يعتبر الرئيس الإسرائيلي السابق، حاييم هيرتسوغ، أن الاحتفالات المختلفة المرافقة لعملية السلام ليست هي الجوهر، بل الجوهر الحقيقي هو الإعداد الدقيق للاتفاق مع الفلسطينيين بتفصيلاته كلها من خلال الحرص الشديد على مصالح إسرائيل. ويشير إلى أن نحو 90% من التفصيلات لم يبحث فيها ولم تتبلور بعد، مشدداً على أن مهمة تطبيق التسوية في غزة وأريحا، إلى جانب تفعيل الحكم الذاتي والاستعداد للتسوية الدائمة، هي من أهم المهمات التي أخذتها إسرائيل على عاتقها.
لا شكل في أن هناك أهمية معينة، رمزية وعملية، للاحتفالات المختلفة المرافقة لعملية السلام. لكن داخل الأمل الكبير بالسلام، من الصعب أحياناً، التحرر من خشية أن تصبح الاحتفالات والمظاهر الرمزية هي الجوهر. من خلال إهمال الجوهر الحقيقي، أي – الإعداد الدقيق للاتفاق مع الفلسطينيين بتفصيلاته كلها، من خلال الحرص الشديد على مصالحنا نحن. وفعلاً، فهذا ما أكده الأمير الحسن عندما أشار إلى أن الأساس ليس الطقوس الاحتفالية والمصافحات من على شاشات التلفزة بل إعداد الاتفاقات بتفصيلاتها الدقيقة.
عندما التقى المرحوم بيغن والمرحوم السادات والرئيس كارتر في باحة البيت الأبيض، كان ذلك بعد مباحثات مفصلة استغرقت شهوراً طويلة، وتضمنت إعداد اتفاق كامب ديفيد وتوقيعه، وأيضاً إعداد اتفاق السلام مع مصر.
واللقاء الأخير في باحة البيت الأبيض، مثّل ظاهرة مختلفة – فأولاً تم توقيع وثيقة المبادئ العامة، والآن فقط يتقدم الطرفان لإعداد معظم التفصيلات.
ومعنى ذلك، أن نحو 90% من التفصيلات لم يُبحث فيها بعد، وبالتأكيد لم تتبلور بعد. إلى ذلك يضاف عدد آخر من التعقيدات. [فبينما] دارت المفاوضات في كامب ديفيد بعيداً أن أنظار وسائط الإعلام. من دون تسريبات ومناقشات عامة، فإن المفاوضات الحالية، وباستثناء فتح قناة الاتصال المباشرة مع الفلسطينيين وإعداد وثيقة المبادئ، تجرى علناً، ومصحوبة بتسريبات مقصودة وأُخرى غير مقصودة، على نحو قد يحرج قيادة الطرفين أحياناً، ويحول دونها واتخاذ خطوات غير تقليدية، أو التقدم بمقترحات جديدة. فيومياً، نبشِّر بمحادثات جديدة، وجلسات تنسيق جديدة، وهيئات جديدة، حيث كل طرف في الحكومة يرى لنفسه دوراً في الحكم الذاتي وفي عملية السلام.
إلى ذلك، وعلى الجانب الآخر في المتراس، يقف الفلسطينيون الذين لم يديروا سلطة مستقلة، لا في فترة الحكم العثماني، ولا في فترة الحكم البريطاني، ولا الأردني أو الإسرائيلي. فأمامنا جسم عديم الخبرة، يفترض بسرعة البرق، أن يأخذ على عاتقه إدارة ذاتية من دون تأهيل حقيقي، بينما يواجه معارضين للعملية، ويواجه صعوبات موضوعية شديدة. وسبق لي أن أشرت إلى القيود الزمنية التي أقحمنا أنفسنا فيها. وهي تدل على انعدام الخبرة بعلم السلطة، الذي ميز واضعي صيغة وثيقة المبادئ.
الوقت يمضي والجميع يجلسون وفي أيديهم ساعات توقيت. ولتنظروا إلى الجدول الزمني الذي تحدد لخروج الجيش الإسرائيلي من غزة وأريحا: شهر بعد توقيع الوثيقة، وإلى حين لقاء الطرفين في الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر، ثم شهران حتى الانتهاء من الوصول بالمفاوضات إلى اتفاق، ثم أربعة شهور إلى حين انسحاب الجيش الإسرائيلي من هذه المناطق. أي ما مجموعه سبعة شهور. وهذا الجدول الزمني، وبحسب رأيي المتواضع، غير عملي، فهو قد يقود إلى الإهمال، وإلى السطحية والتسرع. والنتيجة قد تكون نفسية، وربما مدعاة إلى البكاء على مر الأجيال.
وبحسب رأيي، فإنه لا سبيل سوى جعل الجدول الزمني أكثر مرونة، وترك المفاوضات تتقدم في كل مرحلة من المراحل وفقاً للنتائج، وبعد فحص أساسي وعميق لمستوى التقدم. هذا ما يجب أن يكون عليه السلوك والنهج على امتداد المسار وفي خلال الأعوام كلها. علينا أن نتذكر أن في موضوع ينطوي على أبعاد بالنسبة إلى وجود دولة إسرائيل، لا مكان للتسرع، وللسطحية، ولتجاهل المشكلات التي قد تظهر في المستقبل وتخلق وضعاً، أو أوضاعاً خطرة، غير قابلة للعودة إلى الوراء، على امتداد الطريق.
هذا وأكثر، يجب علينا خلق نقاط اختبار على امتداد المسار، تمكننا من وقف التقدم فيه. فهل في إمكاننا أن نعرف ما تخبئه لنا الأيام؟ ما الذي يمكن أن يحدث في حال حدوث تغيير في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لهذا السبب أو ذاك؟ وما معنى القول إن الجيش سيسيطر على المناطق؟ وكيف يمكن للجيش تحقيق المسؤولية المحددة له في الاتفاق، وضمان سيطرته الشاملة على المناطق، وسلامة الإسرائيليين حيثما يكونون؟ وكيف سيخاض الصراع ضد "حماس" ومنظمات الإرهاب؟ وأين هي بالذات، الحدود التي لا نسمح بتجاوزها، في مواجهتنا لتطور الوطنية الفلسطينية؟ وبحسب اعتقادي، فإنه لا مجال للاعتماد على أجواء راهنة وتفاهمات عامة وترتيبات موقتة، تتم الآن بين أطراف حكومية إسرائيلية وأطراف فلسطينية ودولية. فهذه جيدة في وقتها، لكن ليس على مدى الأجيال المقبلة.
إن مهمة تطبيق التسوية في غزة وأريحا، إلى جانب تفعيل الحكم الذاتي والاستعداد للتسوية الدائمة، هي من أهم المهمات التي أخذناها على عاتقنا. بالنسبة إلى مستقبل وجودنا، منذ قيام الدولة، كمهمة قومية، باستثناء العمليات العسكرية. فلا يجب فحص الاتفاق من خلال نظرة قصيرة المدى، تعتمد على ما يبدو للناظر الآن، بل بالذات من خلال نظرة بعيدة المدى، أي كيف سيؤثر الاتفاق، من ناحية تاريخية، في حياتنا في هذا البلد إلى جانب الفلسطينيين. لقد قال السياسي الفرنسي المعروف، كليمنصو، ذات مرة إن الحرب هي موضوع أبلغ أهمية من أن يُترك في أيدي الجنرالات. والحكم ذاته بالنسبة إلى موضوعنا. فأنا لا أؤمن بأن بيروقراطيتنا هي الأداة الفضلى لتنفيذ هذه المهمة، ناهيك بأننا نتعامل مع جسم عديم الخبرة في شؤون الإدارة الذاتية.
هذا الموضوع المصيري يجب إخراجه من قيود البيروقراطية الحكومية، ومن التنافس بين الوزراء ومكاتب الحكومة. فهذا البلد زاخر بالقدرات الإدارية الممتازة، على مستوى عالمي، في مجالات الصناعة، والعلوم، والتجارة، والجيش، والمجال الأكاديمي، وخلافه. وبحسب رأيي المتواضع، فالمهمة التي نتصدى لها، تحتم إقامة هيئة رسمية لشؤون الحكم الذاتي، تتمتع بصلاحيات كاملة لإدارة المفاوضات والمسار وفقاً لما سيتحدد. ولتأليف هذه الهيئة، يجب علينا تجنيد خيرة القوى في الدولة، وفي أوساط الإسرائيليين في أرجاء العالم، وتشغيلهم وفقاً لعقود، بحيث لا يكونون خاضعين لضغوطات الخدمة الرسمية. وعلى رأس هذه الهيئة يجب أن يكون شخص بمنصب وزير يخضع لرئيس الحكومة مباشرة، ويتلقى منه التعليمات بصورة دائمة، شخص قد أثبت قدرته، وصيته ذائع. بهذا فقد، يبدو لي، سيكون من الممكن استكمال الـ 90% من التفصيلات التي يفتقدها الاتفاق، وبهذا فقط يمكن التأكد من وضعها موضع التنفيذ وفقاً لما تقتضيه مصلحتنا.
إن الموضوع الأمني، والموضوع الاقتصادي، والجهاز الاقتصادي الذي لا حدود له، وموضوع الهجرة، وحماية المستوطنات، كل هذه الأمور وغيرها هي موضوعات مركزية وحيوية يجب أن تحظى بمعالجة من جانب الأيدي الأكثر فعالية وإخلاصاً الموجودة في دولة إسرائيل.
وقد سبق أن قدمتُ ملاحظات بالنسبة إلى عدد من القضايا الأمنية المجسدة في الاتفاق. والقضايا الاقتصادية لا تقل تعقيداً عنها. ولا شك في أن البعد الاقتصادي عامل حاسم في خلق مرساة للسلطة الفلسطينية وفي ضمان محيط مستقر.
فقد تعهدت دول كثيرة بتقديم مبالغ جمة. فمن سيدير تلك الأموال؟ ومن سيراقب عملية إنفاقها؟ وحتى الآن فميزانية منظمة التحرير الفلسطينية التي تقارب 370 مليون دولار في السنة (قبل حرب الخليج) يديرها شخص واحد هو عرفات. فعل سيستمر هذا الوضع أيضاً في المستقبل؟
وكيف يمكن ضمان أن تكون يد الأميركيين هي العليا في الجدل الدائر بشأن السيطرة على هذه الأموال؛ إذ إن هذا الأمر مصلحة إسرائيلية؟ وكيف يمكن ضمان أن يكون استخدام هذه الأموال للحاجات الصحيحة، وأن تساهم التنمية الاقتصادية في المناطق في إنعاش الاقتصاد الإسرائيلي لا العكس؟
وعلى هامش هذه الأسئلة، يجدر أن نلفت الانتباه إلى أن الدول العربية بالذات هي الأقل استعداداً من الجميع للتبرع أو لتقديم المساعدات من أموالها لهذا الموضوع الذي هو في قيد البحث. وفي هذا السياق يتوجب علينا الإصرار على وضع حد للنفاق الذي يميز مسلكية بعض الدول العربية، اليوم أيضاً، بعد حفل التوقيع في البيت الأبيض. فإذا، على سبيل المثال، لا يزالون يرفضون إلغاء المقاطعة الاقتصادية، فهذا يعني أن وراء الأكمة وما وراءها، ويحتم اليوم القيام بنشاط دولي ضد هذه الدول. فها هي هذه الدول، وفي يوم واحد، قد ألغت مقاطعتها لجنوب إفريقيا، في ضوء الاتفاق الذي أُنجز هناك، وعلى الرغم من أنه لم تجر الانتخابات بعد. وأما بالنسبة إلينا، فلا يزالون يواصلون لعبة النفاق التي لا يجوز لنا القبول بها أو السكوت عنها.
وإذا استخدمنا أقوال كينسجر، فإني أعتقد أننا أصبحنا في وضع لا زال للأمل فرصة في أن يغطي على المخاوف. لكن تحقيق هذا الأمل مرهون بالإصرار الحازم على ضمان مصالحنا، والتمحيص في "الأحرف الصغيرة".
وفوق ذلك كله، يجب تحرير الجدول الزمني المضغوط، ويجب أن يحدد أن المفاوضات، في كل مرحلة وأُخرى، ستتواصل إلى حين التوصل إلى اتفاق مقبول وليس وفقاً لجدول زمني محدد سلفاً.
المصدر: "يديعوت أحرونوت"، 8/10/1993.