تركز الدراسة على تأثير التعليم العالي في فلسطينيي الـ 48، وتعرض أهم القضايا المتعلقة بجهاز التعليم العالي مع التركيز على العقبات التي تواجه الطلاب العرب. كما أنها تركز على استعمال آليات الضبط الإسرائيلية خارج جهاز التعليم، وبشكل خاص في سوق العمل بحيث يصبح الحصول على الألقاب الجامعية همّاً ومشكلة وحافزاً على الهجرة.
مقدمة
تثير القضايا المتعلقة بجهاز التعليم في المجتمعات الحديثة اهتماماً كبيراً وجدلاً حاداً حول الدور الاجتماعي ـ الاقتصادي لهذا الجهاز. ويدور هذا الجدل بين اتجاهين رئيسيين. الأول يرى أن لهذا الجهاز دوراً رئيسياً في تأهيل الطالب للقيام بدوره الاجتماعي من خلال إكسابه قيم المجتمع ومنحه فرصة الحصول على مهنة تؤهله للاندماج في سوق العمل. وبما أن المهنة تحدد المركز الاجتماعي والدخل الاقتصادي، فإن جهاز التعليم يعتبر أهم جهاز في عملية الحراك الاجتماعي إلى الأعلى، لأنه يمنح فرصاً متساوية للجميع لتطوير مهاراتهم ومواهبهم وقدراتهم الشخصية. أما الاتجاه الثاني فيرى أن الفئة الحاكمة في أي مجتمع تستخدم جهاز التعليم لتبرير التمايزات الاجتماعية وللتحكم بالتطورات الاجتماعية ـ الاقتصادية وضبطها وتوجيهها بحيث تخدم مصلحتها، وذلك لأن الفرص ليست متساوية ولأن عملية اختيار الوظائف المختلفة في المجتمع تحدث خارج أسوار معاهد التعليم وليس في داخلها.
في كلا الحالتين تصبح دراسة النتائج الاجتماعية - الاقتصادية للتعليم من المهمات الرئيسية للباحثين لأنها تحدد الكثير من صفات البنية الاجتماعية في العصر الحديث. ومن أهم النتائج تأثير التعليم في توزيع موارد المجتمع للأفراد والجماعات على السواء.
إن جهاز التعليم يكتسب أهمية خاصة في حالة الجماعات والأقليات الضعيفة التي تفتقر إلى الموارد السياسية والاقتصادية والتي، بدورها، تحدد مكانتها وموقعها في المجتمع، بحيث يصبح جهاز التعليم القناة الوحيدة للحراك، على المستويين الفردي والجماعي، بواسطة اكتساب المهارات المهنية والمعرفة الملائمة لاحتلال مواقع أفضل في سوق العمل وتغيير الوضع القائم في توزيع موارد المجتمع.
إن الأقلية العربية في إسرائيل هي فئة اجتماعية سُلبت مواردها الرئيسية ولم تجد أمامها فرصة لتحسين أوضاعها الاجتماعية ـ الاقتصادية وتغيير موقعها في المجتمع الإسرائيلي إلا تطوير العامل البشري بواسطة جهاز التعليم. وقد أصبح التعليم المجال الوحيد الذي يمكن بواسطته اكتساب المعرفة العلمية والمهارات المهنية الملائمة لتطوير الإنسان والمجتمع وإثراء الموارد البشرية.
في هذه المقالة سوف نركز على جانب واحد في دراسة نتائج التعليم وتأثيره في الأقلية العربية في إسرائيل وهو التعليم العالي. ولكننا سنعرض، باختصار، لأهم القضايا المتعلقة بجهاز التعليم العربي مع التركيز على العقبات التي تواجه الطلاب العرب في مراحل التعليم المختلفة. وسوف يظهر لنا أن هذه العقبات تجعل إمكانية انتشار التعليم العالي بين الفئات الاجتماعية المختلفة ضعيفة وتحد من فرص الحراك الاجتماعي ـ الاقتصادي لأبناء الأقلية العربية. لذلك فهي جزء لا يتجزأ من جهاز الضبط المتشعب الذي استعملته إسرائيل للحد من التطورات التي تعتبرها سلبية بالنسبة إليها، وللتحكم في اتجاه هذه التطورات بحيث تخدم النظام. ودراستنا الحالية سوف تركز، أيضاً، على استعمال آليات الضبط خارج جهاز التعليم، وبشكل خاص في سوق العمل بحيث يصبح الحصول على الألقاب الجامعية همّاً ومشكلة للمتعلمين وحافزاً على الهجرة من البلاد بدلاً من أن يكون فرصة للحراك الاجتماعي ـ الاقتصادي على المستوى الفردي وآلية للتطور على المستوى الجماعي.
أولاً: تطوير جهاز التعليم العربي
لا نهدف، في هذا الجزء، إلى دراسة تطور جهاز التعليم العربي في إسرائيل بصورة موسعة. لكننا سنحاول أن نقدم عرضاً موجزاً لأهم القضايا المتعلقة بالعملية التعليمية ذات العلاقة المباشرة بالتعليم العالي وتطوره الكمي والنوعي.
لم يكن التعليم ظاهرة جديدة في المجتمع الفلسطيني عند قيام دولة إسرائيل. ولكنه انتشر حتى في القرى فوصل عدد المدارس الابتدائية فيها إلى 426 مدرسة عام 1945.(1)
وبعد قيام الدولة تم إنشاء مؤسسات تعليمية، في المستوى الابتدائي، في معظم القرى الكبيرة والصغيرة، فأصبح بإمكان أي طفل الحصول على حد أدنى من التعليم. لقد ازداد الطلب على التعليم في المدارس عقب مصادرة مساحات واسعة من الأراضي العربية وتقلص الأراضي المزروعة. وهذا الأمر أعفى الأطفال من المساعدة في العمل الزراعي.
تأثر تطور التعليم العربي بعدة عوامل ومتغيرات أهمها الفصل بين جهازي التعليم العبري والعربي حتى في المدن المختلطة. ولكن إدارة جهاز التعليم العربي لم تكن مستقلة بل استمرت كدائرة من دوائر وزارة المعارف الإسرائيلية تحت اسم "دائرة المعارف العربية". وقد تولت هذه الدائرة مسؤولية التعليم في جميع جوانبه وخاصة تقرير المناهج وتعيين المعلمين والمديرين والمفتشين من دون إعطاء أية فرصة للجمهور العربي، أو لممثلين عنه، للتأثير في مسيرة التعليم.
شكل فصل جهاز التعليم العربي عن التعليم العبري واستمرار سيطرة وزارة المعارف عليه عاملاً حاسماً في تحديد مضمونه ومستواه ومردوده على الجمهور العربي من خلال الأمور التالية:
- المحافظة على أنماط الإدارة والتنظيم والتعليم التقليدية.
- لم يتم تطبيق قانون التعليم الإلزامي بدقة، واستمرت نسبة تسرب التلاميذ عالية حتى في المرحلة الابتدائية.
- بقيت مسؤولية تعيين المدرسين والإدارة، ما عدا في المرحلة الثانوية، بأيدي الموظفين اليهود وتأثرت، وما زالت، بالاعتبارات السياسية وليس بمعايير المؤهلات والكفاءة.
- واجه تطور جهاز التعليم مشكلة تعيين مدرسين غير مؤهلين: بعد عشرين عاماً من قيام الدولة كانت نسبة المعلمين غير المؤهلين في المدارس العربية 45 في المئة.(2) وفي العام الدراسي 1987/1988 كانت نسبتهم 14 في المئة.(3)
- واجه التعليم العربي، وما زال، مشكلة كبيرة في المناهج وكتب التدريس. فحتى عقد الستينات استمر الطلاب في نسخ الكتب القديمة. ثم كانت هناك بعض المحاولات للتغلب على المشكلة عن طريق ترجمة بعضها من العبرية وخاصة كتب العلوم الطبيعية. لكن المشكلة بقيت قائمة بكل حدة بعد أن أصبحت الكتب المترجمة قديمة وغير ملائمة. لذلك فإن عدداً كبيراً من الكتب والوسائل المساعدة الضرورية المستعملة اليوم هي كتب عبرية.
- شكل النقص في الاستثمار المادي في التعليم العربي عقبة رئيسية أمام تطوره. وقد عانى هذا الجهاز النقص في المباني وغرف التدريس والمختبرات والمنشآت الخاصة بالخدمات والفعاليات المختلفة لفترة طويلة. ومع أن حدة هذه المشكلة تراجعت في السنوات القليلة الماضية، إلا أنها لم تُحل نهائياً. لذلك ما زالت المدارس والصفوف مكتظة بحيث يصل معدل عدد الطلاب للصف الواحد 30,8 في المدارس العربية مقابل 27 في المدارس اليهودية. ولكن نقصاً كبيراً ما زال ظاهراً في المنشآت المخصصة للمختبرات والخدمات والفعاليات الرياضية والتربوية والفنية.
- تتميز المدارس العربية عن المدارس اليهودية بنقص في مختلف أنواع الفعاليات خصوصاً اللامنهجية. فهي تقوم عادة بدور مؤسسات تعليم وليس مؤسسات تربية. ويعود هذا لا إلى النقص في المباني والمنشآت فقط، بل إلى الانخفاض في ملاك الساعات المخصص للمدارس العربية أيضاً.
لقد خصصت مراقبة الدولة، في تقريرها الأخير، فصلاً خاصاً للتعليم العربي، وتعرضت لكل هذه القضايا وللفروق القائمة بينه وبين التعليم اليهودي. ونحن نكتفي لغرض هذه الدراسة، بأن نذكر ما ورد في التقرير عن المخصصات المالية التي تشكل عقبة أمام حل عدد كبير من المشاكل التي تحول دون تطور عملية التعليم: خصصت وزارة المعارف في العام 1990 ما يساوي 125,7 دولاراً للطالب اليهودي مقابل 68,6 دولاراً للطالب العربي. أما مجمل مخصصات وزارة المعارف والسلطات المحلية معاً فبلغ 228,6 دولاراً للطالب اليهودي مقابل 85,7 دولاراً للطالب العربي.(4)
من الطبيعي أن مجمل المشاكل المذكورة أعلاه، وأخرى لم نذكرها، أثرت تأثيراً عميقاً في مستوى التحصيل العلمي للطلاب العرب وفي نسبة من ينجحون في متابعة دراستهم في المرحلة الثانوية والتعليم العالي. ومع أن نسبة هؤلاء ارتفعت، مع مرور الزمن، إلا أنها ما زالت بعيدة جداً عنها في القطاع اليهودي. فقد كانت نسبة الطلاب العرب الذين التحقوا بالمدارس من فئة العمر 14-17 عاماً 294 في الألف عام 69/1970، ووصلت إلى 628 في الألف علم 89/1990. بينما وصلت في القطاع اليهودي في العام نفسه إلى 953 في الألف.(5) أما نسبة النجاح في امتحانات الشهادة الثانوية (البغروت)، التي تُعتمد كمعيار أساسي في القبول في مؤسسات التعليم العالي، فما زالت منخفضة جداً: فقد نجح 35,1% من الطلاب العرب الذين أنهوا المرحلة الثانوية في العام 91/1992 مقابل 57,5% من الطلاب اليهود.(6) لكن هذه المعطيات ليست كافية لتوضيح الفروق بين نتائج تحصيل الخريجين في القطاعين، إذ إن المسألة الأساسية التي يجب البحث فيها تتعلق بنسبة الطلاب الذين حصلوا على معدلات عالية تمكنهم من الالتحاق بالجامعات. ومن المهم أن نشير إلى أن نسبة نجاح الخريجين في التخصصات المهنية وصلت إلى 26,5% فقط بين الطلاب العرب مقابل 47% بين الطلاب اليهود في العام الدراسي 88/1989.(7)
إن تقويم جهاز التعليم العربي من هذه الناحية وحدها، أي نسبة الحاصلين على الشهادة الثانوية غير كاف، ولكنه ليس موضوع دراستنا الحالية. ونكتفي بالمعطيات التي تبين أن نسبة هؤلاء إلى مجموع الطلاب في كل فوج يبدأ دراسته الابتدائية منخفضة جداً: فقد أظهرت المعطيات الرسمية أن 12,7% فقط من الطلاب العرب الذين بدأوا دراستهم في الصف الأول عام 77/1978 أنهوا المرحلة الثانوية وحصلوا على شهادة البغروت في العام 88/1989 مقابل 36,4% من الطلاب اليهود.(8)
ليس هناك شك في أن تطوراً كبيراً حصل في جهاز التعليم العربي على الرغم من المشاكل والعقبات الكثيرة التي يواجهها، كماً ونوعاً. إلا إنه لم يتطور بالخطوات نفسها التي تطور بها التعليم العبري. وكان التطور بارزاً، بشكل خاص، في مرحلة التعليم الثانوي، خاصة منذ أوائل السبعينات، مما أسهم إسهاماً كبيراً في ارتفاع عدد الطلاب العرب الذين يتابعون دراستهم في مؤسسات التعليم العالي.
لقد تأثرت ظاهرة ارتفاع عدد الطلاب العرب الذين يكملون دراستهم بعد المرحلة الثانوية بالمميزات الخاصة للتعليم الثانوي في القطاع العربي:
- إن التعليم العربي هو تعليم نظري ـ أكاديمي ولا يؤهل الخريجين للاندماج في سوق العمل بعد تخرجهم مباشرة. ففي العام الدراسي 90/1991 كانت نسبة الطلاب الذين يدرسون في المسارات المهنية والزراعة 22,8% مقابل 52,3% من الطلاب اليهود.(9)
لقد حدث تحول كبير في جهاز التعليم الثانوي العربي في العقد الأخير، من حيث مسارات التعليم المقترحة على الطلاب. وتمثل هذا التحول في الزيادة الكبيرة التي طرأت على التخصصات العلمية ـ التكنولوجية وبشكل خاص الإلكترونيك والكهرباء والحاسوب، وتضاعف عدد الطلاب الذين يدرسونها عدة مرات. إنهم يدرسون هذه التخصصات بشكل نظري بحت من دون تطبيق عملي يؤهلهم لممارسة المهنة بعد التخرج مباشرة، وإنما يتم تأهيلهم لمتابعة دراستهم العليا.(10)
- إن المدارس الثانوية العربية لم تمر بمراحل التطور نفسه في التعليم الابتدائي، وبالتحديد فيما يتعلق بمستوى تأهيل المدرسين وكفاءاتهم. فالغالبية العظمى من هذه المدارس هي مدارس حديثة استوعبت منذ لحظة إقامتها كوادر مؤهلة على المستوى الجامعي. ويتعلق ذلك، إلى حد كبير، بعدم وجود فرص عمل كافية لهؤلاء الجامعيين، مما يضطرهم إلى الاندماج في مؤسسات التعليم. وفي السنوات الأخيرة يُلاحظ ارتفاع عدد المدرسين الحاصلين على الماجستير في هذا الجهاز. إن هذه الظاهرة أسهمت في ارتفاع مستوى التعليم وزيادة عدد الخريجين في المرحلة الثانوية الذين يحصلون على معدلات كافية تؤهلهم لمتابعة دراستهم.
إن الموقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعرب في المجتمع الإسرائيلي يكسب التعليم العالي أهمية خاصة بصفته الآلية الوحيدة للحراك إلى الأعلى واحتلال مكانة اجتماعية عالية ومهنة تدر دخلاً مرتفعاً. لهذه الأسباب فإن متابعة الدراسة بعد المرحلة الثانوية تصبح هدفاً وأملاً لكل شاب لأن البديل منها هو الانضمام إلى سوق العمل من نقطة انطلاق متدنية.
إلى جانب الأسباب السابقة كلها فإن عدم تطور مؤسسات للتعليم العالي غير الجامعي يجعل الجامعة الفرصة الوحيدة أمام الخريجين في المدارس الثانوية.
ثانياً: التعليم العالي غير الجامعي
لم تتطور في القطاع العربي في إسرائيل مؤسسات للتعليم العالي غير الجامعي، مثلما حدث في القطاع اليهودي. لذلك ما زال هذا المستوى متخلفاً ولم تصل حصة الطلاب العرب فيه إلى 2% من مجمل الطلاب. في العام الدراسي 90/1991 بلغ عدد الطلاب في كل المؤسسات الإسرائيلية 39 ألف طالب منهم 717 طالباً عربياً فقط (1,8%). إن الغالبية العظمى من الطلاب العرب هؤلاء يدرسون في معاهد لتدريب المعلمين، حيث بلغ عددهم 664 طالباً (94%)، بينما يشكل أمثالهم أقلية بين الطلاب اليهود (38%). وفي حين يدرس نحو 12 ألف طالب يهودي مهناً تكنولوجية وفنية وهندسية فإن عدد الطلاب العرب لا يتجاوز 53 طالباً. ويلاحظ الغياب الكامل للطلاب العرب في المهن الطبية والتمريض والإدارة، بينما عدد الطلاب اليهود الذين يدرسونها يصل إلى نحو 12 ألف طالب.(11)
ويمكن تفسير هذه الظاهرة بالتالي:
- إن التعليم العربي، كما أشرنا سابقاً، هو تعليم نظري ـ أكاديمي في معظمه. والخريجون غير مؤهلين للالتحاق بمؤسسات التعليم التكنولوجي.
- توجد مؤسستان فقط لتدريب المعلمين العرب ومؤسستان أخريان مختلطتان للطلاب العرب واليهود.
- لم تتم إقامة أية مؤسسة للتعليم ما بعد الثانوي في أية قرية أو مدينة عربية حتى الآن.
ثالثاً: التعليم العالي الأكاديمي
إن أسباب توجه الطلاب العرب إلى مؤسسات التعليم العالي واضحة، وقد ارتفع عددهم باستمرار وارتفعت نسبتهم إلى مجمل الطلاب حتى أواسط الثمانينات، ثم بدأت تنخفض واستمرت بالانخفاض حتى اليوم.
يلاحظ من المعطيات أعلاه أن عدد الطلاب الذين يستمرون في تحصيلهم العلمي بعد اللقب الأول في ارتفاع مستمر. ويمكن تفسير هذه الظاهرة وظاهرة انخفاض عدد الطلاب العرب ونسبتهم في اللقب الأول بالتطورات التالية:
- ارتفاع تكلفة التعليم الجامعي في إسرائيل بنسبة عالية.
- انخفاض المردود الاقتصادي للتعليم العالي وخصوصاً لذوي اللقب الأول بسبب انتشار البطالة بين الأكاديميين (أنظر لاحقاً).
- ارتفاع عدد الطلاب الذين يتوجهون إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة من إسرائيل منذ سنة 1987 نتيجة لتسهيل الهجرة إليها أمام الشبان العرب.
- حصول عشرات الطلاب على منح دراسية في الاتحاد السوفياتي والدول الشيوعية سابقاً، بواسطة الحزب الشيوعي، حتى سنة 1990.
رابعاً مجالات الدراسة في الجامعات
كان ارتفاع عدد الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيلية متوافقاً مع التحولات في مجالات التخصص وتنوعها. وأكثر الظواهر بروزاً في هذه التحولات هي زيادة عدد المتخصصين في العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية والدقيقة والطب والمهن الطبية الأخرى. وتعزى هذه التحولات، بشكل مباشر، إلى إدخال هذه التخصصات في مرحلة الدراسة الثانوية، التي أشرنا إليها، وكذلك إلى زيادة الطلب في سوق العمل، وخاصة من جانب السلطات المحلية، على التخصصات في العلوم الاجتماعية مثل الخدمة الاجتماعية والتعليم الخاص والإرشاد التربوي. كما أن التطورات الاجتماعية والاقتصادية أدت إلى زيادة الطلب على المتخصصين في الاقتصاد والمحاسبة وغيرهما.
إن المعطيات المتوافرة غير كافية لإجراء مقارنة بين توزيع الطلاب في الجدول السابق وتوزيعهم في سنوات سابقة بحسب التخصصات، مما يجعل من المتعذر رصد التحولات التي حدثت عبر الزمن. ولكن معطيات أُخرى حول تخصصات الخريجين الحاصلين على الشهادات الجامعية تبين أن التحولات الرئيسية تُظهر هبوطاً في نسبة المتخصصين في الآداب من 49,6% عام 80/1981 إلى 34,7% عام 88/1989، مقابل ارتفاع نسبة المتخصصين في العلوم الاجتماعية والاقتصاد من 16,7% إلى 21,2% والطب والمهن الطبية الأخرى من 0,4% إلى 11,4%، في حين كانت التحولات في التخصصات الأخرى طفيفة.(12)
خامساً: أثر التعليم في التصنيف المهني لقوة العمل
سوف نبين، فيما يلي، أثر تطور التعليم بشكل عام، بين العرب في إسرائيل، وتطور التعليم العالي وزيادة عدد ذوي الألقاب الجامعية في التركيبة المهنية لقوة العمل العربية.
أدى تطور التعليم والزيادة المستمرة في عدد المتعلمين في القطاع العربي ونسبتهم، إلى تغيير جوهري في مستوى تعليم السكان وتوزيعهم بحسب سنوات التعليم، كما يتضح من الجدول التالي:
من الواضح أن التحولات الرئيسية في توزيع السكان بحسب سنوات التعليم حدثت في فئتين بالذات: هبوط كبير في نسبة من لم يلتحقوا بالمدرسة بتاتاً أو درسوا حتى 4 سنوات، مقابل ارتفاع في نسبة من درسوا 9 سنوات فأكثر، خصوصاً فئة من درسوا 9 – 12 سنة.
أما الظاهرة الثانية في هذه التحولات فهي زيادة نسبة من درسوا 13 عاماً فما فوق. وهذه الزيادة تعود، بالأساس، إلى ارتفاع عدد الخريجين العرب في الجامعات، حيث تشير الإحصاءات إلى أن هذا العدد وصل في السنوات الأخيرة إلى أكثر من 600 متخرج في كل فوج. ويُلاحظ من المعطيات المنشورة ارتفاع عدد الخريجين في الدراسات العليا بشكل خاص.
انعكست تطورات التعليم العالي هذه والتحولات في مستوى تعليم المواطنين العرب بشكل عام في المستوى المهني لقوة العمل العربية. ويتمثل هذا التحول في الظواهر التالية:
- زيادة كبيرة في نسبة العاملين المهنيين في الصناعة والبناء والمواصلات، حيث وصلت إلى 42,2% بين العرب مقابل 21,2% فقط بين اليهود.
ويُعزى هذا التحول بالذات إلى ارتفاع نسبة الذين درسوا 9 – 12 عاماً. إن مستوى المعرفة في هذه الفئة يتناسب مع حاجة سوق العمل إلى عاملين مهنيين أو شبه مهنيين يكتسبون مهاراتهم المهنية خلال العمل في فترة زمنية قصيرة نسبياً. وهذه الفئة تتميز بمرونة نسبية وسهولة في التحول من عمل إلى آخر، وبتدني أجور ذوي المهن التقنية الذين درسوا هذه المهن وتدربوا في مراحل الدراسة الثانوية والمعاهد فوق الثانوية.
- زيادة نسبة العاملين المصنفين في مهن "الياقات البيض" من 9,9% سنة 1961 إلى 17,3% سنة 1983 و19,8% سنة 1990. لكن الفرق بين تصنيف قوة العمل العربية واليهودية ما زال شاسعاً، حيث أن 51,3% من الأخيرة يصنفون في هذه المهن (أنظر الجدول رقم 5).
إن أكثر الفروق وضوحاً بين قوتي العمل تظهر في المهن التي تصنف على رأس السلم المهني في إسرائيل، والتي تمنح أصحابها أعلى درجات المركز الاجتماعي والدخل وهي:
أ ـ المهن العلمية والأكاديمية التي ينتمي إليها 3,5% من قوة العمل العربية و 9,3% من قوة العمل اليهودية.
ب ـ المهن الحرة الأخرى وينتمي إليها 8,7% من قوة العمل العربية مقابل 17,6% من قوة العمل اليهودية.
يبلغ عدد الأشخاص الذين يدخلون ضمن دراستنا الحالية، أي الذين درسوا في معاهد التعليم العالي ومؤسساته 30,700 شخص تعلموا 13 – 15 عاماً و 15,100 شخص تعلموا أكثر من 16 عاماً. وبين هؤلاء جميعاً(45,800) 35,600 مصنفون في الفئات المهنية الأربع (أي مهن الياقات البيض). أما في الفئة الأولى التي تحتل رأس السلم المهني، وهم ذوو المهن العلمية والأكاديمية فيدخل 6300 شخص وفي الفئة الثانية 15,300 وهم ذوو المهن الحرة الأخرى والمهن التقنية.
ولتوضيح الفرق بين تركيب قوة العمل العربية واليهودية في هاتين الفئتين لا بد من تفحص التصنيف الداخلي في كل فئة. وبالتدقيق في أنواع المهن التي يحترفها المصنفون في الفئة الأولى نجد أن 48% من العرب هم من المدرسين مقابل 24% من اليهود. كذلك نجد أن الأكاديميين الذين يعملون في المهن الحرة (أطباء، أطباء أسنان، محامون، مهندسون وغيرهم) يشكلون 33% من العاملين العرب مقابل 42% من العاملين اليهود.(13) أما في الفئة الثاني فنجد أن الفروق الرئيسية بين الذين ينتمون إليها من القطاعين تتعلق بنسبة ذوي المهن التقنية، وهؤلاء يشكلون 27% من العاملين اليهود في الفئة نفسها مقابل 5,8% من العاملين العرب.
إن هذا الفرق يؤكد ما أشرنا إليه سابقاً حول أهمية التعليم المهني ـ التكنولوجي في تشكيل نوعية القوى العاملة ووظيفته في خلق هذه الفروق في مستوى المهارات الفنية بين القطاعين.
سادساً: الأكاديميون في سوق العمل
هناك متغيران أساسيان في تحديد فرص العمل للأكاديميين العرب في سوق العمل:
- درجة تطور الاقتصاد والخدمات في المدن والقرى العربية.
- درجة استيعاب سوق العمل الإسرائيلية للأكاديميين العرب.
إن المقرر الوحيد لهذين المتغيرين هو السياسة الإسرائيلية تجاه الأقلية العربية على اعتبار أن الاقتصاد الإسرائيلي هو اقتصاد موجه بواسطة الحكم المركزي الذي يضع خطط التطوير وينفذها بنفسه، وان القطاع العام والقطاع الهستدروتي في إسرائيل هما المشغِّلان الرئيسيان لقوة العمل:
- فيما يتعلق بتطور الاقتصاد العربي أشارت الأبحاث إلى أن هذا القطاع لم يُعطَ فرصة لتطوير اقتصاد صناعي قادر على استيعاب قوة عمل ماهرة خاصة من الأكاديميين.(14) إن المؤسسات الصناعية العربية هي، في معظمها، ورش لتقديم الخدمات في مجال إصلاح السيارات أو توفير المواد اللازمة لقطاع البناء.(15) وهذه الصناعة عاجزة عن استخدام المتخصصين في مجالات الهندسة بأنواعها، كالإلكترونيك والكيمياء والعلوم الطبيعية والدقيقة. أما الخدمات العامة التي تقدمها الدولة والسلطات المحلية فما زالت متأخرة وقاصرة عن استيعاب الخريجين في العلوم الاجتماعية والآداب.(16) ويصل مجموع العاملين في هذه السلطات إلى نحو 3000 مستخدم في جميع أنواع الخدمات.(17)
إن المجال الوحيد الذي تطور بشكل يسمح باستيعاب أعداد كبيرة نسبياً من الأكاديميين هو التعليم. وهناك مجالات أُخرى للعمل في داخل القطاع العربي نتجت عن التطور العام في مستوى الحياة وزيادة الطلب على أنواع معينة من الخدمات، كما سنبين لاحقاً.
- إن سوق العمل الإسرائيلية مثال بارز على التمييز المقنّع الذي ينبع من استعمال معايير غامضة أو معايير مقنعة في استخدام قوة العمل العربية. وهذه المعايير مستعملة في القطاعات كلها: الحكومي والهستدروتي والخاص، ولكننا سوف نبحث في مسألة تشغيل الأكاديميين العرب فيها بشكل منفصل.
أ ـ القطاع العام: يضم القطاع العام في إسرائيل المؤسسات الحكومية والحكم المحلي والهستدورت والمؤسسات القومية (الوكالة اليهودية وغيرها). ويستخدم هذا القطاع نحو 40% من قوة العمل الإسرائيلية في مجالين: الإدارة والصناعة. ولكن نسبة العاملين العرب بينهم ضئيلة جداً. إن هذا الوضع ناتج، ظاهرياً، عن نظام توزيع الموارد في إسرائيل وهو نظام المفتاح الحزبي. فالوظائف يتم توزيعها بحسب قوة الأحزاب التي تدخل الائتلاف الحكومي. غير أن العرب لم يدخلوا يوماً هذا الائتلاف بصفتهم شركاء. ومعظم الأحزاب التي تمثلهم كانت عادة خارج "الإجماع القومي" اليهودي - الصهيوني. ولذلك فلم يؤخذوا في الاعتبار عند توزيع الوظائف خاصة تلك التي تلائم مؤهلات الأكاديميين وكفاءاتهم.(18) ولكن الأسباب الرئيسية هي أسباب سياسية ـ أمنية. وقد أشارت اللجنة الشعبية - المهنية التي حققت في أوضاع الخدمات الحكومية والمؤسسات التي تمولها الدولة إلى ذلك بشكل صريح: "إن الرأي السائد هو أن استخدام أبناء الأقلية في الخدمات الحكومية يشكل خطراً أمنياً. ولكن يظهر أن هذا الاعتبار يستخدم لتبرير المعارضة لتشغيلهم".(19) كما أوضحت اللجنة المذكورة في تقريرها: "أن المعطيات التي جمعناها تشير إلى وجود قوى عمل متعلمة ذات معرفة، ومهارات مهنية بالمستوى المطلوب للخدمات الحكومية، وهي تستطيع أن تنجح في التنافس مع المرشحين اليهود في ظروف وشروط متساوية".(20)
ب ـ القطاع الخاص: تشمل سياسة الاستخدام في القطاع العام قدوة لأصحاب المؤسسات الخاصة وبشكل خاص في المشاريع الصناعية. ويعود ذلك إلى سببين رئيسيين:
1- تبعية أصحاب المشاريع الخاصة للحكم المركزي وارتباط مصالحهم الاقتصادية بالأحزاب السياسية والهستدروت والمؤسسات القومية اليهودية، مما يمنعهم من تفضيل مصالحهم الخاصة في تشغيل قوة العمل العربية والتعالي على الاعتبارات السياسية والأمنية الشائعة.(21) وقد كتب أحد الباحثين الإسرائيليين حول الموضوع: "بما أن للحكومة تأثيراً كبيراً على القطاع الخاص فإن الأكاديميين العرب الذين ينقصهم الدعم السياسي لا يمكنهم النفاذ إلى هذا القطاع".(22)
2 ـ الجو العام السائد في إسرائيل ضد تشغيل العرب في المؤسسات اليهودية. فقد أظهرت الأبحاث أن هناك مواقف مسبقة شائعة ضد العرب بشكل عام،(23) وفي سوق العمل بشكل خاص.(24) وكان استطلاع شمل عينة ممثلة للمجتمع الإسرائيلي كشف: "أن اليهودي المتوسط يعتقد بوجوب إعطاء اليهودي أولوية في الحصول على التعليم المطلوب لاكتساب مهنة أكاديمية، وكذلك أولوية في الحصول على عمل ملائم".(25)
إن الاقتصاد العربي والقطاع اليهودي لا يوفران الفرص الكافية لاستيعاب الكفاءات الأكاديمية للخريجين العرب، وأن المشكلة تتعقد مع تخرج كل فوج جديد من الجامعات والمعاهد العليا: "إن العثور على عمل يلائم الكفاءات أصبح صعباً في الاقتصاد العربي، ولكن التحدي الذي يواجه العرب في العثور على عمل في القطاع اليهودي أصعب بكثير".(26)
سابعاً مجالات العمل للأكاديميين العرب
في ظل الظروف التي يعيشها العرب في إسرائيل فإن مجالات العمل للأكاديميين
في الفروع الاقتصادية الإنتاجية مغلقة، خاصة في الصناعة. لذلك نجد أن 6,2% من الذين درسوا 13 – 15 عاماً والنسبة نفسها من الذين درسوا 16 عاماً أو أكثر يعملون في هذا الفرع مقابل 18,8% و 14,4% من اليهود.
إن فرع الخدمات العامة هو المشغّل الرئيسي للأكاديميين العرب، وهو يستوعب معظمهم. وتشير المعطيات الإحصائية إلى أن هذا الفرع يشغّل 65,9% من العاملين العرب الذين درسوا 13 - 15 عاماً و 71% من الذين درسوا 16 عاماً فأكثر مقابل 42,1% و53,3% من العاملين اليهود.(27) ويشمل هذا الفرع ثلاثة مجالات رئيسية:
1 ـ التعليم: كان جهاز التعليم العربي، وما زال، الجهاز الرئيسي في استيعاب الأكاديميين العرب، فهو يستوعب 48% من ذوي المهن العلمية والأكاديمية و 59% من ذوي المهن الحرة الأخرى والمهن التقنية. وبشكل إجمالي يعمل في مجال التعليم 57% من خريجي مؤسسات التعليم العالي. ولكن جزءاً كبيراً منهم يشغلون وظائف جزئية، لذلك فإن كل مدرس يشغل 79% من الوظيفة الكاملة.(28) ومن المهم أن نشير إلى أن الجزء الأعظم من العاملين في مجال التعليم لم يتم تأهيلهم للعمل في هذه المهنة. ولكن غياب فرص العمل في مجال تخصصاتهم يضطرهم إلى اللجوء للتعليم لأنه الفرصة الوحيدة المتبقية أمامهم.
إن المهنة الرئيسية، وتقريباً الوحيدة، التي يوفرها جهاز التعليم العربي هي مهنة التعليم، لأن أنواع الخدمات الأخرى المرتبطة بالعملية التعليمية غائبة تقريباً في هذا الجهاز.(29) كما أن قدرة هذا الجهاز على استيعاب مدرسين جدد محدودة جداً. فقد استمر تطوره بشكل سريع حتى أواخر السبعينات ثم تباطأت هذه العملية، وهو اليوم يعاني حالة ركود كامل مما زاد في تفاقم مشكلة عمل الأكاديميين في الأعوام القليلة الماضية.
2 ـ السلطات المحلية: أشرنا سابقاً إلى أن السلطات المحلية في المدن والقرى العربية تستخدم نحو 3000 موظف في شتى أنواع الخدمات. وهذا العدد يشمل الموظفين في المدارس في مراحلها المختلفة، غير أنه لا يشمل معلمي المدارس الثانوية الذين تقع مسؤولية تشغيلهم على هذه السلطات، إذ قمنا بضم هؤلاء إلى العاملين الآخرين في حقل التعليم. ولكن من الواضح أن تطور جهاز التعليم كان حاسماً في درجة استيعاب القطاع العربي للأكاديميين.
لقد تضخم جهاز الخدمات في السلطات المحلية في العقدين الماضيين عن طريق إقامة سلطات جديدة وإضافة أنواع جديدة من الخدمات لم تقدم للسكان من قبل. ولكن هذا التضخم توقف في الأعوام الخمسة الماضية، وبذلك تم الحد من إمكاناتها في استيعاب موظفين جدد في جهاز الخدمات المحلي.
3 ـ الخدمات الصحية: يعتبر مجال الخدمات الصحية في المكانة الثالثة من حيث قوة العمل التي يستخدمها. إن معظم الأطباء وأطباء الأسنان والصيادلة العرب مستقلون في أعمالهم وهم يعملون عادة في داخل التجمعات السكنية العربية. وقد نتج هذا الوضع عن رفض المؤسسات الصحية التابعة للهستدروت ووزارة الصحة تشغيل أعداد كبيرة منهم. ويملك الهستدروت أكبر جهاز للخدمات الصحية في البلاد. وتبلغ نسبة المواطنين العرب الذين ينتمون إلى صندوق التأمين الصحي التابع للهستدروت 15% من مجمل الأعضاء، بينما تبلغ نسبة المستخدمين من العرب 2% فقط.(30) أما المؤسسات الصحية التابعة لوزارة الصحة فتبلغ نسبة العرب العاملين فيها 5,9% من أصل نحو 20 ألف مستخدم.(31) وإذا احتسبنا ذوي المهن الأكاديمية فقط نجد أن الجهازين معاً يشغلان 341 طبيباً عربياً من أصل نحو 800 طبيب عربي في البلاد، ولكن الجهازين لا يشغلان طبيب أسنان عربياً واحداً. أما عدد الصيادلة العرب في الجهازين فيصل إلى 70 صيدلياً فقط، وعدد الممرضين والممرضات إلى 757. وكما هو الحال في الجهازين السابقين فإن الخريجين الجدد في المهن الطبية يواجهون عراقيل كثيرة في محاولتهم الاندماج في سوق العمل. وقد كانت هجرة اليهود من روسيا سبباً آخر في إضافة عراقيل جديدة. ويبدو أن التجمعات السكانية العربية استنفدت إمكاناتها في استيعاب أطباء الأسنان الذين يعملون، كما أشرنا، في عياداتهم الخاصة.
في إجمالنا للبحث في مجالات العمل التي يوفرها فرع الخدمات العامة في القطاع العربي نلاحظ أن هناك ظاهرة مشتركة في أجهزة الخدمات المختلفة، وهي توقفها عن التطور وهبوط قدرتها على استيعاب قوى عاملة جديدة.
ومن الجدير بالإشارة أن القوى العاملة التي تم استيعابها حتى الآن استفادت كثيراً من العزل الجغرافي والمؤسسي الذي جعل أنواعاً معينة من الوظائف حكراً على الجامعيين العرب. هذا على الرغم من أن الوظائف المتوافرة في القطاع العربي أدنى في مستواها من تلك التي توفرها الإدارة الحكومية والهستدروت والأحزاب السياسية والقطاع الخاص اليهودي. لكن هذا الوضع وفر أماناً وظيفياً معيناً بسبب انعدام منافسة قوة العمل اليهودية.
وهذا القول ينسحب أيضاً على الأكاديميين العرب الذين يقدمون خدمات شخصية في مجالات القانون والهندسة والمحاسبة وغيرها. فهؤلاء، وخصوصاً المحامون، لا يستخدمون في القطاع اليهودي العام أو الخاص، وهم مضطرون إلى العمل داخل القطاع العربي مع أن أنواع الخدمات التي يقدمونها في هذا القطاع لا تمنحهم فرصة اكتساب الخبرات وتطوير المهارات بسبب مستوى تطوره المتخلف كثيراً عن القطاع اليهودي. ويعاني الخريجون الجدد في هذه التخصصات هبوطاً في قدرة القطاع العربي على استيعاب أعداد أخرى منهم.
لكن الخريجين الذين يواجهون أصعب المشاكل في الحصول على وظائف هم ذوو التخصصات في العلوم الطبيعية والعلوم الدقيقة، لأن المجال الرئيسي الذي من المفروض أن يستخدم كفاءاتهم هو الصناعة. وقد أوضحنا، سابقاً، أن هذا المجال غير متطور في القطاع العربي وهو مغلق أمامهم في القطاع اليهودي. وكان المدير السابق لـِ "صندوق التعليم التكنولوجي في الوسط العربي" أعلن أن 42% من العرب الذين تخرجوا من التخنيون (معهد الهندسة التطبيقية في حيفا) في تخصصات مثل الميكانيك والكهرباء والإلكترونيك والحاسوب عاطلون عن العمل أو يعملون في مجالات غير تخصصاتهم.(32) وهذا الوضع ما زال مستمراً حتى اليوم. ولذلك نجد معظمهم يتوجهون إلى مهنة التعليم. وهناك جزء كبير منهم يقبل وظائف جزئية. لهذا يمكن القول إن هناك هدراً للطاقات بسبب الفرق القائم بين مستوى الكفاءة التي يتمتع بها الأكاديميون وبين أنواع الوظائف التي يؤدونها.
ثامناً: البطالة والبطالة المقنعة بين الأكاديميين
ليس من السهل التوصل إلى معطيات دقيقة عن البطالة بين خريجي الجامعات العرب. فالمعطيات الرسمية تستند إلى تقارير مكاتب العمل التي تبني تقويماتها على طلبات التشغيل المقدمة إليها. ومن المعروف أن نسبة ضئيلة من العاطلين عن العمل في القطاع العربي تتجه إلى هذه المكاتب في محاولة للحصول على عمل. أما القيام بمسح شامل لذوي الشهادات الجامعية فليس عملاً سهلاً، وهو موضوع دراسة ميدانية موسعة. لهذه الأسباب سوف نبني تصورنا عن أوضاع الأكاديميين على المسح الجزئي وعلى المعطيات الرسمية التي تعتمد التقديرات في غياب المسح الشامل.
في البداية يجب أن نشير إلى أن نسب العمالة والبطالة تأخذ في الحسبان أولئك الذين يعتبرون جزءاً من قوة العمل المدنية وليس جميع الخريجين. ففي سنة 1989 كان هناك 27,900 شخص درسوا 13 ـ 15 عاماً، منهم 17,000 شخص في قوى العمل المدنية (60,8%) و 12,600 شخص درسوا 16 عاماً فأكثر، منهم 9 آلاف في سوق العمل (71,4%). وتبين الإحصاءات أن 41% فقط من الفئة الأولى و47,5% من الفئة الثانية عملوا في وظائف كاملة، بينما عمــل 44,1% من الفئة الأولى و 33,7% من الفئة الثانية في وظائف جزئية.(33) إن المعطيات الرسمية لا تشير إلى أن الأعداد المتبقية من الخريجين في قوة العمل المدنية هم عاطلون عن العمل (أي 14,9% من الفئة الأولى و18,8 من الفئة الثانية)، ولكنها تسجل نسبة بطالة 6,9% من الأوائل و8,3% من الآخرين، في حين أن وضع الباقين في سوق العمل، وعددهم 1600 شخص، غير معروف. وعلى الرغم من أن هذه المعطيات غير مكتملة إلا أنها تشير، بشكل واضح، إلى وجود 10,800 خريج يعملون أعمالاً جزئية فقط، مما يدل على أن نسبة البطالة المقنعة، عالية جداً. كما أن المعطيات الرسمية تشير إلى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل، من بين الذين درسوا 16 عاماً فأكثر، 60% بين 1988 و1989.(34) وهناك الكثير من الخريجين الذين يعملون في الأعمال اليدوية البسيطة التي لا تحتاج إلى أي نوع من المهارات المهنية مثل البناء ومحطات بيع الوقود وغيرها. وليس من السهل حصر عددهم.(35) ومن أسباب صعوبة الحصول على معطيات صحيحة عن مصير الخريجين العرب في سوق العمل الإسرائيلية هي الهجرة إلى خارج البلاد. ومن الملاحظ أن أعداد المهاجرين ارتفعت في السنوات الأخيرة، والظاهرة آخذة في الانتشار بين خريجي العلوم الطبيعية والعلوم الدقيقة والمهن الطبية. ففي مسح أجريناه على جميع الخريجين العرب المتخصصين في الطب والمهن الطبية الأخرى في الجامعة العبرية في الفترة ما بين 1978 – 1990، وعددهم 270 خريجاً، تبين أن 16% منهم هاجروا من البلاد بحثاً عن أعمال تناسب كفاءاتهم.(36) كما أن هناك هجرة من نوع آخر بارزة بين ذوي شهادات الدكتوراه في التخصصات المختلفة الذين يعملون في جامعات الضفة الغربية المحتلة.
وتجدر الإشارة إلى أن نسبة معينة من الذين يستمرون في تحصيلهم العلمي يفعلون ذلك في محاولة لتأجيل الحسم في قضية العمل بعد فشلهم في الحصول على وظائف مناسبة، وهم يعتبرون ذلك حلاً موقتاً. ولكنهم يكتشفون بعد إكمال دراستهم أن حصولهم على الشهادات العليا جعل مشكلة العمل أكثر صعوبة لأن السوق العربية بالذات لا تستطيع استيعاب مثل هذه الكفاءات، بينما السوق اليهودية محكمة الإغلاق أمامهم.
الخلاصة
يُظهر هذا البحث في ظروف الدراسة والعمل في القطاع العربي في إسرائيل أن هناك سلسلة من العقبات والحواجز أمام الطلاب العرب تؤدي إلى تسرب الغالبية العظمى من مؤسسات التعليم في مراحل مختلفة، وأن العدد القليل الذي ينجح في الوصول إلى الجامعات ومعاهد التعليم العالي يفعل ذلك بمجهود كبير. إن توقعات هؤلاء المتعلمين عالية جداً على الرغم من معرفتهم بالعقبات التي يواجهونها في سوق العمل وخاصة تخلف الاقتصاد العربي وعجزه عن استيعاب أعداد كبيرة من خريجي الجامعات وسياسة التمييز المتبعة في القطاع العام والقطاع اليهودي الخاص. وقد أنتجت هذه العقبات عدة ظواهر: زيادة عدد الطلاب الذين يتوجهون إلى دراسة المهن الحرة خارج البلاد، وزيادة عدد الطلاب الذين يتوجهون لدراسة المهن الحرة غير الأكاديمية، وزيادة عدد الذين يتابعون دراساتهم العليا، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل والذين يعملون أعمالاً جزئية. من هنا تبرز ظاهرة البطالة المقنعة وهدر الطاقات العلمية والمهنية وانتشار ظاهرة الهجرة في السنوات القليلة الماضية.
وتؤكد هذه الظواهر أن القيمة الاجتماعية والاقتصادية للتعليم العالي متدنية نسبة إلى قيمته في القطاع اليهودي، ونسبة إلى توقعات الطلاب خلال الدراسة والمجهود المبذول في سبيل الحصول على اللقب الجامعي. ولهذا السبب لاحظنا هبوط عدد الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات منذ العام 1985. لكن هذه الظاهرة الأخيرة قد تكون موقتة لأن وسائل الحراك الاجتماعي والاقتصادي الأخرى غير متوافرة في ظروف الأقلية العربية في إسرائيل.
لقد تحولت قضية تشغيل الخريجين العرب إلى قضية سياسية من الدرجة الأولى في النضال السياسي الذي تخوضه الأقلية العربية، خاصة في العقد الماضي إلا أن من الملاحظ أن تطوراً معيناً حدث في السنوات الخمس الماضية أدى إلى تحويل قضية النضال لضمان مستقبل الخريجين من الصراع مع السلطة الإسرائيلية إلى التنافس الشديد داخل الأقلية العربية نفسها على المراكز والوظائف القليلة المتوافرة، مما سهل على السلطة عملية الاستقطاب السياسي للنخب العربية. وكان هذا التحول جزءاً لا يتجزأ من تطورات سياسية واجتماعية تشهدها الأقلية العربية في إسرائيل ليس بمقدورنا استعراضها وتحليلها في دراستنا الحالية. وهذا التحول يمكن رؤيته بصفته نتيجة لاستعمال السلطة آليات الضبط المختلفة. فقد أدى استعمال هذه الآليات في سياسة التعليم والسياسات الأخرى إلى جعل التحصيل العلمي مورداً نادراً، وتحويله من آلية تطور إلى آلية تنافس وفرقة داخل الأقلية العربية وبذلك حققت هذه السياسة هدفها في ضبط جهاز التعليم والتحكم بنتائجه. وأصبح هذا الجهاز في المرحلة الحالية القناة الرئيسية لهجرة العقول العربية من إسرائيل. وأدت السياسة المتبعة إلى إهدار الطاقات المتعلمة وعدم مساهمتها في تطوير المجتمع الذي استثمر موارد كبيرة في سبيل تعليمها، وإلى تحويل الصراع من صراع ضد سياسة السلطة إلى صراع داخلي وتقوية أسباب التنافس والفرقة في المرحلة الحالية.
المصادر:
(1) Palestine, Government of Palestine: A Survey of Palestine, Vol. II (Jerusalem, 1946), p.650.
(2) S. Jiryis, The Arbs in Israel (N. Y.: Monthly Review Press, 1976), p. 205.
(3) دائرة الإحصاء المركزية، "كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي 1988"، ص 631.
(4) تقرير مراقب الدولة رقم 42، القدس 1992، ص 395.
(5) دائرة الإحصاء المركزية، "كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي 1991"، ص 617-618.
(6) نشرة مركز يافا للأبحاث (نشرة لمرة واحدة)، الناصرة، آب/ أغسطس 1992، ص 57..
(7) "كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي 1991"، مصدر سبق ذكره، ص 629-630. لم تُنشر المعطيات المفصلة عن نتائج العام الحالي.
(8) وزارة المعارف، "أرقام في المرآة 1991"، القدس 1992، رقم 39، ص 612-613.
(9) "كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي 1991"، مصدر سبق ذكره، ص 614-615.
(10) كان هذا التحول، كما يبدو، حسب توصية يسرائيل كنيغ، متصرف لواء الشمال السابق في وثيقته المشهورة سنة 1976 والتي كررها ثانية في مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 24/1/1992.
(11) "كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي 1991"، مصدر سبق ذكره، ص 642.
(12) دائرة الإحصاء المركزية، "نشرة الإحصاء الشهرية الإسرائيلية" (الملحق)، رقم 5، أيار/مايو 1990.
(13) تم حسابها من "كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي 1991"، مصدر سبق ذكره، ص 603 – 607 و: "المدن والقرى العربية في إسرائيل 1990" (الناصرة: مركز يافا، 1991).
(14) A. Haidar, The Arab Population in Israeli Economy (Tel:Aviv: International Center for Peace in the Middle East, 1990).
(15) "المدن والقرى العربية ..."، مصدر سبق ذكره.
(16) A. Haidar, Social Welfare Services for Israel’s Arab Population (Boulder: Westview Press, 1991).
(17) "المدن والقرى العربية ..."، مصدر سبق ذكره، ص 184 – 186، 188 -191.
(18) سامي سموحا، "الأسباب الرئيسية لصعوبات العمل التي يواجهها الخريجون العرب"، في: "ضائقة العمل بين خريجي الجامعات العرب في إسرائيل" (حيفا: جامعة حيفا، 1987)، ص 39 – 48.
(19) اللجنة الشعبية ت المهنية للتحقيق في أوضاع الخدمات الحكومية والمؤسسات التي تمولها الدولة: "مكانة الأقليات في الخدمات الحكومية والعامة"، الجزء الثاني، القدس 1989، ص 309.
(20) المصدر نفسه، ص 308.
(21) D. Shimshoni, The Israeli Democracy: The Middle of the Journey (N. Y.: The Free Press, Macmillan Publishers, 1982); I. Sharkansky, The Political Economy of Israel (New Brunswick: Transaction Inc., 1987).
(22) سموحا، مصدر سبق ذكره، ص 44.
(23) V. Kraus and R. W. Hodge, Promises in the Promised Land: Mobility and Equality in Israel (N. Y. and London: Greenwood Press, 1990), p. 31.
(24) N. Lewin-Epsten, Labor Market Position and Antagonism towards Arabs in Israel (Tel-Aviv: Golda Meir Institute for Social & Labour Research, 1987).
(25) سموحا، مصدر سبق ذكره، ص 41.
(26) Lewin-Epstein, The Arab Economy in Israel: Growing Population-Jobs Mismatch (Tel-Aviv: Pinhas Sapir Center for Development, Tel-Aviv Univ., 1990), p. 29.
(27) دائرة الإحصاء المركزية، "مسوحات القوى العاملة 1988"، النشرة رقم 878، القدس 1990، ص 180 – 181.
(28) "كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي 1991"، مصدر سبق ذكره، ص 612.
(29) جمعية حقوق المواطن، "التعليم في الوسط العربي"، التقرير رقم 1، 1990، ص 6 – 7.
(30) ع. حيدر، "العرب في الهستدروت"، شؤون فلسطينية" العددان 221 – 222، (نيقوسيا: مركز الأبحاث الفلسطيني، 1991) ص 20 – 48.
(31) اللجنة الشعبية ـ المهنية، مصدر سبق ذكره.
(32) "هآرتس"، 1/12/1986.
(33) دائرة الإحصاء المركزية، "مسوحات القوى العاملة 1989"، النشرة رقم 894، القدس 1991، ص 112.
(34) قارن "مسوحات القوى العاملة 1988"، مصدر سبق ذكره، ص 104؛ والمصدر السابق نفسه، ص 112.
(35) ران كسليف، "خريجو جامعات يعملون في البناء ومحطات الوقود"، هآرتس"، 6/10/1989.
(36) A Haidar, A Study of Arab-Hebrew University Graduates in Medical and Para-Medical Fields (Jerusalem: H. S. Truman Institute, 1992, Mimeographed).