يتضمن هذا النص رداً على المراجعة التي كتبها بلال الحسن في العدد 33 من "مجلة الدراسات الفلسطينية"، والتي تضمنت مناقشة نقدية لكتاب "نايف حواتمة يتحدث".
نشرت "مجلة الدراسات الفلسطينية"، في عددها 33 الصادر شتاء 1998، المقالة المطولة التي تفضل بكتابتها الأخ العزيز الكاتب والصحافي الفلسطيني الأستاذ بلال الحسن، والتي تضمنت مراجعة نقدية لكتاب "نايف حواتمه يتحدث..."
وفي تناول سريع ومقتضب لما ورد في المقالة، لا بد من نقد وتوضيحات على التوضيحات ومساجلة بشأن الكثير من القضايا التي طرحها الأستاذ بلال الحسن، ومن موقع التفاعل الإيجابي مع قضايا تمس الماضي القريب والحاضر الفلسطيني، كما تمس – في جوانب منها – عملية التدوين التأريخي لمرحلة مهمة من تاريخ الثورة والحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
ولا بد، قبل كل شيء، من تثمين الملاحظة التي أبداها الأستاذ بلال الحسن فيما يختص بأهمية الكتاب من زاويتين:
(1) زاوية كتابة التجربة الذاتية لما فيها من فائدة عامة تصبح ملكاً للجميعن وذاكرة نضالية لشعب فلسطين، مع أن الكتاب لا يتطرق إلى السيرة الذاتية ولا المذكرات، وإنما يأخذ بالمنهج التحليلي الاجتماعي – السياسي (الفكري والطبقي)، لفحص واقع ومسار الحركة الوطنية العربية والفلسطينية المعاصرة وتفسير تطوراتها العاصفة وتقديم إجابات وحلول وبدائل.
(2) زاوية تدوين التاريخ السياسي الفلسطيني المعاصر على يد رواده، وهذه ضرورة وطنية/ قومية، مع أنها خارج سياق الكتاب. فكتاب "نايف حواتمه يتحدث..." ليس تاريخاً ولا يؤرّخ في أي فصل من فصوله. إن للتاريخ الوصفي والسردي للأحداث مؤرخيه، وقد استُشهد في الكتاب بالكثير من كتب المؤرخين، مثل كتاب د. محمد باروت، ود. ماهر الشريف، وخالد محيي الدين، وكتب أُخرى وردت في النص أو الحواشي.
لكن عند الدخول في العناوين المحددة يمكن الحديث وفق التالي:
- يبدأ الأستاذ بلال الحسن بالغوص في جوانب تاريخية سردية عن حركة القوميين العرب، التي تطرق إليها الكتاب بفصل مختصر، وبالخطوط الاجتماعية – السياسية لمسار تجربة الحركة ومصائرها اللاحقة من دون سرد تاريخ الأشخاص والأدوار... إلخ. ومع هذا لا بد من الوقوف أمام عدد من النقاط المثارة:
في جلسة خاصة وفي سياق إنجاز الكتاب، أشار نايف حواتمه إلى أن حركة القوميين العرب كانت أوفدت، فعلاً، عداً من قيادييها إلى الأردن بعد ابتعاد قيادات التنظيم من "كبار الرأسماليين وكبار رجال الأعمال"، وبعد تسلم حواتمه قيادة التنظيم في الضفتين. وومن تم إرسالهم يرد ذكر كل من ثابت المهايني وعدنان فرج. وهذا يصب تماماً فيما أشار إليه حواتمه من أن قيادات الصف الأول والثاني في الضفتين أحجمت عن استئناف النضال بعد انقلاب نيسان/أبريل 1957، لإدخال الأردن مشروع أيزنهاور وفرض قوانين الطوارىء والقمع الشامل للحركة الوطنية.
قدم مهايني من دمشق ولم يستقر سوى بضعة أسابيع، ثم قدم فرج من مصر وعاد بعد أسابيع لدراسة الصيدلة في القاهرة.
- بشأن المجموعات العسكرية التي تشكلت في حركة القوميين العرب أواخر الخمسينات، فإن ولادتها، كما أشار إليها حواتمه، كانت تحت عناوين محددة تهدف إلى ضر مصالح أميركية، وهكذا كان الأمر، فعلاً، بين نيسان/أبريل 1957 وآذار/مارس 1958. أمّا الأعمال خارج هذا الإطار، فقد حدثت بعد أن كان حواتمه قد غادر الأردن كما أوضح في الكتاب. ولم تكن ولادة هذه المجموعات ولادة طبيعية بالكامل لأن حالة التشوه الفكري وعدم الاستقرار في بنى الحركة أعطت هذه المجموعات العسكرية هامشاً واسعاً لحرية العمل، وحتى لسلوك أعمال مغامرة تعيد شيئاً من تجربة "كتائب الفداء العربي" التي تشكلت من ثلاث مجموعات، وردت في الكتاب، وكانت عملياتها آنذاك في دمشق وبيروت.
- تحدث الأستاذ بلال الحسن عن يسارية الجبهة الديمقراطية وماركسيتها. وفي تناوله هذه المسألة أشار إلى حالة من التباين اعترت الانطلاقة اليسارية الماركسية للجبهة، معتبراً أن الكتاب تحدث عنها بصورة مكثفة، وطغى الحديث عن ماركسية الجبهة، كأنها كانت قضية مكتملة وواضحة ومسلماً بها.
في الواقع، فإن كتاب "نايف حواتمه يتحدث..." طرح في متن صفحاته مسألة التوجه اليساري في إطار الحركة القومية العربية ككل، ومنها حركة القوميين العرب، حين يشير حواتمه إلى أن "في حركة القوميين العرب أخذ التطور نحو اليسار يشق طريقه على يد الجيل الجديد، ومع مطلع النصف الثاني من الخمسينات، واكتسب زخم التحولات الحاسمة باتجاه الماركسية إثر انهيار تجربة الوحدة المصرية – السورية" (ص 41).
وبحلول سنة 1968، كانت كل الفروع قد أنجزت انتقالها إلى اليسار، وتم الأمر قبل هزيمة حزيران/يونيو 1967. ويؤكد كتاب "حركة القوميين العرب"، للدكتور باروت، ذلك بشهادة قادة كل فرع وبأكثر من 15 شهادة، بينها شهادات سامي ضاحي، وجورج حبش، وهاني الهندي، وحمد الفرحان، ونايف حواتمه، وقادة فروع العراق واليمن والخليج وسورية ولبنان.
إن التحولات في الحركة القومية العربية نحو اليسار تبلورت كظاهرة عريضة في حزب البعث، وحركة القوميين العرب، والأحزاب الوطنية القطرية تحت تأثير ثورة 23 تموز/يوليو في مصر والوطن العربي، ونتيجة تحولات هائلة فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية ضد الإقطاع والكومبرادور، ومع بناء نهضة عريضة بتدخل قطاع الدولة الاقتصادي (رأسمالية الدولة). وأدى هذا إلى تطورات عاصفة نحو اليسار والماركسية قبل حزيران/ يونيو 1967، وإلى زلازل كبرى في حزب البعث وحركة القوميين العرب بفعل ناصرية عبد الناصر.
وفي الفرع الفلسطيني بحركة القوميين العرب، كانت عملية التحول هي الخطوة الأساسية في تنامي جناحين: جناح وطني يساري، وجناح قومي تقليدي، إذ تم حسم المسألة فكرياً وبرنامجياً في مؤتمر آب/أغسطس 1968، للفرع الفلسطيني الذي حمل اسم الجبهة الشعبية، حيث قدم نايف حواتمه، شخصياً، التقرير المعروف باسم "تقرير آب". إلا إن هذا الحسم لم يشق طريقه بسبب إشكال أشبه ما يكون بعملية انقلابية يمكن أن توصف بأنها كانت ارتداداً على قرارات المؤتمر، وقد قاد هذه العملية الجناح القومي التقليدي. لذا فالعملية الفكرية، التي يمكن أن توصف بأنها عملية مخاضية، استمرت حتى شباط/ فبراير 1969، وأدت إلى استقلال الجناح اليساري تحت اسم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وإلى انتقال من مواقع الأيديولوجيا القومية الوطنية العامة إلى مواقع الماركسية بخصوصيات وطنية وقومية. ومن الطبيعي أن يكون الانتقال عملية تصاعدية برؤؤية وأفق مفتوح. لذا توقفت الجبهة الديمقراطية في الكثير من محطاتها التنظيمية أمام نتائج الولادة اليسارية لفصيل فلسطيني ماركسي يقدم نفسه من جديد أمام حركة التحرر العربية. وهذا الأمر تم تدوينه في عدد من الأدبيات التي صدرت عن الجبهة الديمقراطية في الأعوام التي تلت ولادتها. كما أن الوثائق السياسية والفكرية ذاتها تؤشر بصورة واضحة إلى ملامح التطور في استيعاب النظرية الماركسية – ومواءمتها للوضع الفلسطيني والعربين بحيث لم يعد ممكناً، آنذاك، الحديث عن وثيقة مؤتمر آب/ أغسطس 1968 التي قدمها نايف حواتمه في السبعينات مثلاً. أمّا مشاركة بعض أصحاب الأسماء المرموقة (الماركسية) من العالم العربي في عملية الحوار المتعدد الرؤى لبلورة الخط اليساري للجبهة الديمقراطية، فهي مسألة معروفة وتركت بصماتها. ولم يغادر الكثيرون من هؤلاء مواقع الجبهة لخلاف فكري أو سياسي، وإنما لأمور لها علاقة بمسارات برامج العمل في كل بلد عربي، وبمسار البرنامج الوطني المرحلي لعموم الحركة الوطنية الفلسطينية. ولا تزال أغلبيتهم تحتفظ بعلاقة صداقة حميمة مع الجبهة، وهي مساندة لها في ميادين نضال متنوعة.
ومن الطبيعي جداً التباين في الرؤية الماركسية في المرحلة الأولى من الانطلاقة والتكوين والتطوير، وخصوصاً أن الوصول إلى الماركسية تم عبر عملية مخاص وتطوير بدأت منذ سنة 1957 إلى أن تم حسمها سنة 1968. وهنا يستوجب التوضيح أن النزعة الماركسية الاستقلالية أخذت طريقها، وكان المثل في ذلك استقلالية الحزب الشيوعي الفيتنامي عن المدرستين السوفياتية والصينية. ولهذا نادت الجبهة الديمقراطية منذ الانطلاقة بتجربة ماركسية بألوان فلسطينية وعربية، وباستيعاب خصوصيات القضايا الوطنية والقومية وعدم تقليد تجارب وليدة ظروف ثورات وشعوب أُخرى. وهذا هو الذي ميز تجربة الجبهة الديمقراطية من تجارب الأحزاب الشيوعية العربية والعالمية.
في أية حال، لم يكن مجال الحديث التفصيلي متاحاً على صفحات كتاب "نايف حواتم يتحدث..."، إذ إن الكتاب يتناول موضوعات متعددة يمثل كل منها مشروع كتاب في حد ذاته.
- من جهة أُخرى، يورد الأستاذ بلال الحسن بروز النزعة الغيفارية العسكرية البحتة في صفوف أفراد أو جماعات أو مجموعات كانت قد انضوت إلى صفوف الجبهة خلال 1969 – 1970، وهذا الأمر ليس صحيحاً فقط، بل إنه سحب نفسه أيضاً على كل القوى الفلسطينية التي ولدت آنذاك. وقد تضخم عند البعض، بينما انكمش عند الآخرين بحكم العملية التراكمية في تطور الرؤية السياسية والاستراتيجية. وهنا، يورد حواتمه في متن الكتاب وفي إحدى إجاباته، موقفاً واضحاً تبنته الجبهة الديمقراطية منذ انطلاقها، وهو موقف يقوم ضمنياً وفعلياً على رفض تقديس العمل العسكري، واعتباره الشكل الوحيد للعمل الكفاحي الفلسطيني (ص 121، وثيقة رقم 1، ص 343 في ملحق الوثائق التي تتحدث عن بدايات العمل العسكري في الجبهة الديمقراطية). وبقيت الجبهة الديمقراطية تشير دوماً إلى اعتبار العمل العسكري بمثابة أحد الأشكال الرئيسية لا أكثر ولا أقلن بينما كان ميثاق منظمة التحرير ثم حركة فتح والجبهة الشعبية والفصائل الأُخرى تعتبر الكفاح المسلح هو الأسلوب الوحيد للنضال في الوقت الذي تمارس فيه جميعها كل ألوان العمل السياسي والدبلوماسي. وفي أية حال، فإن البعض في الساحة الفلسطينية وجه ويوجه سهام الاتهام إلى الجبهة الديمقراطية باعتبارها تضع العمل العسكري المقاوم تحت أجندة الشكل الأساسي لا الوحيد.
من جهة أُخرى، فإن التطورات التي وقعت لاحقاً أملت، "وبكل السلبيات التي جاءت بها"، وقائع جديدة فرضت على الجبهة الديمقراطية، كما على القوى الفلسطينية، تضخماً في الجهاز العسكري. وهذا النمو في عملية التجييش ترك ووضع ركائز إيجابية في الوقت ذاته أيضاً، حين تحولت الثورة والمقاومة إلى عامل مقرر في معادلة الصراع التي أخذت منحى آخر منذ زيارة السادات سنة 1977، فضلاً الدفاع المستمر والمقدام عن الوجود الفلسطيني وعن قوى الثورة ومنظمة التحرير في مواجهة عمليات الإبادة والتطويع التي شنت عليها طوال أعوام السبعينات حتى أوائل الثمانينات.
في الواقع، عملنا في الجبهة الديمقراطية على نقل عملنا العسكري كله إلى داخل الوطن، أمّا القواعد العسكرية فتكون قواعد إسناد. لكن التجربة العملية فرضت نفسها كما فرضت نفسها على الثورة الجزائرية حيث تمركز جيش التحرير على حدود تونس والمغرب، غضافة إلى شبكات داخل الجزائر، مع أن مساحة الجزائر هي خمسة أضعاف مساحة فرنسا، بينما الضفة والقطاع في مرمى قوات الاحتلال وتكنولوجيته الخاطفة. ولذا لم نتمكن من تحقيق "الحلم الثوري النبيل" بأن يكون كل عملنا المسلح داخل الأرض المحتلة. وفي الوقت ذاته، نحن رواد العمليات الاستشهادية الكبرى من ترشيحا/ معالوت إلى بيسان إلى القدس... إلخ. وكلها داخل الأرض المحتلة منذ منتصف السبعينات.
- في عودة إلى لهيب معارك أيلول/سبتمبر، حيث يصدق القول إن الثورة الفلسطينية أضاعت قاعدة ارتكاز رئيسية كان يمكن لها أن تشكل قاعدة ومنطلقاً نحو فلسطين، فالثورة بكل فصائلها وقواها ارتكبت الكثير من الأخطاء التي ساهمت في فسح المجال أمام النظام الأردني لشن عمليات التحريض وصولاً إلى الصدام المسلح والشامل بجولاته الكبرى الخمس التي توجت بانتهاء الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن.
وأود أن ألفت انتباه الأخ بلال إلى أن الجبهة الديمقراطية قدمت، بعد إسدال الستار على كارثة أيلول/سبتمبر، نقداً ذاتياً بعنوان "حملة أيلول والمقاومة الفلسطينية: دروس ونتائج" (بيروت: دار الطليعة، 1971). وقد ورد على صفحات كتاب "نايف حواتمه يتحدث..." أن هذه الدراسة تميزت بالروح النقدية لتجربة المقاومة، والجبهة الديمقراطية تحديداً (ص 104، 105).
وبالإضافة إلى ذلك تم التطرق بالرؤية النقدية إلى تجربة أيلول/سبتمبر في العدد الخاص من مجلة "شؤون فلسطينية" (الملحق)، العدد 9، أيار/مايو 1972، الصادر عن مركز الأبحاث.
زد على ذلك، يورد حواتمه أن "الجبهة الديمقراطية كانت القوة الوحيدة التي قدمت نقداً ذاتياً ومراجعة عامة أمام دورة المجلس الوطني الفلسطيني (حزيران/يونيو 1971 في القاهرة) مما أثار الارتياح والذهول معاً في صفوف المجلس! الارتياح للجرأة النقدية الذاتية والذهول بنشر غسيلنا على السطح وأمام بصر أجهزة الإعلام. وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ ثورتنا المعاصرة" (ص 105). كما أن الجبهة أصدرت، في وقت لاحق، تقريراً بعنوان: "المراجعة النقدية لتجربة الجبهة الديمقراطية" (بيروت: دار التقدم العربي، 1991).
أمّا الجانب المغامر (اأفراداً أو مجموعات) في الجبهة الديمقراطية، الذي تهرض له بالإشارة السيد بلال الحسن، فأعتقد (باعتباري أحد الذين شاركوا في تدوين وإدارة الحوار مع السيد نايف حواتمه) أن المقصود به عدد من قيادات الجبهة الديمقراطية آنذاك التي طرحت، فعلاً، شعار "لا سلطة فوق سلطة المقاومة"، إذ تركت هذه القيادات مواقعها في منطقة إربد في أثناء لهيب المعارك وتراجعت إلى مدينة درعا السورية، الأمر الذي فتح المجال بصورة أيسر أمام الجيش الأردني لفرض السيطرة الكامل على مدينة إربد. وهذه القيادات هي (س؛ أبو م؛ م ك؛ م ن)، ولم يتم إيراد هذه الأسماء في متن الكتاب حتى لا تأخذ الأمور طابع الشخصنة. فالمسألة سياسية نقدية، في الدرجة الأولى، فضلاً عن أن الجبهة الديمقراطية كانت اتخذت مجموعة من الإجراءات التنظيمية (بما في ذلك الفصل....) بحق هذه الرموز ورموز أُخرى بعد انتهاء لهيب معارك أيلول/سبتمبر، لا بسبب انسحابها من إربد فقط، بل أيضاً لرفعها شعارات التطرف اللفظي. وقد عاد عدد من هذه الرموز، بعد أعوام، إلى صفوف الجبهة الديمقراطية.
- وفي عودة إلى ما كتبه الأخ بلال الحسن، لم يكن يُقصد أيضاً بمن غادر صفوف الجبهة، بعد لهيب أيلول/سبتمبر، المجموعة التي خرجت من الجبهة الديمقراطية سنة 1991 بقيادة ياسر عبد ربه. فهذه مسألة أُخرى، ومعالجتها جرت لاحقاً ونشرت في وثائق "الأزمة في الجبهة الديمقراطية والحركة الوطنية الفلسطينية" الصادرة عن الكونفرس (صيف سنة 1991). وتمت الإشارة إلى هذه المجموعة المنشقة في أكثر من موضع، في كتاب "نايف حواتمه يتحدث..."، حين أُشير في الحوار إلى مجموعة بدأت تتشكل في الجبهة الديمقراطية سنة 1948 وتطلعت "للتحالف السياسي مع فتح وفقاً لمنظور سياسة عرفات" (ص306). وسارت هذه المجموعة في طموحها لإحداث عملية انقلابية في صفوف الجبهة للدفع نحو القبول بالأفق الذي حكم خط ياسر عرفات وصولاً إلى اتفاق أوسلو سنة 1993. لذا تحالفت وما زالت تتحالف بالعمق وتشارك عرفات صنع سياساته، من موقع التابع بعيداً عن المشاركة الائتلافية من موقع البرنامج المشترك كما كان حال الجبهة الديمقراطية ودورها الدائم في إطار منظمة التحرير. وانتقلت عناصرها، التي يشير الأخ بلال إليها بالأسماء، من موقع "المغامرة والتطرف" إلى الاستيطان في أحضان برنامج أوسلو وسلطة الحكم الذاتي.
- أمّا ما يورده الأخ بلال من تجاهل للبعض، والمثال لذلك عدم ذكر كتاب "قصة اتفاق أوسلو" ومؤلفه ممدوح نوفل (ص 325، حاشية رقم 11)، فهو أمر تفسيره بسيط جداً: إن الجبهة الديمقراطية تعمل في قلب الأوضاع الفلسطينية، ومصادر معلوماتها لا تكون بعد عدة أعوام من خلال كتاب ممدوح نوفل "قصة اتفاق أوسلو"، أو من خلال ما قد يدلي به البعض. فالجبهة الديمقراطية قوة رئيسية في صفوف كل من المنظمة والحركة الوطنية الفلسطينية، تتدفق إليها المعلومات اليومية عن الحال الفلسطينية بكل تفصيلاتها. وأود من موقع متابعتي العمل الإعلامي للجبهة الديمقراطية منذ أعوام، التأكيد للأخ بلال أن المعلومات التفصيلية والدقيقة كانت على طاولة المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية قبل ولحظة التوصل إلى توقيع اتفاق أوسلو بالأحرف الأولى في آب/أغسطس 1993، حين كان حواتمه في الجزائر ووردت التفصيلات المذهلة، بما في ذلك "ليلة التلفون" الشهيرة (ليلة 17 آب/أغسطس 1993) التي استمرت أربع ساعات ونصف ساعة بين تونس وأوسلو، كما هو وارد في الحاشية رقم 11، ص 325.
- وبالنسبة إلى عدم ورود اسم الأستاذ خليل الهندي، العضو السابق في المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية، حين استُشهد في الحوار بكتاب "المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني" (ص 92)، فلا أعتقد أن هناك خلفية محددة، لأن ما تم إيراده فقط (وبتدخل مباشر مني، باعتباري وضعت حواشي وملاحق الكتاب)، كان اسم الكتاب والشخص الذي أشرف عليه، باعتبار أن المؤلفين هم ثلاثة أشخاص (خليل هندي، وفؤاد بوارشي، وشحادة موسى). وكان من الأجدر بالأخ بلال أن يستشهد بما أورده نصاً أحد مؤلفي الكتاب (خليل الهندي) عن المراجعة التي قامت بها الجبهة الديمقراطية لسياستها، حيث يشير إلى أن الجبهة الديمقراطية مارست سياسة تقوم على تغليب التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني على التعارضات الداخلية بين المقاومة والنظام الأردني. فالمهم في العمل السياسي والمسلح هو البرنامج والسياسة في حيز الممارسة، لا القرارات أو المواقف التي تتم في الغرف والقواعد الداخلية المغلقة. وهذا ما برز في كتاب هندي/بوارشي/ موسى "المقاومة والنظام الأردني، دراسة تحليلية لهجمة أيلول" (بيروت: مركز الأبحاث الفلسطيني، 1971).
- فيما يتعلق بطرح استراتيجيا التمرحل في العمل الوطني الفلسطيني، أشارك الأخ بلال في أن هذه الفكرة لم تكن فقط بيد الجبهة الديمقراطية من دون غيرها. فالكثير من الشخصيات الفلسطينية أطلق بعض التصورات التي تصب في الاتجاه العام لفكرة استراتيجيا المراحل، ومنهم الشهيد كمال عدوان. وهنا يجب التمييز بين دعوة فردية إلى دولة مستقلة وبين برنامج لتسوية سياسية تقوم على قرارات الشرعية الدولية وتأمين حقوق تقرير المصير والعودة والدولة المستقلة. وهذا ما قامت به الجبهة الديمقراطية، مع أن حق تقرير المصير والدولة المستقلة برزا عند حواتمه، كما يشير الكتاب، في حمّى أيلول الأسود وقبل أن يتوقف إطلاق النار، وطُرحا في أيلول/ سبتمبر 1970، مع ياسر عمرو وإبراهيم بكر، بينما صدرت دعوة الشهيد كمال عدوان سنة 1971. ونضيف توضيحاً يتعلق بالنقاط العشر: فالوقائع تشير إلى أن "فتح" لم تتقدم قط بالنقاط العشر قبل البرنامج المرحلي.
وأعيد الأخ بلال إلى استحضار الفترة السابقة بكل وقائعها. فالجبهة الديمقراطية أطلقت دعوتها إلى تبني استراتيجيا المراحل في العمل الوطني الفلسطيني في آب/ أغسطس 1973، أي قبل وقوع حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 بأشهر قليلة. وتم خوض معركة صراعية معقدة مع أغلبية الاتجاهات السياسية الفلسطينية، بما في ذلك حركة فتح، التي أصدر مسؤولها الأول في لبنان، آنذاك (صخر حبش)، تعميماً إلى جميع أجهزة الحركة دعاها فيه إلى مواجهة "طروحات الاستسلام والخنوع والردة" التي بدأت الجبهة الديمقراطية طرحها. ووصل الأمر إلى حد الاشتباكات المسلحة التي استشهد فيها النقيب فاير أو خلدون التعامرة سنة 1973 في صيدا، في الجنوب اللبناني، على يد أجهزة الأمن الموحد التابعة لحركة فتح؛ وهي الأجهزة التي يعتقد بلال الحسن أنها ساهمت في حماية ورعاية عملية الترويج لاستراتيجيا المراحل في العمل الوطني الفلسطيني. وشنت وكالة "وفا" و"إذاعة فلسطين"، في آب/أغسطس – أيلول/سبتمبر 1973، حملة سياسية مستمرة ضد البرنامج المرحلي.
أمّا النقاط العشر فقد كانت حصيلة الحوار بين قيادات حركة فتح والجبهة الديمقراطية والصاعقة والجبهة الشعبية، بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر. وكانت هي "الحل الوسط" (القاسم المشترك) بين الفصائل في المجلس الوطني (حزيران/يونيو 1974)، ولذا لم يكن هناك أية نقاط خاصة مصدرها فتح.
كما أنني أُعيد الأخ بلال إلى أعداد مجلة "الحرية" التي صدرت في السنوات 1973 و1974 و1975، حيث السجالات الطويلة مع فرسان الجمل الثورية الذين كالوا الاتهامات لمواقف وطروحات الجبهة الديمقراطية، ومنهم من هم الآن في عداد طلائع المفاوضات بين عرفات – نتنياهو، كالأخ نبيل شعث الذي كان يعمل مديراً لمركز التخطيط في منظمة التحرير. ونُشرت هذه السجالات في كتيب حمل عنوان: "المسألة الوطنية بين اليسار الحقيقي والتطرف اللفظي البرجوازي الصغير".
وأخلص إلى أن المسألة ليست في طرح عنوان الفكرة كما قدمها البعض، وإنما المسألة الأهم هي في تحويل هذه الفكرة وصوغها في برنامج يشق طريقه وسط الشعب والحركة الوطنية. فالقارة الأميركية اعتقد الكثيرون بوجودها قبل اكتشافها وأشاروا إلى ذلك، لكن كريستوفر كولومبس كان هو المكتشف الحقيقي، فهو الذي قاد الدرب ووطأت أقدامه أرضها.
ومن الزاوية المتعلقة بتبني منظمة التحرير للبرنامج المرحلي، فإن مشروع النقاط العشر تم تقديمه إلى دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في القاهرة في حزيران/يونيو 1974، وحظي بالإجماع الوطني مع رفض عضوين فقط من المجلس: الشاعر يوسف الخطيب (الصاعقة)، والأخ ناجي علوش (فتح آنذاك). وقبل ذلك تم عقد سلسلة من الحوارات القيادية بشأن البرنامج بحضور ومشاركة فعّالة لفتح (أبو جهاد، أبو إياد...)، والصاعقة (زهير محسن)، إضافة إلى الجبهة الشعبية.
ومع عقد جلسة الدورة الثانية عشرة المذكورة للمجلس الوطني أرسل أبطال عملية ترشيحا (معالوت) (15 أيار/مايو 1974)، قبل وقت قصير من عقد الدورة، رسالة إلى المجلس تدعوه إلى تبني استراتيجيا المراحل في العمل الكفاحي الفلسطيني (برنامج النقاط العشر).
ومع انقسام الساحة الفلسطينية في إثر انفضاض دورة المجلس بين ما سمي جبهة الرفض (جبهة التحرير العربية، والجبهة الشعبية، والقيادة العامة، وجبهة النضال)، وبين القوى الأُخرى في المنظمة، استمر الحال على ما هو عليه، وشُنت حملة عدائية هستيرية كبرى ضد الجبهة الديمقراطية وبرنامج النقاط العشر. واستمر هذا الأمر من سنة 1974 حتى سنة 1979، إلى أن تم توقيع الميثاق القومي بين سورية والعراق، وعند ذاك تم تفكيك جبهة الرفض الفلسطينية وجبهة الرفض اللبنانية.
وعاد الجميع إلى منظمة التحرير وتوفيت جبهة الرفض من دون نعي رسمي في دورة المجلس الوطني الرابعة عشرة (دمشق، 1979). وأصبح برنامج النقاط العشر الذي جرى تطويره أكثر من مرة في دورات المجلس الوطني، برنامجاً إجماعياً للائتلاف الوطني في منظمة التحرير الفلسطينية، وبفضله تسارعت وتيرة النضوج والتطور في الفكر السياسي الفلسطيني منذ سنة 1974، إذ أصبحت المنظمة تملك إطاراً ائتلافياً جامعاً ببرنامج شفاف وملموس يحظى بالتأييد العربي والتأييد الدولي الكاملين.