يتناول المقال مصير منظمة التحرير الفلسطينية بعد تبادل رسائل الاعتراف بين ياسر عرفات ويتسحاق رابين، وبعد توقيع اتفاق "الإعلان الإسرائيلي ـ الفلسطيني"، وما تبعه من اتفاقات، وصولاً إلى اتفاق الرابع من أيار/ مايو 1994 (اتفاق غزة ـ أريحا) الذي كشف بعض ما كان مخبأ من فصول التآمر على هذه المنظمة. وهو يحلل "الوثائق المعلنة" (رسائل الاعتراف المتبادلة، اتفاق غزة ـ أريحا).
منذ توقيع الاتفاق المسمى "إعلان المبادىء الإسرائيلي – الفلسطيني: اتفاق غزة – أريحا أولاً"، تتلاحق التطورات بوتيرة متسارعة، سواء بالنسبة إلى ما يجري الاتفاق عليه فوق الورق، أو إلى ما تعكسه هذه الاتفاقات على الأرض من متغيرات، سرعان ما تتحول إلى وقائع جديدة، يستحيل تجاهلها أو عدم التعامل مع إفرازاتها.
من موقع المعارضة لاتفاق "الإعلان" المذكور أعلاه، وما ترتب عنه من اتفاقات، فإني أعترف بأن المسألة قد تجاوزت حدود المساجلات النظرية، ولم يعد في قدرة المواقف اللفظية المعارضة وحدها أن توقف هذا المسار التفاوضي، أو أن تصححه، أو أن تحسّن شروطه لتفادي مزيد من التنازلات.
ومن موقع التجربة الطويلة، أضم صوتي إلى أصوات الكثيرين ممن قطعوا الشك باليقين في أن أي أمل بإصلاح القيادة الفلسطينية الراهنة هو ضرب من الوهم. بل أذهب إلى أبعد من ذلك لأعرب عن الشك في أي أمل بقدرة الفصائل الفلسطينية المعارضة على أن تكون القيادة البديلة، من دون أن تعمل على تطوير ذواتها وأنماط سلوكها، وكذلك على استقطاب الكثير ممن ما زالوا خارج دائرة العمل السياسي.
فنحن أمام مسار لا مفر من مجابهته وصده بفكر وتنظيم جديدين، حتى يستقيم توجهه المبدأي باعتراف إسرائيلي – أميركي لا لبس فيه، بحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره، بما في ذلك حقوقه في العودة والاستقلال والسيادة الوطنية. وأي ادعاء بأن التمسك بهذا الموقف يعني التصدي لعملية السلام، ليس إلا من قبيل التهويل الإعلامي والنفاق السياسي، اللذين يتجاهلان العلاقة الجدلية بين العدالة والسلام.
ويبقى السؤال: "كيف" نواجه هذا المسار ونصده للحيلولة دون تمرير هذا المشروع الصهيوني الجديد الذي تجاوز في مطامعه "إسرائيل الكبرى" إلى "إسرائيل العظمى"؟ إن أخطر ما في هذا المشروع الصهيوني الذي أخذت مقدماته تظهر، هو أن الحدود الإسرائيلية ستصبح "آفاق الوطن العربي" لا "خطوط وقف إطلاق النار" في فلسطين المحتلة. وأما أولى أولوياته، فهي إلغاء الهويتين الفلسطينية والعربية واحتواؤهما فيما يسمى "الهوية الشرق الأوسطية".
ومن المؤكد أن مثل هذا السؤال ليس موجهاً حصراً إلى "الفلسطيني" وحده؛ فالمسؤولية قومية والمهمة قومية، إن لم يكن في سبيل التضامن مع فلسطين وشعبها، كما كنا نردد في الماضي، فمن أجل الدفاع عن كل قطر عربي وشعبه مما تهددنا إسرائيل به في الحاضر.
غير أن أقدار الفلسطيني، بحكم هويته الوطنية ومعاناته شرور المشروع الصهيوني، شاءت له أن يبقى باستمرار مرشحاً لتحمل أدوار ريادية وطليعية في عملية الصراع المستمرة ضد هذا المشروع؛ خصوصاً أن ما لفلسطين من مكانة خاصة في نفوس العرب والمسلمين تجل للصوت الفلسطيني صدى مميزاً وأثراً خاصاً.
فالتحرك الفلسطيني كان في الماضي، ولا يزال حتى الآن، نقطة البدء للتحرك القومي المطلوب. ومن هنا يحاول هذا المقال طرح مشروع لهذا التحرك، انطلاقاً من مسألة ملحة وقادرة على استقطاب أكبر عدد من الفلسطينيين الوطنيين، يكون البحث فيها والبت بشأنها أفضل المداخل لتأسيس حركة معارضة فاعلة ومقنعة وقادرة على مجابهة القيادة الراهنة ومنهجها المفروض والمرفوض.
تتناول هذه المسألة مصير منظمة التحرير الفلسطينية بعد تبادل رسائل الاعتراف بين ياسر عرفات ويتسحاق رابين، وبعد توقيع اتفاق "الإعلان الإسرائيلي – الفلسطيني"، وما تبعه من اتفاقات، وصولاً إلى اتفاق الرابع من أيار/ مايو 1994 الذي كشف بعض ما كان مخبأ من فصول التآمر على هذه المنظمة.
وعلاوة على أهمية هذه المسألة في حد ذاتها، باعتبارها عنواناً لأهم إنجاز وطني حققه شعب فلسطين في تاريخه النضالي، فإن المساس بالمنظمة يمس مباشرة مصائر عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين ارتبطت حياتهم اليومية بدوائرها ومؤسساتها المتعددة وبعثاتها التعليمية، كما يمس الخريطة السياسية لمجمل القوى والفصائل والأحزاب الفلسطينية، ومنها حركة "فتح" ذاتها، لما فيها من تناقضات بين مواقف الكثير من قيادييها وكوادرها وعناصرها بالنسبة إلى المسار الذي يقوده رئيسها بالذات.
ولا ريب في أنه عندما يتم اللقاء حول هذا الموضوع، لتوضيح الصورة الراهنة بتحليلها واستشراف ملامح مستقبلها، ستكون الأبواب مشرعة لمقترحات متعددة بشأن الصيغة التي يجب اعتمادها لمجابهة الواقع الجديد بدءاً بإمكانات استرداد المنظمة، وصولاً إلى تأسيسي تجمع جديد، بميثاق جديد، وهيكلية جديدة، أو أية صيغة أُخرى يقترحها العقل الفلسطيني، الذي أثبت قدرته الراسخة على استنباط الأساليب النضالية التي تتواءم وشروط العملية الصراعية الدائمة التغير والتطور.
ثمة عنصر آخر يمكن إضافته لتأكيد أهمية طرح هذه المسألة بالذات مدخلاً لتأسيس هيكلية نضالية جديدة. إنه يمكن في ما ستفرضه هذه المسألة موضوعياً من تواصل سياسي لا يلغي ما هو قائم من فعاليات ولا يستثني من هو قادم من الجيل الجديد. وهكذا فإن مثل هذا اللقاء لن يكون انطلاقاً من العدم، ولن يكون مجرد مجلس تنظير فكري لتأملات بعيدة عن أرض الواقع وما تزخر به من إمكانات وآليات.
وأخيراً، فنحن جميعاً، في القيادة الرسمية وفي المعارضة، سنجابه قريباً، وربما أسرع مما نتصور، استحقاقاً فرضته الاتفاقات حول مصير المنظمة النهائي، ويتعلق بتعهد عرفات عقد جلسة للمجلس الوطني لتعديل الميثاق في أي بند من بنوده يتعارض مع ما تم الاتفاق عليه حتى الآن. ولا بد بالتالي من موقف مدروس يأخذ في الاعتبار جميع الاحتمالات الممكنة وكيفية الرد عليها. وأوكد هنا، وبصورة خاصة للإخوة في الفصائل المعارضة، فداحة ما قد يترتب من خطر على المصير الوطني، إذا ما اكتفوا بموقف مماثل للموقف الذي اتخذوه حيال اجتماع المجلس المركزي الذي انعقد عقب توقيع اتفاق "الإعلان" في أيلول/ سبتمبر 1993.
ولا أجد من داع للفت أنظار الإخوة إلى ما في أيدي المعارضة من أوراق مهمة لعرقلة المخطط التصفوي لهذه المنظمة، ولا سيما ورقة لاجئي 1948، أي مشكلة نصف الشعب الفلسطيني المقيم في الشتات، إضافة إلى ما سيفرزه اتفاق التطبيق من مشكلات وتناقضات، وفي مقدمها ما التزمته قيادة المنظمة من تحمل المسؤولية عن جميع عناصر منظمة التحرير الفلسطينية وأفرادها كي تضمن امتثالهم، وتمنع العنف، وتؤدب المخالفين.
ولا شك في أن هذه التناقضات والمشكلات، وغيرها مما هو وافد على الطريق في إطار ما تم الاتفاق عليه، تضع مصير منظمة التحرير الفلسطينية على مفترق مفصلي.
إن هذه المنظمة، التي استطاعت الصمود والاستمرار على الرغم مما جابهته من تحديات وحروب هدفت إلى إسقاطها منذ لحظة ولادتها، باتت مهددة بالسقوط من الداخل. بل إن هناك من ينسب إلى آبا إيبن أنه قال يوم توقيع "اتفاق الإعلان" بدهشة وفرح: "من كان يتوقع أن تسقط القلعة من الداخل؟"، قاصداً منظمة التحرير الفلسطينية. هذا في الوقت الذي كان بعض الواهمين في المنظمة يعبر عن فرحه ودهشته بالقول: "من كان يحلم أن تعترف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية؟"، من دون تكليف نفسه عناء السؤال عما بقي من هذه المنظمة، شكلاً ومضموناً، بعد رسائل الاعتراف المتبادلة!
مع ذلك، لا بأس في محاولة البحث عن الحقيقة بين الرأيين المندهشين، بموضوعية وتجرد.
ولنبدأ بمناقشة ما لدينا من الوثائق المعلنة، متجاوزين ما قد يكون هناك من اتفاقات أو تعهدات سرية لم ينكشف أمرها بعد، خصوصاً بعد الانعطاف الكلي لنهج الدبلوماسية من العلنية إلى السرية، بين قيادة المنظمة وحكومة إسرائيل.
يذكر الكل أن قيادة المنظمة، بعد سجال طويل مع حكومة واشنطن، رضخت أما الإصرار الإسرائيلي على رفض التفاوض المباشر مع م. ت. ف. أو مع أي فلسطيني من القدس أو خارج الأرض المحتلة، كما قبلت بالتعامل مع مؤتمر مدريد من خلال ما سمي المظلة الأردنية.
ولم يكن سراً أن هذه القيادة، وخصوصاً رئيسها ياسر عرفات، سعت بكل ما في وسعها لتطوير هذه الصيغة منذ الجولة الأولى لمفاوضات واشنطن، من دون جدوى. وكان هذا السعي مطلوباً وضرورياً لتثبيت الهوية الوطنية الفلسطينية، وليس رفضاً للمشاركة الأردنية – الفلسطينية.
هكذا كان فهمنا وتقديرنا لما كان يبدو من تصلب عرفات خلال الجولات التفاوضية الأولى وتمسكه بالثوابت الفلسطينية التي حددها المجلس الوطني.
وعندما خفّت هواجس عرفات من المظلة الأردنية، بفتح طريق الاتصال المباشر بينه وبين فريقه المفاوض، بمعزل عن عمان، أطلت عليه هواجس "القيادة البديلة"، وهي أيضاً هواجس مشروعة، أو هكذا فهمها بعضنا في القيادة، من منطلق ضرورة الربط بين مصائر الفلسطينيين بمعزل عن أماكن وجودهم داخل الأرض المحتلة وخارجها، الأمر الذي لا يمكن تأمينه إلا من خلال قيادة منظمة التحرير، ممثلة وحدة شعب فلسطين ووحدة قضيته بأبعادها كافة.
لكن ما من أحد في هذه القيادة، باستثناء عرفات وحفنة ممن اختارهم، كان يعلم بأن ثمة محادثات أُخرى تتم في السر بعيداً عن المسرح في واشنطن، إلى أن فوجىء الفريق الفلسطيني المفاوض بأن هناك ما يشير إلى تناقضات في تصرفات القيادة، يعكسها الاختلاف بين التعليمات المتشددة التي يتلقاها، والمواقف القيادية المغايرة، كما تصله من الأميركيين، وكان ذلك سبب الأزمة التي سبقت إعلان اتفاق أوسلو، عندما تقدم أعضاء الوفد باستقالاتهم من مواقعهم، في إثر محادثاتهم مع وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر وما اكتشفوه من تناقض.
ومما قاله لي أحدهم، وكنت ما أزال عضواً في اللجنة التنفيذية، والغضب مستبد به: "ماذا تفعلون بنا؟ تقولون لنا شيئاً، وتقولون للأميركان غير ذلك. إن كنتم على استعداد لمثل هذه التنازلات التي نسمع عنها، فأنتم أولى بتحمل مسؤوليتها، إن لم يكن بحكم موقعكم القيادي، فلوجودكم بعيداً عن جماهير شعبكم تحيط بكم فرق الحراسة المدججة بالسلاح!!" ولم أرد عليه كي لا أضاعف ألمه، فنحن أيضاً لم تكن تجاربنا تختلف عما اكتشفه الأخ الغاضب، وخصوصاً في مؤتمرات التنسيق العربية، عندما كنا نفاجأ – كوفد فلسطيني – بأن ما نحمله من توصيات ومواقف أقرت في اللجنة التنفيذية كانت مغايرة، بل وربما مناقضة لما كان يصل إلى بعض العواصم العربية من رئيس المنظمة عبر أقنية أُخرى. وكان هذا يؤدي إلى مشاهد مؤلمة من الحرج والارتباك. لقد حدث ذلك في دمشق، كما حدث في عمان، وشهدت بيروت قمة هذه المشاهد كلها عندما انبرى الأخ أبو اللطف لنفي أي وجود لأي مشروع اتفاق منفرد بين م. ت. ف. وإسرائيل. وكان ذلك قبل أسبوع من توقيع رسائل الاعتراف بين عرفات ورابين.
وفي اقتناعي، إن الإسرائيليين والأميركيين فهموا إشارات عرفات المتتالية، وأدركوا أن المفتاح في يده، وأنه لا بد من إيجاد طريقة للتعامل معه ومع منظمة التحرير الفلسطينية. ولم يبق أمامهم من مشكلة سوى إيجاد مخرج لرابين أمام معارضيه من جهة، وأمام ذاك السجل المتراكم من تهم "الإرهاب" الملصقة بالمنظمة وما في ميثاقها من مواد ترفضها إسرائيل، من جهة أُخرى.
وكان المخرج في رسائل الاعتراف المتبادلة، والتي وصفها آبا إيبن بأنها سقوط للمنظمة من داخلها، واعتبرها عرفات نصراً مبيناً.
ولنقرأ معاً رسائل الاعتراف المتبادلة، بحثاً عن موقع الحقيقة بين الرأيين، وهي الرسائل التي تبادلها كل من عرفات ورابين، ثم عادا وأعلنا تمسكهما بها وبما ورد فيها من تعهدات، في اتفاق 4 أيار/مايو 1994.
ماذا في رسالة عرفات إلى رابين، والتي ذيلها قبل أن يوقعها، بكلمة "المخلص"؟
1- "تعترف" م. ت. ف. "بحق دولة إسرائيل في الوجود في سلام وأمن".
2- "تقبل" م. ت. ف. "قراري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقمي 242 و338".
3- "تلتزم م. ت. ف. "عملية السلام في الشرق الأوسط وحلاً سلمياً للنزاع بين الطرفين"، مع الإعلان "أن جميع المسائل المعلقة والمتعلقة بالوضع الدائم ستحل من خلال المفاوضات".
4- "وتعتبر" م. ت. ف. "أن توقيع إعلان المبادىء يشكل حدثاً تاريخياً ويفتح عهداً جديداً من التعايش السلمي خالياً من العنف وجميع الأعمال الأُخرى التي تهدد السلام والاستقرار. واستناداً إلى هذا، فإن م. ت. ف. تنبذ اللجوء إلى الإرهاب وأعمال العنف الأُخرى، وستتحمل مسؤولية جميع عناصر وموظفي م. ت. ف. كي تضمن إذعانهم وتمنع الخروقات وتتخذ الإجراءات التأديبية بحق المخالفين".
5- "تؤكد" م. ت. ف. "أن بنود الميثاق [الوطني] الفلسطيني التي تنكر على إسرائيل حق الوجود، وفقراته التي لا تتلاءم مع الالتزامات الواردة في هذه الرسالة، ستصبح ملغاة وغير سارية المفعول بعد الآن".
6- "تتعهد" م. ت. ف. "بعرض التعديلات الضرورية المتعلقة بالميثاق الفلسطيني على المجلس الوطني الفلسطيني للحصول على موافقته الرسمية عليها".
هذا ما قدمه عرفات لإسرائيل وألزم نفسه به، فماذا أخذ من رابين في المقابل؟ يقول رابين في رسالة الرد التي لم يذيلها بكلمة "المخلص"، ما نصه:
"رداً على رسالتكم المؤرخة في 9 أيلول/ سبتمبر 1993، أود أن أؤكد لكم أنه في ضوء التزامات م. ت. ف. الواردة في رسالتكم، قررت حكومة إسرائيل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني، وبدء المفاوضات مع م. ت. ف. في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط." (انتهى النص)
قبل كل شيء لا بد من الإشارة إلى أن اعتراف م. ت. ف. بإسرائيل يبقى ملزماً وغير قابل للرجوع عنه، وذلك وفق المادة السادسة من اتفاق مونتفيديو لسنة 1993، التي تشترط عدم الرجوع عن الاعتراف بالدول؛ والمنظمة ليست دولة.
وهذه ورقة قانونية مهمة، في استطاعة رابين ومن سيخلفه الاعتماد عليها والتهديد بها عندما تدعو الحاجة.
كذلك، ومن الناحية القانونية، يدرك الطرف الإسرائيلي أن عرفات تجاوز في رسالته صلاحيات اللجنة التنفيذية، ولن يكون ما التزم به شرعياً وقانونياً من الناحية الفلسطينية إلا بعد إقراره في المجلس الوطني. ولذلك اشترط على عرفات أن يتعهد تحقيق ذلك ودعوة المجلس الوطني لإقراره، وإلغاء جميع ما يناقض ما التزمه في رسالة الاعتراف، وطبعاً، ما تلاها من اتفاقات.
وهذه كذلك، ورقة قانونية ثانية مهمة، سيعرف رابين ومن سيخلفه كيفية استعمالها في الضغط على عرفات وابتزاز المزيد من التنازلات.
ويمكن في هذا المجال إضافة ملاحظة قانونية ثالثة لم ترد في رسائل الاعتراف بل في اتفاق "الإعلان"، حيث الإشارة واضحة إلى أن المنظمة ستصبح في حكم الملغاة، وبالتالي يسقط الاعتراف بها فور قيام "المجلس، الذي سيمثل سلطة الحكم الذاتي. هذا إلا إذا ارتأت حكومة إسرائيل غير ذلك، ووجدت أن في استمرار التعامل مع م. ت. ف. ما يفيدها في المضي في تنفيذ مخططاتها حتى المرحلة النهائية من المفاوضات.
وهذه أيضاً وأيضاً، ورقة ابتزاز ثالثة في يد إسرائيل التي ستعرف كيف تلعبها بدءاً بالعملية الانتخابية المرتقبة، وعند كل حدث صغير أو كبير تعتبره إسرائيل إخلالاً بالاتفاقات، حتى لو كان تصريحاً من النوع الاستهلاكي، مثل الذي صدر عن عرفات في جوهانسبرغ بشأن "الجهاد" لتحرير القدس!!
مع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، نمضي صادقين وجادين في البحث عما أعطاه رابين في مقابل ما أخذه من عرفات.
لقد أعطى "اعترافاً بمنظمة التحرير الفلسطينية التي هي غير المنظمة التي أسسناها ورعيناها بدمائنا لتحقق أهدافنا الوطنية الشرعية. فبعد أن قبل عرفات بتجريدها من مضامينها كافة، بدءاً بميثاقها، ومروراً في كل ما صدر عنها من قرارات، بما في ذلك إعلان دولة فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، قبل كذلك بتحويلها إلى مجرد أداة لتحقيق نقيض ما قامت من أجل تحقيقه.
هناك من يقول إننا أخذنا – ولو بصورة مواربة – لفظة "الشعب الفلسطيني" التي كان الإسرائيليون يصرون على عدم استعمالها طوال جولات التفاوض في واشنطن. هذا صحيح، لكنه إنجاز عرفت إسرائيل كيف تجهز عليه وتفرغه من دلالاته كلها، من خلال اتفاق "الإعلان".
ولو كان غير ذلك لما كان متعذراً على رابين أن يرد على اعتراف عرفات بـ"حق إسرائيل في الوجود في سلام وأمن" باعتراف إسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني كذلك في الوجود في سلام وأمن، وبحقه في تقرير المصير.
في مقابل نبذ عرفات للإرهاب والعنف وتعهده تأديب المخالفين، هل كان كثيراً على رابين أن يعلن التزام إسرائيل القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة التي تتعلق بالعلاقات بين قوات الاحتلال من جهة والشعوب والأراضي المحتلة من جهة أُخرى؟
إذا أردنا تلخيص هذه الصفقة بكلمات موجزة لقلنا إن عرفات أعطى حكومة إسرائيل ما أرادته، مع براءة ذمة من جميع ما ارتكبته في حق الشعب الفلسطيني من جرائم، مقرونة بتمنياته على العرب والمسلمين أن يفتحوا أمامها الأبواب كلها، والقبول بها، لا كدولة عادية من دول الشرق الأوسط، بل كدولة ذات امتيازات خاصة تفتح لها آفاق الهيمنة على هذه المنطقة.
استكمالاً للصورة المستقبلية وما تتوقعه إسرائيل من مهمات لمنظمة التحرير الفلسطينية التي اعترف رابين بها، لا بد من الاطلاع على بنود المادة السادسة مما سمي "اتفاق في شأن قطاع غزة ومنطقة أريحا"، الذي وقِّع في القاهرة في 4 أيار/ مايو 1994، وهي المادة المعنية بصلاحيات السلطة الفلسطينية ومسؤولياتها، وسنجتزىء منها ما يمس موضوعنا.
تنص الفقرة 2 – أ على ما يلي:
"طبقاً لإعلان المبادىء لا يكون للسلطة الفلسطينية أية صلاحيات أو مسؤوليات في مجال العلاقات الخارجية الذي يتضمن فتح سفارات أو قنصليات أو أي نوع آخر من البعثات والمكاتب في الخارج أو السماح بإقامتها في قطاع غزة أو منطقة أريحا أو تعيين موظفين دبلوماسيين أو قنصليين وممارسة وظائف دبلوماسية."
إن ما في الفقرة من وضوح صارخ ليعفي من أن تعليق عليها؛ إذ لم تترك إسرائيل لهذه السلطة من منفذ واحد يمكنها الإيحاء من خلاله بأنها تمثل دولة، أو حتى مشروع دولة ممكنة.
وكي لا تترك إسرائيل لمن قرأ هذه الفقرة أية فرصة للوهم بأن ما جُردت السلطة الفلسطينية منه في هذا المجال سيبقى متاحاً لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تمارسه، جاءت فوراً ومباشرة بعد هذه الفقرة، بالفقرة ب التي تنص على ما يلي:
"مع عدم الإخلال بأحكام هذه الفقرة، لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تجري مفاوضات وتوقع اتفاقات مع حكومات أو منظمات دولية لمصلحة السلطة الفلسطينية في الحالات الآتية فقط:
"1- اتفاقات اقتصادية على النحو المحدد في الملحق الرقم 4 لهذا الاتفاق [الملاحق لم تنشر بعد].
"2- اتفاقات مع بلدان مانحة للمعونات بغرض تنفيذ الترتيبات الرامية إلى تقديم العون إلى السلطة الفلسطينية.
"3- الاتفاقات الرامية إلى تنفيذ خطط التنمية الإقليمية المفصلة في الملحق الرقم 4 لإعلان المبادىء أو الاتفاقات التي تسري في إطار المفاوضات المتعددة الطرف.
"4- الاتفاقات الثقافية والعلمية والتعليمية".
إن في هذه الفقرة من المكر والخبث الإسرائيليين ما لا يعادله إلا ما في الجانب الفلسطيني من جهل أو تواطؤ، وكم كنت أتمنى لو كان في الإمكان تفادي صفة التواطؤ.
فبعد أن جردت إسرائيل السلطة الفلسطينية من جميع العلاقات الخارجية، خشية ما توحي ممارسة هذه العلاقات به من ملامح الدولة، أو مشروع الدولة، أوكلت إلى منظمة التحرير الفلسطينية (التي اعترفت بها) القيام بدور السمسار لهذه السلطة، وفي إطار محدد، لأن مستقبل السلطة هو الذي يعنيها، وتريد التحكم فيه، لا مستقبل هذه المنظمة السائر نحو السقوط أو الإسقاط. وهذا ما يؤكد ما سبقت الإشارة إليه من أن إسرائيل لم تكتف بتفريغ م. ت. ف. من مضامينها، قبل الاعتراف بها، لكنها اشترطت أيضاً بقاءها لتأدية ما بقي عليها من أدوار، تنكشف بالتدريج كلما تقدم هذا المسار التفاوضي في منحاه الراهن.
والسؤال المؤلم الذي يطرح نفسه يدور حول ما بقي من دور للدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية في مجال العلاقات الخارجية. وقد قيل على لسان رئيسها الأخ أبو اللطف إنها باقية في تونس؟ لكن... من أين ستتلقى توجيهاتها؟ من ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أن من ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا؟ وهل ستستلهم الدائرة السياسية ميثاق المنظمة في إرشاداتها وتحركاتها، أم بنود اتفاق إعلان المبادىء واتفاق غزة أريحا أولاً؟ وهل سيقوم سفراء المنظمة ورؤساء بعثاتها بتنفيذ ما رسمه اتفاق 4 أيار/ مايو لهم، أي اتفاق القاهرة، أم سيمضون في متابعة نضالهم من أجل الحقوق الوطنية الأساسية لشعب فلسطين؟ تُرى، هل سيكون في استطاعتهم أن يفعلوا ذلك من دون المساس بما وقعه رئيسهم من اتفاقات؟ وإذا فعلوا ذلك، فما هو مصيرهم؟ أو بالأحرى، ماذا سيكون مصير صاحب الرئاستين، رئاسة السلطة ورئاسة المنظمة؟
من الممكن إثارة العشرات من أسئلة طرحتها المتغيرات التي تتحول إلى وقائع جديدة، وذات الصلة المباشرة بمنظمة التحرير ومصيرها. هذه المنظمة، الفريدة في نوعها فرادة قضية فلسطين وتعقيداتها، إذ كانت إطاراً لحركة نضالية، ووعاء لتراث شعب وهويته الحضارية، ومرجعية قراره، كانت جميع ما يرمز الوطن إليه، لكن بأرض مصادرة محتلة.
هذا كله يخضع لعملية تغيير جذرية، بعد انقلاب القيادة باتفاقها مع العدو والإذعان لشروطه، فأصبحت المنظمة رهينة عرفات وعرفات رهينة اتفاقاته.
في غد قريب جداً، ربما بدأ، عندما ينتهي موسم الأفراح المفتعلة والانتصارات الوهمية، سيكتشف عرفات ومن معه، أنهم زجوا برؤوسهم بين مطرقة إسرائيلية لا ترحم وسندان فلسطيني لن يلين، وأنهم أمام واحد من خيارين: إما المضي في سياسة التنازلات حتى نهاية المطاف، وإما مصير ذكر النحل الذي طالما أشار عرفات نفسه إليه وأعرب عن قلقه الشديد منه، وكلاهما شر مستطير.
إنه المأزق فعلاً. وعلى الرغم من أن عرفات وصحبه يتحملون مسؤولية إيقاعنا في هذه الحفرة، فإن هذا لا يعفينا كلنا من واجب تحمل مسؤولية النضال للخروج منها، من منطلق الوعي الدائم بأن صراعنا الأساسي مع إسرائيل، التي لن تفلت هي الأُخرى من تناقضات ما طرأ على ساحتها.