يحاول المقال أن يتناول، وصفاً وعلاجاً، ما يعتبر شرخاً اجتماعياً عميقاً في العلاقة الأردنية ـ الفلسطينية هو أخطر ما يرثه العهد الجديد، ولا يغطي هذه العلاقة على المستوى الرسمي. ويتوقف بإيجاز عند أبرز المحطات في هذه العلاقة منذ سنة 1949. وقد دعا الكاتب هذا العهد إلى وضع آليات جديدة ورؤى جديدة وإلى إعادة النظر في الإجراءات الحكومية التي وضعتها الحكومات المتعاقبة بدعوى تنفيذ قرار فك الارتباط الصادر سنة 1988.
في السابع من شباط/فبراير 1999 أعلن رسمياً وفاة جلالة الملك حسين.[1] وأعلن، في الوقت نفسه، تنصيب ابنه الأكبر عبد الله ملكاً على المملكة الأردنية الهاشمية.[2] وكان الأمير عبد الله قد سمي ولياً للعهد قبل أسبوع تقريباً من تنصيبه ملكاً، وذلك بعد أن قام الملك الراحل بتنحية أخيه، الأمير الحسن بن طلال، عن ولاية العهد.
وقد تمت مراسم تنحية الأمير الحسن عن ولاية العهد، وتسمية الأمير عبد الله ولياً للعهد، ومن ثمّ تنصيبه ملكاً بعد وفاة الملك حسين، في هدوء وانتظام دستوري مثيرين للانتباه، إلاّ إنها كانت مراسم ملفوفة بالحزن العام، إذ جرت مراسم تداول الملك في قمة الهرم السياسي الأردني بالتزامن مع مراسم دفن الملك الراحل وحضور دولي بارز في جنازة الملك البالغة المهابة. وبانتهاء مراسم الدفن، انتهت فترة عصيبة في التاريخ الأردني، إذ إن فترة مرض الملك حسين التي استمرت نحو ستة أشهر كانت فترة قلق شديد في الشارع الأردني، وزاد هذا القلق إرهاقاً لأعصاب الناس التساؤلات التي كانت تطرح عن شكل الأردن، إذا رحل الملك حسين، وعن مستقبل علاقاته العربية والدولية. وأهم من هذا وذاك، التساؤلات التي تركزت على مستقبل العلاقة الأردنية - الفلسطينية محلياً، ولا سيما أن الأردنيين من أصل فلسطيني يشكلون الأغلبية السكانية في الأردن. إن طول الفترة التي حكم فيها الملك الراحل، والتي بلغت ستة وأربعين عاماً، وكذلك طول الفترة التي كان فيها الأمير الحسن، ولياً للعهد، والتي بلغت خمسة وثلاثين عاماً، لم يتركا متسعاً لطرح مثل هذه المسألة بهذه الحديّة. فالمواقف والسياسات التي رسخها الملك الراحل كانت، في الغالب، ضمن توقعات الأردنيين الذين اعتادوا نمطه وسلوكه. كما كان حضور الملك حسين، على كل الأصعدة والأنشطة، حضوراً شاملاً، الأمر الذي مكّنه من لجم الأنشطة التي كان يعتقد أنها ضارة بالمجتمع الأردني. ولو جاء بعده الأمير الحسن، لما أثار ذلك تساؤلات محيرة أو أسئلة مثيرة. فقد كان سلوك ولي العهد السابق معروفاً للجمهور الأوسع من الأردنيين، وذلك نتيجة حضوره المستمر في كل أنشطة الدولة إلى درجة أنه أصبح رئيس الحكومة الفعلي في الأعوام الأخيرة. أمّا التطورات التي حدثت قبيل رحيل الملك حسين، من تنحية شقيقه وتسمية ابنه الأكبر وليّاً للعهد، فقد كانت مفاجآت لم يتعودها الأردني العادي من الملك الراحل. وهذا مناط الدهشة التي غمرت الشارع الأردني، ولا سيما أن الملك الجديد لم يكن له حضور سياسي، وإنما كان جندياً بارزاً في أوساط القوات المسلحة.
إن التركة التي وجدها الملك الجديد أمامه ثقيلة بالمعايير كافة. فهو يرث دولة مثقلة بالدون الخارجية، والمواطن الأردني مثقل بالضرائب والجبايات المحلية، والاقتصاد الأردني ينوء بأعباء بطالة لا مثيل لها، وبكساد خانق وإدارة متخلفة. ولو أضفنا إلى ذلك شح الموارد الطبيعية، وخصوصاً المياه، لأدركنا أن الملك عبد الله يواجه، في مطلع عهده، تحدياً قاسياً. إلاّ إن أخطر التحديات التي ورثها العهد الجديد، هي العلاقة الأردنية - الفلسطينية ضمن إطار الدولة الأردنية. فالأردني في القوانين الأردنية ليس الأردني نفسه في الواقع العملي. وهذا الشرخ الاجتماعي العميق هو أخطر ما يرثه العهد الجديد. وهذا ما سيحاول هذا المقال تناوله وصفاً وعلاجاً. ولا بد من التذكير بأن هذا المقال لا يغطي العلاقة الأردنية - الفلسطينية على المستوى الرسمي، أي بين القيادة الفلسطينية وسلطة الحكم الذاتي والقيادة الأردنية.
من المسلمات التي لا يثار بشأنها جدل هي أن عناصر الدولة - أي دولة في العصر الحديث - تتكون من إقليم، وشعب، وحكومة قادرة محلياً ودولياً. وفي السياق الأردني، فإن العنصر السكاني هو أكثر عناصر الدولة الأردنية التباساً. وتبدو الإدارة الأردنية كأنها لا تزال في حيرة من أمرها بشأن تحديد العنصر السكاني. ولو وضعنا رسماً بيانياً لهذه العلاقة لتبين لنا التذبذب الواضح في المسار السياسي الأردني بشأن المسألة السكانية.
ففي أواخر سنة 1949، وهي الفترة الأشد قساوة في حياة الشعب الفلسطيني الذي شردته النكبة، صدر فجأة قانون أردني يكمل قانون الجنسية الأردني الصادر سنة 1928، حيث قرر القانون الجديد إكساء جميع الفلسطينيين الذين لجأوا إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن أو ما زالوا يعيشون في المناطق الخاضعة للإدارة العسكرية الأردنية، أي في المناطق التي لم تحتلها القوات الإسرائيلية، الجنسية الأردنية.[3] وعلى الرغم من المعارضة العربية الرسمية للإجراء الأردني، فإن إكساء الفلسطينيين جنسية أردنية كان عملاً إيجابياً وفر عليهم عذابات وقيوداً لا يزال يعاني جراءها الفلسطينيون الذين يحملون "وثائق السفر" العربية.
وفي 24 نيسان/أبريل 1950 صوّت مجلس النواب الأردني، المكون من عدد متساو من نواب عن الضفتين، على توحيد الضفة الغربية بالمملكة الأردنية الهاشمية.[4] وهكذا تم منح الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون على ضفتي النهر كل الحقوق المقررة للمواطنين الأردنيين، وأعيد إصدار قانون الجنسية الأردنية سنة 1954،[5] الذي نظم المواطنة على أسس متكافئة من دون اعتبار للأصل والمنبت.
وفي الفترة 1949 - 1970، كانت السمة الأغلب للعلاقات الاجتماعية التي تنتظم الأردنيين والأردنيين من أصول فلسطينية علاقات طبيعية ومتساوية إلى حد بعيد. وجاءت أحداث ما يسمى "أيلول الأسود" المأساوية، سنة 1970، لتحدث شرخاً في البنية الاجتماعية الأردنية. وقد أعطت تلك المأساة بعض العناصر المتطرفة من الطرفين أسلحة دعائية قوية لتمجيد الإقليمية والدعوة للاستقطاب.
أمّا المعلم الأبرز في العلاقات الأردنية - الفلسطينية فهو ما يعرف بقرار فك الارتباط الإداري والقانوني بالضفة الغربية. ففي مساء 31/7/1988، ألقى المغفور له الملك حسين خطاباً متلفزاً أعلن فيه فك الارتباط الإداري والقانوني بين المملكة الأردنية الهاشمية والضفة الغربية. وبعد أن أتى جلالته إلى ذكر الأسباب الموجبة لاتخاذه ذلك القرار، قال:
على أنه ينبغي أن يفهم بكل وضوح، وبدون أي لبس أو إبهام، أن إجراءاتنا المتعلقة بالضفة الغربية إنما تتصل فقط بالأرض الفلسطينية المحتلة وأهلها، وليس بالمواطنين الأردنيين من أصل فلسطيني في المملكة الأردنية الهاشمية بطبيعة الحال. فلهؤلاء جميعاً كامل حقوق المواطنة وعليهم كامل التزاماتها تماماً مثل أي مواطن آخر مهما كان أصله...
وعليه فإن صون الوحدة الوطنية أمر مقدس لا تهاون فيه وأي محاولة للعبث بها تحت أي لافتة أو عنوان، لن تكون إلاّ مساعدة للعدو لتنفيذ سياسته التوسعية على حساب فلسطين والأردن سواء بسواء [التأكيد مضاف].
وقد كرر جلالته في مناسبات كثيرة أن من يهدد الوحدة الوطنية فهو عدوه إلى يوم الدين. وهذه التأكيدات الملكية تدل على أن القصد من ذلك القرار "سياسي" أولاً وأخيراً. ولو كان القصد عكس ذلك لوضع جلالته القرار في أطره الدستورية، ولتمّ نشره في الجريدة الرسمية، وهو أمر لم يتم حتى الآن.
إلاّ إن الذي حدث في الفترة التي تلت إعلان قرار فك الارتباط هو مبادرة الأجهزة الحكومية المتعددة إلى ترجمة ذلك القرار ترجمة قانونية. واستقوى بعض مراكز القوى بالقرار لضعضعة الوضع الفلسطيني في الداخل، وتسارعت الإجراءات الحكومية بتجريد الفلسطينيين القاطنين بالضفة الغربية من جنسيتهم الأردنية، واعتبار مواطني الضفة الغربية "أجانب" إذا حضروا للزيارة أو متابعة أعمالهم أو أملاكهم الموجودة في الضفة الشرقية.[6] كما حُرم الابن القاطن بالأردن، بغرض الدراسة في الجامعات الأردنية، الدخول في مسابقات الالتحاق بوظيفة عامة أو البحث عن وظيفة في القطاع الخاص أو السكن في منزله الذي يملكه هو أو والده. أمّا في الزيجات المختلطة فالوضع أصبح مأساوياً، ذلك بأن الإجراءات الحكومية اعتبرت الأردنية المتزوجة من فلسطيني (أردني سابقاً) أردنية وتحتفظ بجنسيتها الأردنية، إلاّ إن أولادها يلتحقون بجنسية الأب. أمّا إذا كان الأب أردنياً ولدى أولاده "لمّ شمل" ويقيمون بالضفة الغربية، فإنهم يعتبرون فلسطينيي الجنسية.[7] وهكذا أصبح الأولاد يحملون "الجينات" السيئة من الأبوين، فإن هم ظلوا مع الأم، لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس أو الجامعات أو الوظائف العامة أو الوظائف في القطاع الخاص، وإن هم التحقوا بالأب المقيم بالضفة الغربية، لم يستطع التفرغ لهم والعناية بهم ولا سيما إن كانوا من طلاب المدارس. وإذا كان الأب مقدسياً، يصبح وضع الأولاد أكثر مأساوية بسبب السياسة الإسرائيلية المتبعة مع العرب في القدس، والتي هي أقرب ما تكون إلى سياسة التطهير العرقي.
أمّا بالنسبة إلى الممارسات داخل الأردن، فإن الأردني من أصل فلسطيني بدأ يشهد معاناة لا تتفق ووضعه كمواطن. فكل من يتقدم بطلب لوظيفة عامة يُسأل عن مكان ولادته، فإذا كان مولوداً في إحدى مدن الضفة الشرقية، لكن اسم عائلته لا ينبئ أنه من العشائر الأردنية، يكون السؤال عن مولد الأب أو الجد. وإذا تبين أنه من جذور فلسطينية استبعد من المسابقة أو من حق تقديم الطلب. ولا يزال الكثيرون من أصحاب المهن لا يستطيعون ممارسة أعمالهم بسبب تلك الأوضاع القانونية الشاذة التي نجمت عن الممارسات الحكومية.[8]
وبدأ خطاب بعض القوى في الفترة الأخيرة يقوم بحملة تثقيف عامة تأكيداً للشرخ الوطني وتعميقاً له. إذ بدأ يظهر في بعض الخطابات مقولة "تقاسمنا مع الإخوة الفلسطينيين لقمة العيش"، وهي أطروحة موجهة إلى الأردنيين الأصليين إيحاء بأنه كان لدى الأردني "لقمة عيش" فتقاسمها مع الفلسطيني، وهكذا ظل الأردني جائعاً بسبب العبء الفلسطيني. والأثر السلبي لهذا الخطاب هو ترديده هذه الأطروحة في زمن الكساد الاقتصادي والبطالة وازدياد معدل الفقر، الأمر الذي من شأنه - بوعي أو من دون وعي - أن يجعل الفلسطيني مستهدفاً باعتباره سبب المشكلة الأردنية. كما يكرر هذا الخطاب مقولة أن الأردن تحمّل عبء هجرات ثلاث، وذلك في إشارة إلى هجرة الفلسطينيين في السنوات 1948 و1967 و1990 (الأخيرة نتيجة الغزو العراقي لدولة الكويت)، كأن القادمين في سنتي 1967 و1990 ليسوا أردنيين بل هم عبء على الأردنيين. ويبدو هذا الخطاب كأنه يقوم بعلمية حقن الشعور العام في اتجاهات مؤذية، تستهدف الأردنيين من أصل فلسطيني.
ومما يزيد في قتامة الصورة هو موقف القضاء الأردني الذي ساير الموقف الحكومي. وقد قبل القضاء تعليمات الحكومة القاضية باعتبار قرار فك الارتباط "عملاً من أعمال السيادة" الأمر الذي يعني - طبقاً لأحكام محكمة العدل العليا - أنه يمتنع على القضاء تناول القرار أو التعرض له. وكان حريّاً بالقضاء أن يتصدى لتعليمات الحكومة باعتبار أن قرار فك الارتباط لم يأخذ شكل القانون ولم يمر بالمراحل الدستورية لإصداره واعتباره قانوناً. كما تعامل القضاء مع إجراءات الحكومة كأنها أنظمة حكومية صدرت استناداً إلى قانون، هذا مع العلم بأن إجراء الحكومات الأردنية المتعاقبة، منذ قرار فك الارتباط، لم تنشر في الجريدة الرسمية. ولو أخذنا موقف القضاء بالنسبة إلى مسألة الجنسية مثالاً، لتوضحت لنا الصورة في أشدّ أوضاعها التباساً. فقد قررت محكمة العدل العليا في سلسلة من قراراتها أن الفلسطيني المقيم، عادة، بالضفة الغربية لم يعد يتمتع بالجنسية الأردنية منذ قرار فك الارتباط، وإنما هو "فلسطيني الجنسية".[9] وهذه الأحكام لم تأخذ في الاعتبار أن الجنسية الأردنية وطرق اكتسابها أو فقدانها قد نظمها قانون الجنسية الصادر طبقاً للدستور، وأن القرارات أو الإجراءات الصادرة عن السلطة التنفيذية لا يمكن أن تعدل قانوناً تم سنه ونشره طبقاً للأصول الدستورية. كما أن هذه الأحكام لم تلتزم المعايير الدولية التي تقرر حق الدولة في تحديد جنسية مواطنيها، لكنها لم تمنح الدولة حق تقرير جنسية الآخرين من غير مواطنيها.
وعلى الرغم من أن محكمة العدل العليا قد أعادت النظر في بعض قراراتها المشار إليها، فإنه من المبكر القول إن المراجعة شاملة واتخذت منحى مغايراً.[10]
وهكذا يتضح أنه خلال أربعة عقود: قامت الحكومة الأردنية سنة 1949 بإكساء الفلسطينيين الجنسية الأردنية من دون طلب منهم، كما قامت سنة 1988 بتجريدهم من الجنسية الأردنية من دون طلب منهم كذلك. هذا الالتباس في تحديد العنصر السكاني ليس صحياً من أجل بناء علاقات واضحة تحكمها قوانين ومؤسسات تؤدي إلى نوع من الانسجام الاجتماعي والابتعاد عن القلق والتوتر.
هذه هي التركة الثقيلة والخطرة التي يرثها الملك عبد الله وتمثل أولى التحديات لعهده الجديد. والأرجح أنه ما لم تتم معالجة هذا الشرخ وإدراجه في رأس جدول أعمال العهد الجديد، فإن المشكلات الأُخرى التي يعانيها الأردن ستظل من دون حلول. فالمشكلات الوطنية الكبرى تحتاج إلى مجتمع متماسك للتصدي لحلها.
ربما من المبكر التنبؤ بمسار العهد الجديد فيما يتعلق بمسألة معالجة الشرخ الاجتماعي في الأردن. ومن الواضح أن العهد الجديد مقل في خطابه، ومن الطبيعي أن تمر فترة مراجعة ومناقشة ورسم سياسات العهد الجديد. وليس متوفراً لنا الآن سوى خطاب التكليف السامي الذي وجهه جلالة الملك عبد الله إلى السيد عبد الرؤوف الروابدة أول رئيس للحكومة في عهده،[11] وبيان الحكومة الذي قدم إلى مجلس النواب لنيل الثقة على أساسه.[12] ومن قراءة الخطاب الملكي يتبين التركيز الشديد على موضوع الوحدة الوطنية. إذ ورد في أول بند من التوجيهات الواردة في خطاب التكليف الملكي ما يلي:
إن الوحدة الوطنية هي إحدى المقومات الأساسية التي تعطي الوطن القوة وتمنحه المنعة، وتحول دون التفتيت والاحتراق. لقد كان الأردن على الدوام وطناً لكل العرب ونموذجاً لمجتمع الأسرة الواحدة المتلاحمة في السراء والضراء. الجميع فيه شركاء في العمل والبناء وحماية الوطن والالتزام بمصالحه. إن الأردنيين جميعاً، رجالاً ونساء، مهما كانت منابتهم وأجناسهم وأديانهم وأفكارهم، متساوون أمام القانون شركاء في أداء الواجبات والتمتع بالمنافع. إن تعزيز الوحدة الوطنية يتم بسيادة القانون على الجميع دون تمييز لأي سبب، وترسيخ النهج الديمقراطي وحماية حقوق الإنسان، وتطبيق مبادئ العدالة وفق أسس سليمة واضحة، وإقامة التوازن بين أقاليم الدولة ومناطقها وتطبيق القانون بحزم على كل من يثير النعرات أو يحاول العبث بالنسيج الوطني. إن الدولة بسلطاتها الدستورية هي الممثل الوحيد لكل الشعب وهي المسؤولة عن صيانة حقوق جميع فئاته.
أمّا بيان حكومة الرئيس الروابدة أمام مجلس النواب فقد أكد: "أن جميع المواطنين مهما كانت منابتهم وأديانهم... متساوون في الحقوق والوجبات، لا تفريق بينهم أو تمييز لأي سبب كان وهم شركاء في الوطن شراكة شيوع لا تقبل القسمة... ولذا فإننا سوف نتصدى بكل عزم... لمحاربة كل من يحاول إثارة النعرات الإقليمية أو الجهوية أو الطائفية..."
إن هذا القول يبشر بمرحلة جديدة، وهذا التشديد على الوحدة الوطنية يدل على أن العهد الجديد قد تلمس مبكراً الجرح الذي يستنزف قدرات المجتمع الأردني. ومن أجل ألاّ تضيع هذه التأكيدات كما ضاعت تأكيدات الملك الراحل، لا بد من ترجمتها ترجمة فورية في الواقع المعاش. وإذا ما قصدت مجموعات العمل التي تعيد صوغ السياسة الأردنية في العهد الجديد، فالظن أنها ستدرج في جدول أعمالها المسائل التالية:
إن أي مجتمع لا يمكنه إنجاز مهماته الوطنية من دون وجود "عقد اجتماعي" يتم التوافق عليه بين مختلف فئاته وطبقاته. ولا يزال العقد الاجتماعي في الأردن مشوشاً، فهو يراوح ما بين العشائرية مرة وما بين الطموح إلى الوصول لدولة مرة أُخرى. وما زالت أطروحات "الميثاق الوطني" التي توافق عليها مختلف فئات الشعب في الأردن طي النسيان. إن الانتقال إلى قرن جديد يحتاج إلى حسم في مسألة العقد الاجتماعي، وهي مسألة تأخر حلها كثيراً. وإذا حسم الأردن عقده الاجتماعي وقرر الانتقال إلى "دولة"، فإن معيار "المواطنة" سيكون هو المعيار الحاسم. وبالتالي، لا ضرورة لصك عبارات "المنابت والأصول". إن استخدام مثل هذه التعابير يوحي بأن هناك في الأردن "أصلاء" و"بياسر" كما تعرّفهم مجتمعات البداوة.[13]كما أن هذا يتطلب إعادة النظر في المعايير التي يتم فيها اختيار الكفاءات والمناصب والقيادات والوظائف والتحقيقات الأمنية. وأولى نتائج هذا المطلب إلغاء قانون الانتخابات الحالي باعتباره قانوناً أهدر مبدأ المواطنة وأطاح المساواة بين المواطنين لمصلحة معايير تتنافى مع العصر ومع أبجديات الطموح إلى حكم ديمقراطي. إن مسألة الصوت الواحد ليست هي السيئة الوحيدة في قانون الانتخابات، بل إن عدد المقاعد المخصصة للدوائر التي يوجد فيها الأردنيون من أصل فلسطيني بشكل كثيف، هي أقل مما هو مخصص للدوائر التي يكون فيها الوجود الفلسطيني ضئيلاً أو معدوماً، الأمر الذي يطيح مبدأ تساوي نسبة الأصوات إلى عدد المقاعد.
إن إعادة هيكلة القضاء وتأهيله وضمان استقلاليته وجعله سلطة ثالثة في الدولة بكل ما في الكلمة من معنى وبكل ما يعنيه الدستور، بما في ذلك تشكيل محكمة دستورية، يشكل المرجعية الأسمى لفض الصراعات، ولا سيما تلك المتعلقة بحقوق المواطنة. إن غياب وسائل فض الصراعات وحفظ حقوق المواطنين وصيانة كرامتهم وحقوقهم المكتسبة هو من أهم الأسباب التي تؤدي إلى انفضاض الأفراد عن الدولة واللجوء إلى القبيلة وإلى اتباع وسائل القهر والإرهاب والرشوة والتزلّف وتنمية مراكز المحسوبية وبؤر الرشاوى. والقضاء الأردني عبر تاريخه الطويل وإنجازاته المهمة قادر على تولي مهمة صيانة هذه الحقوق وإيصالها إلى أصحابها.[14]
وعلى الرغم من الخطاب الملكي المبشر بعهد جديد وأطروحات جديدة وتأكيدات الحكومة الحازمة، فإن الشك يظل قائماً في قدرة العهد الجديد على الانتقال إلى مجتمع "الدولة" و"المواطنة" إنْ لم يتم تطهير الجهاز الإداري من مراكز القوى ومراكز المصالح الضيقة. إن رموز الإدارة التي قادت الأردن في العهد السابق إلى المشكلات الحالية، بما فيها مشكلة الشرخ الاجتماعي، ما زالت تحتل مواقعها، وهذا مناط الشك. وأولى مهمات التطهير الإداري هي فتح ملفات الفساد، لا بقصد الإثارة أو المحاسبة، بقدر ما هي بعث الثقة بالنظام الذي يلتزم القانون ويبتعد عن المحسوبية. إنها معيار لتأكيد حق المواطنة الذي يصونه القانون ومؤسساته. ولنا في تجربة الدكتور سليم الحص، رئيس الحكومة اللبنانية الحالي، خير دليل على منهجه في إعادة الثقة بنظام دولة أهدرته الطائفية والمحسوبية.[15] وسبق ذلك تجربة الكويت الجريئة في فتح ملفات الفساد والتي طالت رموزاً بارزة في الإدارات السابقة والحالية، الأمر الذي بعث الثقة بالمؤسسات الدستورية.[16]
إن إعادة النظر في الإجراءات الحكومية التي وضعتها الحكومات المتعاقبة بدعوى "تنفيذ قرار فك الارتباط" هي من المسائل الملحّة للحفاظ على حقوق المواطن الدستورية والقانونية وتقوية اللحمة الوطنية. إن مقولات "الوطن البديل"، و"الحفاظ على الهوية الفلسطينية" و"تثبيت الأهل في الأرض الفلسطينية" هي مقولات حق، لكن بعض القوى يريد بها مقاصد فاسدة. فالحفاظ على الهوية لا يكون بإهداء حقوق الأفراد والعبث بمكتسباتهم الدستورية وزيادة معاناتهم اليومية وتشتيت الأسرة الواحدة. ثم إن هذه المقولات، على فرض حسن الظن بقائليها، لا تتأتى إلاّ ضمن حلول شاملة وانتقال جماعي من مرحلة إلى مرحلة أُخرى، وهي غاية ما زالت غائبة عن أفق الحلول السياسية التي تتخبط فيها دول المنطقة والمؤسسات الحاكمة فيها.
إن الشرخ الاجتماعي الذي تعاني جراءه العلاقة الأردنية - الفلسطينية ضمن إطار الدولة الأردنية هو من أخطر التحديات التي تواجه الأردن. وما لم يبادر العهد الجديد إلى وضع آليات جديدة ورؤى جديدة من أجل ردم الهوّة، فإن التحديات الأُخرى، التي هي نسبياً أقل شأناً، ستصبح أمراضاً مزمنة، ويكون الكيّ آخر العلاج، لا سمح الله.
[1] "الجريدة الرسمية"، عدد خاص رقم 4328، 7/2/1999، ص 482.
[2] المصدر نفسه، ص 487.
[3] قانون إضافي لقانون الجنسية رقم 56 لسنة 1949، أنظر: "الجريدة لرسمية"، العد 1004، 20/12/1949.
[4] "مجموعة القوانين والأنظمة الصادرة والنافذة المفعول لغاية سنة 1956 في المملكة الأردنية الهاشمية"، الجزء الأول (إعداد حنا الصاع وصلاح الدين العباسي وصبحي القطب)، ص 4 (من دون تاريخ).
[5] "الجريدة الرسمية"، العدد 1171، 16/2/1954، ص 105.
[6] أنظر: تعليمات رئاسة الحكومة بتاريخ 20/8/1988 (غير منشورة). وانظر أيضاً: تصريح وزير الداخلية، سلامة حماد، في: جريدة "الدستور"، 23/10/1995.
[7] أنظر: تعليمات دائرة الأحوال المدنية (غير منشورة)، ولا سيما البند (11) منها.
[8] جريدة "العرب اليوم"، 5/4/1999، حيث ورد في الخبر أن نقيب أطباء الأسنان طالب الحكومة بمعالجة وضع نحو مئة طبيب مضى على تعطلهم عن العمل عدة أعوام بسبب أنهم يحملون جوازات سفر مؤقتة (وهي الجوازات التي منحت للفلسطينيين الأردنيين بعد قرار فك الارتباط).
[9] القرار رقم 164/90، "مجلة نقابة المحامين"، السنة 39، حزيران/يونيو - آب/أغسطس 1991، ص 1040. وانظر أيضاً: القرارات 205/91، 208/91، 188/91.
[10] أنظر: القرار 212/97 الصادر بتاريخ 13/10/1997.
[11] جريدة "العرب اليوم"، 5/3/1999.
[12] المصدر نفسه، 4/4/1999.
[13] ما زال أهل الجزيرة العربية يطلقون على غير الأصلاء، أي الذين لا ينتمون إلى قبائل وأفخاذ قبائل عربية معروفة، لقب "بيسري".
[14] أنظر: محاضرة الأستاذ فاروق الكيلاني، رئيس المجلس القضائي ورئيس محكمتي التمييز والعدل العليا سابقاً، في المنتدى العربي، حيث اتهم فيها الحكومة بالتدخل في شؤون القضاء، ولم يحرك هذا الاتهام ساكناً في أوساط الحكومة أو مجلس الأمة. أنظر: جريدة "العرب اليوم"، 23/4/1998.
[15] أنظر: مقتطفات من محاضرة الدكتور سليم الحص التي ألقاها بمناسبة ذكرى "ندوة العمل الوطني"، والمنشورة في جريدة "الحياة"، 31/3/1999.
[16] أنظر: التحقيقات مع الشيخ علي الخليفة الصباح، وزير النفط والمالية الكويتي الأسبق، والتحقيق في اختلاسات ناقلات النفط وملاحقة المسؤولين فيها قضائياً، والمحاكمات الجارية ضد بعض مسؤولي مكتب الاستثمار الكويتي في لندن وسوء استغلال المناصب العامة وإهداء المال العام في قضية جروبو توراس، وهي الشركة المسؤولة عن الاستثمارات الكويتية في إسبانيا، حتى إن التحقيقات قد طالت أخيراً ولي العهد الكويتي بصفته رئيساً للحكومة.