محاضرة ألقتها المحامية لانغر في جامعة بريمين في ألمانيا، وركزت المحاضرة على أضخم عملية إبعاد إسرائيلية لنحو 450 فلسطينياً إلى الأراضي اللبنانية في 17/12/1992، معتبرة العملية "جريمة حرب"، وعلى المجتمع الدولي أن يبرهن أن القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان يشملان الجميع.
لم تكن صورة من محفوظات سنة 1948 أو سنة 1967، ولا صورة يوغسلافيا الممزقة بالحرب وما استجرته من "تطهير عرقي"؛ كانت تلك صورة حية لأضخم عملية إبعاد إسرائيلية لأربعمئة وخمسة عشر فلسطينياً من وطنهم. كنا نرى أولئك المبعدين بالمئات يواجهون ليلتهم على ذلك السفح الأجرد في ما يسمى "الأرض المحايدة" بين الجزء الذي تحتله إسرائيل من جنوب لبنان وبين الجيش اللبناني. إن أيديهم الورمة ومعاصمهم المرضوضة بعدما غُلَّت يومين بأغلال بلاستيكية، وجروح أولئك الذين أُصيبوا بالنار التي أطلقتها عليهم الميليشيات المأجورة لإسرائيل، بأمر من رابين، قد أصبحت وقائع مرئية بالنسبة إلى ملايين الناس في العالم أجمع. وخلال الأيام والليالي التي عقبت ذلك، تغيَّر المشهد: خِيَم تكسوها الثلوج؛ فقدان الغذاء والماء؛ المرضى الممددون على الأرض يواسيهم أطباء من المبعدين أنفسهم؛ صلوات؛ وجوه القرويين اللبنانيين وهم يحاولون تقديم المساعدة بتهريب بعض الأطعمة؛ القذائف التي بقيت بعد آخر قصف إسرائيلي وأحدثه في جوار مخيم المبعدين. ذلك هو وجه عملية الإبعاد الجماعية التي نفَّذتها حكومة تدّعي السعي للسلام، والتي أقرّتها المحكمة العليا الإسرائيلية التي تزعم إحقاق الحق والعدل.
لقد بلورت الأسرة الدولية وتبنَّت قواعد ومبادئ عامة من القانون الدولي لزمن الحرب، منها اتفاقية لاهاي لسنة 1907، ومنها اتفاقيات جنيف المعقودة في 12 آب/ أغسطس 1949، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين في زمن الحرب، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز العنصري، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبتها، واتفاقيات أخرى.
ومن أدوات القانون الدولي الأخرى ميثاق الأمم المتحدة الذي ينبغي لكل دولة من الدول الأعضاء التزامه. وقد تعهدت دولة إسرائيل، في بيانها يوم قُبِلت في الأمم المتحدة سنة 1949، أنها بصفتها دولة محبة للسلام ستلتزم، التزاماً دقيقاً، المبادئ التي يجسدها الميثاق.
إن الاحتلال العسكري ظاهرة تحكمها مبادئ القانون الدولي، الذي يعني في الحالة التي بين أيدينا، أن أعمال الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة لا تعدُّ شرعية إلا متى وافقت أصول القانون الدولي ومعاييره.
إن اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 تنص على حقوق صريحة، وتقضي بحماية السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وتحظر بشدة ممارسات القتل عمداً، والتعذيب، والعقوبات الجماعية، وتدمير الممتلكات العقارية والشخصية، واستيطان الأراضي المحتلة، وأعمال الطرد والإبعاد.
ولم تزل إسرائيل خلال هذه الأعوام كلها تنتهك القانون الدولي انتهاكاً سافراً، ولا تلتزم ميثاق الأمم المتحدة، وتسلك سلوك التحدي لكل الأعراف والمعايير الدولية التي قبلت الأسرة الدولية بها، مستهترة بمختلف قرارات الأمم المتحدة التي تطالبها باحترام وتطبيق أحكام اتفاقية جنيف الرابعة تحديداً. وبينما يتساهل المجتمع الدولي حيال غطرسة إسرائيل، تمعن هذه في استغلال التعاطف العالمي مع مصير اليهود في إبان المحرقة الكبرى وتجيِّره لخدمة أهدافها التوسعية والعدوانية.
لنعد إلى مسألة الطرد والإبعاد. فأحكامها في اتفاقية جنيف الرابعة هي كالتالي:
المادة 49:
النقل الإجباري الفردي أو الجماعي، وكذلك ترحيل الأشخاص المحميين، من أراض مختلة، إلى أراضي دولة الاحتلال أو أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، محظور بغض النظر عن دواعيه. (التشديد من عندي)
لذلك أود أن أؤكّد من الآن أن الأسباب التي قدمتها إسرائيل لتسويغ عمليات الإبعاد الأخيرة لا صلة لها بالموضوع، ولن أعالجها إطلاقاً.
لقد بدأت سياسة الإبعاد من الأراضي المحتلة مع الاحتلال سنة 1967. وقدَّر البعض أن عدد المبعدين قد بلغ نحو الألفين، بالإضافة إلى جموع السكان الذين هُجِّروا من ديارهم بعد وقف القتال مباشرة، من أجل أن يبقى لنا "الحدّ الأقصى من الأراضي مع الحد الأدنى من السكان"، مثلما شاءت الأم والجدة غولدا مئير، رئيسة مجلس الوزراء السابق. فلما رفض الأردن استقبال المبعدين على أرضه عبر جسر أللنبي، تحاشياً لإقرار بشرعية عملية الطرد، راحت سلطات الاحتلال تطرد السكان من خلال وادي عربة الصحراوي بطريقة وحشية، باعثة بذلك ذكريات وتداعيات محزنة مع هاجَرَ العصور التوراتية.
خلال الأعوام اللاحقة، اتخذت إسرائيل من لبنان هدفاً لرمي المبعدين فيه، حتى أيام الحرب الأهلية، معرضة بذلك حياتهم للخطر. ومن نافل القول إن عمليات الإبعاد هذه تشكل انتهاكاً لسيادة لبنان، أو لسيادة أية دولة أخرى، وذلك بفرض المبعدين عليه.
كيف أُبعد المئات من الفلسطينيين؟ لقد رافقتُ عدداً كبيراً منهم على طريق اقتلاعهم المرير. وقد طرد المئات منهم في فترة 1969 – 1970، هكذا ومن دون أية إجراءات قضائية، إلى أن حصلنا، في فترة 1973 – 1974، في شأن المعتقلين من الجبهة الوطنية، على قرار من المحكمة العليا، أصبح سابقة يُعتدُّ بها، بأن الإبعاد لن يحدث من دون منح الشخص المنوى إبعاده فرصة المثول أمام لجنة اعتراض عسكرية لاستئناف أمر الإبعاد. بعد ذلك بات يحق للشخص المنوى إبعاده ان يستأنف قرار لجنة الاعتراض العسكرية هذه (التي ليست لها إلا صلاحيات استشارية) أمام محكمة العدل [الإسرائيلية] العليا، وذلك مع البقاء في موطنه حتى صدور القرار النهائي عن المحكمة العليا المذكورة.
وقد رفضت سلطات [الاحتلال] هذا التأخير للطرد، وحاولت تحاشيه، كما في حالة الدكتور أحمد حمزة (النتشة) سنة 1976؛ فكان انتقاد المحكمة العليا في هذه الحالة قاسياً إلى حد أنه سُمح للدكتور أحمد حمزة بالعودة من منفاه لأنه لم يُمنح فرصة استنفاد الوسائل القانونية قبل إبعاده.
أما قضية رئيسي بلديتي الخليل وحلحول، القواسمة وملحم، سنة 1980، فكانت اهم القضايا وأشهرها، ذلك بأنه على الرغم من موقف المحكمة العليا المؤيد لعمليات الإبعاد في ذاتها، فإن القضاة كانوا مصممين على إنقاذ واجهة الإجراءات القانونية على الأقل: فالقواسمة وملحم، اللذان أُبعدا على نحو مماثل لإبعاد الأربعمئة وخمسة عشر شخصاً مؤخراً (باستثناء أن الاثنين نُقلا إلى لبنان بطائرات هليكوبتر) من دون أن يُمنحا فرصة الاستئناف، سُمح لهما بالعودة من المنفى لاستنفاد الإجراءات القانونية ضد قرار الإبعاد.
ماذا تعني هذه الإجراءات القانونية؟ هل لها أية فعالية، هل أنقذت المبعدين أية حال؟ الجواب هو "لا" صريحة واضحة؛ فباستثناء قاضٍ واحد فقط هو حاييم كوهين (متقاعد)، وافق جميع قضاة المحكمة العليا دائماً على قرارات الإبعاد المبنية على أحكام قانون الطوارئ الصادر عن سلطات الانتداب البريطانية سنة 1945 والذي يعدّه خبراء القانون الأردنيون والفلسطينيون باطل المفعول منذ زمن بعيد في الأراضي المحتلة، وحتى لو كان ساري المفعول، فهو يعدُّ ملغياً وباطلاً لمخالفته أحكام القانون الدولي.
إن "الإجراءات القانونية"، سواء أمام اللجنة العسكرية أو أمام المحاكم العليا، ولكونها مبنية على شكوك أو بلاغات أو وشايات موجودة في ملفات سرية يقدمها الشين بيت (جهاز الشرطة السرية)، ويُمنع حتى المحامون من الاطلاع عليها، لم تكن أكثر من مهزلة. إلا إن المنوى إبعادهم كان يُسمح لهم بأن يتنفسوا لبضعة أشهر أخرى هواء بلادهم في أثناء فسحتهم اليومية خلف قضبان السجون. وكان الفلسطينيون يقدِّرون كل لحظة من تلك المهلة.
في عملية الإبعاد الأخيرة تغيرت قواعد اللعبة تغيراً جذرياً؛ فلم يعد هناك سخاء بأية "إجراءات" قانونية، أو بزيارة عائلية، أو بنظرة أخيرة إلى الديار ومسقط الرأس؛ بل مزيد من قسوة الجيش، ومزيد من عدم مبالاة المحكمة التي باتت تتصرف خلافاً لأصولها الإجرائية! ثمة نوع من الإرهاب المؤسساتي يصيب أيضاً آلافاً من أفراد الأُسر؛ إرهاب يُمارَس من خلال أخطاء مرتكبة في الأسماء والأشخاص، ومن خلال "استبدال" اعتباطي للمبعدين في اللحظة الأخيرة. إن ما يُسمى الطبيعة الموقتة لهذا الإبعاد (مدة عامين)، أو غير ذلك من الحيل اللغوية، لن يفلح في تلطيف حدتها أو في حجم طبيعتها الحقيقية، وهي الاقتلاع الذي قد يعادل الموت. إن أي أمر عسكري بعملية الإبعاد هذه غير شرعي من النظرة الأولى، لا لأنه ينتهك القانون الدولي فحسب، بل لأنه يتنكر أيضاً لأبسط الحقوق الطبيعية التي يتمتع كل إنسان بها في المثول أمام أية سلطة تتصرف في مصيره.
لقد رفض لبنان السماح بانتهاك سيادته بأن رفض إدخال المبعدين، فأفسد اللعبة الإسرائيلية، وأحبط العملية العسكرية السريعة السهلة التي هدفت إلى ترويع سكان الأراضي المحتلة ولم تكن إلا بداية لأعمال مماثلة في المستقبل. وقد أُتيح للعالم، أول مرة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، وتاريخ عمليات الإبعاد، فرصة الاطلاع على مأساة أُناس انتُزعوا من أُسرهم ومن أرض وطنهم، أي الاطلاع على تجسيد شخصي لمأساة الفلسطينيين. وهنا أجرؤ على القول إنها مأساة إسرائيل أيضاً، مأساة شعب حكم حكامه عليه بارتكاب الجرائم ضد شعب آخر.
إن الحكومة التي أقدمت على ذلك، والتي ستحمل عار ذلك إلى الأبد، حكومة يرئسها حزب العمل المشبع بالحمائم الصريحين، ومنهم حمائم ميرتس ومابام. وفي هذه المناسبة أود أن أعرب عن عميق تقديري للأعضاء النشطاء في هذين الحزبين، أولئك الذين استنكروا أعمال رفاقهم في الحكومة ودانوها، أولئك الذين عارضوا عملية الإبعاد والذين يكتبون ويتظاهرون ويتكلمون ضدها، فأولاء هم إسرائيل الأخرى, لقد رفض قضاة المحكمة الإسرائيلية العليا، برئاسة مئير شمغار، الموافقة على طلب تقدم محامون إسرائيليون به لمنح المبعدين مساعدات إنسانية. لا رأفة ولا رحمة، بل ضرب من الموافقة الروتينية على قرار المحكمة.
ويلفت هذا الموقف النظر بشدة في ضوء ما نشرته الصحف الإسرائيلية مؤخراً من أقوال لشمغار سنة 1947، بعدما نفي هو وأعضاء من منظمة الإيتسل الإرهابية إلى إريتريا سنة 1944. فقد كتب شمغار وقتئذ يقول "إن اعتقالنا ونفينا من دون محاكمة لهما خير دليل للعالم أجمع على أن دولتنا [دولة الانتداب البريطاني في فلسطين] إنما هي دولة بوليسية." ("هآرتس"، 25/12/1992، مقال عادا أوشبيس). وتتابع أوشبيس (في مقالها هذا عن شمغار والإيتسل) فتذكّر بأن الهاغاناه، على الرغم من خلافاتها مع الإيتسل، دانت عملية النفي إدانة شديدة، محتجة بأن عملية النفي تلك تُعدُّ انتهاكاً لحق اليهودي في المقدس في أن يعيش في وطنه، وأنها لذلك لن تقبل بها أبداً. واشتملت إدانة عملية النفي البريطانية سنة 1944 على وصف لسوء حال أُسَر المنفيين ومعاناتها.
أود أن أُعلِّق بالقول إن أي شخص في إسرائيل ظن أن إبعاد الفلسطينيين الأربعمئة وخمسة عشر ينطوي على مصلحة مشتركة لإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، من حيث دفع عملية السلام قدماً، قد نسي تاريخنا نحن اليهود، كما هو مبين أعلاه.
وأود أن أُضيف أن تاريخنا غير البعيد أيضاً قد بيَّن إخفاق "حرب سلامة الجليل"، وأن لا مكان لحروب من أجل السلام ولا لعمليات إبعاد أيضاً من أجل السلام... لكن أصحاب هذه السياسة لا يريدون أن يفهموا، وهم ينظرون بدهشة إلى موجات التضامن مع المبعدين والتماهي مع أُسرهم، والإجماع على الاحتجاج، على الرغم من الخلافات الشديدة في الآراء، هذا فضلاً عن المعارضة (المباركة!) في صفوف الساسة الإسرائيليين أنفسهم. أما ردّهم على ذلك كله فهو إطلاق النار والقتل والمزيد من إطلاق النار والقتل.
وثمة بعد هذا كله سؤال: هل قادتُنا عُمْيٌ سياسياً فلا يرون هذه المشابهات التاريخية ولا يدركونها؟ أفلا يأخذون في الحسبان وجود التضامن الإنساني بين الفلسطينيين، وكرامتهم؟
سأقدم عن ذلك جواباً شخصياً جداً، وهو نوع من الشهادة القائمة على تجربتي خلال الأعوام الخمسة والعشرين المنصرمة:
إنهم حقاً عُمْيٌ بفعل مقاربة عنصرية شوفينية تسود إسرائيل وتقود إلى تجريد العرب عامة، والفلسطينيين خاصة، من الصور الإنسانية. وإن هذه المقاربة لَتنسب إليها وحدنا – نحن اليهود – خِصال التضامن والتراحم والتعاطف والكرامة والحكمة والجلادة، إلخ. أما "هم" فقساة، أشرار لا يفهمون إلا لغة القوة، إلخ.
لا أحد منا، سوى المتحررين من التعصبات العرقية العنصرية، يمثل الأمل بالمستقبل، الأمل بكسر دائرة العنف الفاسدة وبألا نكون أمة من القتلة والمقتولين، الأمل بسلام حقيقي قائم على العدل.
إلى متى ستتحمل الأمم المتحدة، والمجموعة الأوروبية، وما يسمى "الأسرة الدولية"، وجود أولئك المقتلعين المرميين على سفح تلك التلة الجرداء، المناضلين من أجل بقائهم؟ إلى متى تراهم يتحملون صورهم الحية المنقولة إلى غرفنا الدافئة؟...
ثمة قرار إجماعي واضح لمجلس الأمن الدولي رقمه 799 يدين عملية الإبعاد الإسرائيلية ويطلب من إسرائيل السماح للمبعدين بالعودة إلى ديارهم. وثمة قرار آخر مشابه متعلق أيضاً بعمليات الإبعاد (هو القرار 681 في كانون الأول/ ديسمبر 1990) وضعه رئيس الحكومة [السابق] يتسحاق شمير، فيما قال، في المحفوظات ليظل هناك يعلوه الغبار... فهل سيواجه القرار 799 المصير نفسه؟!
أنا واثقة بأن جميع الذين سمحوا لذلك القرار بأن يكسوه الغبار مسؤولون عن عملية الإبعاد الأخيرة التي تشمل جريمة حرب.
إن المجتمع الدولي يواجه الآن لحظة الحقيقة. وعليه أن يبرهن من أجلنا جميعاً أن القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان يشملان الجميع بلا استثناء.