يذهب المقال إلى أن مجزرة الخليل (25/2/1994) تثير أسئلة كثيرة في شأن مستقبل عملية السلام في المنطقة. ويعالج الموضوع تحت العناوين الفرعية التالية: المخاوف الأمنية الفلسطينية ـ سمة بارزة جديدة؛ التحدي الاستيطاني؛ ما بعد غزة ـ أريحا. ويخلص المقال إلى أن لا بديل من أن يتخلص الجانب الإسرائيلي، بصورة خاصة، من سياسات السيطرة وسيكولوجيتها.
تثير مجزرة الخليل أسئلة كثيرة في شأن مستقبل عملية السلام في المنطقة. ويشكل تعليق المفاوضات في إثرها، في المسارات العربية – الإسرائيلية كافة، بالإضافة إلى الجدل العقيم بشأن التفصيلات في محادثات غزة – أريحا في الأشهر السابقة، نقيضاً صارخاً للتوقعات التي أوجدها اللقاء بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس حكومة إسرائيل يتسحاق رابين، في أيلول/ سبتمبر الماضي في واشنطن.
المخاوف الأمنية الفلسطينية: سمة بارزة جديدة
لقد نجحت إسرائيل طوال الأعوام الماضية في فرض الأولوية لمخاوفها الأمنية في حلبة المفاوضات العربية – الإسرائيلية. وتشمل هذه المخاوف، كما تراها إسرائيل، أشكالاً مختلفة من التهديدات الأمنية يتعلق المستوى الأول بالتهديدات الوجودية، أي تلك التي تشكل تهديداً لبقاء إسرائيل كدولة. وباستثناءات قليلة، فإن المحللين الإسرائيليين يقرون، في معظمهم، بأن الجانب العربي عامة، والفلسطيني خاصة، لم يعد منذ فترة قادراً على تهديد بقاء إسرائيل، وبأن هذا التهديد سيستمر في التراجع في المستقبل المنظور. ومن وجهة النظر الإسرائيلية، لا يشكل الفلسطينيون حالياً مصدراً حقيقياً للتهديد العسكري – الاستراتيجي (مقارنة بسوريا على سبيل المثال)، كما يرون أن أية دولة أو أي كيان فلسطيني يتمخض في النهاية عن عملية السلام سيكون بالضرورة منزوع السلاح، كما سيُحظر عليه دخول أي تحالف خارجي يسمح باستخدام الأرض الفلسطينية قاعدة لمهاجمة إسرائيل.
ويتعلق المستوى الثاني بالعنف السياسي، أي ما يسمى "الإرهاب". وهنا يعتقد الإسرائيليون أن في إمكان الفلسطينيين أن يشكلوا تهديداً للأمن الفردي للإسرائيليين داخل المناطق المحتلة وخارجها. وبالنسبة إلى إسرائيل، يتجلى ذلك في العادة بأعمال العنف المنظمة أو الفردية ضد أهداف عسكرية أو غير عسكرية. والواقع أن إسرائيل نزعت الشرعية، منذ فترة بعيدة، عن جميع أشكال المقاومة الفلسطينية عبر مزيج من الإجراءات القانونية الشاملة، والعمل العسكري المباشر، والتبريرات الخلقية والسياسية المختلفة (رفض الإقرار بأن الأراضي الفلسطينية هي أراض محتلة؛ رفض اعتبار رجال المقاومة الفلسطينية مقاتلين شرعيين؛ إلخ).
ويتعلق المستوى الثالث بقضايا الشرطة وفرض القانون والنظام. وعلى الرغم من أن هذا المستوى مرتبط بالمستوى الثاني، فإن أفق المشكلة (من المنظور الإسرائيلي) أوسع من مجرد "مكافحة الإرهاب"، ويتعلق بالاستقرار الاجتماعي والسياسي في المناطق التي ستنتشر السلطة الفلسطينية فيها. وفي هذا السياق يشير بعض المصادر الإسرائيلية إلى إمكان ألا تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية الحفاظ على القانون والنظام في غزة/ أريحا كأحد مصادر التهديد الأمني لإسرائيل، باعتبار أن مثل هذه الحالة سيسمح للعناصر المنشقة والرافضة للحل بالعمل بحرية أكبر ضد الأهداف الإسرائيلية. كما يُنظر إلى إمكان عدم الاستقرار في المناطق الفلسطينية باعتبار أنه قد يؤدي إلى "لبننة" أو "أفغنة" الأراضي المحتلة، وبالتالي إلى جر إسرائيل لاحتلالها مجدداً و/أو الدخول في نزاع أوسع مع قوى إقليمية أُخرى.
هكذا يبدو أن مشكلة إسرائيل الأمنية مع الفلسطينيين تقتصر على المستويين الثاني والثالث. ولا ضرورة هنا للإسهاب في الحديث عن نجاح إسرائيل في عرض نفسها ضحية لـ"الإرهاب" الفلسطيني. لكن، مع ذلك، يجب الاعتراف، وبغض النظر عن الاجتهادات المختلفة في شأن نجاعة وفعالية الكفاح المسلح كأداة في مواجهة إسرائيل، بأن الطرف الفلسطيني يتحمل هو الآخر قسطاً مهمّاً من المسؤولية حيال القبول الدولي شبه التام بالموقف الإسرائيلي من "الإرهاب" والأمن. وقد أدى تبني الجانب الفلسطيني لمواقف اعتذارية تجاه استخدام القوة، وذلك من خلال "النبذ" المتكرر لـ"الإرهاب"، لا إلى الهيمنة الإسرائيلية الكاملة على النقاش الأمني فحسب، بل أيضاً إلى تثبيت ادعاء إسرائيل التقليدي بأن لمخاوفها طابعاً فريداً بالمقارنة مع أطراف الصراع الأُخرى جميعها. وفي الحقيقة، يمكن القول إن إصرار إسرائيل المتواصل على أن تفرض على القيادة الفلسطينية الإقرار الرسمي بنبذ العنف يهدف إلى تبييض سجل إسرائيل في الصراع التاريخي الطويل على أرض فلسطين، بقدر ما يهدف إلى تقليص هامش المناورة السياسية – التفاوضية أمام الفلسطينيين. ويمكن قراءة الرسالة الإسرائيلية الحقيقية على النحو التالي: إن استخدام إسرائيل للقوة كان، ولا يزال، خلقياً وشرعياً ودفاعياً، بينما الاستخدام الفلسطيني/ العربي للقوة كان، ولا يزال، غير خلقي وغير شرعي ("إرهابي") وعدواني. هكذا، فإن القصد هو إعادة كتابة التاريخ لمصلحة الجانب الإسرائيلي – الصهيوني، لكن بالإقرار الفلسطيني الذاتي بـ"الذنب".
مهما يكن الأمر، فقد وضعت مذبحة الخليل الحكومة الإسرائيلية أمام جملة تحديات جديدة غير مرغوب فيها، أو غير متوقعة من جانبها، فيما يخص المسألة الأمنية عامة. وقد اكتسبت القضايا الأمنية الفلسطينية، للمرة الأولى، حداً أدنى من الظاهرية والبروز محلياً ودولياً، الأمر الذي قد يجعل من الصعب تجاهلها كلياً من الآن فصاعداً. وفيما يتعلق بالإرهاب وقضايا الأمن الفردي، بات من الأصعب تصويرها على أنها حكر على طرف واحد في الصراع، كما قد تكون المجزرة قد ساعدت في تآكل الادعاء الإسرائيلي بالمخاوف الأمنية الفريدة. ولقد أصر الجانب الإسرائيلي، خلال مفاوضات غزة – أريحا المطولة ما قبل اتفاق القاهرة، على توفير أقصى درجة من الحماية للمستوطنين والمستوطنات، متبنياً في المقابل مفهوماً ضيقاً ومحدوداً لـ"الانسحاب" من المناطق الفلسطينية، وذلك أساساً بناء على فرضية أن ما هو أقل من ذلك سيشكل مخاطرة أمنية غير مقبولة. لكن من الآن فصاعداً قد تقل صدقية مثل هذه الحجج على نحو متزايد، سواء على الصعيد السياسي – الإعلامي الدولي، أو في أية مفاوضات قادمة. وربما تكون المجزرة بذلك قد ساعدت في تسوية الحقل السياسي – الخلقي بين الجانبين، على الأقل في مجال الأمن، اللهم إلا في حالة واحدة هي "رد انتقامي" على مذبحة الخليل بتحريض مباشر من منظمة التحرير الفلسطينية.
غير أنه يبقى من الصعب استقراء أثر هذه التحولات، على صعيد التعايش الأمني، في موقف حكومة رابين في الأمد البعيد، إلا إن من المستبعد أن يرحب رئيس الحكومة الإسرائيلي أو مؤسسته العسكرية بالمدلولات الضمنية لمثل هذه الخسارة الخالصة في الموقف الإسرائيلي الناجمة عن مذبحة الخليل. لكن لا بد من الإشارة، في المقابل، إلى أنه بغض النظر عن كيفية فهم الفلسطينيين لخطوات مثل عملية الإدانة الإسرائيلية الرسمية التي لا لبس فيها للمذبحة، وحظر نشاط المنظمات الإرهابية اليهودية، فإن مثل هذه الخطوات سيجعل من الصعب على منظمة التحرير الفلسطينية أن تتجنب لفتات مماثلة، في حالة تجدد العنف ضد أهداف إسرائيلية في المستقبل.
في أية حال، فإن تآكل حجة إسرائيل الأمنية التقليدية يمكن لمسها في الزخم العالمي الجديد المؤيد لدور طرف ثالث في المناطق المحتلة. وبينما من المستبعد أن يترجم ذلك إلى قوة مسلحة متكاملة لحفظ السلام، فإن مجرد فكرة وجود طرف وسيط بين القوات الإسرائيلية والسكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة، كانت مناقضة تماماً للعقيدة السياسية – العسكرية الإسرائيلية التقليدية. وربما تكون حرفية صلاحيات وبنية مثل هذا الحضور الدولي أقل أهمية من حقيقة أن هناك، على ما يبدو، إدراكاً عالمياً جديداً بأن الفلسطينيين يحتاجون إلى ضمانات إضافية فيما يتعلق بأمنهم، وبأنه لا يمكن ترك موضوع الأمن الفلسطيني للجيش الإسرائيلي وحده ليقرر ما يراه ملائماً. كما أن أي دور لطرف ثالث في المناطق المحتلة قد يساعد أيضاً، في المدى الأبعد، في دعم المطالبة الفلسطينية بتفويض موسع لدور كهذا في محادثات المرحلة النهائية، وذلك بهدف تقليص الوجود العسكري الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية إلى أبعد حد.
التحدي الاستيطاني
هناك وجه آخر سلبي لمذبحة الخليل، من وجهة النظر الإسرائيلية، وهو حقيقة الفرض المفاجىء لقضية المستوطنين على سياسات إسرائيل الداخلية وعلاقاتها الخارجية. ومنذ انتخابات سنة 1992، كان جوهر مقاربة رابين لهذه القضية هو تجنب الإفصاح عن أية إشارة إلى حجم التنازلات السياسية أو الإقليمية، التي يمكن أن يكون مستعداً لها فيما يتعلق بالمفاوضات النهائية. ومن هذا المنظور، تبدو قضية المستوطنين/ المستوطنات ورقة مساومة حاسمة يمكن مقايضتها في وقت وأسلوب يقررهما رابين وحده. وقد يفسر هذا الموقف جزئياً رفض رابين توضيح التمييز الذي أقامه في انتخابات سنة 1992 بين المستوطنات "السياسية" والمستوطنات "الأمنية" (مع الافتراض الضمني أنه يمكن الاستغناء عن الفئة الأولى، ولا يمكن الاستغناء عن الفئة الثانية).
وعلى الرغم من المحاولات الفلسطينية المتتالية، خلال المفاوضات اللاحقة، لجر الجانب الإسرائيلي إلى تحديد الفارق الدقيق بين الفئتين وعدد المستوطنات التابعة لكل فئة، فإن هذا الفارق بقي مموَّها، بل كاد يتلاشى في الاستخدام الإسرائيلي الرسمي. وقد كانت إحدى الحجج الإسرائيلية المطروحة في مصلحة مقاربة رابين حيال قضية المستوطنين حتى وقت قريب، أن ذلك يسمح بأقلمة الجمهور الإسرائيلي بالتدريج إزاء مفهوم "التسوية الإقليمية" كما يراها حزب العمل، ويحول دون حدوث انقسامات خطرة فيما يتعلق بمشكلة المستوطنات التي من شأنها التأثير في التماسك الداخلي للحكومة، وفي عملية السلام برمتها أيضاً (في حال سقوط حكومة رابين مثلاً).
لكن على الرغم من ذلك، فقد يكون من الصعب بصورة متزايدة الدفاع عن عزوف رابين عن معالجة مشكلة المستوطنين/ المستوطنات بعد مذبحة الخليل. فمن ناحية، أثارت المذبحة نقاشاً واسعاً في إسرائيل فيما يتعلق بمستقبل المستوطنات، على نطاق وبشكل لا سابق لهما حتى الآن. وقد أُثيرت أسئلة لم يسبق أن أُثيرت في شأن تكلفة الاحتفاظ بجيوب معزولة للمستوطنين في عمق المناطق الفلسطينية، أو الحكمة في ذلك. كما طُرح إمكان إخلاء مستوطنين، ولو إخلاء محدوداً، في مجلس الوزراء بالذات للمرة الأولى منذ إخلاء مستوطنات سيناء. وتشير الدلائل إلى أن هناك عدداً متزايداً من المستوطنين غير المؤدلجين شرع يلتحق بصفوف أولئك الذين كانوا يتطلعون إلى العودة إلى ما وراء الخط الأخضر، إذا عرضت عليهم تعويضات ملائمة حتى قبل وقوع المجزرة (نسبتهم قد تقارب 30%). وفيما تصارع حكومة رابين لمواجهة نتائج لجنة التحقيق في أحداث الخليل، يبدو أن قضية المستوطنين استقرت بثبات في أعلى جدول أعمال إسرائيل السياسي الداخلي، بغض النظر عن كيفية التعامل في النهاية مع المطالب الفلسطينية الحالية لدفعها إلى مقدمة جدول أعمال المفاوضات، ومن المرجح أن تخضع سياسات إسرائيل تجاه المستوطنين والمستوطنات لعملية تدقيق لا سابق لها، في الداخل والخارج على حد سواء. وقد يؤثر هذا في هامش إسرائيل في المناورة خلال أية مفاوضات مستقبلية، ويهدد المقاربة التي فضلها رابين حتى الآن، والقائمة على عدم إبراز المشكلة والتدرج في معالجتها. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن المشكلات المعقدة التي يثيرها المستوطنون والمستوطنات من غير المرجح أن تتلاشى من تلقاء نفسها. ويمكن القول إن مزية التأجيل المستمر لهذه القضية تعود إلى فرضية أن كسب الوقت سيسمح بإيجاد حل أسهل للمشكلة في وقت لاحق. لكن تجربة كلا الطرفين فيما يختص بقضية المستوطنين والمستوطنات حتى الآن، لا تؤيد مثل هذه الفرضية، وإنما توحي المؤشرات السياسية والنفسية المتوفرة بعكس ذلك تماماً.
وقد استمرت حكومة رابين، على الرغم من ادعاءاتها في بناء وحدات سكنية للمستوطنين بمعدل لم يسبق له مثيل. وقد رعت هذه الحكومة منذ تولت السلطة في تموز/ يوليو 1992، في الحقيقة، أكبر هجمة استيطانية مفردة في القدس العربية والضفة الغربية منذ سنة 1967. وكان هناك، في الفترة ما بين تموز/ يوليو 1992 وآذار/ مارس 1993، 8500 وحدة سكنية في مراحل مختلفة من الإنجاز في الضفة الغربية وغزة وحدهما، بالإضافة إلى 13,000 وحدة سكنية في قيد البناء في القدس العربية. ولا يتجاوز عدد المستوطنات التي شطبتها حكومة حزب العمل من قائمة المستوطنات التي تتلقى دعماً ومساعدات حكومية في عهد الليكود، عشر مستوطنات؛ إذ يبلغ عددها حالياً 75 مستوطنة في مقابل 85 مستوطنة في عهد الليكود. وفيما يدعي رابين أنه جرى "تغيير الأولويات القومية" وألزم إسرائيل بـ"تجميد" المستوطنات، فإنه يكون بهذا قد نفذ عملياً جزءاً كبيراً من برنامج المستوطنات الذي وضعه سلفه الليكودي يتسحاق شمير، مع تشديد خاص على خلق واقع جديد في مدينة القدس والمناطق المحيطة بها. وقد كان واحداً من التأثيرات الجانبية المستهجنة لعملية السلام، من وجهة النظر الفلسطينية، ظهور النشاط الاستيطاني الإسرائيلي كأنه مجرد أمر ثانوي بالمقارنة مع "الاختراف النفسي والخلقي" المفترض الذي حققه اتفاق أيلول/ سبتمبر. وقد بدت المطالب والاحتجاجات الفلسطينية المستمرة المتعلقة بهذا الشأن كأنها رد مستهجن على حدث "تاريخي" أعظم كثيراً. لكن الآن، مع توفر الإحساس بالخطر من جانب المجتمع الدولي (ولربما حتى الولايات المتحدة التي عبرت عن مخاوف خجولة تجاه الخطط الإسرائيلية للقدس الشرقية حتى ما قبل مذبحة الخليل)، ومع إعادة نظر بسيطة من جانب الحكومة الإسرائيلية بدافع المصلحة الذاتية، فقد يكون في الإمكان الضغط عربياً/ فلسطينياً/ دولياً لعمل المزيد من أجل وقف القروض السهلة الواسعة النطاق، وقروض الإسكان المنخفضة، والحوافز الأُخرى، والمعونات الحكومية التي ما زالت تقدم للمستوطنين، وتحقيق تجميد حقيقي لعملية الاستيطان المستمرة.
ما بعد غزة/ أريحا
يفترض "إعلان المبادىء" حدوث تقدم مهمّ في اتجاه التوصل إلى اتفاق شامل في شأن المرحلة الانتقالية، بحلول صيف عام 1994، بما في ذلك مزيد من إعادة الانتشار بالنسبة إلى القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وإجراء انتخابات "سياسية عامة ومباشرة وحرة"، لانتخاب مجلس الضفة الغربية وقطاع غزة في تموز/ يوليو 1994، بحسب ما تقرر. غير أنه قد تنشأ جملة من المشكلات نتيجة الاختلاف المحتمل بين الجانبين في تفسير مدى السلطة الفلسطينية خارج منطقة غزة/ أريحا؛ إذ بينما يفترض المفهوم الفلسطيني أن طبيعة ومدى صلاحيات ومسؤوليات السلطات الفلسطينية في غزة/ أريحا سيكونان، في الأساس، كما هما في الضفة الغربية، وأن إعلان المبادىء يؤكد "سلامة" و"وحدة" المناطق الفلسطينية في الفترة الموقتة، فإن من المرجح – في المقابل – أن تركز الحجة الإسرائيلية على حقيقة أن الاتفاقية تنص على نقل من دون قيود للسلطة في غزة/ أريحا، إلا إنها تسمح لإسرائيل بممارسة صلاحيات معينة ("المتبقية") في باقي الضفة الغربية حتى بعد إنشاء المجلس المنتخب. وهذا يعني عملياً أن الجانب الإسرائيلي، في الوقت الذي يقبل فيه "الانسحاب" من غزة/ أريحا (خارج المستوطنات)، قد يطالب في مجالات معينة مهمة جداً – مثل حق التصرف في "أراضي الدولة"، بإدارة مشتركة للأرض في الضفة الغربية على الأراضي التي لا تعود للبلديات ومجالس القرى الفلسطينية، أو للملكية الخاصة. وقد يشمل ذلك ما نسبته 40% من أراضي الضفة الغربية، باستثناء القدس. وفي الحقيقة، يمكن الرجوع بهذا الموقف الإسرائيلي القديم إلى محادثات الحكم الذاتي مع مصر، وهو مستند إلى جدول حسابات مزدوج: أولاً، إن منح الفلسطينيين حرية التصرف فيما يتعلق بتطوير "أراضي الدولة" وفق ما يرونه ملائماً، قد يؤدي في النهاية إلى عملية لا يمكن عكس وجهتها، تقود إلى قيام دولة على أرض الواقع، أي "خلق حقائق على الأرض"، الأمر الذي "يجحف بالمفاوضات في شأن المرحلة النهائية" ويقررها مسبقاً. ثانياً، إن حرية التصرف فيما يتعلق بأراضي الدولة يمكن أن تمنح الفلسطينيين أدوات للتأثير في المستوطنين والنشاطات الاستيطانية (عن طريق شق طرق، وتقييد حركة المستوطنين على الطرقات، وأماكن التخلص من النفايات، إلخ).*
ومن القضايا الرئيسية الأُخرى التي يتعين مواجهتها، تلك المتعلقة بالإمكانات العملية والتطبيقية لأية اتفاقيات تحاول الفصل بين مختلف مستويات السيطرة والسلطة والتشريع بين الجانبين. وتنطوي على إشكالات معقدة بصفة خاصة، سواء من الناحية السياسية أو من ناحية التطبيق العملي المحض، آليات "التعاون والتنسيق" على نطاق واسع، التي تقترحها إسرائيل، والتي من شأنها أن تحوّل "الحكم الذاتي" إلى معادلة تدخل فيها منظمة التحرير عملياً في شراكة دائمة مع احتلال إسرائيلي. كما ينطوي على إشكالات لا تقل تعقيداً، الوضع الاستثنائي الذي سبق أن اقترحته إسرائيل بالنسبة إلى المستوطنين والمستوطنات، والذي من شأنه أن يمنحهم "حكماً ذاتياً" حقيقياً في عمق المناطق الفلسطينية بالمقارنة بين السلطات المحدودة المتوفرة للفلسطينيين، سيكون من الصعب أضعافاً مضاعفة قبوله أو تنفيذه بعد مذبحة الخليل.
لقد اشترط موقف إسرائيل التفاوضي في مفاوضات طابا/ القاهرة، في البداية، إطاراً قانونياً لاتفاق غزة – أريحا من شأنه أن يمنح حصانة شبه كاملة لا للمستوطنين والمواطنين الإسرائيليين والقوات الإسرائيلية العاملة في المناطق الفلسطينية فحسب، بل أيضاً للزوار الأجانب (الذين يدخلون البلد عبر نقطة عبور في إسرائيل نفسها)، وللشركات الإسرائيلية المسجلة، وللشركات التي يمتلك إسرائيليون أغلبية أسهمها. وفي حالة وقوع حوادث تشمل أياً من الفئات المذكورة أعلاه، فإن إسرائيل لا تتصور دوراً للشرطة الفلسطينية أكثر من "حماية" الجهة الإسرائيلية المعنية، إلى أن تصل السلطات الإسرائيلية (من خلال آلية "التعاون والتنسيق" الملائمة) لتعالج المشكلة وفقاً لإجراءات مقررة سلفاً تستثني الفلسطينيين من القيام بأي دور حقيقي. وكان من المفترض ألا يتمتع الشرطي الفلسطيني بأية سلطة على الإطلاق تخوله إيقاف سيارات تحمل لوحات إسرائيلية، وكان مطلوباً منه أن يسمح لأي من المارة بمتابعة سيره من دون اعتراض، بمجرد أن يلوح هذا أو هذه ببطاقة هويته أو هويتها الإسرائيلية. ولم يكن معروضاً حتى أي عنصر ضئيل من التبادلية، أو التكافؤ القانوني بين الجانبين.
وينبع مصدر آخر للتهديد، من وجهة النظر الفلسطينية، من المحاولة الإسرائيلية المتواصلة لخلق حقيقة سياسية وديموغرافية منتهية فيما يتعلق بالقدس. وتقوم إسرائيل حالياً بتنفيذ خطة طموحة لخلق "قدس كبرى" على مساحة أكبر من الحدود البلدية الموسعة التي ضمتها إسرائيل إليها من طرف واحد سنة 1967. وتشمل الخطة الحديثة على "الأحياء" اليهودية العشرة الجديدة في القدس الشرقية، وعلى عشرين مستوطنة أُخرى ضمن مساحة قطرها 100 ميل مربع، تصل حدودها الشرقية محلياً حتى مشارف أريحا نفسها، وتشكل إسفيناً مدقوقاً في صميم قلب الأراضي الفلسطينية.** ويبدو أن سعي إسرائيل لإدخال ما مساحته 15% - 20% من الضفة الغربية ضمن سيادتها تحت غطاء "القدس الكبرى"، يحركه مزيج من حسابات استراتيجية ورغبة في التوسع الإقليمي، أكثر مما تحركه عقيدة مقدسة. وعلاوة على مكانة المدينة الرمزية والروحية بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن التوسع الإسرائيلي داخل القدس وحولها يمثل أخطر تهديد على الإطلاق على نشوء كيان فلسطيني في المستقبل، كما أنه أكبر تحد يطرحه استمرار الاحتلال. وهكذا، فإن من المرجح أن تكون الصعوبات والتعقيدات الناشئة عن مفاوضات غزة – أريحا قليلة الشأن قياساً بالصعوبات التي ستبرز في المفاوضات بشأن اتفاقية المرحلة الانتقالية الكاملة، وبعد ذلك في مفاوضات التسوية النهائية. ومهما تكن الإخفاقات قبل المجزرة التي يمكن تحميل منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها مسؤوليتها، فإنه سيكون من الصعب تجنب التقلبات الحادة في مزاج الشارع الفلسطيني في المناطق المحتلة التي يمكن النظر إليها على أنها ناتج حتمي لخيبة أمل الفلسطينيين وضعفهم النسبي. وأحد المخاطر التي ينطوي الوضع الحالي عليها، هو أن يؤدي تضافر القضايا المعقدة في مرحلة ما بعد غزة/ أريحا مع ضعف منظمة التحرير الفلسطينية المفترض أو المقدّر من جانب إسرائيل، إلى مأزق سياسي تفاوضي حقيقي، تلجأ إسرائيل بحجته إلى رفض مدروس للتقدم ما بعد غزة/ أريحا على المسار الفلسطيني، على الأقل في حال غياب تقدم ذي شأن على المسارات العربية الأُخرى. ومع اقتراب الجانبين من المراحل الأكثر تعقيداً والمشحونة لعملية السلام (الانتخابات، وضع القدس، التخلص من المستوطنات، إلخ)، فإن وضعهما النفسي – والخلقي سيؤثر تأثيراً حاسماً ومباشراً في فرص إيجاد تسوية حقيقية، مستقرة وثابتة. وفي هذا السياق لا بديل من أن يتخلص الجانب الإسرائيلي، بصورة خاصة، من سياسات السيطرة وسيكولوجيتها، وذلك بسبب عدم التناظر في القوة العارية مع الفلسطينيين من جهة، ولضرورة مترتبة عن سوء استخدام السلطة الإسرائيلية في السابق من جهة أُخرى. ومن دون هذا، فإن الإنجاز المتمثل في "الاعتراف المتبادل" سيبدو ليس كأمر لا صلة له بالواقع فحسب، بل – وهذا هو الأمر الأخطر – كفشل معنوي وفأل سيّىء لأيام مقبلة أشد قتامة.
* للمزيد من التفصيلات في شأن مسألة الأرض وتصنيفها، راجع في هذا العدد من "مجلة الدراسات الفلسطينية" مقالة علي سفّاريني، "حقوق ملكية الأراضي الأميرية في فلسطين".
** راجع أيضاً: خالد عايد، "القدس الكبرى في إسار الأمر الواقع الصهيوني"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 15، صيف 1992، ص 101.