أثر نتائج الانتخابات الإسرائيلية في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية
كلمات مفتاحية: 
الانتخابات الإسرائيلية
الحكومة الإسرائيلية
نتائج الانتخابات
مفاوضات السلام
لبنان
سورية
نبذة مختصرة: 

يذهب الكاتب إلى أنه بعد ظهور نتائج الانتخابات، عادت الروح إلى المفاوضات على مساراتها الثلاثة، الفلسطيني والسوري واللبناني، وانتعش الأمل بتحقيق تقدم ملموس خلال فترة قصيرة، كما أوجدت النتائج ظروفاً محلية وإقليمية ودولية مواتية لإعادة قطار السلام إلى سكته، وزادت في قدرة الراعي الأميركي على التأثير في حركته.

النص الكامل: 

 

أزاحت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة الستار عن الانقسامات الحادة التي تنخر المجتمع الإسرائيلي. وظهر كمجتمع فسيفسائي مركب من مجموعات عرقية ودينية وطائفية غير متجانسة لم تتخل عن انتمائها السابق. كما أن فيه تنظيمات صغيرة كثيرة، صعد دورها على حساب الأحزاب الكبيرة، من خلال تعبيرها عن مصالح اقتصادية واجتماعية محددة لفئات ضيقة. ولا يوجد في إسرائيل الآن حزب يمكن أن نطلق عليه حزب الأغلبية. ولم يعد في قدرة الحزبين الكبيرين، الليكود والعمل، مجتمعين تأليف حكومة وحدة وطنية تحظى بأغلبية في الكنيست من دون الاستعانة بالأحزاب الصغيرة. وباتت توجهات حكومة براك السياسية والاقتصادية والاجتماعية أسيرة لطبيعة التحالف الذي بنيت عليه.

وبصرف النظر عن أثر نتائج الانتخابات وتفاعلاتها اللاحقة في المجتمع الإسرائيلي وعلاقة قواه السياسية والاجتماعية بعضها ببعض، فأثرها في المسار الفلسطيني قبل فتح صناديق الاقتراع يختلف كلياً عن أثرها بعده؛ إذ قبل فتح الصناديق هرب نتنياهو من تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق "واي ريفر"، وبدد وقتاً طويلاً وثميناً من حياة عملية السلام على مسارها الفلسطيني. وأدخل المفاوضات في حالة جمود تام، وفرض على المفاوضين الفلسطينيين إجازة قسرية زادت مدتها على 6 أشهر. وبعد ظهور النتائج وإعلان انتقال السلطة من الليكود إلى العمل وفوز قوى اليسار والوسط بأغلبية مقاعد الكنيست، عادت الروح إلى المفاوضات على مساراتها الثلاثة، الفلسطيني والسوري واللبناني، وانتعش الأمل بتحقيق تقدم ملموس خلال فترة قصيرة. كما أوجدت النتائج ظروفاً محلية وإقليمية ودولية مؤاتية لإعادة قطار السلام إلى سكته الأصلية، وزادت في قدرة الراعي الأميركي على التأثير في حركته، والقيام بدوره بقدر من الإحراج أقل كثيراً من الذي واجهه في عهد حكومة نتنياهو.

فهل ستمكّن نتائج الانتخابات الإسرائيليين والفلسطينيين من حل نزاعهم التاريخي وصنع سلام عادل ودائم؟ وهل سيكون براك قائداً سياسياً صانعاً للتاريخ، أم سيبقى عسكرياً يتقن الهجوم بالدبابات، ويجيد قيادة العمليات الخاصة، براً وبحراً وجواً؟ لقد قاده تاريخه الأمني العسكري، وتخبط نتنياهو ونفور أغلبية الإسرائيليين منه وتفكك الليكود... إلخ، إلى رئاسة الحكومة، فهل سيتردد في شن هجوم حاسم لصنع السلام الحقيقي بين الشعبين؟ أسئلة كبيرة وكثيرة تنتظر القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية، ولا يمكنهما التهرب طويلاً من الإجابة عنها، فالشارعان الفلسطيني والإسرائيلي يلحان في الحصول على الجواب، وكل الدول المعنية بصنع السلام في المنطقة تنتظره. وسيصطدم الطرفان، الفلسطيني والإسرائيلي، بهذه الأسئلة في أول لقاء يجمعهما، سواء كان ثنائياً، أو ثلاثياً بحضور الرئيس كلينتون، أو خماسياً بحضور الرئيس كلينتون والرئيس مبارك والملك عبد الله.

وأياً تكن العوامل التي دفعت الناخب الإسرائيلي إلى إحداث التغيير، فإن تبدل نظام الحكم في إسرائيل يشير، ضمن أمور كثيرة، إلى عودة أغلبية المجتمع الإسرائيلي إلى التعامل بواقعية مع قضايا الصراع العربي - الإسرائيلي، والتكيف وفق الوضع الدولي الجديد. والقول إن براك صقر متنكر في ريش حمامة، أو ليكودي في لباس حزب العمل، وإن الفوارق بين الليكود والعمل بسيطة وشكلية وغير جوهرية في القضايا الأساسية... إلخ يمكن فهمه فقط في حال أُدرج في خانة ممارسة الضغوط السياسية، والتفاوض عبر وسائل الإعلام، أو في إطار الرد على بعض المواقف المتطرفة التي ظهرت في إبان الحملة الانتخابية. لكن هذا القول يصبح غير مستوعب وضاراً ومربكاً بالنسبة إلى الموقفين الفلسطيني والعربي، ويفقد صنّاع القرار القدرة على استغلال الظروف الملائمة واشتقاق توجهات صحيحة ووضع خطط تفاوضية منتجة إذا عكسوا الأمور الثلاثة التالية أو واحداً منها: أولاً، النظر إلى نتائج الانتخابات الإسرائيلية من زاوية ضيقة تطل فقط على الفوارق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت في مواقف الأحزاب في إبان الحملة الانتخابية، وخصوصاً برنامجي الحزبين الكبيرين. فمثل هذه النظرة يقود إلى التعامل مع الوضع الجديد وآفاقه المستقبلية من زواياه الشخصية والحزبية والمحلية الإسرائيلية الضيقة، ولا يبيّن دور تواصل عملية السلام وما انبثق منها من اتفاقات وعلاقات سلام، خلال 8 أعوام تقريباً، في التغيير الذي حدث في إسرائيل. ثانياً، قراءة مغلوط فيها لأثر التطورات الدولية والإقليمية في حركة المجتمع الإسرائيلي وسياسة حكوماته. فمثل هذه القراءة يسقط تأثير العوامل الخارجية في المرتكزات الفكرية والتنظيمية والاجتماعية للنظام السياسي في إسرائيل، ويغفل دور تصادم نتنياهو مع التوجهات الأميركية ومقاومته "الباسلة" لرياح التغيير التي هبت على المنطقة وظهور نظام القطب الواحد بعد انتهاء الحرب الباردة، وتأثيرها في خيارات الناخب الإسرائيلي. كما يسقط مفعول العلاقة الحميمة بين حزب العمل والإدارة الأميركية وقدرة الأخيرة على التأثير في السياسة الإسرائيلية في عهد حكومة براك. ثالثاً، الارتباك والتردد عند المنعطف الحاسم، والهروب في اللحظة الحرجة من مواجهة استحقاقات المرحلة الجديدة التي دخلتها المفاوضات والعلاقات العربية - الإسرائيلية، بعد تأليف الحكومة الإسرائيلية وزيارة رئيسها براك لواشنطن.

ولا مجازفة في القول إن الاستعداد العالي الذي يبديه براك للتكيف وفق السياسة الأميركية، وللانسجام مع الوضع الدولي والتعامل بواقعية أكبر مع مقتضياته كاملة على المسارين السوري واللبناني، ومع المقتضيات الجزئية على المسار الفلسطيني، مع التشديد على جزئية، سيقود إلى إيجاد حقائق جديدة في المنطقة قادرة، مع الزمن، بديناميتها وبآليتها الذاتية، على تعميق الواقعية في الفكر السياسي الإسرائيلي أكثر فأكثر، وعلى دفع القناعات الأيديولوجية التوسعية والمعتقدات الغيبية المثالية بالتدريج إلى الوراء، تاركة لمن يشاء حق الاحتفاظ بها في أعماق الضمير. كما أن استعداده هذا سيقود إلى إيجاد حقائق سلام جديدة على الأرض تربك توجهات اليمين الإسرائيلي إذا عاد إلى السلطة بعد أربعة أعوام. وإذا كان سقوط نتنياهو المدوي من رئاسة الحكومة وانسحابه بسرعة من الحياة السياسية، وخسارة الليكود واليمين القومي عدداً كبيراً من مقاعد الكنيست، مكسبين مهمين لصنع السلام في المنطقة، ولبناء علاقات فلسطينية/عربية - إسرائيلية أفضل، فمسيرة المفاوضات على المسار الفلسطيني والاتفاقات التي انبثقت منها ساهمت في تحقيقهما.

إضافة إلى ذلك، سيولي براك مسألة الأمن أهمية استثنائية طوال عهده. وكان تفوقه على نتنياهو بفارق كبير من الأصوات تفويضاً شعبياً قوياً للأمن قبل السلام. وعلى المفاوض الفلسطيني أن يضع في اعتباره أن حكومة براك ستعمل، في أعوام حكمها، على تكريس الفصل بين الشعبين وفق مفهومها التوسعي القائم على تعديل الحدود، وضمن استراتيجيا أمنية، بعيدة المدى، تصون هوية إسرائيل كدولة يهودية، وتغلق الطريق أمام إمكان تحولها إلى دولة ثنائية القومية. كما ستسعى الحكومة لتحسين صورة الموقف الإسرائيلي التي شوهها نتنياهو، وذلك عبر رفع مستوى التنسيق الثنائي المسبق مع الإدارة الأميركية، والتشاور مع الدول الأوروبية. ولن يجد براك صعوبة كبيرة في تمييز مواقفه تجاه السلام من مواقف سلفه نتنياهو. ويكفيه استئناف المفاوضات مع السوريين وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه مع الفلسطينيين ليسجِّل لنفسه هذا التمايز، ويمتص الضغوط الأميركية والأوروبية التي تعرضت لها إسرائيل في إبان حكم الليكود. ويمكن القول، سلفاً، إنه غير مستعد لتقديم تنازلات جوهرية على الجبهات الثلاث، الفلسطينية والسورية واللبنانية، دفعة واحدة وفي وقت واحد، باعتبار ذلك، من وجهة نظره، خطراً على أمن إسرائيل وسلامتها، ويفوق قدرة المجتمع الإسرائيلي - المنقسم على نفسه - على التحمل، ويفجر التناقضات الأيديولوجية والصراعات الحزبية الكثيرة التي طفت إلى السطح بعد الانتخابات. فالاتفاقات المتوقعة، مهما تكن مجحفة بالحقوق العربية، ستتضمن إجراءات وخطوات إسرائيلية ملموسة اعتبرها البعض، لفترة طويلة، تنازلات خطرة.

أولوية براك للمسارين السوري واللبناني

أكد براك، في كل الاتصالات الدولية والعربية والفلسطينية التي تمت بعد الانتخابات بشأن التفاوض مع الفلسطينيين، أن حديثه عن الانسحاب من الجنوب اللبناني خلال عام لا يعني إهمال المسار الفلسطيني، وأنه سيباشر تنفيذ بقايا اتفاق "واي ريفر" في وقت قريب. وسيعطي الأولوية للتعليم ولإيجاد فرص عمل جديدة للعاطلين عن العمل في إسرائيل وليس للاستيطان، وسيتعامل مع المستوطنين كما تعامل رابين معهم. وأكد رغبته في بناء مفاوضات جدية متواصلة فيما يتعلق بقضايا الحل النهائي، والتوصل إلى اتفاق بشأنها خلال وقت قصير، إذا ليّن الفلسطينيون مواقفهم. أعتقد أنه جاد، بحدود، فيما قاله عن تنفيذ اتفاق واي ريفر، وخصوصاً أن إصرار القيادة الفلسطينية على تنفيذه يلقى تفهماً أميركياً ودعماً أوروبياً قوياً. لكن حديثه عن إعطاء أولوية للمسار الفلسطيني ولمفاوضات الحل النهائي يفتقر إلى الدقة والصدق حتى لو كرره عدة مرات. فبراك خاض معركته الانتخابية تحت شعار "إسرائيل واحدة ودولة الجميع، وإيهود براك رجل الأمن والسلام"، وهو شعار لم يكن مجرد دعاية موقتة. وقد التزم براك أمام ناخبيه ومنافسيه موقفين أساسيين عمليين: الأول إجراء استفتاء شعبي في أي اتفاق يتم التوصل إليه بالنسبة إلى قضايا الحل النهائي مع الفلسطينيين، والتي لم يحدد تاريخ انتهاء المفاوضات بشأنها، علماً بأن المرحلة الانتقالية انتهت في 4 أيار/مايو الماضي؛ الثاني سحب الجيش الإسرائيلي من الجنوب اللبناني خلال فترة أقصاها عام، ووضع ترتيبات أمنية تضمن عدم تعرض مواقعه العسكرية والقرى والمدن الشمالية لهجمات عسكرية، وتفك ارتباط الجيش بقوات أنطوان لحد وتعفيه من تحمّل مسؤولية مصيرها.

ويعرف براك أن الوفاء بالتزامه الثاني يستوجب استئناف المفاوضات مع السوريين، بشأن الانسحاب، من حيث توقفت في عهد رابين وبيرس، والتوصل إلى اتفاق معهم على الانسحاب من الجولان قبل تسوية الوضع في الجنوب اللبناني. فالمساران، السوري واللبناني، أصبحا توأمين مترابطين في المصالح ومتلازمين في الحركة على طريق الحرب والسلام، ولا مصلحة للبنان في فك الترابط بينه وبين سورية. ومصالح سورية العليا تدفع قيادتها إلى تأخير أي اتفاق لبناني - إسرائيلي إلى حين الاتفاق، كحد أدنى، على الخطوط العريضة لـ "إعلان مبادئ" لحل مشكلة الجولان، وعلاقاتها باللبنانيين - حكومة ومجلس نواب وقوى سياسية - تؤمّن لها ذلك. وأظن أن إيعاز قيادة الجيش الإسرائيلي مؤخراً إلى عميلها أنطوان لحد في سحب قواته من جزين، ليس سوى محاولة لإحياء فكرة "جزين أولاً" التي طرحت خلال رئاسة براك هيئة الأركان، وإشارة سلام عملية وملموسة مقدمة، بموافقة براك وعلم الإدارة الأميركية، من القيادة الإسرائيلية إلى سورية ولبنان وحزب الله، هدفها تأكيد أولوية المسار اللبناني، وتتضمن محاولة رسم نموذج أولي للوضع المستقبلي في الجنوب اللبناني بعد الانسحاب. وهي محاولة لدق إسفين بين حزب الله والحكومة اللبنانية والسوريين، واختبار لسلوكه ومدى قدرة السلطة اللبنانية الرسمية على السيطرة على المناطق التي يتم الانسحاب منها، ومدى نجاحها في تحمل مسؤولية حفظ الأمن العام في هذه المناطق، ومنع المقاومة الوطنية اللبنانية من استخدامها قواعد لانطلاق عملياتها القتالية ضد إسرائيل.

ويدرك براك، أكثر من غيره، أن الأوضاع الدولية والإقليمية مهيأة لانطلاقة تفاوضية جديدة قوية على المسارين السوري واللبناني، وأن الشروع في المفاوضات مع السوريين من النقطة التي توقفت عندها في عهد بيرس سنة 1996، والتي يعرفها جيداً بحكم مشاركته فيها، يمكّنه من تحقيق هذا الهدف والوفاء بالتزامه الذي قطعه على نفسه أمام ناخبيه. وسيجد في قيادة حزب العمل مَن يدعم موقفه بقوة، وخصوصاً مَن صاروا مقتنعين بأن السلام والتطبيع مع العرب يمران عبر طريق حيفا - دمشق لا عبر مسار التفاوض مع الفلسطينيين. وبالإضافة إلى ذلك تلقى توجهات براك لإعطاء أولوية للمسارين السوري واللبناني ترحيباً حاراً من الإدارة الأميركية ومجموعة الدول الأوروبية، فهو يلبي، في هذه الفترة، متطلبات توافق سياسة حزب العمل مع مصالحها في المنطقة، وضمنها تواصل عملية السلام واستقرار أوضاع المنطقة، وانفتاح الدول العربية على إسرائيل وتشكيل سوق اقتصادية واحدة. وقد قالت وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، مؤخراً، أمام جماعة يهودية أميركية إنه "بعد الانتخابات الإسرائيلية سنحض الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، على تنفيذ الالتزامات المستحقة من اتفاق واي ريفر." وأضافت: "سنكون مستعدين لبذل جهود جديدة لاستئناف المفاوضات وتحقيق تقدم جوهري على المسارين السوري واللبناني." ويعتقد أركان الإدارة الأميركية أن الأوضاع سانحة للتوصل إلى اتفاق على هذين المسارين - غير متوفرة على المسار الفلسطيني - قبل رحيل الرئيس كلينتون عن البيت الأبيض وإجراء الانتخابات الأميركية أواخر السنة المقبلة، وأن هذا الاتفاق سيكون، لو تم، اختراقاً نوعياً يحققه الرئيس كلينتون على طريق صنع السلام في المنطقة شبيهاً بالاختراق الاستراتيجي الذي حققه الرئيس الأميركي جيمي كارتر في كامب ديفيد في عهد مناحم بيغن.

لا شك في حق وواجب القيادة السورية العمل بأسرع وقت لتحرير أرضها وتوقيع الاتفاقات التي تمكّنها من تحقيق هذا الهدف القومي الكبير، تماماً كما مارست القيادة الفلسطينية حقها في توقيع اتفاق أوسلو وما تلاه من اتفاقات. وبديهي القول إن الاتفاق لن يتم من دون اتفاق السوريين واللبنانيين على وجود دولي أو أميركي على الأرض، ومن دون توفير الضمانات السياسية والقانونية الدولية التي تطلبها إسرائيل، وإنهاء حالة الحرب القائمة بين الطرفين، وتطبيع العلاقات التجارية والسياحية والثقافية وتبادل السفراء في إطار معاهدة سلام دائم. وسيطالب الجانب الإسرائيلي قبل توقيع الاتفاق أو بعده بتفعيل مفاوضات متعددة الأطراف، وبعث الحياة في المؤتمر الاقتصادي الشرق الأوسطي ومشاركة سورية فيهما. وأياً تكن تفصيلات الترتيبات الأمنية الواسعة التي ستطالب بها حكومة براك، وخصوصاً بشأن قمم جبل الشيخ الاستراتيجية، والسفوح الغربية للهضبة المسيطرة على منطقة الحولة وطبرية والأغوار الشمالية، فالاتفاق بشأن الجولان سيعيد حتماً كامل الهضبة إلى السيادة السورية تماماً كما عادت سيناء إلى مصر قبل نحو 20 عاماً، ويحرر الاقتصاد السوري والشعب السوري من النفقات الباهظة والإجراءات الأمنية الاستثنائية التي فرضتها، أعواماً طويلة، متطلبات حالة الحرب مع إسرائيل، ويفتح آفاقاً رحبة لتعزيز الديمقراطية في الحياة السياسية السورية، ويحرر مساحة مهمة من الأرض الفلسطينية، "قطاع الحمة"، بقيت تحت السيطرة السورية منذ سنة 1948 حتى حرب حزيران/يونيو 1967. وإذا كان الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ عرض، أوائل الستينات، على الفلسطينيين استلام تلك المنطقة وإقامة نواة دولة فلسطينية عليها، فلن يتعذر على القيادتين السورية والفلسطينية وجامعة الدول العربية الاتفاق على إعادتها إلى أصحابها وتمكين الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين من الإقامة بها وتحقيق حلمهم بالعودة.

وبصرف النظر عن رأي القوى العربية الرسمية والشعبية المعارضة لعملية السلام، فالاتفاق السوري - الإسرائيلي القادم يرسي أسساً إضافية نوعية لصنع سلام حقيقي، شامل وعادل في المنطقة، ولبناء علاقات سلمية نامية بين شعوبها. كما يعزز الاتفاق مواقع المعتدلين وقوى السلام في إسرائيل على حساب القوى اليمينية المتطرفة، ويجعل السلام نهجاً راسخاً لا رجعة عنه لسنوات طويلة، ويصلب عود الاتفاق الأردني - الإسرائيلي الطري، ويزيد في قدرة القيادتين المصرية والأردنية على الحركة وأداء دور فاعل في بناء علاقات عربية - إسرائيلية سليمة تضمن مصالح الجميع، وتسهل عليهما القيام بدور مساند للفلسطينيين في مفاوضات قضايا الحل النهائي: القدس؛ المياه؛ الحدود؛ اللاجئين؛ الأمن؛ وخصوصاً أن بعض هذه القضايا لا يخص الفلسطينيين وحدهم. وحزب العمل لا يعارض، كما الليكود، قيام هاتين القيادتين بدور مساعد في المفاوضات. إذ لا يمكن تصور توصل الفلسطينيين إلى اتفاقات بشأن هذه القضايا من دون تنسيق مسبق مع الأردن ومصر ولبنان.

تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية يعزز الموقف الفلسطيني

أمّا بشأن المفاوضات مع الفلسطينيين فيما يتعلق بقضايا المرحلة الانتقالية المؤجلة فالواضح أنها ستركز على تنفيذ بقايا اتفاق واي ريفر، وبقية قضايا المرحلة الانتقالية التي التزمها نتنياهو ولم ينفذها. وتنفيذ براك لها يعزز صدقيته داخلياً وخارجياً، وينسجم مع التوجهات الأميركية، ويمتص أي ضغوط دولية وإقليمية محتملة على إسرائيل لتحقيق تقدم سريع ملموس في مفاوضات الحل النهائي، وينقل معظمها إلى الطرف الفلسطيني. ولن يجد براك معارضة داخلية قوية قبل التنفيذ أو بعده، فنتائج الانتخابات وفوزه الساحق على نتنياهو وعودة حزبه بقوة إلى السلطة متحرراً من ابتزاز الأحزاب اليمينية الدينية والعلمانية، الصغيرة والكبيرة، تسهل عليه أمر التنفيذ، وخصوصاً أن حكومة نتنياهو وافقت على هذه القضايا، وبعضها مضى عليه أعوام، والمعارضة مشتتة. لكن براك سيحاول المساومة في شأن هذه القضايا، وتراوده أحلام دمجها كلها أو، في الحد الأدنى، دمج المرحلة الثالثة من الانسحاب في مفاوضات قضايا الحل النهائي. وسيطالب قبل التنفيذ بالتزامات فلسطينية جديدة، بعضها يتعلق بمحاربة الإرهاب وبأمن المستوطنين والمستعمرات، وبعضها الآخر يتعلق بمفاوضات الحل النهائي وتأجيل إعلان الدولة إلى حين الاتفاق على عاصمتها وحدودها وأمنها ومياهها وحركة الدخول إليها والخروج منها. وسيعمل على برمجة عملية التنفيذ في جرعات صغيرة، ووفق أجندة معقدة وجدول زمني طويل يحتفظ بهما لنفسه وليس وفق أمنيات الفلسطينيين. وسيلمس المفاوض الفلسطيني تشدداً إسرائيلياً بشأن الأمن والانسحاب من الأرض لا يقل عن تشدد نتنياهو، ولا سيما أن الانسحابات الجديدة ستؤثر في وضع عدد من المستعمرات. فبراك كان تحفّظ من اتفاق أوسلو فور إعلانه، وحشد موقف ضباط الأركان خلفه، وفرضوا عدم قدسية التواريخ الواردة فيه. وهو صاحب فكرة تقسيم الأرض الفلسطينية إلى مناطق "أ"، "ب"، "ج"، وأن مرحلة الانسحاب منها تكون على فترات متباعدة. وكان على رأس دعاة الاتفاق أولاً على الخرائط النهائية للضفة والقطاع قبل وضع خطط الانسحاب المرحلية.

إذا كان لبراك مفهومه الخاص بشأن تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية ويرغب في دمج بعضها في مفاوضات الحل النهائي، أو في فتح مسار مستقل لها يستعمله للمماطلة، فمن حق الجانب الفلسطيني ربط الدخول في مفاوضات الحل النهائي بثلاث مسائل رئيسية: الأولى تحديد تاريخ واضح وجدول زمني محدد بـ "اليوم والساعة" لإغلاق ملف قضايا المرحلة الانتقالية إغلاقاً تاماً، وضمنها المرحلة الثالثة من الانسحاب التي نص عليها اتفاق أوسلو، والتمسك بموقف يقوم على رفض الدخول في مفاوضات بشأن قضايا الحل النهائي قبل تنفيذ هذه القضايا المؤجلة من المرحلة الانتقالية، أو في الحد الأدنى، وضع جدول زمني محدد لتنفيذها، وخصوصاً أن الفترة الزمنية المحددة لانتهاء المرحلة الانتقالية، ولمفاوضات الحل النهائي انتهت؛ الثانية الحصول على قرار إسرائيلي رسمي ملزم بوقف كل الأعمال الاستيطانية وقفاً نهائياً وشاملاً وتأليف لجنة مراقبة أميركية أو لجنة مشتركة لمراقبة الوضع على الأرض، والإصرار على إزالة كل البؤر والمواقع الاستيطانية التي أقيمت بعد اتفاق واي ريفر؛ الثالثة، تحديد سقف زمني لنهاية المفاوضات بشأن قضايا الحل النهائي. وهذه المسائل الوطنية الكبرى تستحق الدخول في اشتباكات تفاوضية قوية مع حكومة براك وتحويلها إلى امتحان حقيقي لمواقف اليسار الإسرائيلي والجناح المعتدل في حزب العمل، وخصوصاً أن اتفاقات الطرفين تتضمن هذه المسائل بنصوص واضحة، وأن تعهدات الراعي الأميركي ضمنتها كاملة.

لا شك في أن تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية يدفع بعملية السلام خطوات كبيرة إلى الأمام، ويعيد إليها بعض صدقيتها التي فقدتها خلال عهد الليكود، ويمكّن الفلسطينيين من تحقيق إنجازات إضافية، عن طريق انتزاع مزيد من حقوقهم الوطنية وإضافتها إلى ما انتزع سابقاً، ويساعدهم في تصليب أوضاعهم فوق أرضهم، ويقربهم من أهدافهم في التحرير وإقامة الدولة، ويحسن موقفهم على الصعيدين العربي والدولي ومع الإسرائيليين، ويقوي أوراقهم في مفاوضات الحل النهائي اللاحقة. فتنفيذ بقايا اتفاق واي ريفر يؤدي إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي من 10% من الأرض، ونقل 14% من منطقة "ب" إلى منطقة "أ" يعني دحراً جزئياً للاحتلال وتحرير أجزاء إضافية من الأرض يرفع نسبتها الإجمالية إلى 44%، وتحرير أعداد إضافية من السكان تقدر بـ "نصف مليون تقريباً" يرفع نسبتهم إلى ما يزيد على 95%، وينقلهم إلى أوضاع وحياة أفضل قياساً بأوضاعهم وحياتهم القائمة، فضلاً عن القيمة المعنوية الكبيرة لتحرير نحو 600 معتقل من السجون الإسرائيلية. وغني عن القول إن استكمال بناء الميناء، وتشغيل مطار من دون منغصات، وفتح الممرين الآمنين بين الضفة والقطاع وضمان استمرارهما مفتوحين، كل هذا يساعد على توحيد اقتصاد السوق الفلسطينية، وينهي الكثير من عذابات المواطنين الفلسطينيين الناجمة عن التنقل والاعتقال على المعابر والطرقات، ويمكّنهم من قطف بعض ثمار عملية السلام التي حرموا تذوقها، ويقود إلى فقدان الجانب الإسرائيلي عدداً من أوراق الابتزاز والضغوط الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي يستخدمها ضد الفلسطينيين، سلطة وشعباً. كما يحسن موقع السلطة في صفوف قطاع واسع من الفلسطينيين، وخصوصاً الغزيين المحرومين من الوصول إلى الضفة الغربية للقاء أهلهم وللدراسة وللعلاج. وقد يخلص القيادة الفلسطينية من تهمة القفز على حرية حركة المواطنين في مقابل أقل من 400 بطاقة VIP. أعتقد أن تحقيق كل هذه المكاسب المهمة ممكن في عهد براك، ويستحق توحد الفلسطينيين في سبل إنجازها ووضعها في قمة أولوياتهم الوطنية، وتكييف مواقفهم الداخلية والخارجية لتحقيقها خلال أقصر فترة زمنية ممكنة. وعلى الفلسطينيين المستهترين بهذه المكاسب ألاّ ينسوا أن رفض الاتفاق وتعطيل تنفيذه يعنيان بقاء أجزاء من الأرض والشعب تحت الاحتلال، وأن كلاً من الكفاح المسلح الفلسطيني خلال ثلاثين عاماً، والتضحيات العربية طوال نصف قرن، لم يحرر شبراً من الأرض الفلسطينية.

مفاوضات الحل النهائي طويلة ومعقدة

صحيح أن حزب العمل هو صاحب اتفاق أوسلو وتوابعه، وأنه يدعو إلى الفصل بين الشعبين، وأنه أسقط من برنامجه معارضة قيام دولة فلسطينية، وأن عدداً من قادته يرى في نتائج الانتخابات الإسرائيلية تفويضاً شعبياً قوياً للحزب، بقيادة براك، للتوصل إلى اتفاقات نهائية على المسارات الثلاثة، إلاّ إن هناك أيضاً مَنْ يدعو إلى الحذر، ويفكر في التوسع والاحتفاظ بالاستيطان. ولاءات براك الأربع الشهيرة، التي رفعها الحزب خلال حملة الانتخابات، تدينه بالجرم المشهود: "لا لتقسيم القدس عاصمة إسرائيل الموحدة؛ لا لعودة اللاجئين؛ لا لإزالة التجمعات الاستيطانية الأساسية؛ لا لوجود جيش قوي غربي نهر الأردن"، وتكشف تقاطع، إن لم يكن تطابق، لغة حزبه تجاه قضايا الحل النهائي مع لغة اليمين السياسي المتطرف ومواقفه. وبالإضافة إلى ذلك فرؤية بعض أعضاء الحزب الواقعية للسلام مع الفلسطينيين تصطدم بمفاهيم براك الأمنية، وتتعارض مع رؤيته لمخاطر انقسام المجتمع الإسرائيلي وسبل لملمته وتعطيل تفجير صراعاته المتنوعة. ولا تنسجم مع طموحاته الشخصية إلى أن يكون قائداً لـ "إسرائيل واحدة" يراعي مواقف كل الاتجاهات الفكرية والسياسية. إنني أعتقد أن معارضة أعضاء حزب العمل لمواقف القوى اليمينية التي تعتبر الضفة الغربية جزءاً من أرض إسرائيل، ودعوتهم إلى الفصل بين الشعبين، لا تخففان حجم الجريمة التي يفكرون في ارتكابها ضد الحقوق الفلسطينية وضد صنع السلام في المنطقة. فالتباين بين العمل والليكود، بحسب أطروحات براك، بشأن القدس واللاجئين والأمن والمياه شكلي تماماً، إن لم يكن معدوماً، ونسبي فيما يتعلق بتعديل الحدود وبالمساحة المنوي ضمها إلى إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967. ولا أظن أن تبدلاً نوعياً بشأن هذه المسائل سيقع خلال فترة قصيرة في مواقف براك، وقادة حزب العمل الذين يشايعونه رأيه.

لقد بيّنت وقائع 8 أعوام من المفاوضات، ونتائج الانتخابات السابقة والأخيرة، أن تطور الفكر السياسي في المجتمع الإسرائيلي خطا خطوات مهمة نحو الواقعية، لكنه لم يصل إلى مستوى تحقيق مصالحة تاريخية حقيقية بين الشعبين، ولم يرق إلى درجة الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، بما فيها حقه في إقامة دولته على الأراضي التي احتلت سنة 1967 وعاصمتها القدس. فأغلبية المجتمع الإسرائيلي ترفض التقدم في اتجاه حل عادل لقضية القدس يقبل الفلسطينيون به، وتصر على بقاء القدس عاصمة لإسرائيل وحدها. وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم خلال 1947 - 1948 مرفوض تماماً، لا من قوى اليمين فقط، بل أيضاً من الأحزاب الإسرائيلية جميعها. أمّا قضية تعويض اللاجئين عن أراضيهم وأملاكهم التي سلبت منهم، فالواضح أنها قضية شائكة ومعقدة، وخصوصاً أن هناك من يفكر في ربطها بقضية المهاجرين اليهود من الدول العربية، والتفاوض في شأنها سيستغرق أعواماً، والشيء ذاته ينطبق على عودة النازحين. وهذا يعني بقاء نصف الشعب الفلسطيني الموجود في الشتات لاجئاً في عهد براك، وبقاء قضاياه والقضية الفلسطينية برمتها معلقة من دون حلول. فقضية اللاجئين هي جوهر القضية الفلسطينية، ومن دون حلها لا حل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، والشيء ذاته ينطبق على الاستيطان والحدود والأمن. وإصرار براك على السيطرة على أحواض المياه الجوفية في الضفة الغربية، وعلى إجراء تعديلات واسعة في الحدود، وعلى ضم التجمعات الاستيطانية الكبيرة إلى إسرائيل، هي ترجمة لمفاهيمه الأمنية التوسعية وللفصل بين الشعبين، ستصطدم عاجلاً أو آجلاً بموقف فلسطيني يرفض منح إسرائيل أراضي جديدة، ويصر على خضوع المستعمرات أمنياً وسياسياً للسيادة الفلسطينية، أو إيجاد حل لها يتجاوز ضمها إلى إسرائيل وإخضاعها لسيادتها. ولا تستطيع القيادة الفلسطينية التفريط في الدولة وفي القدس عاصمة لها. كما لا يمكنها التصرف في قضية اللاجئين والقضايا الكبرى الأُخرى من دون الرجوع إلى الشعب في كل أماكن وجوده. فالمفاوضات بشأن المرحلة الانتقالية وقضاياها أمر يختلف عن المرحلة النهائية.

من غير المفيد الدخول الآن في مناقشة هل كان تأجيل إعلان قيام الدولة قراراً صائباً أم قراراً مغلوطاً فيه؟ وإذا كان متعذراً تقدير أثر التأجيل في إطاحة نتنياهو، فالتأجيل حدث، والأضرار وقعت، وإعلان قيامها بات أكثر تعقيداً. ويصعب على القوى الدولية المؤيدة لحق الفلسطينيين في دولة، استيعاب التأجيل إذا تم قبل استئناف المفاوضات بين الطرفين. وعلى القيادة الفلسطينية أن تدرك مسبقاً أن الضغوط الأميركية والدولية من أجل تأجيل آخر ستبقى وستزيد خلال عهد براك، وأن موقف أركان البيت الأبيض الداعي إلى ربط قيام الدولة بنتائج مفاوضات الحل النهائي لن يتغير ما لم يتغير موقف إسرائيل. وإذا كان إعلان قيام الدولة سيُتخذ ذريعة لتعطيل تنفيذ مستحقات واي ريفر، فإعادة النظر فيه أمر مشروع، مع الاحتفاظ به حقاً مبدئياً ثابتاً، وتحديد تاريخ ممارسته.

إنني أعتقد أن الأوضاع الدولية، السائدة والمرئية، لا تتجه نحو إلزام إسرائيل بقبول حلول عادلة وشاملة لقضايا الحل النهائي الشائكة. وهذه المرة ليست أول مرة تتهيأ فيها أوضاع إقليمية ودولية وتسنح فرصة مؤاتية لتقدم نوعي في عملية السلام، لكنها تتبخر وتضيع في زحمة الصراعات المحلية وتردد الإدارة الأميركية. وبصرف النظر عن الكلام الأميركي المعسول، الذي سمعته القيادة الفلسطينية قبل الانتخابات الإسرائيلية وبعدها، بشأن الإسراع في مفاوضات الحل النهائي، فمن الخطأ الرهان على إمكان رفع سقف الموقف الأميركي، في عهد براك وحزب العمل، إلى مستوى ممارسة ضغوط جدية على إسرائيل، وإقفال ملفات مفاوضات الحل النهائي خلال عام واحد كما تأمل إدارة كلينتون. وإذا كان إنجاز عدد قليل من قضايا المرحلة الانتقالية السهلة استغرق 6 أعوام، ففي الإمكان تقدير عدد أعوام المفاوضات في عهد براك بشأن قضايا الحل النهائي المعقدة. فقضايا الخلاف جوهرية، ولاءات براك الشهيرة عقّدتها أكثر، وحلها أو حلحلتها يتطلب تدخلاً أميركياً يصعب الحصول عليه قبل مطلع سنة 2001، وخصوصاً أن الإدارة الأميركية مرشحة للاستمرار في الانشغال بترتيب أوضاع البلقان، وستنشغل في الشهور المقبلة باستئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، ومع مطلع السنة المقبلة ستدخل معركتها الانتخابية ضد الجمهوريين. وأظن أن الإدارة الأميركية ستستجيب لطلب براك تقليص تدخلها المباشر في المفاوضات مع الفلسطينيين، والاكتفاء بدور الراعي لها عن بعد، وخصوصاً إذا التزم براك تنفيذ اتفاق واي ريفر. ويبدو أن أولبرايت ومساعديها مقتنعون بأن في إمكان الطرفين، في عهد حزب العمل، تحقيق تقدم مقبول من دون الحاجة إلى الرمي بثقلهم وثقل الرئيس كلينتون كما فعلوا في عهد الليكود. كما أنهم أقنعوا أنفسهم بأن تنفيذ بقايا اتفاق واي ريفر واستمرار الدعم المالي للسلطة الوطنية فقط يرضيان الفلسطينيين بصورة أو بأُخرى. لذا فإنهم لن يغيروا مواقفهم من دون أزمة في المفاوضات ومن دون تأزيم للوضع على الأرض. وإذا كان الدور الأميركي مرشحاً، في عهد براك، للتراجع من دور الشريك المباشر في المفاوضات إلى دور الراعي لها خارج غرف المفاوضات، فالصوت الأوروبي الذي سمعناه في عهد نتنياهو بشأن دعم إعلان قيام الدولة بقوة قبل نهاية السنة الجارية مرشح للخفوت والضياع في ضجيج المفاوضات على مساراتها الثلاثة.

لا شك في أن المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على السلطة وعلى قيادة م.ت.ف. عدم تحمّل مسؤولية تدمير عملية السلام، وتجنب التصادم مع الإدارة الأميركية، والعمل على تطوير مواقف الأشقاء، وتوسيع جبهة الأصدقاء، ومراكمة مزيد من الإنجازات، والمصالح ذاتها تفرض على السلطة نبذ أي أوهام بشأن التوصل إلى حلول عادلة لقضايا الحل النهائي كلها خلال السنوات الأربع المقبلة. كما تفرض عليها تحضير أوضاعها وإعداد ملفاتها تمهيداً لمعركة دبلوماسية قاسية ومفاوضات طويلة وصعبة، والتمسك بحقها في إعلان قيام الدولة وبسط السيادة على الأرض من دون ربط ذلك بنتائج المفاوضات واختيار التوقيت الملائم له. وأظن أن الوقت حان لإيجاد مؤسسة مفاوضات جدية فاعلة، وإحياء اللجنة الوطنية العليا للمفاوضات، والعمل على استعادة كل المستشارين والخبراء المتخصصين الذين انفضوا لأسباب متنوعة من حول الوفد المفاوض. وبالإضافة إلى ذلك لا بد من إحياء التضامن العربي، ورفع مستوى التنسيق الفلسطيني - السوري - اللبناني - الأردني - المصري، إذا أراد العرب استرداد أقصى ما يمكن استرداده من حقوقهم. ولا بد من الاتفاق على استراتيجيا موحدة تعالج السيناريوهات المحتملة، والسعي لوضع خطوط عربية حمر في مواجهة لاءات براك. فالمفاوضات في عهد حزب العمل مرشحة للدخول، على كل مساراتها، في مرحلة جديدة يتشابك فيها الوطني بالقومي، وتحمل في طياتها تسابقاً بين المسارين، السوري واللبناني، إلى من ينال أولوية في التفاوض ومن يوقع اتفاقه أولاً. وفكرة "جزين أولاً" جزء من خطة قديمة هي "لبنان أولاً"، وتتضمن بحسب التوجهات الإسرائيلية الفصل، بصيغة أو بأُخرى، بين المسارين السوري واللبناني. إن البحث في قضايا القدس واللاجئين والنازحين والحدود والأمن والمياه على المسار الفلسطيني طويلة وشاقة، وتطال المصالح العليا والأمن القومي للدول العربية المحيطة بفلسطين. والشيء ذاته ينطبق على أي اتفاق بشأن الجولان قبل الاتفاق على استراتيجيا عربية موحدة. وبالإضافة إلى ذلك، فإحياء المفاوضات على المسار السوري - الإسرائيلي، واحتمال التوصل إلى اتفاق خلال عام، يثيران مخاوف فلسطينية واقعية ومشروعة مسبقة إزاء انشغال الإدارة الأميركية بالمسار السوري واستفراد الجانب الإسرائيلي القوي بالطرف الفلسطيني بعد حل مشكلة الجولان. وقد تُفجَّر صراعات عربية جديدة إذا ذهب السوريون واللبنانيون والفلسطينيون إلى المفاوضات من دون تنسيق مسبق، وخصوصاً أن الاتصالات الأولية لعقد قمة عربية موسعة أو مصغرة من أجل مناقشة انعكاس نتائج الانتخابات الإسرائيلية على أوضاع المنطقة أحيت خلافاتهم القديمة بشأن أوسلو وبشأن مفهوم العلاقة بين مسارات المفاوضات العربية. وإذا كانت تخوفات أركان القيادة الفلسطينية من انعكاس الاتفاق السوري - الإسرائيلي سلباً على مسارهم التفاوضي لها ما يبررها، كما أعتقد، وخصوصاً أن لاءات براك الأربع حاضرة في الأذهان، فالتشكيك في قيمة الانسحاب من الجولان والجنوب اللبناني، قبل حل قضايا الحل النهائي على المسار الفلسطيني، خطأ استراتيجي. وإزالة المخاوف الفلسطينية يمكن أن تتم بموقف عربي موحد يصدر عن قمة موسعة أو مصغرة، ويؤكد أن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال جوهر الصراع في المنطقة، وأن كل الاتفاقات الثنائية العربية - الإسرائيلية، القديمة والجديدة، تبقى ناقصة ولا تؤدي إلى السلام الشامل والدائم ما لم يتم إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية التي احتلت سنة 1967 كاملة، وتسوية قضايا الحل النهائي بصورة عادلة تمكّن الشعب من نيل كامل حقوقه. لقد عارضت سورية انفتاح العرب اقتصادياً ودبلوماسياً على إسرائيل قبل التقدم الحقيقي في المفاوضات، وكانت محقة في معارضتها. لذا فمن حق الجانب الفلسطيني أن يطالب العرب بربط تطبيع علاقاتهم بإسرائيل بتقدم المفاوضات على المسار الفلسطيني، وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. وكذلك من حقه أن يطالبهم بتفعيل حركتهم الداعمة للحقوق الفلسطينية في الساحة الدولية، وبالعلاقة المباشرة مع براك وحكومته. فاستمرار ظهور الفلسطينيين والعرب من دون خطة تفاوضية منسقة، ومن دون مواقف حازمة مشتركة من القضايا الأساسية يلحق أضراراً كبيرة وكثيرة بمصالحهم الوطنية والقومية، ويشجع الطرف الإسرائيلي على التصلب والتمسك بشروطه ومواقفه التوسعية، ويعفي الإدارة الأميركية من تحمل مسؤوليتها، ويسهّل عليها تركيز ضغطها على الأطراف العربية للقبول بأطروحات براك، أو الاستمرار في إدارة الأزمات بدلاً من رمي ثقل لحلها حلاً عادلاً.

ومن المفيد تذكير براك وقادة حزب العمل بأن تجربة المفاوضات الطويلة على المسار الفلسطيني وأكثر من عشرين عاماً من اتفاق كامب ديفيد، بيّنت أن الاتفاقات الثنائية العربية - الإسرائيلية تصنع ترتيبات أمنية، لا سلاماً شاملاً وثابتاً يقوم على التكافؤ واحترام المصالح المشروعة والعادلة. ويخطئ من يعتقد أن السلام يمكن أن يتحقق من دون حل مشكلة القدس واللاجئين الفلسطينيين حلاً عادلاً. وأخطر ما يواجهه النظام الرسمي العربي، بعد فوز براك، هو أن يخطئ في الحسابات ويجد نفسه محاصراً أميركياً وأوروبياً، وأن تتورط أطرافه في موجة جديدة من الصراعات الداخلية تزيده عجزاً على حالة العجز التي يعيشها منذ أواخر العقد الماضي.

السيرة الشخصية: 

ممدوح نوفل: كاتب فلسطيني، عضو في المجلس الوطني الفلسطيني.