السكان والموارد وأمن الشرق الأوسط
كلمات مفتاحية: 
السكان
البلاد العربية
الموارد المائية
الموارد الطبيعية
المسح السكاني
الشرق الأوسط
نبذة مختصرة: 

ورقة قُدمت بالإنكليزية إلى مؤتمر الأمن الإقليمي التاسع، الذي عُقد في استانبول، تركيا، في الفترة 7 ـ 10/6/1992. وهي تتناول المياه وعملية التسوية والحمية الدينية والزيادة السكانية في منطقة الشرق الأوسط. وتخلص إلى عرض أفكار من أجل التعاون في مجال المياه.

النص الكامل: 

قُدِّر عدد السكان في العالم العربي بنحو 212 مليون نسمة سنة 1991، ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى 290 مليوناً سنة 2000. وثمة من هذا العدد نسبة 43,4% تتوزع أعمارهم بين الرابعة عشرة وما دون، ونسبة 3,4% ممن تتراوح أعمارهم بين 65 وما فوق. ومتوسط الأعمار يتراوح بين 59,3 عاماً للذكور و60,7 عاماً للإناث. وأكثر من 47% من السكان لا يزالون يعيشون في مناطق ريفية، حيث تشكل الزراعة مصدر الرزق السائد. وفي تعريف أوسع للشرق الأوسط يقفز عدد السكان الحالي (مع تركيا وإسرائيل) إلى 286 مليون نسمة، ويتوقع له أن يبلغ 385 مليون نسمة سنة 2000.

في بنية سكانية تميل نحو الفئات العمرية غير المنتجة ويعمل 25% - 30% منها في الإنتاج الزراعي، ستستمر الحاجة إلى المياه في التصاعد، وستمضي في التزايد أيضاً الحاجة إلى مصادر مياه غالية التكلفة لوقوعها خارج الحدود الدولية لدول المنطقة. يضاف إلى ذلك أن الزيادة في الاستهلاك، ولا سيما الغلال الحقلية، ستدفع الإنتاج الزراعي إلى الاتجاه نحو الأراضي الهامشية، التي تحتاج إلى المزيد من مياه الري. ومع النسبة الحالية لهطول الأمطار وتجدُّد كميات المياه الجوفية، فمن الممكن أن يزداد نقص المياه حدَّة في المستقبل. كما أن عوامل التعرية الطبيعية كالتصحُّر، وتضاؤل الغابات، وتأكّل التربة ستطاول المزيد من الأراضي. هكذا، وعلى نحو بسيط ومباشر جداً، تبدو المياه والبيئة والسكان مترابطة، ومن شأن الأنماط المتوقعة أن يعزِّز بعضها بعضاً، إذا ما بقيت العوامل الأخرى على حالها.

وستقوى ميول التعزيز المتبادل هذه من جرّاء طرق الإنتاج السائدة وانعدام السلام، ومن جراء عملية نمو المدن نمواً مستمراً بالتدريج. إن طرق الإنتاج الحالية تميل إلى استغلال الثروة الطبيعية استغلالاً مكثفاً، والاستعاضة من الزراعة بالمشاغل اليدوية، والاعتماد في الاستهلاك على تقنيات إنتاج كثيفة الطاقة. وإنَّ من شأن هذه الميول أن تتعزَّز بفعل النظام الدولي الجديد لتقسيم العمل، الذي بدأت بموجبه الصناعات الكثيفة النفايات والكثيفة الطاقة ترتحل جنوباً، إما نحو المناطق ذات الكثافة السكانية الشديدة (بحثاً عن القوى العاملة الرخيصة) وإما نحو المناطق الغنية بالطاقة. ولما كان الشرق الأوسط إحدى أسرع الأسواق نمواً في العالم، فهو مهيأ لأن يلتقط قسطاً وافراً من هذه الصناعات المهاجرة (أو الرحَّالة).

إن انعدام السلام يقود إلى هدر الموارد الأساسية، سواء أكانت إنسانية مالية أم وطنية، بعيداً عن التوزيع المعقول والمنشود. كما أنه يعرقل جهود التخطيط السليم، ويضاعف عوامل تبديدها. ومن شأن دواعي الحرب أن تزداد تفاقماً بفعل نقط الموارد المائية، الذي يستلزم سدُّه التزامات أعمق بالمساعي الإقليمية التي تظل بلا جدوى في ظل حال التوتر القائمة. فلا يكاد يوجد في الشرق الأوسط دولة لا خلف بشأن حدودها فعلاً أو أن حدودها ليست مصدراً ممكناً للخلاف. إن خطر تحول الشرق الأوسط إلى حال يوغسلافيا لخطر حقيقي من شأنه أن يزيد في عدد الدويلات المغلقة العرقية أو غير العرقية، وذلك على حساب أي تعاون إقليمي جاد. وقد بيَّنت حرب الخليج الأخيرة بصورة لا يرقى الشك إليها أن الشرق الأوسط، تلك المنطقة الحيوية بالنسبة إلى العالم، يمكن أن يكون مسرحاً لحروب مدمِّرة لا حدود لعواقبها السلبية على البيئة. ويقدِّر الخبراء الآن أن نحو 25% - 30% من الدخل المحلي الإجمالي في الشرق الأوسط (قرابة 400 مليار دولار) يذهب إلى المجهود الحربي. أما مخصصات التربية والصحة فلا تكاد تستحوذ على أكثر من 11% من هذا الدخل المحلي الإجمالي.

إن الزيادة في الاستهلاك تستحثها زيادة السكان وتزايد التوقعات الاستهلاكية لدى سكان الشرق الأوسط". فارتفاع نسبة التعليم، ونمو المدن، وانتشار الخدمات العامة في المناطق الريفية، هي من جملة القوى الرئيسية الدافعة إلى هذا المنحى الاستهلاكي المتصاعد. وثمة سوق سريعة النمو للسلع الاستهلاكية الحديثة، التي بات إنتاجها المحلي يحلُّ بالتدريج محل ما يُستورد منها. ولذلك فثمة تصاعد مماثل في الطلب للطاقة الملوثة، سواء لإنتاج هذه السلع أو لمعالجة النفايات. ويقدر الخبراء أن متوسط الإنفاق على الاستهلاك في العالم العربي، سواء منه استهلاك القطاع العام أو القطاع الخاص، يفوق أرقام الدخل المحلي الإجمالي، وهذا ما يجعل الوفورات المحلية وتراكم رأس المال عرضة للتناقص المتدرج. ولذلك، يميل حجم الديون إلى التزايد من جرّاء اتساع فجوة الموارد المالية. ومن نافل القول أن مشتريات الأسلحة (المندرجة في باب الاستهلاك) مسؤولة عملياً عن تفاقم مشكلة الدين الخارجي هذه. وتذهب التقديرات إلى أن الديون العربية الخارجية تفوق 150 مليار دولار، هذا مع الأخذ في الاعتبار إجراءات الإعفاء من تسديد الديون التي حظي بها بعض كبار المدينين، الذين كوفئت مواقفهم من حرب الخليج بإسقاط بعض هذه الديون.

وقد انجرَّ عن ذلك انخراط دول الشرق الأوسط كلها، ما عدا دول الخليج، في برامج إصلاح اقتصادي مضنية. والجمهور في سواده الأعظم لا ينظر إلى هذه الخطط بعين الثقة. فالإصلاحات الاقتصادية تعدُّ في جملة الشرور التي لا بد منها في أحسن الأحوال، وذلك لأن غايتها فرض الضرائب على الناس لتسديد الديون الخارجية وجمع الأموال الضرورية التي لا بد منها للإنفاق المحلي في الوقت نفسه. ويبدو من المفارقات في نظر كثير من العرب كيف أن أيام البحبوحة (عقد المساعدات) لم تؤدِّ إلا إلى مرحلة من القلَّة والفاقة، والتي بات ينبغي معها للديون المتراكمة في الأيام السِمان أن تُسدَّد في الأيام العجاف. وبينما كانوا قد وُعِدوا بتوزيع الثروات والمكاسب، باتوا يُنذرون اليوم بضرورة بذل التضحيات وتحمل المشاق. والثراء السريع والافتقار السريع كلاهما من أعدى أعداء البيئة.

إن العالم العربي معقّد ومتنوِّع تعقيد العالم الأوسط وتنوُّعه. وغالباً ما ينظر العالم إليه نظرته إلى كيان واحد. ولئن كان العرب يروقهم أن ينظروا إلى أنفسهم على هذا النحو مبدئياً، فإنهم ليسوا كذلك في الواقع. وقد كشفت حرب الخليج عن مشكلات قديمة متقيِّحة. ففي وسع العرب أن ينخرط بعضهم في الحرب ضد بعضهم الآخر. وينظر بعض المحلِّلين المتشائمين إلى ما حدث في سنتي 1990 و1991 نظرتهم إلى طلاق دائم، إلى فجوة لا يمكن ردمها. أما المحللون المتفائلون، فيعدّون ذلك فرصة لإعادة بناء العلاقات العربية – العربية على أسس من المصالح المتبادلة أرشد وأصوب بدلاً من إقامتها على دواع تاريخية وعاطفية. والمحللون الذين يهوون السيناريوهات يختلفون في شأن المستقبل. فالمفكرون الإسلاميون  المتطرفون يحملون راية "الإسلام هو الحل"، والمفكرون الدنيويون يعتقدون أن على العرب أن يتعلَّموا الاندماج في النظام العالمي. وليس أي من الفريقين على صواب. فنحن لا نستطيع تجاهل وجود الدين عاملاً دينامياً، لكننا نحتاج إلى رؤية ألصق بالواقع وأكثر استنارة. إن تنكُّب الدين والتاريخ باسم الحداثة والعالمية لا يمكن أن يوازن، في صورته المجردة، المزاج السائد في المنطقة. وستستمر نزعتا الولاء الديني والولاء الدنيوي في التصادم بأوجه عدة – التراث في مواجهة الحداثة، والديمقراطية في مواجهة الخلافة، وأنظمة التكيف والاندماج في مواجهة كتاب الله، والجهاد في مواجهة مفاوضات السلام.

لقد وجدت هذه الثنائيات دائماً في العالم العربي المعاصر، لكن من دون استقطاب. فقد كان ثمة حدّ أدنى من الاتفاق. فالاختلافات بين البعثيين والإخوان المسلمين بالنسبة إلى هذه القضايا كانت في شأن الوسائل لا في شأن الغايات. وكان الإسلام قاسماً مشتركاً لدى الأغلبية، ولم يكن تصنيف المسلمين الآخرين أمراً شائعاً. أما الآن، فنحن نعيش في عصر يسميه الاقتصاديون عصر "العلب الفارغة" المصنَّفة. وأسباب هذا الاستقطاب على جانبي الدّين متعددة. وقد أُثيرت في أثناء حرب الخليج، وما أن وضعت الحرب أوزارها تقنياً، حتى ازدادت سخونة.

كثيراً ما انذهل الجمهور العربي الأوسع من العجز عن تحويل فترة الازدهار النفطي إلى مجهود إعمار حقيقي. فمع أن بلاداً عدة من البلاد التي أنتجت النفط أو استفادت منه قد شرعت في مشاريع تنموية واسعة النطاق، فإن المحصلة النهائية لم تكن سارة. ففي سنة 1988، باتت مشكلة الديون الخارجية على درجة من الحدَّة أن بلغ حجم الديون الخارجية المعترف بها علانية 136 مليار دولار. وقد عانى معظم الدول العربية، باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي، نقصاً في الاحتياطي الكافي من العملات الأجنبية لتلبية حاجاتها المباشرة ودفع فوائد الديون الخارجية. وقد أدى اكتشاف الجمهور لهذه الوقائع إلى مضاعفة إحباطهم، ولا سيما بعدما راح صندوق النقد الدولي يطلب من الحكومات المبالَغة في عصر النفقات وشد الحزام. وقد بدا للجماهير أن حكوماتها لم تعد تملك زمام أمرها، بل تحوَّلت إلى أدوات لتطبيق الأوامر الخارجية المفروضة عليها.

يضاف إلى ذلك أن العالم العربي بدأ يراقب بهلع أنباء المجاعة في إفريقيا شبه الصحراوية، بما فيها السودان والصومال. كما بدأ العرب في معظمهم يشعرون في بلادهم بوخز الأزمة الاقتصادية. وابتداء من سنة 1988 فصاعداً، لم يكن أولئك الذين اعتادوا العيش على هامش النفط والإنفاق الحكومي السخي مستعدين لحال الجزْر الاقتصادي. وقد تراجعت الأرباح، وتناقصت عائدات رؤوس الأموال، ومثلها قيمة العملات، بسرعة. أما البلاد التي تشبَّثت بخططها ورفضت الاعتراف بالتدني الفعلي لقيمة العملة، فقد عجزت عن ضبط السوق السوداء التي تنامت وازدهرت. وقد انجرَّ عن ذلك هبوط في مراكمة رأس المال، وتصاعد في الادخار الخارجي (هجرة رؤوس الأموال) وتزايد في البطالة، ولا سيما في صفوف الداخلين حديثاً إلى سوق العمل. ولما التمس الناس الدعم الحكومي، قيل لهم أن عليهم إعادة النظر في عاداتهم الاستهلاكية السيئة. وأُبلغوا أن المشقات والتضحيات ستوزّع بالتساوي. وبذلك صارت عدالة التوزيع تعني التساوي في المعاناة. وبلغت الفجوة بين التوقعات [وبين تلبيتها] درجة لا سابق لها. وجاء التعبير عنها مزيجاً من السخط وعدم المبالاة. ثم تبين أن البحث عن حل أو عن نموذج لإنقاذ الوضع مَضيعة للوقت، ولا طائل من ورائه. ووقفت نماذج الدعوة الوحدوية والشيوعية والاشتراكية، وغيرها من الفروع الدنيوية، وقفة المبهوت وقد ارتج عليه. الإسلام، الذي منح العرب مجدهم، هو العلاج. وهكذا وجد كثير من الشبان، المحبطين والمتألمين من الهزائم على كل الجبهات، في الإسلام وفي نظريته غير المجرَّبة الملاذ الذي كانوا يصبون إليه.

والظاهرة الأخرى التي برزت هي السخط على الدول العربية الغنية. فبينما كانت البلاد العربية الفقيرة تتوق إلى العملات الأجنبية وفرص العمل ورؤوس أموال الاستثمار، كانت الدول العربية الغنية تقبض كفَّها، ولا سيما بعدما راحت عائدات النفط تتدنى، وتجمِّد الأجور والرواتب أو تخفضها، وتبحث عن قوى عاملة أرخص تكلفة خارج المنطقة العربية، وتعصر مساعداتها. ولذلك، أخذت قضية التوزيع غير العادل للثورة بين العرب تتحوّل بالتدريج إلى قضية تلهب المشاعر. وإن نظرة سريعة إلى الدخل المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي الست تظهر أنه يمثل 38% من إجمالي الدخل المحلي الإجمالي [لمجمل الدول العربية] سنة 1989، بينما أظهرت تقديراتهم المبالغ فيها لعدد سكان البلاد الستة أن نسبتهم لا تتجاوز 9% من إجمالي عدد السكان العرب. يضاف إلى ذلك أن صادرات دول مجلس التعاون الخليجي سنة 1989 بلغت 66% من إجمالي الصادرات العربية، وأن وارداتها بلغت 56% من الواردات العربية. كما أن متوسط دخل الفرد في دول الخليج كان 7500 دولار بينما كان أقل من 400 دولار في أفقر ست دول عربية. وقد انعكست الانفعالية، التي شجَّعتها الحكومات العربية الفقيرة من حيث لا تدري، في الاجتماعات العربية – العربية، وفي الصحافة وفي غيرها من وسائل الإعلام الجماهيرية. وعندما اندلعت حرب الخليج، اتسعت الخلافات العربية إلى حدود لا يمكن عكسها؛ فتبدَّد ما بقي من الثروة والمال العربيين في الحرب، أو حجز لعدة أجيال مقبلة. لذلك كان لا بد من التماس الملاذ في روح الإسلام الذي لا يبيح لمسلم أن يهنأ في نومه وجاره جائع، واكتسبت هذه الدعوة جاذبية فاتنة. وقد رفضت الجماهير نمط الإسلام الذي ترعاه الدولة، الإسلام المستكين وغير المسَيَّس، على أساس أنه ليس الإسلام الحقيقي.

وثمة أسباب أُخرى عديدة لتفسير انبعاث الحميَّة الدينية. وفي طليعة هذه الأسباب القضية الفلسطينية المذلة والمتمادية في الزمن. ذلك بأن الجماهير التي شاهدت صور الصبية الفلسطينيين يفرون من أمام الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح استولى عليها شعور عميق بالمهانة لقعودها عن عمل أي شيء. وجاءت حركة "حماس" أو "حركة الحميّة الدينية" لتنمو بالتدريج على حساب منظمة التحرير الفلسطينية. وقد أذكى مشاعر الذل والحماسة ما يلم بالعالم العربي الأوسع من انتكاسات اجتماعية – سياسية، وما يشاهد من التطرف الديني الذي اتسم به سلوك الليكود وشركائه من الأحزاب الدينية في الحكومة الإسرائيلية.

كان على الدعوة إلى الديمقراطية في العالم العربي، وقد شاعت بعد حرب الخليج بنبرة أشد، أن تولِّد نتائج غير متوقعة، لكن اليد العليا كانت للإسلاميين في أنحاء عدة. ذلك بأن نجاح من يسمَّون "الأصوليين" في الأردن والجزائر، وتنامي تهديدهم في تونس ومصر والسودان والأراضي المحتلة في فلسطين، قد ولَّدا ردات فعل متضاربة. وإذا ما سمح للديمقراطية بأن تأخذ مجراها، فقد تقود إلى نتائج غير مرغوب فيها. وقد انذهل الأوروبيون والأميركيون تخصيصاً، من نتائج الانتخابات في الجزائر، وأداروا أُذناً صمّاء للإجراءات الحكومية التي أعقبت ذلك. فكان أن وجد الإسلاميون وسيلة جديدة لدعوة الجماهير والإشارة بالبنان إلى ما سمَّوه الديمقراطية الماكرة، وتمكنوا من تبديد ما كانوا يتهمون به من عداء للديمقراطية.

ليس عند المسلمين حالياً حل متكامل للمشكلات المتفاقمة في العالم العربي. ثمة عدد من المعضلات التي لا بد من مواجهتها وحلِّها. فمن ذلك أن التعليم سيكون أحد الأعباء؛ فهو يحتاج أولاً إلى تجديد كامل من حيث نوعيته. فالتعليم المستمر وطريقة المشاركة العملية هما من الخطوات التي لا بد منها لمواجهة تقسيم العمل وتقنيات الإنتاج المتغيرة. إن الأهمية القصوى هي لفعالية العمل، وتدني مستوى هذه الفعالية مكتوب على الجدران بأحرف كبيرة. إن 40% إلى 50% فقط من طاقة الآلات الموجودة تُستعمل فعلاً. وذوو الياقات البيض، ولا سيما في القطاع الحكومي قلَّما يعملون ما يزيد متوسطه على ساعة عمل حقيقي كل يوم، وذلك مع الشكوى من تدني الرواتب والأجور. ونسبة المشاركة في العمل منخفضة إجمالاً، ويقل متوسطها عن 25% في العالم العربي، وذلك بسبب عوامل سكانية، منها ارتفاع نسبة الولادات وضخامة حجم العائلة. وقد قُمْتُ بمقارنة لمدى عشر سنوات (1980 – 1989) لعدد ساعات العمل الإنتاجي لكل فرد في ست دول عربية (الأردن، وتونس، ومصر، والمغرب، وعُمان، والعربية السعودية) وفي إسرائيل، فوجدت أن إسرائيل تتمتع بمتوسط يفوق بنسبة خمسة إلى ستة أضعاف متوسط ساعات العمل الإنتاجي لكل فرد في البلاد الستة. إن التعليم والأداء العملي مترابطان ترابطاً وثيقاً. ومع ذلك، فإن مجرد عدد الطلاب والتلامذة في العالم العربي (66 مليوناً حالياً) يحمل على الحيرة. ويتوقع أن يصل هذا العدد إلى 90 مليوناً سنة 2000. ومن المتوقع أن تزيد القوة العاملة العربية من 58 مليوناً حالياً إلى 80 مليوناً سنة 2000، ومعنى هذا ان الحاجة ستنشأ إلى إيجاد 22 مليون فرصة عمل جديدة. والأموال اللازمة لمواجهة مستلزمات التعليم وإيجاد فرص العمل تزيد على 300 مليار دولار، أي بواقع 30 مليار دولار سنوياً. ويستثنى من هذا المبلغ مستزلمات تسديد الديون الخارجية وإعادة بناء البنى التحتية، التي خرَّبتها الحروب في لبنان، والعراق، والكويت، والسودان، وفلسطين وأماكن أُخرى. والمبالغ المقدرة للنهوض بأعباء إعادة البناء تتراوح بين 150 مليار دولار و200 مليار دولار. لذلك، كان العرب متورطين في مهمة مالية عسيرة جداً. فالحصول على 650 مليار دولار – 700 مليار دولار على الأقل، فضلاً عن النفقات الجارية، عبء قد يكون أثقل من القدرة على النهوض به.

لذلك يجب أن يحل الإنفاق على السلام محل الإنفاق على السلاح، فالسلام مطلوب لتأمين الكهرباء والماء والعناية الصحية ونظام المواصلات، وغير ذلك من الخدمات، حيث لا توجد إلا بصورة غير ملائمة أو إنها لا توجد أصلاً. وبينما لا تمثل الصادرات الغذائية العربية أكثر من 3% من إجمالي الصادرات العربية، فإن الواردات الغذائية تزيد على 15%. وفي وسع القطاع الزراعي أن يتعامل بسهولة مع هذا التحدي. إلا إن هذا العجز سيستمر ما استمر العرب من أصحاب الأموال في زراعة مناطق صحراوية وتجاهلوا الأراضي الخصيبة. وحيثما توجد الأراضي الخصيبة تنهض عقبات موضوعية وسياسية تجعل هذه الأراضي غير قابلة للزراعة. إن العرب يحتاجون إلى السلام أكثر من أي أحد في العالم. والمأمول أن تُظهِر الشواهد التي بيَّنتها سابقاً ضرورة هذه الحاجة.

لقد أخفقت تجربة التكامل الإقليمي حتى الآن، واختزلت مساعي التكامل الاقتصادي إلى مجرد التبادل الاقتصادي بين الدول المتجاورة. فالتجارة الخارجية بين الدول العربية لا تتجاوز 6,3% من مجموع الصادرات العربية، وتنخفض هذه النسبة إلى 3% إذا ما استثنيت حصة النفط منها. لكن العام لم يعد يتسع لكيانات صغيرة. ويبدو أن التجاور الجغرافي أبرز القواسم المشتركة في تحديد شكل الأنظمة الاقتصادية. ففي سنة 1988، كان عدد المجموعات الإقليمية المعلنة والناشئة عن أسباب سياسية ينحصر في ثلاث: اتحاد المغرب العربي، ومجلس التعاون العربي، ومجلس التعاون الخليجي. ومع أن لمجلس التعاون الخليجي حظوظاً في البقاء، فإن صغر حجمه قد لا يصل إلى الحد الأدنى الضروري. والتقارب الحديث العهد الذي نشأ بين دول التعاون الخليجي وبين كل من مصر وسوريا (6 + 2) استجرته حرب الخليج، وقد لا يستمر.

لقد بات مجلس التعاون العربي بحكم الملغى، بينما يعاني اتحاد المغرب العربي من جرّاء مشكلات ليبيا والجزائر، إلا إن فيه عملياً مقومات النجاح الممكن.

لكن، مرة أخرى، ينبغي التشديد على أن التوجهات نحو الديمقراطية ونحو قطاع خاص أقوى يمكن أن تحمل بذور تفاهم أفضل. وإذا عُزِّزت هذه التوجهات بالسلام، ولا سيما مع الإسرائيليين، فإن عائدات السلام قد تتجاوز المكاسب المباشرة من إعادة توظيف الموارد إلى آفاق التكامل الإقليمي الأوسع والتفاهم الأفضل مع النظام العالمي الجديد. وإذا ما تم التوصل إلى احتواء المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، أو ربما إلى حلها، فستضعف دوافع التطرف العميقة كثيراً، وإلا فيتنفتح بوابات الجحيم على مصاريعها. إن للعالم الأوسع، بفضل النفط والاعتبارات الاستراتيجية، مصالح كبرى في الشرق الأوسط. فإذا لم تجتمع الإرادة العالمية الجماعية على تحسين آفاق المستقبل فيه، فستتعثر مساعي الاستقرار الاقتصادي والعسكري في العالم أجمع.

لذلك، فإن مفاوضات السلام الجارية حالياً بين العرب وإسرائيل إنما تستجيب لاهتمام عالمي بقدر استجابتها لاهتمامات إقليمية. ولم تحقق هذه المفاوضات بعدُ تقدماً ملموساً في المسائل الجوهرية. فبعد جولات خمس من المحادثات الثنائية وجولة من المحادثات المتعددة الأطراف، يبدو أن الفرقاء لم يبتعدوا كثيراً عن نقطة الانطلاق. لكن من السابق أوانه أن نستبق النتيجة أو أن نصدر أحكاماً مسبقة على متى ستُتوّج هذه المحادثات بالسلام الحقيقي.

والسلام، من وجهة غير سياسية بحتة، مفيد للعرب بقدر ما هو مفيد للإسرائيليين: فإسرائيل لا تستطيع التوسع في اتجاه المناطق الكثيفة السكان ولا تستطيع المضي في استدرار المساعدات الخارجية المكثفة (7 مليارات – 10 مليارات دولار سنوياً) من دون منفعة للذين يساعدونها. وقد تقلَّصت هذه المنفعة بعد نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج. وهي لا تستطيع الزعم أن العرب لا يريدون السلام معها. إن من شأن انعدام سلام كهذا أن يغذِّي التطرف الذي تزعم إسرائيل أنها تريد محاربته الآن. أما العرب، فإن الحكومات العربية ونسبة كبيرة من السكان تعتقد أن المنطقة العربية ستظل هدفاً للأعمال العدوانية ما لم يُعقد السلام. فقد كانت الحرب مع إسرائيل على مدى الأعوام باهظة التكلفة مالاً ورجالاً. والعامل الأهم هو شيوع الاعتقاد بين الفلسطينيين أن قضيتهم قد استُغلَّت على حسابهم، وهذه فكرة غامضة محفوفة بالتسويغ العقلي. وفي أية حال، فما دام الفلسطينيون، ولا سيما أولئك الذين هم تحت الاحتلال، قد قبلوا عقد السلام، فعلى غيرهم من العرب، الذين ما زالوا يطلبون منهم تحمل المسؤولية، أن يقبلوا السلام أيضاً.

واستشرافاً للسلام، في حال تحققه، يتحدث بعض الدراسات المنشورة في الولايات المتحدة تحديداً عن تشكيلة إقليمية تقع فلسطين وإسرائيل والأردن في قلبها، ويمكن توسيعها لتشمل لبنان وسوريا والعراق في المستقبل. وتبني هذه الدراسات كلها مسوِّغات مناطق اقتصادية كهذه على أوجه التكامل والحجم. يضاف إلى ذلك أن التسوية ستتيح حل المسائل التي تهدِّد السلام، والتي يبدو حلها بعيداً في الوقت الحاضر، لكن إذا ما تم التوصل إلى السلام، فسيغدو كل شيء ممكناً.

إن فكرة التكامل الإقليمي في الشرق الأوسط لم تحسم جغرافياً بعد. فبينما تودُّ إيران إقامة علاقات ودية بدول مجلس التعاون الخليجي وبغيرها من الدول العربية، تعارض مصر ذلك معارضة صارخة. فمصر تتصور نفسها قوة محورية عليها أن تحافظ على التوازن بين أدوارها كدولة عربية وإفريقية ومتوسطية. كذلك نجد تركيا، التي استفاد اقتصادها استفادة عظيمة من الحرب العراقية – الإيرانية، تسعى لإيجاد منفذ لها إلى الأسواق العربية والنفط العربي في مقابل الماء. إن فكرة التكامل الإقليمي السريعة الحركة هذه، فضلاً عن رغبة اللاعبين الكبار في أكل الكعكة والاحتفاظ بها في الوقت نفسه، قد لا تسمح في الأحوال القائمة الآن بأية توقعات ذات صدقية في شأن وجهة سير التطورات في المستقبل.

أفكار من أجل التعاون

في مجال المياه

              يبدو أن الاستراتيجية غير المعلنة ولمتبعة في مفاوضات السلام الجارية حالياً تقوم على أسس، منها تقسيم الصراع العربي – الإسرائيلي إلى مسائل فرعية يمكن معالجتها والتفاوض في شأنها. ولا تشذُّ قضية المياه عن هذه القاعدة. وهي تنقسم إلى مسارات ثنائية ومتعددة الأطراف، وقد جُعِلَتْ موضوع إحدى مجموعات العمل الخمس المتعددة الأطراف. وهي تمتاز من غيرها بأنها من أقل القضايا احتقاناً سياسياً، إلا إن حلَّها يكتسي أهمية عظمى من حيث مستقبل الأمن، وبرامج التعاون الاقتصادي الإقليمي، وبسط الاستقرار. وقد ينطوي الاعتقاد أن قضية المياه ستكون أقل القضايا تعقيداً في إطار مفاوضات السلام على ضرب من الادعاء، لكن القراءات الأولية للطريقة التي تسير المفاوضات بها حتى الآن تبدو كفيلة بترجيح هذا الاعتقاد.

تشير أحدث المعطيات إلى أن موارد المياه في جميع أنحاء العالم العربي أقرب إلى أن تكون في وضع حرج. وتقدر المصادر المطلعة المتاحة هذه الموارد بنحو 337.568 مليون متر مكعب. وتبلغ نسبة المياه السطحية 87.6% من مجموع هذه  الكمية، أي 295.728 مليون متر مكعب. أما الباقي، أي ما نسبته 12,4%، فهو مياه جوفية. ويبلغ مجموع المياه المستعملة 172,129 مليون متر مكعب، منها 81,2% مياه سطحية و13,1% مياه جوفية. أما الباقي فمن مياه البحر المحلاّة أو المياه القليلة الملوحة. وتتوقع دراسة موثوق بها أجراها البنك الدولي أن يرتفع الطلب الإجمالي للمياه من 212.277 مليون متر مكعب سنة 1985 إلى 301,501 مليون متر مكعب سنة 2030. وسيظل ثمة عجز مقداره 100,000 مليون متر مكعب، حتى لو افترضنا أن مصادر المياه ستزداد كي تتلاءم مع الزيادة المتساوية في التزويد.

ومن نافل القول، طبعاً، أن الزراعة كانت، وستظل، أكبر مستهلك للمياه. فالطلب لمياه الري يمثل 97,7%، ويمثل الطلب لمياه الشرب 1,8، أما للصناعة فمجرد 0,5%. وستتغير هذه الصورة سنة 2030؛ إذ يتوقع أن تنخفض حصة الزراعة إلى 88,2% وأن ترتفع حصة مياه الشرب إلى 7,5%، وحصة الصناعة إلى 4,3%.

لذلك، كانت طريقة احتواء هذه المشكلة وأسبابها البدائية تستلزم قدراً كبيراً من الخيال والجرأة. وفيما يلي بعض الآراء للنظر فيها:

1-  إن العمل الإقليمي المشترك مطلوب في المنطقة المعنية بالدرس. وللتوصل إلى ذلك في المدى البعيد، لا بد من بعض إجراءات بناء الثقة في الأمدين القريب والبعيد. لذلك كان من الضروري أن تطبق مبادئ دولية متفق عليها ومراعية للعدالة في توزيع حقوق تقاسم المياه. ومن الصعب، مبدئياً، أن يُرى أي تطور مستقبلي للتعاون الإقليمي من دون هذه الخطوة. فما من دولة في الشرق الأوسط محصنة، مهما تكن كمية المياه المتاحة لها حالياً، ضد نقص مزمن في المياه في المستقبل. لذلك، فإن مقاربة تفضيلية زمنية لمشكلة المياه الشاملة تستلزم قاعدة صلبة من الثقة المتبادلة في المدى البعيد، ولا بد من بذل تضحيات في المدى القريب من أجل مصلحة الجميع في المستقبل.

2- ومن الواضح أن الحاجة إلى الغذاء، التي تعتمد بدورها على عدد السكان، ستكون في المدى البعيد أهم العوامل التي تحدِّد الحاجة إلى المياه. وإذا ما اتبعت البلاد كلها برامج أمن غذائي مستقلة، فقد يرتفع الطلب للمياه إلى حدود خطرة. فالحاجة إلى خطة زراعية إقليمية أصبحت ماسة. وعلى دول المنطقة أن تنخرط بقوة في خطة زراعية تستند إلى المزايا النسبية لكل منها وإلى هامش تنافسي لها جميعاً قياساً ببقية العالم.

3-  وعلى الرغم من أن الواهبين المساهمين في التعاون الاقتصادي حريصون على إدخال قوانين إدارة المياه وتقنين الأسعار من أجل الحد من الحاجة إلى مشاريع المياه الغالية التكلفة، فقد لا تكون خطة كهذه قابلة للتنفيذ سياسياً في المدى القريب. ذلك لأن الفرقاء المشاركين في مفاوضات السلام منخرطون في نضال ضد التيار المعارض في قواعدهم السياسية بشأن مزايا السلام. فمن المتوقع من كل فريق أن يقبل مشروع سلام يحتاج إلى التسويق عند قواعده السياسية، فإذا جاء هذا السلام يحمل قليلاً من المكاسب ومزيداً من التضحيات الاقتصادية، فإنه سيجعل قبوله لدى الجماهير أصعب. لذلك كان من الواجب أن يركَّز، في المديين القريب والمتوسط، على إدارة المياه وتعزيز مواردها.

4- داخل الدول المعنية، قد يكون هناك حاجة إلى خطة ما للتشارك في المياه واقتسامها على أسس تعود بالمنفعة المتبادلة وبالأرباح أيضاً. وربما أدى تغير الحاجات وتغير الطلب الموسمي لبعض الغلال إلى جعل خطط الاشتراك في المياه وتقاسمها فكرة معقولة. ويمكن أن يجري ذلك على أساس تقاسم الأرباح أو على أساس تبادل كميات عادلة على مر الزمن. ولا بد لهذا الاقتراح من دراسات دقيقة مفصلة.

5- إن مشاريع تعزيز موارد المياه، مثل إعادة استعمال مياه الصرف، تحتاج إلى تعاون وثيق. ولا بد من إعادة استعمال مياه الصرف الصناعية والزائد من مياه المجارير استعمالاً جماعياً في الزراعة.

6- ومن مجالات التعاون الأخرى المطلوبة بناء السدود (سد المقارن على اليرموك) ومشاريع تحلية المياه (قناة البحر الميت – البحر الأحمر).

7- ولما كان التعاون إلزامياً في المستقبل، فلا بد من وضع "قانون للسلوك" ملزم للجميع إلزاماً تاماً. ومن دون الاتفاق على قانون كهذا، فإنه لن تنشأ الثقة المطلوبة للقيام بالعمل التعاوني المطلوب في مجال المياه.

8- ولا بد من أن تفكر دول الشرق الأوسط في ضم العراق إلى شبكة مشاريع المياه، في المدى البعيد. فهو أفضل الشركاء وأنفعهم. فالعراق يضيف إمكانات واسعة لاستنبات غلال الحقول، ومصادر المياه والطاقة المطلوبة لإنشاء مشاريع مياه كبرى. وعلى الرغم من أن اقتراحاً كهذا تحفُّ به لاءات سياسية كثيرة في المدى القريب، فإن العراق يمثل في المدى البعيد، حيث يفترض أن يكون كل شيء متغيراً، حلاً مثالياً لعملية التعاون الإقليمي في مجالي المياه والزراعة. ومنذ ذلك التاريخ فصاعداً يمكن أن تشرك دول أُخرى ولا سيما تركيا. وعندها سيكون مشروع خط أنابيب السلام مشروعاً ممكناً من الناحيتين السياسية والاقتصادية. 

 

*   ورقة قُدمت باللغة الإنكليزية إلى مؤتمر الأمن الإقليمي التاسع، الذي عُقد في استانبول، تركيا، في الفترة 7 – 10 حزيران/ يونيو 1992.

السيرة الشخصية: 

جواد العناني: محلل اقتصادي، وصاحب مؤسسة جواد العناني للدراسات الاقتصادية والتكنولوجية في عمّان – الأردن.