأخيرة إلى الداخل، إذ إنه من الواضح أن هذه الشبكات الزبائنية أصبحت أيضاً سمة رئيسية من سمات العلاقة بين القيادة السياسية، التي هي أساساً في الخارج، وبين مختلف الأطراف في الداخل. وهذا يفسر في نظري إلى حد كبير قدرة القيادة في الخارج، رغم كل ما جرى، على أن تظل قادرة على أن تفرض سلطانها السياسي على الناس الموجودين في الداخل، الذين يعيشون على أرضهم ويعيش جزء كبير منهم من دخله الخاص. أعني أنه توجد شرائح في الداخل لا تعتاش من المنظمة، ونظرياً لديها أموال ومزارع، وهي ليست مضطرة للخضوع بهذا الشكل، ومع ذلك خضعت. المنظمة نجحت، ويرجع جزء من النجاح إلى استخدام الأسلوب الريعي وبناء الشبكات الزبائنية وتفتيت مختلف المؤسسات، حتى المؤسسات التابعة إلى هذا القائد أو ذاك. وإذا نظرنا إلى تنظيم فتح في داخل الأرض المحتلة نرى أنه أصبح عدة تنظيمات. وأنا شخصياً لا أستغرب هذه الظاهرة أصلاً.

أطلت الحديث عن هذا الجانب لسبب بسيط، وهو أن هذا – على الأقل في الأمد المنظور – هو النظام السياسي أو البنيان السياسي، ونظام السيطرة المجتمعية، الذي سينتقل إلى الداخل. هذا النظام سيبدأ لأول مرة في حياته بالتعامل بشكل مباشر مع وضع مختلف في الداخل، ومع اقتصاد وأموال ورساميل، إما آتية من الخارج عن طريق مساعدات خارجية أو آتية من مستثمرين فلسطينيين أو عن طريق الضرائب الداخلية، أي ستكون هناك عدة مصادر للموارد التي سوف تتصرف بها الحكومة أو السلطة، وبالتالي فإن النظام السياسي القديم لا بد وأن يتغير أو يتحول نوعاً ما، ولكن عموماً، أتوقع أن يكون النظام السياسي الذي سينشأ عن هذه الحالة نظاماً شبيهاً بالنظام الحالي باتجاهاته الأساسية، أي أن العلاقات الشخصية والزبائنية سوف يكون لها حصة كبيرة في تحديد نمط العلاقات بين صاحب القرار السياسي في البلد وبين أية شريحة أُخرى في المجتمع. ماذا يعني ذلك بالنسبة للديمقراطية؟ إنه يعني أن ظاهرة السيطرة الفردية القوية لياسر عرفات، خلال السنوات الثلاث الأولى على الأقل، وبشتى الأحوال، سوف تكون سمة رئيسية. ويعني أن العلاقة الزبائنية ستظل هي الحاكمة، وستأخذ الأولوية على الاعتبارات المهنية واعتبارات  حسن الإدارة، وهذه أمور مهمة طبعاً في بناء دولة. من مشاهداتي وتقويمي للعشرين سنة الماضية، وأيضاً من مشاهداتي في السنتين الماضيتين ومشاركتي في الوفد المفاوض، أستطيع أن أقول بكل تأكيد أن الجانب الأدائي المهني الإداري، أو فلنسمّه ما نشاء، كان بالتأكيد مغلوباً على أمره لحساب الاعتبارات السياسية الفئوية، الزبائنية، الشللية.. إلخ فهذه لا تزال تحكم أسلوب صنع القرار، وأسلوب التعامل مع الموارد، والتعامل مع الشرائح الأُخرى، وأضف إلى ذلك مسألة تفتيت المؤسسات والازدواجية فيها. هذه هي الأطر، أو العناصر العريضة، التي ستحدد المسار القادم.

والآن سأتطرق بسرعة لمسألتين. المسألة الأولى هي الانتخابات المفروض أن تتم في الأراضي المحتلة في تموز/يوليو 1994.

شخصياً أعتقد أنه توجد رغبة فعلية وحقيقية عند ياسر عرفات، وأتصور عند أطراف أُخرى أيضاً، للتخلص من هذا الموضوع بشكل أو بآخر، ولأكثر من سبب. وأحد الاحتمالات أو المخارج بالنسبة له، لأنه سيكون من الصعب التخلي تماماً عن الانتخابات لكونها منصوصاً عليها في اتفاق أوسلو، هو تحويل الانتخابات عملياً إلى ما هو أشبه بانتخابات بلدية، وبالتالي تجريدها من صفتها السياسية أو التمثيلية. أعني أن الأشخاص الذين سيُنتَخبون للمجلس الإداري في الحكم الذاتي، بدلاً من أن يكونوا عملياً شبه قيادة تتمتع بصفة شرعية وتمثيلية معينة ربما تنافس تمثيلية قيادة المنظمة، سيتحولون إلى مجموعة إدارية عملها فقط تسيير أمور الصحة والتعليم والمجاري، أي تقريباً بلدية. بالطبع قد تكون هناك أسباب مقنعة وموجبة، تبرر الاعتراض على إجراء انتخابات سياسية – يوجد فلسطينيون في الشتات، ولا يجوز إجراء انتخابات بين جزء فقط، وتوجد م. ت. ف. كقيادة وممثلة للجميع.. إلخ. الاعتراض مشروع، ولكن ما سيتحكم في الموقف من هذه الانتخابات، في اعتقادي، لن يكون المصلحة العليا للشتات ولقضية فلسطين على مر الأجيال، وإنما الخوف من فقدان السيطرة المطلقة على القرار السياسي وعلى الصفة التمثيلية. ثم هناك السؤال: ماذا يحدث لو غاب ياسر عرفات؟ أنا أفضل أن تجري انتخابات بالذات حتى يبقى الشعب الفلسطيني عرضة لهذا السؤال. وأتمنى لو كانت هناك قناعة للإصرار في المفاوضات على إجراء هذه الانتخابات، وعلى أن تكون دورية وليس لمرة واحدة، وعلى زيادة صفتها السياسية والتمثيلية وليس تقليصها.

والمسألة الثانية، كملاحظة أخيرة، هي تصوري لشكل، أو آفاق الديمقراطية في الساحة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة بالتحديد، داخل السلطة المحلية التي ستنشأ في المدى البعيد. هناك من أبدى مخاوفه من أن جماعة الخارج (أبو الجماجم وأبو العواصف!) سيدخلون، وسيكون هناك ضباط وجيش وقمع وقتل.. إلخ. أنا شخصياً ليس هذا منظوري، ليس لأنني أبرئ أحداً، ياسر عرفات مثلاً، من أنه يريد أن يسيطر، ولكن بصراحة لأن ياسر عرفات وقيادة فتح وقيادة المنظمة، كانت قادرة دائماً أو في أكثر الأحيان على احتواء المنافسين والمعارضين والمنزعجين من القيادة، وحتى المتردين، بشكل أو بآخر، وكانت دائماً تحاول إيجاد شكل غير عسكري عادة لضبط هذه الأمور وامتصاص نقمة الناس – مراضاتهم، إعطاؤهم حصة.. إلخ. ولا أرى لماذا نفترض عكس ذلك في المرحلة القادمة. بالعكس، أنا أتصور أن الوضع في الضفة والقطاع سيكون حساساً جداً، لسبب واحد على الأقل، هو أن ياسر عرفات شخصياً سيكون معنياً تماماً بالحفاظ على استقرار العلاقة الأمنية والسياسية مع إسرائيل، وبالتالي لا يستطيع أن يخاطر بإدارة أموره الداخلية في المجتمع الفلسطيني بشكل يزيد من التوتر، ويؤدي إلى الاقتتال والتفجيرات أو العمليات السرية المسلحة. وهو سيحاول أن يمتص العناصر التي من المحتمل أن تقوم بهذه الأعمال، بشكل أو بآخر، أعني: إذا استطاع أن يشتري إنساناً فيشتريه، والذي يستطيع أن يضعه في منصب سيضعه، والذي يستطيع أن يقدم له مصلحة سيقدمها. هذا هو أسلوبه، وبنظري سيبقى أسلوبه هكذا. ومن هنا استماتته في الفترة الأخيرة للحصول على سيطرة مباشرة على الأموال والمساعدات التي ستأتي من الخارج، لكي يستطيع أن يتحكم في الموضوع المالي حتى يقدر أن يواصل عملية الإرضاء. والإرضاء قد يكون بالأموال، وقد يكون بتوزيع الصفقات، وقد يكون بتوزيع المناصب. ومجتمعنا في النهاية مثله مثل غيره، توجد فيه شرائح عديدة، ومصالح عديدة، وسماسرة، ورأسماليون، وصناعيون.. إلخ. وقد نمت نفسية اتكالية واضحة جداً في داخل الأرض المحتلة خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وللأسف توجد حالة مرضية متفشية، وتوجد شرائح تريد أن تفتح مصانع ومشاريع، حتى من دون المساعدات الخارجية، وبعضهم مستميت للدخول في شراكة مع إسرائيل أو مع الأردن أو الأميركان. وهذه الشرائح قوية في المجتمع، في أي مجتمع كان. وهذه الشرائح، في نظري، هي التي سيتوجه لها ياسر عرفات من الآن فصاعداً، مثلما توجه السادات مثلاُ في مصر مع سياسة الانفتاح. سوف يتوجه إلى هذه الشرائح، ويقول: سوف "نعمل" ديمقراطية و"نعمل" انتخابات. لن يمنع الأحزاب، وسوف ينجح في الانتخابات اعتماداً على هذه الشرائح. في الماضي نجح رغم التعددية، وظل مسيطراً على الأمور. وما سيختلف اليوم هو حلفاؤه ضمن التركيبة. ومن الآن فصاعداً ستدخل شرائح الطبقة الوسطى اللعبة، وستكون جزءاً من التحالف، أو الائتلاف الاجتماعي – السياسي – الاقتصادي الذي سوف يدير البلد.

موسى البديري: عندي مداخلة، وغير متأكد أين مكانها في هذا النقاش، لأن النقاش ابتدأ بطريقة أحسست معها وكأنني غائب عن جزء كبير من بدايته، ربما لأنني مقيم في الأراضي المحتلة، وغير متابع للنقاشات التي تجري في الخارج، لكن شعوري أنه يوجد بين الحاضرين فهم مشترك أو وعي مشترك للديمقراطية وأهميتها ومعناها. أنا شخصياً هذا غير موجود عندي. يوجد شخص هنا قال: "كلنا ديمقراطيون"، والوحيد الذي أنكر التهمة هو عزيز العظمة، إنما أنا أيضاً غير متأكد أنني مؤمن بالديمقراطية، إلاّ طبعاً إذا عرفت ما معناها، أي غذا فسر لي أحد ما معنى الديمقراطية. أنا أفهم الديمقراطية بالمعنى المطروح في الغرب. أفهم الديمقراطية مثلما طرحت لما بدأ الحديث في أواخر الثمانينات عن المجتمعات في أوروبا الشرقية، عن المجتمع المدني، عن وقوفه في وجه الدولة المسيطرة؛ أفهم الديمقراطية، بمعنى المفاهيم الليبرالية المرتبطة بالسوق، بسيطرة السوق وأولوية السوق؛ أفهم الديمقراطية الليبرالية بالمعنى الغربي المتداول يومياً في الصحف؛ وأفهمها أيضاً كلغة في مرحلة ما بعد حرب الخليج، أسرعنا في محاولة استعمالها لأننا شعرنا أننا إذا نحن استعملناها فسوف نجني مكاسب من أميركا. وقد شرح لي أحد المسؤولين في م. ت. ف. في الولايات المتحدة ذات مرة أن الأميركيين "عقلهم صغير، كلمة تأخذهم وكلمة أُخرى ترجعهم" – طبعاً هذا الكلام كان قبل أن نضيع نحن ويتضح أن الأميركيين ثبتوا. ويبدو أن هذه المحاولة لاستعمال لغة العصر – إذا كانت الديمقراطية هي لغة العصر – من دون أن نتأكد ما الذي نريده، وماذا تعني بالنسبة لنا، جعلنا نسير في طريق ونتكلم في تفاصيل، من دون أن نكون متأكدين عن ماذا نحن نتكلم. وأنا أفهم كلام جميل وكلام برهان كجزء من هذه المحاولة للدخول في العصر الحديث، كي نقدم أوراق اعتمادنا، ونقول: ها نحن أيضاً متحضرون، وليس فقط الإسرائيليون، الذين عندهم كنيست وأحزاب.

أنا أرى أنه يوجد في كلام فواز منطق، مع أنه يبدو ديناصورياً وقادماً من عصور تاريخية قديمة. نحن عندما نتحدث عن حركة تحرر وطني، لا نتكلم عن دولة قائمة. وعندما نتحدث عن الديمقراطية كأسلوب بشكل بسيط، أن أناساً يذهبون ويقترعون كل أربع سنوات أو كل سنتين، لجنة تجتمع وتتخذ قرارات، قضية أغلبية وأكثرية، فنحن نكون نتحدث أن أساليب، عن أدوات، عن قضايا فنية، وليس أبداً عن مفاهيم مشتركة بين الناس. الديمقراطية بهذا المعنى ممكن أن تكون موجودة في أي مكان وفي لا مكان، ليست هذه هي القضية، إنما الديمقراطية التي نتحدث عنها بشكل سياسي هي قيمة مقدسة لا أحد يعرف ما معناها، ولا أحد مهتم بما هو معناها. وأنا أقول أنه قبل أن نتكلم في الديمقراطية في الإطار الفلسطيني، دعونا نحاول أن نحدد ماذا نعني بالديمقراطية، وعندئذ سيصبح الكلام له معنى عياني أكثر.

قضية ثانية أريد أن أذكرها، مع أن يزيد صايغ بدأ كلاماً فيها، وهي المجتمع الموجود في الضفة الغربية وقطاع غزة. في الخارج، وخصوصاً بعد سنة 1988، وبعد الإفلاس السياسي، وأتصور أيضاً الإفلاس النضالي، الذي قادت م. ت. ف. الشعب الفلسطيني له، صار هناك تعلق بخشبة الخلاص التي هي الشعب الفلسطيني في الداخل. وطبعاً اليوم، بعد أن تخلت قيادة م. ت. ف. عن القضية الفلسطينية، أصبح هذا التعلق أكثر – القضية الفلسطينية هي في الداخل، هي هؤلاء الناس المقيمون في غزة وأريحا والعوجا والخليل، هذا هو الشعب الفلسطيني – وأصبحت هناك رؤية أو محاولة لرفعه وإضفاء صفات عليه ليس فقط أنه لا يمتلكها، لا هو ولا أي شعب آخر، وإنما هو يمتلك نقيضها. إنه شعب عاش 27 سنة تحت الاحتلال، وتطوره بالضرورة مشوه نتيجة هذا الاحتلال. والذي لا يريد أن يرى هذا الأمر، لديه مشكلة في النظر، لأنه لو كان غير مشوه، إذن ما هي مشكلة الاحتلال؟ إذا كان الاحتلال لم يؤد إلى تشويه هذا الشعب، إذن فالاحتلال جيد، ولماذا نحضر أبو عمار وأعوانه لكي يشوهوا هذا الشعب؟ يوجد تشوه بالنسبة للطبقة العاملة، وتشوه بالنسبة للفلاحين، وتشوه بالنسبة للطبقة الوسطى. أنا أتصور أن كل فئات الشعب في الضفة الغربية مطبوعة باحتلال 27 سنة، وهي مختلفة عن الشعب الفلسطيني في الخارج، وفي كثير من الحالات وضعها أسوأ، وصفاتها أسوأ، والقيم التي تحملها أسوأ من الشعب الفلسطيني في الخارج، مع كل سوء الخارج. ومع الأسف، كل الذين يأتون من الخارج – لا أدري إذا كان يزيد منهم – أو كثيرون منهم يأتون إلى الضفة هذه الأيام وهم يحملون لافتات: "يسقط الخارج"، كأن القضية الأساسية في هذه المرحلة، التي ما زال الفلسطينيون فيها يستجدون اتفاقاً، هي كيف سنتخلص من الخارج.

قبل أسبوعين شاركت في مؤتمر في القدس، كان يوجد فيه أنيس القاسم، الذي كتب مشروع الدستور الفلسطيني. أتى وقدم رؤيته للدستور. أنا لم أقرأ الدستور. قد يكون سيئاً أو جيداً، القضية ليست مهمة كثيراً إلا للقانونيين. لكن اهتمام الناس ببنود الدستور كان اهتماماً تجارياً، مثل الذاهب إلى السوق ليفاصل: "هذا البند رقم 4 فاصلة 2 يعني مش شوي آخذ في حقوقنا، شوي أكثر أو شوي أقل؟" كأن القضية متعلقة بالقانون، كأنه في تشيلي لا يوجد قانون، أو في إسبانيا فرانكو لم يكن هناك قانون، أو في دول عربية تعرفونها. القوانين المكتوبة على الورق موجودة، ويقدر أي واحد أن ينقلها. وإذا كان المطلب أميركا، يستطيع المرء أن ينقل الدستور الأميركي ويترجمه حرفياً، إذا كان هذا يحل المشكلة. ما أريد أن أقوله هو: عندما يريد الناس أن ينظروا إلى الداخل يجب أن يلبسوا نظارات ليست وردية كثيراً. الداخل له إيجابيات من دون شك، مثلما الخارج له إيجابيات، لكن هذا التعارض بين الداخل والخارج، الموجود في أذهان الناس، هو وهم، ولن تنجم عن هذا الوهم نتائج إيجابية.

أحمد خليفة: في الحقيقة، عنوان الندوة هو "الديمقراطية والمستقبل الفلسطيني". ويبدو أن الذين بادروا إلى وضع العنوان كانوا مفترضين أن الديمقراطية قيمة إيجابية ومهمة كثيراً، وكانوا يشعرون، ربما، أنه إذا لم يُبن المستقبل الفلسطيني على أسس ديمقراطية، فسوف يكون مستقبلاً سيئاً. وربما كانوا مفترضين أنه عندما يُقال: "ديمقراطية"، فسيكون المقصود بذلك مفهوماً، وسيكون مفهوماً أي نوع من المستقبل نريده؟ يبدو أن القصة غير ذلك.

أريد أن أبادر وأقول إن الديمقراطية هي قيمة إيجابية، وإن كان جرى في الماضي إهمالها، فإن ذلك كان لاعتبارات كثيرة لن أخوض فيها. لكن إذا أردنا أن نتناول الديمقراطية من خلال تعقب أصول الكلمة اللغوية، ومحاولة تحليلها كمفهوم، وبعد ذلك كيف تطورت على أرض الواقع.. إلخ، فسوف يأتي الخبراء أو أساتذة العلوم السياسية ويطلعوا علينا بتاريخ طويل عريض وبتغييرات في مفهوم الديمقراطية عبر العصور، وفي كل المجتمعات، بحيث تكون النتيجة أنه لا يوجد شيء اسمه الديمقراطية، وما يسمى ديمقراطية هو في واقع الأمر كيف ينظم هذا المجتمع أو ذلك حكمه بطريقة معينة يسميها "ديمقراطية". أنا أقول على هذا الأساس: ما هو الوطن؟ ما هي القومية؟ ما هي الحرية؟ تعامل معها بنفس الطريقة، وستجد أنك لن تصل إلى أي وضوح. وبما أننا نناقش هنا المستقبل الفلسطيني، أنك لن تصل إلى أي وضوح. وبما أننا نناقش هنا المستقبل الفلسطيني، دعنا نقول، يا سيدي، إن الديمقراطية هي في المحصلة عكس الاستبداد والفردية. نحن فلسطينياً نشكو من الفردية في اتخاذ القرارات، ودعونا نعتبر أنه كلما ابتعدنا عن الفردية في اتخاذ القرارات، كلما كان القرار يُتخذ بمشاركة أوسع، كلما ابتعدنا عن الفردية، واتجهنا نحو الشيء الذي نسميه ديمقراطية، دون أن نضع تعريفاً دقيقاً له.

يوجد فلسطينياً فردية في اتخاذ القرار باتت الآن خطرة جداً، ليس فقط فيما يتعلق ببناء المستقبل الفلسطيني، وإنما أيضاً فيما يتعلق بالعملية التفاوضية نفسها. حتى مدريد اتُخِذ القرار بمشاركة واسعة في المجلس الوطني. بعد مدريد وحتى أوسلو، هذه المشاركة الواسعة في اتخاذ القرار لم تعد قائمة، وفعلاً أصبحت مجموعة ضيقة هي التي تتخذ القرار. والآن في مفاوضات طابا، أي بعد أوسلو، لم تعد حتى هذه المجموعة الضيقة هي التي تتخذ القرار. أصبح فرد وحيد، ياسر عرفات، هو الذي يتخذ القرار. حتى الإطارات الصغيرة تكاد تنتهي. وكل واحد على اطلاع على الأوضاع الفلسطينية، أو مشارك في المفاوضات – وبيننا الآن أكثر من شخص مشارك في المفاوضات – يعرف في المحصلة أن هذه الفردية بلغت حداً أصبحت معه خطراً علينا فيما يُعد من اتفاقات مع إسرائيل، ومع الجوار العربي، ناهيك عما يتم التفكير فيه بالنسبة للكيان الفلسطيني الذي سيبنى. لندع جانباً مسألة وضع تعريف واضح للديمقراطية، وضع نموذج واضح للديمقراطية، يحظى بالقبول العام. لنقل أنه يجب أن نطالب بالابتعاد عن الفردية، وبمشاركة أوسع باتخاذ القرار، وبمراقبة وبمحاسبة، ولنكتفِ بهذا القدر من الديمقراطية – "نعمة كريم". لكن عندما نبدأ بمهاجمة مفهوم الديمقراطية ونقول إنه فلسفياً غير واضح، وتاريخياً قابل للجدل، ومفهومياً يطرح إشكاليات، فسوف نصل لرفض الديمقراطية. دعونا نقول إننا نكتفي الآن من الديمقراطية بالشيء الإيجابي الذي لا مجال للاختلاف حوله – الابتعاد قدر الإمكان عن الفردية، ومحاربة الفردية، ومحاولة خلق وعي جماهيري في هذا الاتجاه. ليس خطأ أن نفعل ذلك.

برهان غليون: حتى لا نرجع إلى نقطة أساسية أثارها الأخ موسى حول موضوع الديمقراطية، أريد أن أبدي ملاحظة سريعة. لم يكن مفيداً، من وجهة نظري الشخصية على الأقل، أن نربط موضوع إثارتنا لموضوع الديمقراطية في فلسطين، أو في كل العالم العربي اليوم – وهي قضية مثارة بشكل كبير – بموضوع التأثر بالأميركان ولغة الأميركان، وبما قيل من أن الأميركان يمكن الضحك عليهم بكلمة. على الأقل فيما يتعلق بي شخصياً – لأن اسمي ذُكر – أنا نشرت بياناً حول الموضوع قبل 15 سنة. إن هذا الموضوع أساس وحساس لكل التطور العربي اليوم، ولا يمكن اختصاره وكسره بهذه الطريقة – أننا نشتغل ضمن إطار تأثير الأيديولوجية الأميركية الجديدة. قضية الديمقراطية في العالم العربي وفي فلسطين، وفي المؤسسات وفي كل مكان، مطروحة منذ ثلاثين سنة، أو حتى منذ بداية القرن. القضية جوهرية بالنسبة للمجتمعات العربية، وبالنسبة للحركات الوطنية، وبالنسبة للأحزاب. على الأقل يجب أن نحترم وجهة نظر من يقول أن الديمقراطية موضوع أساسي، وألا نختصرها بهذه الطريقة، وألا نعاملها بهذه الطريقة. 

نظرة إلى المستقبل

خليل هندي: في الحقيقة قيل الكثير حتى الآن، والكثير مما قيل يستحق التعليق عليه. وبما أن هذه أول مرة أتكلم فيها، أريد أن أعلق بسرعة على بعض ما قيل، ثم أنتقل إلى الموضوع الأساسي المطلوب مني الحديث عنه، وهو استشراف إمكانيات واحتمالات وآفاق الديمقراطية في المستقبل الفلسطيني.

الملاحظة الأولى التي أحب أن أبديها هي أنه، في رأيي، من الخطأ محاكمة المشروع الفلسطيني، مشروع التحرر الفلسطيني، من منظور هل كان ديمقراطياً أو غير ديمقراطي. المحاكمة يجب أن تكون من منظور ما إذا كان حقق ما كرس نفسه لأجله، وهو المشروع التحريري. ونحن نتفادى، كما يبدو لي، هنا وفي مجالس أُخرى، هذه الحقيقة المرة، وهي أننا أمام انتكاس المشروع التحريري الفلسطيني، بل والعربي. فلنقل ذلك بصراحة، ولنواجه الموضوع بصراحة أيضاً.

إذا اعترف المرء بذلك، يبقى الموضوع هو: إلى أي مدى يمكن في ظل العلاقات القائمة، وفي ظل ما تسمح به الموازين الحالية، التأسيس لمستقبل ديمقراطي فلسطيني؟ هذا هو السؤال المركزي. وهنا نواجه معضلة الانتقال من الوضع الذي نحن فيه إلى وضع سيكون، وإلى فترة زمنية ليست بالقصيرة، محكوماً بعلاقات وتوازنات خارجة عن الإرادة الفلسطينية وعن المجتمع الفلسطيني، أو بعبارة أُخرى، محكوماً بعلاقات تفرضها الاتفاقات الدولية والاتفاقات مع إسرائيل. هذا أحد الأطر التي لا بد للمشروع الفلسطيني من أن يمر عبرها، ويجب ألا ننسى ذلك. هناك أيضاً مشكلة كون حركات التحرر، كما قيل، هي بطبيعتها انتخاب للذات، وقد لا يكون من الصحيح القول إن هناك قانوناً حديدياً، ولكن يبدو لي أن ما ذهب إليه فواز صحيح إلى حد ما. طبيعة حركات التحرر الوطني تؤدي إلى المركزية، وتؤدي إلى علاقات تنظيمية صارمة.. إلخ. للحقيقة والتاريخ يُسجل أنه كان لدى الحركة الفلسطينية نزوع إلى نوع ما يمكن أن يُسمى ديمقراطية التوافق، وهذا ناجم عن التجربة الفلسطينية المرة، تجربة الاقتتال الفلسطيني في سنة 1936. ولكن رغم هذا النزوع، وبسبب عدة عوامل داخلية وخارجية، بعضها موضوعي وبعضها ذاتي، وصلنا غلى وضع انتفى فيه التعاون الديمقراطي داخل المؤسسات الفلسطينية نفسها، وأيضاً داخل التنظيمات الفلسطينية، كل على حدة. يضاف إلى ذلك أن من سيكون وكيل الانتقال هو هذه الحركة، وهذه التنظيمات، وهذا النظام السياسي الفلسطيني الذي وصفه بدقة الأخ يزيد. بالإضافة إلى ذلك تأتي بطبيعة الحال مسألة توزيع الغنائم والأسلاب. وهذا كله ينذر من يريدون الديمقراطية بمعركة حامية وصعبة جداً. وهناك أيضاً قضية أُخرى هي قضية الدمار الهائل الموجود في المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة. هذا الدمار الهائل بحاجة إلى مشروع بناء وإعمار، إذا أريدت له الفعالية، سينزع بطبيعته نحو المركزية. طبعاً نحن من الداعين إلى أن يكون هذا المشروع وسيلة من وسائل إدخال الديمقراطية إلى المجتمع الفلسطيني، ولكن لا مناص من الاعتراف بأن مشروع بناء طوارىء ينزع بطبيعته إلى المركزية والتمركز.

هذه إحدى القضايا التي يجب أن تبقى في الذهن. يضاف إلى ذلك أن المرحلة القادمة الانتقالية محكومة بكونها تفتقر إلى اليقين. وهذا ينزع أيضاً إلى تغييب التوجهات الديمقراطية، بمعنى أنك إذا لم تكن تستطيع أن تعرف ماذا سيحدث، فلن تستطيع مناقشة القائد أو الزعامة أو القيادة.. إلخ، فيما تفعل، لأن الصورة كلها مشوشة وغائمة، وليس بالصدفة أن معظم الشعب الفلسطيني حالياً مسلم أمره إلى القيادة ولسان حاله يقول: "لنشوف شو بيطلع"، الأمر ليس ناجماً فقط عن الصدفة، وإنما أيضاً عن طبيعة وآليات التسوية التي فرضت علينا.

إذا وضعنا كل هذه الأمور في الذهن، نعود إلى السؤال الأساسي، وهو كيف يمكن في مرحلة الانتقال توفير إمكانيات التحول إلى مستقبل ديمقراطي في مرحلة من المراحل، أو عند اكتمال أو نشوء الدولة، أو نشوء السلطة. يبدو لي أن كل الحركة الديمقراطية العربية، ومنها الحركة الفلسطينية، مصابة بنزعة المناشدة الأخلاقية، وكأنه يكفي لتحقيق الديمقراطية أن نرفعها شعاراً، وأن نناشد القادة أن يكفوا عن غيّهم، وأن يغلبوا المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وأن يغلبوا مصلحة المجموع على مصلحة التنظيم.. إلخ. وفود تأتي من القدس وغزة وعمان إلى أبو عمار وتناشده أن يسلك الطريق الديمقراطي.. إلخ. وفي تقديري إن مقاربة للديمقراطية من هذا النوع تؤدي بالفعل إلى تغييب الديمقراطية، لأن الديمقراطية عملية مستمرة، وإذا أردنا أن نصل إلى مستقبل ديمقراطي فيجب أن نبدأ بالعملية الديمقراطية من الآن، بما هي مشاركة الناس في تقرير مصائرهم. وأنا أرى أنه توجد ضرورة لتعريف ما هي الديمقراطية. ليست الديمقراطية هي فقط علاقة بين الحاكم والمحكوم، بل هي أقرب إلى ما وصفه موسى البديري؛ هي رفعة وأسبقية المجتمع المدني، واستقلالية المجتمع المدني عن مجتمع الدولة – والاستقلالية نسبية طبعاً – وأن يكون مجتمع الدولة محكوماً بالمجتمع المدني. ويجب ألا ننسى أنه حتى في الديمقراطيات الراسخة، السلطة تنزع إلى الجنوح، تنزع إلى الغموض، تنزع إلى الخرق وإلى التغييب، والديمقراطية هي سلسلة معقدة متشابكة من الضوابط والتوازنات (checks and balances)، والذي يجري حالياً في إنكلترا وفي إيطاليا وفي فرنسا ليس إلا تعبيراً عن ذلك. في المجتمعات الديمقراطية يوجد لدى المجتمع المدني والسياسي أيضاً من الوسائل والإمكانيات ما يمكنه من مقارعة هذه النزعات، وتغليب المساءلة والشفافية والمحاسبة.. إلخ. إذن يصبح السؤال: كيف يمكن تعيين عدد من المسائل الأساسية المفصلية، التي ينبغي النضال من أجلها، لتغليب فرص نمو عملية الديمقراطية الفلسطينية. لا أدعي أني أملك جواباً، وكل ما سأفعله هو أن أطرح عدداً من الأسئلة بصدد عدد من القضايا، لعل ذلك يؤدي إلى الإشارة إلى بعض المعالم.

المسألة الأولى هي قضية الدستور. وهنا أبدأ بأن أشير إلى أن الطريقة التي تعامل بها موسى البديري مع مسألة الدستور ليست ديمقراطية، وفيها استخفاف. إن ما يجري حالياً من صوغ لدستور فلسطيني في غياب عن الناس والتنظيمات والقوى السياسية مسألة يجب التصدي لها بحزم، لأن مسألة الدستور لها علاقة بحكم القانون. بفصل السلطات، بسيادة القانون، وهذه المسائل كلها، ليست واردة – إذا توخينا الدقة والصراحة – لا في وعي الناس ولا في وعي الشعب، ولا بد من عملية نقاش حول الدستور الفلسطيني وما يجب أن يكون فيه. وهذا النقاش أهم من الدستور نفسه. فالدستور بحد ذاته هو من لوازم مرحلة لم نصل إليها بعد، وربما تأتي بعد خمس سنوات. الآن هناك مرحلة انتقالية بحاجة إلى دستور مؤقت، أو إلى نظام مؤقت، يبين ما هو النظام السياسي الذي سيسود فعلياً في المناطق التي سيتولى الفلسطينيون السلطة فيها، وهناك حاجة إلى إثارة قضية النظام أو الدستور المؤقت الذي سيحكم السلطة في العملية الانتقالية. وأكرر أن عملية النقاش حول هذه المسألة أهم من النص نفسه الذي يتم التوصل إليه.

المسألة الثانية التي يجب أن يدور النقاش حولها هي مسألة التعددية. قد يقول البعض أي تعددية؟ نحن نشكو من مسألة التعددية، وعندنا أكثر مما يجب من التنظيمات والأحزاب. الواقع إن ما نحن مقبلون عليه، برغم كل التعددية الحزبية والتنظيمية والفصائلية، هو في أحسن الأحوال نظام الحزب الواحد، بثلاثة أجنحة: فتح، فدا، حزب الشعب – ثلاثة أجنحة في حزب واحد عملياً.

وهناك حاجة ماسة إلى إيجاد أشكال تعددية ضمن هذا التركيب السياسي القائم، وعدم قبول التعمية الحالية أن هناك على الأقل ثلاثة أطراف مشاركة في العملية. بالطبع هناك تنظيمات أُخرى، ولكن هذه خارج العملية السياسية ككل.

المسألة الثالثة التي يجب التفكير بها جدياً هي قضية الدفاع عن الانتخابات. يزيد مطمئن إلى أن الانتخابات ستجري لأن "الانتخابات ليست مشكلة". أنا لست متأكداً من ذلك مائة بالمائة. يجب أن نناضل من أجل الانتخابات، لكن الأهم من ذلك، والأهم أيضاً من مبدأ الانتخاب، هو إجراء نقاش جدي حول النظام الانتخابي الذي يجب أن يسود. هل هو قائم على نظام الدائرة الانتخابية، أم على نظام القوائم الانتخابية، أم على مزيج من النظامين؟ وذلك لأن كل خيار من هذه الخيارات سيحدد معالم الآلية السياسية القادمة. مثلاً إذا استقر الرأي على نظام الدوائر الانتخابية، فقد ينتهي الأمر إلى سيطرة العائلة والحمولة.. إلخ.. على الحياة السياسية الفلسطينية. بالمقابل إذا تم اختيار نظام اللائحة، وخاض الناس الانتخابات في قوائم انتخابية، فقد تُستعدى قوى أساسية في المجتمع. هذه معضلة ينبغي أن تدرس، وأن يصار إلى حلها.

المسألة التالية التي يجب البحث فيها جدياً، من زاوية توسيع طرق الديمقراطية، هي مسألة القطاع التطوعي في المجتمع الفلسطيني. يبدو لي أنه نشأ في الأراضي الفلسطينية في ظل أوضاع الاحتلال قطاع تطوعي ضخم وكبير ومتنوع – لجان طبية ولجان نسائية.. إلخ. وفي رأيي يوجد قدر كبير من الفوضى هنا، وليست الصورة إيجابية على إطلاقها. هناك إيجابيات وهناك سلبيات، وسيكون نزوع السلطة الطبيعي، أية سلطة، هو إلى ضبط القطاع التطوعي والتعاوني وربطه بالدولة. وهناك حاجة حقيقية إلى خوض نضال لترشيد القطاع التطوعي، لأنه حالياً توجد لكل جهة من الجهات الفلسطينية، للشعبية وللديمقراطية ولفتح، قطاعاتها – لجانها النسائية ولجانها الطبية ولجانها للإغاثة الزراعية.. إلخ – وهناك أيضاً حاجة الدفاع عنه والإصرار على إبقائه منفصلاً عن السلطة، ورافداً حيوياً من روافد احتمالات الديمقراطية الفلسطينية.

ثم هناك مسألة برنامج الإعمار الفلسطيني. وهذه المسألة لها علاقة بالحكم المحلي أو الديمقراطية المحلية، مع أن الأمر قد لا يبدو كذلك. كما قلت، ستكون هناك نزعة يصعب مقاومتها إلى مركزة برنامج الإعمار. إذا أردت تنفيذ برنامج طوارىء في مدة قصيرة، فمن الأسهل أن تمركز العملية كلها، وليس هذا فحسب، بل من الأسهل  أن تقتفي أثر برامج الإعمار والتنمية العربية بأن تدفع أموالاً – والأموال على أية حال في وضعنا هذا آتية من الخارج – والناس من الخارج "يعملون لك كل شيء" بقضه وقضيضه. قد يبدو أن هذه المسألة لا علاقة لها بالديمقراطية، إنما في الواقع لها علاقة هامة جداً بتوسيع احتمالات الديمقراطية، من حيث أننا إذا استطعنا تنفيذ برنامج الإعمار بشكل يمكن الناس، يمكن البلديات، من تسويق إمكانياتها وقدرتها على الفعل في حياة الناس، بشكل يمكن المنظمات غير الحكومية من القيام بدور في العملية التنموية، بشكل يمكن من بناء القدرات الذاتية لقطاع خاص يقف مستقلاً عن الدولة، فإن هذا كله سيصب في خانة توسيع فرص الديمقراطية فيما بعد.

ومسألة أُخرى لا يجري الحديث عنها كثيراً، هي مسألة دور القطاع الخاص الفلسطيني. هناك في رأيي حاجة لمناقشة جدية أيضاً لمسألة دور القطاع الخاص الفلسطيني، أو ما اصطلح على تسميته بالمتمولين الفلسطينيين. وقد لا يخفى على البعض، أو عليكم جميعاً، أنه تشكلت الآن علاقة عدائية بين المتمولين الفلسطينيين وبين السلطة الفلسطينية القادمة، ناتجة عن أمرين: الأول هو أن المتمولين الفلسطينيين صاروا متمولين في الدول النفطية التي كوّنوا ثرواتهم فيها لا باستقلال عن الدولة، بل بتواطؤ مع منطق الدولة، ونظرتهم إلى إدارة الأعمال هي أنك "تذهب وتتفق مع الدولة على شيء وتعمله"، والثاني هو أن السلطة الفلسطينية أصبح لديها تقليد ممتد على 10 – 15 سنة خلاصته أنها تتعامل مع متمولين فلسطينيين كلهم كرماء يقولون لهم إدفعوا، يدفعون؛ يقولون لهم إفعلوا كذا، يفعلوه. الآن هناك حاجة إلى نوع من العلاقة الجديدة، والطرفان عاجزان عن صوغها. هناك حاجة ماسة إلى إقناع المتمولين الفلسطينيين، أو الضغط عليهم، أو التصارع معهم لإقناعهم بأن وظيفتهم هي أن يعملوا مستقلين عن الدولة، عن السلطة القادمة، وبأنه يجب أن يكون هناك قطاع خاص حيوي وذو مصالح متجددة وراسخة، ويقوم بالضغط على الدولة، لأن الدولة مهمتها التشريع فقط. لا أدري كيف يمكن حل هذه المشكلة مع المتمولين الفلسطينيين.

في الختام، تبقى كل هذه المسائل ثنائية [بين أطراف قابلة للتسوية]، والمسألة الرئيسية التي يتوقف عليها المستقبل الديمقراطي الفلسطيني هي: هل سيمكن ضبط التناقضات بين المنخرطين في هذه التسوية وبين من يعارضونها، على نحو يتيح تطور المجتمع الفلسطيني، أو أن هذه التناقضات ستنفجر بشكل يؤدي إلى تضرر المجتمع الفلسطيني، أو إلى تولي أجهزة القصر زمام الموقف؟ أيضاً، بالإضافة إلى ضبط التناقضات بين القوى المنخرطة في التسوية والقوى غير المنخرطة في التسوية، هناك مسألة الموقف من القوى غير الديمقراطية – كيف يمكن التعامل مع القوى غير الديمقراطية من دون أن تؤدي هزيمة القوى غير الديمقراطية إلى تحويل المجتمع بأكمله إلى مجتمع أسير بيد الدولة؟ هذه معضلة حقيقية في رأيي لم يجاوب عليها أحد حتى الآن. وختاماً هناك السؤال الخطير الذي يتجنبه الجميع، وهو سؤال العلمانية. هل يمكن أن تكون ديمقراطية دون علمانية؟ وكيف يمكن أن نضيف العلمانية إلى قائمة اهتماماتنا الديمقراطية دون أن يؤدي ذلك إلى فتح أبواب لا نستطيع غلقها؟

عفيف صافية: أريد أن أبدأ بتوضيح صغير، وهو أنني أتكلم هنا بصفة شخصية. يشرفني جداً المشاركة في هذه الحلقة الدراسية، ولكن أتصور أنني أنا الوحيد الذي يشغل موقعاً تنفيذياً في المؤسسة الفلسطينية، ولذا لا بد من أن أوضح أن مشاركتي هي بشكل شخصي. وهذا يعني أنني لن أشعر بأنني ملزم بالإجابة على كل طرح من خلال إبداء موقفنا الرسمي، إذا كان يوجد موقف رسمي منه.

أود أن تناول بضعة نقاط بطريقة تلغرافية. النقطة الأولى هي أنه ملحوظ في المداخلات أن الإخوة العرب – غير الفلسطينيين – كانوا أحن وأرق تجاه التجربة الفلسطينية السابقة من إخواننا الفلسطينيين، وهذه ظاهرة تستحق الدراسة، وإن كانت تعني شيئاً فإنها يمكن أن تعني أن الواقع الفلسطيني كان نوعاً ما واقعاً متطوراً إذا قارناه بواقع الأنظمة العربية، وحتى بالحياة السياسية في أوساط المعارضات العربية. وأتصور أن نظرة المتحدثين الفلسطينيين، التي هي جزئياً نظرة مازوكية، نابعة عن رغبتنا بأن تكون تجربتنا متطورة أكثر. النقطة الثانية التي أحب أن أقولها هي أنني أختلف كلياً مع ما تفضل به أخي أحمد خليفة بالنسبة لتعريفه الأخير للديمقراطية بأنها عكس سلطة الفرد وضرورة أن تكون هناك مشاركة من بضعة أفراد في الشريحة السياسية في صنع القرار. أتصور أن مفهومنا للديمقراطية أشمل من توسيع دائرة صنع القرار من فرد إلى مجموعة مصغرة، خاصة في ضوء بعض القياديين الذين استشهدوا.  وهنا ننتقل إلى موضوع آخر – ما هي الديمقراطية؟ أتصور أن البعض أشار إلى أن هناك مفاهيم متعددة. البعض في الصحافة العربية، وفي الساحة الإسلامية، وفي العالم الثالث، يعتبر الديمقراطية ظاهرة غربية، أيديولوجية مستوردة. أنا شخصياً لا أعتبرها كذلك، وأعتبرها نتاجاً للمسيرة الإنسانية. وتعريفي لها هو أن الديمقراطية يجب أن تكون دستورية، تعترف بالتعددية، تحترم مبدأ الانتخابات في فترات ولحظات زمنية محددة، الأكثرية فيها تحترم الأقلية والأقلية تحترم قرارات الأكثرية، وتقوم على كيان سياسي يكون الجهاز الحكومي فيه غير أيديولوجي ومهمته العمل في خدمة الطرف السياسي الذي انتصر في الانتخابات الأخيرة. لكن الانتخابات الأخيرة يجب ألاّ تكون الأخيرة كانتخابات. وهنا نأتي إلى موضوع من يمول مَن. في المفهوم الديمقراطي الطبقة السياسية والجهاز التنفيذي هما في خدمة المجتمع، والمجتمع هو الذي يمول الطبقة السياسية والجهاز التنفيذي، وليس العكس.

هذه بعض الملاحظات الأولية، ومنها سأنتقل لملاحظات حول الوضع الحالي، وسأكون أقصى من غيري في تقويمي لتجربتنا السابقة. أظن أنه في يومنا هذا، في 19 شباط/ فبراير 1994، بإمكاننا القول إن الشعب الفلسطيني ليس عنده لا المؤسسة التي يستحقها ولا المعارضة التي يحتاجها. هنالك مؤسسة وهنالك موالون، وهنالك معارضات، لكن أظن أن شعبنا ومجتمعنا يستحقان مؤسسة أفضل ويحتاجان إلى معارضات أنقى وأرقى.

والسؤال دائماً هو كيف يوازن المرء ما بين الولاء المحترم والمعارضة المسؤولة، لأن هنالك في كثير من الأحيان ولاء ليس محترماً، وليس مبنياً على أسس نبيلة، وهناك معارضات في بعض الأحيان ليست مسؤولة. وهنا، نأتي إلى موضوع كيف يستطيع المرء أن يستمر في معالجة قضية الديمقراطية في لحظتنا هذه دون خدش وإضعاف الموقف التفاوضي الفلسطيني، ونرجع إلى موضوع أننا ما زلنا في مرحلة الصدام مع العدو الخارجي، العدو المحتل.. إلخ. وهنا أيضاً لدي شعور أن المناقشة حول الديمقراطية لم تكن دائماً تجري بطريقة حكيمة لا تخدش أو تضعف الموقف التفاوضي للطرف الفلسطيني.

أنا شخصياً أتصور أن طبقة المثقفين، تاريخياً، وفي المرحلة المعاصرة، لم تلعب دورها بأكمله. إن شريحة كاملة من المثقفين الفلسطينيين، من أواخر الستينات وخلال السبعينات وبداية الثمانينات، تنازلت نوعاً ما عن دورها المحتمل، وكان عندها موقف تبعي تجاه الطليعة التي بادرت مشكورة إلى الكفاح المسلح وصنعت الحدث وصنعت التاريخ، ولكن هذه الطبقة المثقفة التي انضمت إلى المسيرة الفلسطينية لم تلعب الدور المتوقع منها، والذي كان مطلوباً منها، والذي كان بإمكانها أن تطمح إليه، وخصوصاً أن المثقفين لا يطمحون إلى السلطة كسلطة، لكن يطمحون لأن يكون لهم تأثير ونفوذ. وعندي شعور أن القيادة التاريخية التي انطلقت كطليعة في الكفاح المسلح وحصلت على شرعية ثورية، لم تستفد من شريحة المثقفين كفاية، وأن شريحة المثقفين كانت متواضعة أكثر مما عودتنا عليه، وقبلت أن تلعب دوراً تابعاً. مثلاً، الدكتور حنا ميخائيل (أبو عمر)، الذي لم يعط كل ما كان في وسعه أن يعطيه للحركة الفلسطينية، كان دوره في خلال شهرين أقمت أثناءهما في لبنان أن يترجم للقياديين من العربية للإنكليزية، وكان يفعل ذلك برضى وتواضع. وأخذته كمثال لأن معرفته وعلمه وجدارته ليست موضع تشكيك. ولكن ليس فقط إعلامياً، وكان يجب أن يكون صياغة مشروع سياسي وتثقيفي. وفي هذا المجال الطبقة المثقفة تفهم أكثر من الطبقة السياسية، ولكنها لم تلعب دورها كما يجب. وعندي شعور بأننا جميعنا قصّرنا في لحظة ما، وسنقصر أكثر إذا بقينا سجناء المرحلة السابقة.

وهنا سأنتقل بطريقة تلغرافية أيضاً إلى المرحلة المقبلة. عندي شعور أن المرحلة السابقة أعطت كل ما عندها، ونحن الآن نفتح صفحة جديدة وفصلاً جديداً في المسيرة الفلسطينية الجماعية. وأظن أن الفترة السابقة كانت تتسم بخصوصية معينة، بتخلف في العلوم السياسية، وعلينا أن نعترف أنه ما زال هناك تخلف في العلوم السياسية العربية ومجالات دراسة العمل السياسي والحياة السياسية العربية. مثلاً، ذُكر المجلس الوطني الفلسطيني. أنا حتى الآن لم أرَ دراسة واحدة عن المجلس الوطني بمفهوم العلوم السياسية. كل الدراسات عبارة عن إنشاء واستشهاد بخطب قيلت أو لم تُقَل. ومَن صفق، ومَن تكلم بعد مَن. وهنالك مجالات أُخرى عديدة لم يتم استكشافها بالأسلوب العلمي البحت. وعندي شعور أن خصوصيتنا تنبع من الظاهرة التالية – في العلوم السياسية النظام السياسي هو نوعاً ما سلطة على ديمغرافيا، على جغرافيا، وخصوصية وضعنا هي أن جغرافيتنا تحت الاحتلال، ديمغرافيتنا مبعثرة، وسلطتنا في المنفى، وبالتالي لم يكن هناك تفاعل مستمر ويومي بين المستويات الثلاثة التي يتشكل منها النظام السياسي. كانت القيادة، أو السلطة في المنفى، تأخذ القرارات ولا ترى كيف تترجم على أرض الواقع. وكانت ردود فعل المجتمع تأتيها، ولكن متأخرة ومشوهة. مثلاً من كان ينقل للقيادة في بيروت أو في تونس عن واقع الحال في الداخل، كان ينقل ما يطلبه المستمع إليه. كان يقول: الوضع على أحسن ما يمكن والكل يحبكم، وينتظركم بفارغ الصبر، وهلم جرا. وربما كان المطلوب منه عندما أرسل من الداخل للخارج أن يقول لهم: إنكم لا تهتمون بالبنية التحتية، وبجامعاتنا ومشاكلها.. إلخ. إذن كانت ردود فعل الديمغرافيا تصل للسلطة بتأخر وتشويه. ومع كل نواقص، وكل قيود، وكل مساوىء اتفاق أوسلو، فإنه على الأقل سيغير هذا الوضع جزئياً.

غداً سيكون عندنا تجربة مختلفة بالنسبة للمستويات الثلاثة، وسيتشكل نظام سياسي أكثر توازناً. ونصائحي لمجتمعنا هي التالية:

هنالك ضرورة لأن تعلن القيادة أن كل التعيينات التي تمت في المرحلة الأخيرة هي ذات طابع مؤقت. إعلان كهذا سيريح المجتمع الفلسطيني، نظراً لوجود تخوف واعتراض وإشكال حول التعيينات. النقطة الثانية هي أنه بعد وصول القيادة إلى الداخل، هنالك ضرورة ملحة لأن تنشىء كافة فصائل العمل السياسي الفلسطيني في داخلها نوعاً من الحياة الديمقراطية. الحركات السياسية، التي عاشت 27 سنة تحت الأرض، ستظهر الآن إلى العلن وتصبح أحزاباً انتخابية وبرلمانية، وستكون قوانين اللعبة وأساليب التوجه والخطاب مختلفة كلياً عن السابق، وهنالك ضرورة ملحة لدمقرطة الحياة داخل كافة التيارات السياسية، بما فيها التيار الذي يشكل العمود الفقري، أي فتح. النقطة الثالثة هي أنه يجب في رأيي أن نمر أولاً بانتخابات بلدية، مع التأكيد مسبقاً أن الانتخابات البلدية ليست بديلة عن الانتخابات التشريعية للمجلس الفلسطيني. لماذا الانتخابات البلدية أولاً؟ لأن هناك أمراً ملحوظاً بوضوح، وهو أن غياب بلديات شرعية لفترة أكثر من عقد خلق وضعاً سيئاً جداً فيما يتعلق بالإعمار والخدمات التي هي عادة من مسؤوليات البلدية. إذن هناك ضرورة لأن نجري انتخابات بلدية بسبب غياب البلديات. وبالتالي فإن هذه الانتخابات لن تكون بحد ذاتها مصدر إشكال وخلاف وصراع. وإذا أجريناها بالشكل المرغوب، أي بطريقة ديمقراطية شفافة ونزيهة، واحترم الجميع نتائجها، أي احترموا الإرادة الجماعية للناخبين والناخبات والمجتمع، سينشأ على الفور ضغط شعبي وجماهيري على الفصائل المترددة أو الرافضة لمبدأ الانتخابات التشريعية، لكي تشارك فيها، وفي حال استمرارها في رفض مبدأ الانتخابات البرلمانية ستعاقبها الجماهير سياسياً. بهذا التسلسل أتصور أنه بإمكاننا أن نبدأ صفحة جديدة في الحياة السياسية الفلسطينية.

هناك إشكال من المفروض أن نأخذه بعين الاعتبار، وأتصور أن الذين يقومون بصوغ الدستور الفلسطيني لم يحلوه حتى الآن، بالرغم من أنه قيل لهم إنه يتوجب عليهم حله. وهو كيفية التوفيق بين الشرعية التي ستنبع قريباً من الداخل وبين الشرعية الفلسطينية الشاملة المتجسدة في المجلس الوطني الفلسطيني. علينا ألا ننسى أن الشعب الفلسطيني مبعثر، وتقريباً 55% - 60% منه موجود في الخارج. قَبِلنا في العقود الماضية صيغة أن اللعبة السياسية متجسدة داخل المجلس الوطني، الذي ينبثق عنه مجلس مركزي هو بمثابة مجلس وطني مصغر. علينا الآن أن نجد صيغة مرضية ومقنعة لتداخل وتفاعل الشرعية النابعة من الأراضي المحتلة، والتي ستقوم عليها الحكومة المؤقتة، مع الشرعية الشاملة في الخارج.

ضياء الفلكي: في الواقع أنا من جيل تربى على التحرير وما زلت أؤمن بالتحرير، وتربيت أيضاً على أن الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع وجود وليس صراع حدود، وما زلت أؤمن بهذه المقولة لحد الآن. أنا كذلك من جيل عاصر الانقلابات العسكرية، بحجة تحرير فلسطين، ولم أشارك طيلة حياتي في انتخابات. كل العهود التي عشنا بها هي عهود ديكتاتورية، والسبب هو فلسطين. في نفس الوقت، أنا أعتقد أن قضية فلسطين ليست قضية فلسطينية، ولا يمكن تحجيمها أو تصغيرها إلى قضية فلسطينية فحسب، وإنما هي قضية عربية. وكل ما يحصل في الوطن العربي يؤثر على فلسطين، وكل ما يحصل في فلسطين يؤثر على الوطن العربي. ومحاولة حصر قضية فلسطين بالفلسطينيين، وحصر قضية فلسطين والديمقراطية في فلسطين فقط في قصة غزة وأريحا، أعتقد أن هذا كارثة للفكر العربي. وأعتقد أيضاً أن م. ت. ف. أتيحت لها فرص تاريخية كبيرة لم تتح لأي حركة تحرر أُخرى في العالم – أيتح لها العمق الجغرافي، أتيح لها الوجود البشري الواسع، وأتيح لها مال كثير، ولم تستفد من هذه الفرص بكاملها. في نفس الوقت يجب أن نشهد أيضاً أنها قدمت الكثير، وأن مستوى التنظيم ومستوى المشاركة في القرار كان مستوى يفوق حتى ما يجري في الدول العربية. لكن م. ت. ف. بدأت بالانحدار منذ فترة، وأعتقد أن اتفاق أوسلو هو طلقة الرحمة عليها. وأعتقد أن الطريق الأساسي والصحيح للتحرير هو التمسك بالديمقراطية، مع الأخذ بالاعتبار الظرف الدولي والعوائق، والحاجة إلى المناورة أحياناً. لكن ما يجري الآن هو استسلام كامل، وهو في نفس الوقت دكتاتورية معلنة على كل من يرفض.

معين رباني: أتصور أن الصراع الديمقراطي الفلسطيني في الوقت الحالي له بعدان – الأول إجبار السلطة الفلسطينية على تبني أساليب ديمقراطية داخل الأراضي المحتلة، والثاني بناء، أو إعادة بناء، المؤسسات الوطنية الفلسطينية في منظمة التحرير، أيضاً على أساس ديمقراطي. لكن من المهم جداً، كما قال عفيف، الدمج بين البعدين، لأنه لو اقتصر الأمر على الأراضي المحتلة فإن الوضع سيكون خطيراً جداً بالنسبة للقضية الفلسطينية، حتى ولو تحققت نجاحات ديمقراطية، لأن معناه انقسام الشعب قسمين: داخل وخارج. أنا أتصور أن الأولوية على نطاق وطني فلسطيني تتطلب إعادة بناء، أو إنشاء، الديمقراطية على مستوى وطني وليس فقط في الأراضي المحتلة.

غسان عطية: شخصياً تربيت في الهم الفلسطيني، والذي سمعته مفيد لي من أكثر من جانب، انتقالاً من حوار تقويم، إلى تشخيص، إلى تمنيات. على صعيد التقويم، واضح أن م. ت. ف. كحركة تحرر وطني فشلت. والفشل انتهى بتوقيع اتفاق أريحا، من منطلق تقليل الخسائر، لا البطولات. وإذا كان هذا أقصى ما أمكنها أن تحققه كحركة تحرير وطني، فهذا الشيء هو فشل. والشعار الذي رفعته، وهو تحرير فلسطين، سواء كامل التراب أو نصفه أو ربعه، ارتضت من أجله أن تقول إنها لن تتدخل في شؤون الدول العربية وتحالفت مع الدكتاتوريات ونهجت نهجاً أساء إلى سمعتها بين الشعوب العربية، إلى أن جاءت القصص الكثيرة التي تعرفونها فزادت الأمور سوءاً.

وبالنسبة للمستقبل، أنا كعربي من العراق، وأتمنى أن يحصل شيء من الديمقراطية في بلدي، يهمني أن تنجح الديمقراطية في فلسطين. منظمة التحرير الفلسطينية تبقى كحركة سياسية أكثر ديمقراطية من أي تنظيم سياسي عربي معارض في تاريخنا المعاصر. لكن الديمقراطية التي مارستها، بمعنى الرأي والرأي الآخر، التعددية، التسامح، الانفتاح، فرضتها في الحقيقة شروط الوحدة الوطنية.

وبالنسبة للمستقبل، أنا غير متفائل بإمكانية الديمقراطية في أريحا وغزة أو في الضفة الغربية.

مصطفى الحسيني: يتضح من النقاش أن هناك عدة إشكاليات ينبغي أن تكون واضحة تماماً في الذهن. الإشكالية الأولى هي كيف يمكن لحركة تحرير ليس من مهمتها العناية بمسألة الديمقراطية أن تقيم نظاماً ديمقراطياً، وأعتقد أننا في الجلسة الأخيرة ناقشنا ذلك. لكن انطباعي هو أننا ناقشناه بشكل معملي، بمعنى أننا درسنا المشروع الفلسطيني في مختبر، معزولاً عمّا عداه. وهذا يثير العديد من الأسئلة: هل نتوقع من سلطة تصل إلى موقعها على قاعدة من شرعية مشروع لم تحققه ومختلف عليه بصورة واسعة وعميقة، هل يمكن أن نتوقع من هذه السلطة أن تستجيب لضغوط الديمقراطية؟ سؤال ثان: ما هو تعريف الشعب الفلسطيني الذي نطالب بأن يُحكم حكماً ديمقراطياً؟ هل هو الـ 2.5 مليون نسمة في الضفة وغزة فقط؟ هل هو اللاجئون الذين يعلم الله وحده إن كانوا سيرجعون، والأرجح أنهم لن يرجعوا؟ إذا لم يكن هناك اتفاق على من هو الشعب الذي سيُحكم حكماً ديمقراطياً أو غير ديمقراطي، فعلى أي أساس نحن نتكلم؟ ثالثاً، لدينا اتفاق يعطي دوراً أساسياً لإسرائيل في صياغة طبيعة السلطة، فهل يمكن في ظل هذه العلاقة أن نتحدث عن الديمقراطية؟ رابعاً، إن هذه السلطة تتحمل مسؤولية أمنية تجاه إسرائيل، أي مسؤولية قمع قسم من شعبها لحساب العدو، فهل يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية في هذه الحالة؟ أليس السؤال الحقيقي هو: هل يمكن إكمال المشروع التحرري الفلسطيني عن طريق إعادة صياغة ديمقراطية للمشروع التحرري الذي هزم؟ هذا هو السؤال الحقيقي. ثم، أنت الآن تقيم سلطة وطنية معتمداً على مانحين أجانب، وعلى هيئات وعلى مؤسسات – هل لن تفرض هذه شروطها، هل لن تسعى عن طريق هذه الشروط لترجيح توازنات اجتماعية معينة على توازنات اجتماعية أُخرى، وتفضيل نظم سياسية معينة على نظم أُخرى؟ ما أعنيه هو أن هذا الطرح المعملي جيد في غرفة مغلقة، لكن إذا انتقلنا به إلى الأرض سنجد أن الطرح المعملي ليس له أي معنى، للأسف الشديد.

فواز طرابلسي: في الحقيقة أنا مسرور جداً من أن النقاش وصل ببضع ساعات إلى التقاط المفاصل الرئيسية. وأريد فقط أن أعلق بسرعة على الكيان الفلسطيني وعلاقته بمحيطه العربي من زاوية الديمقراطية، هل يمكن صنع ديمقراطية بعدد سكان الكيان الفلسطيني الذي سينشأ؟! هل يمكن صنع الديمقراطية في كيان محشور بين إسرائيل – وقد صارت جزءاً من المنطقة من خلال الحل – وبين الأردن؟! قد يبدو الأمر وكأننا نتفلسف ونشاغب، إنما ما يجعلنا نتساءل هو أن الانقلاب الحاصل في المنطقة يجري التعاطي معه من خلال منطق يقول إن هناك دولة فلسطينية قيد الولادة فتعالوا نقترح مواصفاتها الديمقراطية، مع الاستدراك بأنه جرى التطرق بحق لعدد من الإشكالات فيما يتعلق بهذا الموضوع. وأحب أن أذكر بما قيل، خاصة بما قاله الأخ مصطفى. هذه المنطقة الآن يحكمها البنك الدولي الممول لهذه المنطقة، بغض النظر عما تستطيع أن تتصرف به من تلقاء ذاتها. هل توجد إمكانية للبحث في الموضوع الفلسطيني، بما في ذلك الديمقراطية، خارج ضخامة موضوع السوق الشرق أوسطية التي ستُدخل إسرائيل سياسياً إلى المنطقة، والذي يجب أن يكون ردنا عليه، بالمناسبة، ليس فقط رفض التطبيع. وإذا كنا سنتكلم عن المستقبل، فأول مدخل للمستقبل هو إعادة وضع الموضوع الفلسطيني في إطاره العربي. البنك الدولي هو الآن أكبر مفكر قومي عربي، وتوجد في ملفاته لنا سكك حديد، وتوحيد البنية التحتية للمنطقة من مصر للخليج، وغاز قطري لإسرائيل، وأوتوسترادات ستلف المنطقة – يعني قومي عربي أحسن منا! هل الجواب على كل هذا هو الديمقراطية في غزة وأريحا؟!

هاني الحسن: الإخوان تكلموا كلاماً مهماً، والأخ مصطفى الحسيني طرح أسئلة مهمة. الديمقراطية هي عقد اجتماعي – سياسي، وكما تساءل الأخ مصطفى – كيف سيعقد الفلسطينيون عقداً اجتماعياً وسياسياً فيما بينهم في ظل اتفاق أوسلو؟ لا يمكن ذلك. أنا كلاجىء فلسطيني لا يمكن أن أؤيد الكيان الذي سيقوم، لأنه يهتم بفئة واحدة فقط من الشعب، هي أبناء الضفة والقطاع، مهملاً فلسطينيي الخارج. وهذه المسألة إذا قبلنا بها، معناها أننا قبلنا المنطق الإسرائيلي الذي يقول: لا يوجد شعب فلسطيني واحد. وقد كان من أهم إنجازات م. ت. ف. أنها حافظت على وحدة الشعب في الداخل والخارج. لا ديمقراطية في ظل غياب السيادة.

مطلوب مني أن أصنع نظاماً، وهذا النظام أول شيء فيه طبعاً هو التعايش مع إسرائيل. والنقطة الثانية وهي الأهم، مطلوب مني التبعية الاقتصادية لإسرائيل، والنقطة الثالثة، وهي الأخطر، مطلوب مني أن أتغير أنا ولا يتغير هو. هكذا تصبح الصهيونية ليست حركة عنصرية، بينما أنا الفلسطيني يجب أن أتوقف عن ممارسة "الإرهاب"، ويجب أن أحافظ على الأمن الإسرائيلي، ويجب عليّ أن أغير كتب التاريخ لصالح التعايش القائم، وقد بدأت مناقشة هذه القضية الآن في الداخل. والأخطر من ذلك هو أن العلاقة مع الجيران العرب يجب أن أحددها أنا والإسرائيلي. في ظل هذه المعادلة، التي بدون شك ستنعكس في الداخل، المعارض لن يكون مسموحاً له أن ينشط، وغير المعارض مسموح له. وممارسة الديمقراطية في المرحلة الانتقالية سيكون معناها شيئين: أن تضع الفلسطينيين الذين في الخارج جانباً وتقول لهم: الآن ليس وقتكم، وأن تقسم الشعب في الداخل إلى قسمين – مَن مع التعايش ومن ضده، ومَن مع التبعية الاقتصادية ومَن ضدها، مَن مع العرب ومَن مع إسرائيل، كما أن التبعية الاقتصادية ستقود في النهاية إلى تحالف إسرائيلي – فلسطيني خطر، ونصبح نحن في جهة والعرب في جهة أخرى.

رغيد الصلح: تصوير الاحتمال الديمقراطي والمشروع الديمقراطي العربي أو الفلسطيني بأنه عملية ظروف، أو كأنه عملية تقليد للصهيونية.. إلخ. ليس صحيحاً. في الحقيقة المطالبات بالديمقراطية في البلدان العربية أو في فلسطين بدأت في بداية القرن، وحتى قبل الاحتلال المباشر الكولونيالي. وكل التاريخ الوطني الفلسطيني والتاريخ العربي الوطني هو وطني وديمقراطي في نفس الوقت، لأن المطالبات بالديمقراطية وبحرية المواطن واحترامه موجودة في كل التراث الموجود في الوطن العربي حالياً، مع استثناءات، مع فترات كان يوجد فيها تحولات. لكن المشروع الديمقراطي موجود منذ بداية القرن.

برهان غليون: هناك نقطتان أريد أن أتكلم فيهما: تقويم الموقف – أين نحن، إلى أين نحن سائرون، وما هي الأولويات – ديمقراطية، تحرير.. إلخ؟ والنقطة الثانية: تصوري لموضوع الديمقراطية كما هو مطروح اليوم على الفلسطينيين.

بالنسبة لتقويم الموقف، أنا في الحقيقة غير متفائل إطلاقاً. أنا لا أعتقد أننا في مرحلة استمرار حركة التحرر الوطني، وأعتقد أننا، في المستوى الفلسطيني والمستوى العربي، في مرحلة أزمة. والأزمة تعني أشياء كثيرة. وشعوري هو أن العالم العربي ككل متجه نحو الاقتتال. وفي فلسطين يوجد احتمال كبير للاقتتال، رغم كل الاتفاقيات.

وهنا أريد أن أدخل بالموضوع الرئيسي. أنا غير مؤمن بأنه سيتحقق سلام بالمعنى الحقيقي. يمكن أن تكون هناك تسويات مؤقتة، صغيرة وتافهة من وجهة نظر العرب والفلسطينيين على كل حال، وأنا لست متفائلاً إطلاقاً بأن البنك الدولي، كما تصور الأخ فواز، سيحقق أهداف القومية العربية. أنا أعتقد أنه توجد أوهام كبيرة حول ما يقول الغربيون. لن يكون هناك دعم للحكم الذاتي الفلسطيني بالأموال المطلوبة، ولا فتح سوق شرق أوسطية على نحو ما يتحدثون به عن هذه السوق. المطلوب من السوق الشرق أوسطية هو دمج فلسطين والأردن باقتصاد إسرائيل، لا أكثر ولا أقل، أي توسيع الهامش الحيوي للاقتصاد الإسرائيلي، وخلق علاقات خاصة بين سوريا والعراق (وربما الأردن) وبين تركيا، بمعنى أن يكون لتركيا أيضاً مجال حيوي في المنطقة الأُخرى، التي هي بلاد الشام الثانية. مصر معزولة بالضرورة. الخليج منطقة نفوذ أميركي. المغرب العربي خاضع للنفوذ الأوروبي مباشرة. وليس مطلوباً فتح الدول العربية على بعضها على الإطلاق. المخطط الجديد يهدف إلى تفكيكها أكثر. الهدف الأساسي هو حماية إسرائيل وضمان مستقبلها الاقتصادي، وحماية البترول. وباعتقادي أن كل الكلام عن حقوق الإنسان والديمقراطية بالنسبة للغرب وبالنسبة للأميركان هو عبارة عن أيديولوجية هدفها فقط الاصطياد، وهدفها فقط تغطية عدوانية تكتيكية، ودعم للنظم الاستبدادية.

لكن المشكلة هي كيف يمكن الخروج من هذه الأزمة، بالنسبة لنا كعرب، بأقل الخسائر؟ كيف يمكن تجنب حرب أهلية فلسطينية؟ كيف يمكن تجنب حرب أهلية عربية؟ كيف يمكن استخدام الديمقراطية خارج معنى أنها شعار أميركي؟ هذا هو التحدي الذي يواجهه الفلسطينيون. كل الكلام الآن عن دولة ديمقراطية في فلسطين بعد الحكم الذاتي هو كلام سابق لأوانه، إذا لم نقل إنه في الفراغ. لكن ليس في الفراغ الحديث عن إعادة النظر في العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية، سواء في الداخل أو في الخارج، أو في إطار العلاقات بين المنظمات أو داخل كل منظمة.

خليل هندي: أود أن أعلق على الأسئلة التي أثارها مصطفى الحسيني. في الواقع، أنا عندما تحدثت عن الموضوع، بدأت بالقول إن هناك نطاقاً ضيقاً جداً يجري التحرك داخله، وقلت إن هذا الإطار محكوم باتفاقيات مع إسرائيل، محكوم بمشروع البناء أو بالإعمار الذي ينحو نحو المركزية. إنما حاولت ضمن الإطار الضيق والمحدود جداً أن أعين عدة قضايا يمكن التدخل فيها لتوسيع هامش إمكانية التأسيس لإطار ديمقراطي فلسطيني في المستقبل. واخترت كلماتي بدقة – قلت: "إمكانية تأسيس"، وقلت: "مشروع". توجد أوهام بأننا سنجترح العجائب، لكن أنا قصدت بالتحديد وضع إصبعي على قضايا عيانية، لأني بصراحة واحد من العرب الذين ملّوا من الحديث عن القضايا الكبرى. كلنا نتكلم في القضايا الكبرى، والحديث فيها هام ومفيد وضروري، ولكن لا حد يتكلم عن كيف نترجم هذه القضايا الكبرى إلى مسائل عيانية ومحددة فعلاً، وعن تعيين مفاصل وآليات التدخل في الواقع. وهذا ما حاولت أن أفعله، آخذاً في الاعتبار القيود الصارمة التي تفرضها توازنات القوى والاتفاقيات وما إلى ذلك.

عفيف صافية: أتصور أنه من الضروري في نقاشاتنا أن يكون واضحاً أن الديمقراطية هي مطلب فلسطيني وليست شرطاً أجنبياً مفروضاً علينا، أو مطلباً للبنك الدولي أو للأميركان أو الإسرائيليين. هي رغبتنا وحقنا ومطلبنا نحن الفلسطينيين. تصوري هو أن الديمقراطية، بالإضافة إلى كل ما قيل، هي أيضاً نمط حياة وتقوي نسيج المجتمع الفلسطيني في تصادمه المستمر مع الكيان الصهيوني. وهنا أحب أن أضيف أنني أعتقد أن الصراع العربي – الصهيوني حول فلسطين والتنافس الفلسطيني – اليهودي في فلسطين سيستمر إلى الأبد. ولكن أنا سعيد بأن التنافس والصراع انتقل من الدائرة العسكرية إلى دوائر أُخرى، ومن مصلحتنا الانتقال من الحلبة العسكرية إلى حلبة أُخرى، لأن الحلقة العسكرية عندنا هي أضعف الحلقات. بغياب قرار أو خيار عربي عسكري له مصداقية لا يوجد خيار عسكري فلسطيني له مصداقية.