يتناول الملف التوترات التي شهدتها العلاقات الأميركية الإسرائيلية، التي نشأت عن التباين في المواقف بشأن المساحة التي تشملها عملية إعادة الانتشار الثانية في الضفة الغربية، وعن قرار الحكومة الإسرائيلية توسيع حدود بلدية القدس وضم مزيد من أراضي الضفة إليها. ويتضمن الملف خمس مقالات لكتاب اسرائيليين متميزين من شتى ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي. والمقالات هي التالية: تلة الكابيتول ستستجيب! حدود قدرة الرئيس الأميركي على الضغط على إسرائيل. يورام إيتنغر؛ ضغط نفسي معتدل. يوسي ميلمان؛ الانسحاب الأميركي من المفاوضات ليس الحل. زئيف شيف؛ ثمن سيُدفع، إيتمار رابينوفيتش؛ الخصم الجديد لنتنياهو. نعومي حازان.
شهدت العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، في الآونة الأخيرة، بعض التوتر على خلفية اتعثر المفاوضات على المسار الفلسطيني. ونجم هذا التوتر، أساساً، عن التباين في المواقف بشأن المساحة التي تشملها عملية إعادة الانتشار الثانية في الضفة الغربية، وكذلك – مؤخراً – عن قرار الحكومة الإسرائيلية توسيع حدود بلدية القدس وضم المزيد من أراضي الضفة إليها. وقد استقطب هذا التطور اهتمام الكثيرين من المحللين الإسرائيليين. ولا غرابة في الأمر نظراً إلى طبيعة العلاقة الاستراتيجية المميزة التي تربط الكيان الصهيوني بالقوة العظمى الأولى في العالم. ومن سيل التعليقات الإسرائيلية على هذا الفصل من العلاقة، اخترنا في هذا الملف خمس مقالات لكتّاب متميزين، حرصنا على أن يمثلوا شتى ألوان الطيف السياسي.
يورام إيتنغر، الدبلوماسي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، كتب في مجلة "هأومّاه" "اليمينية" المقربة من الليكود، عن حدود قدرة الرئيس الأميركي على الضغط على إسرائيل. وخلص إلى أن محاولة تركيز العلاقات الإسرائيلية – الأميركية في بؤرة عملية أوسلو هي "محاولة تبسيطية ومجافية للواقع المركب، وتقلص أهمية إسرائيل الاستراتيجية، وتلحق الضرر أيضاً بالمصالح الحيوية الإسرائيلية والأميركية."
أمّا يوسي ميلمان فهو، في تحليل له، يستند إلى آراء خبراء بالعلاقات بين الجانبين، مثل يوسف ألفر وإيتمار رابينوفيتش. ويعرض ميلمان تجربة الربع الأخير من هذا القرن في ممارسة الإدارات الأميركية المتعاقبة ضغوطاً على الحكومات الإسرائيلية لحملها على قبول مواقفها. لكنه يؤكد أن الرئيس كلينتون غير معني بمواجهة مكشوف مع إسرائيل، لأسباب عدة يذكرها.
وأمّا المعلق المعروف زئيف شيف فهو يستبعد، من ناحيته، إمكان تخلي الولايات المتحدة، عن دورها في المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية. وهو يستنتج أنها، في أقصى الحالات، ستقلل قوة تدخلها، لكن مع الاحتراس. ويحذر السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحد=ة، إثتمار رابينوفيتش، من الثمن الباهظ الذي قد يدفعه نتنياهو جراء تحديه الرئيس الأميركي في عقر داره. أمّا عضو الكنيست من كتلة "ميرتس" المعارضة، نعومي حزان، فإنها تنتقد "استفزاز" نتنياهو للإدارة الأميركية، وتختتم مقالها بمناشدتها: "واصلي عنايتك بنا، فنحن بحاجة إليك."
تلة الكابيتول ستستجيب!
حدود قدرة الرئيس الأميركي
على الضغط على إسرائيل[1]
- هل أن إسرائيل لا تستطيع، في الواقع، الصمود في مواجهة ضغط من رئيس أميركي منتخب لولاية ثانية؟
- هل يعبِّر الرئيس بصورة حصرية أو طاغية عن موقف الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، أم أن للكونغرس وزناً مركزياً في وصغ الارتباط الاستراتيجي بين الدولتين إلى درجة إمكان تحييد الضغط على إسرائيل من جانب الإدارة [الأميركية]، أو تخفيفه إلى حد كبير؟
- هل تدل علاقات رئيس الحكومة [الأسبق يتسحاق] شمير بالرئيس [السابق جورج] بوش، في الواقع، على عدم جدوى خوض مواجهة مع رئيس مصمم على رأيه؟
- هل الاستجابة لضغط الإدارة [الأميركية] يحسن العلاقات الإسرائيلية – الأميركية، بينما الصمود في مواجهة الضغط وصفة لتدهورها.
مع أن لا خلاف بشأن مركزية الرئيس [بيل كلينتون] في الواقع السياسي الأميركي وبشأن تأييده الجذري لإسرائيل، فمن الملائم الانتباه للحقائق التالية:
في تشرين الثاني/نوفمبر 1997، أصيبت هيئة الرئيس بضربة قاصمة عندما فاز حاكما جمهوريان في انتخابات ولايتي فيرجينيا ونيوجرسي، على الرغم من تدخل كلينتون شخصياً، وعلى الرغم من المبالغ الطائلة التي أنفقها الحزب الديمقراطي. إن فشل كلينتون هذا يلحق الضرر بفرص حزبه في استرجاع مكانته كحزب الأغلبية في المجلسين التشريعيين في انتخابات سنة 1998.
في تشرين الأول/أكتوبر 1997، صادق مجلسا الكونغرس على عدة قرارات كان الهدف منها الضغط على روسيا كيف تكف عن تقديم مساعدة تكنولوجية – نووية إلى إيران. وتتناقض هذه القرارات – وما سيليها من تشريعات – مع موقف الرئيس كلينتون (في ولايته الثانية!)، الذي يؤمن بالتفاوض مع موسكو، لا بالدخول في مواجهة معها.
في آب/أغسطس 1997، صادق مجلس الشيوخ ومجلس النواب على عدة قرارات وتعديلات تشريعية. فمع تعداد خروقات عرفات لالتزامه تجاه إسرائيل – واحداً فواحداً – قرر المشرعون تجميد المعونة المالية السنوية لـ"م.ت.ف."، وإضافة إلى ذلك قرروا، على نحو لا سابقة له، تحصين وضع القدس الموحدة كعاصمة حصرية لإسرائيل. وعلى الرغم من جهود كلينتون لإحباط هذه القرارات والتشريعات، التي تتناقض مع سياسة الإدارة، فإن المصادقة عليها تمت بأغلبية ساحقة.
في حزيران/يونيو 1997، وافق الكونغرس – على الرغم من استياء الرئيس – على مشروع قانون يحظر على الإدارة إصدار أذونات استثنائية في بيع تكنولوجيات ومنتوجات أُخرى لسورية ولدول إرهابية أُخرى.
إن قوة المشرعين في تلة الكابيتول [مقر الكونغرس]، ومحدودية قوة الرئيس، تجلّتا أيضاً في فشل كلينتون – بعد أن انتخب لولاية ثانية – في تعيين أنطوني ليك، مستشاره للأمن القومي، والذي هو أيضاً معلمه ومرشده في الشؤون الخارجية، في منصب رئيس وكالة الاستخبارات المركزية. كما أن كلينتون، بعد شهور من الصراع مع مجلس الشيوخ، تراجع أيضاً عن نيّته تعيين حاكم ماساتشوستش المؤيد له، بيل وولد، سفيراً للولايات المتحدة لدى المكسيك. وفي كلتا الحالتين نجح رئيسا لجنتي الخارجية والاستخبارات في مجلس الشيوخ، شلبي وهيلمز، وهما لا يعتبران من زعامة تلة الكابيتول، في لوي ذراع الرئيس. كما فرض عضو مجلس النواب، دان بيرتون، وعضو مجلس الشيوخ، هيلمز، على كلينتون اتباع سياسة صقرية تجاه كوبا، وهذه الحقيقة تدل أيضاً على أن الرئيس ليس هو دائماً من يقرر سياسة الولايات المتحدة الخارجية. ومن الجدير أن نضيف أن أعضاء الهيئة التشريعية فكروا في تقليص المساعدات الخارجية التي تمنحها الولايات المتحدة لمصر، على الرغم من معارضة الرئيس، وأن تدخُّل أصدقاء إسرائيل هو فقط ما حال دون ذلك.
إن واقع الحال في تلة الكابيتول هو أن الأغلبية الجمهورية تحقق إنجازات كبيرة: إنها ترغم رئيساً (في ولايته الثانية!) على إجراء تخفيضات مؤلمة في ميزانية وكالات وزارة الخارجية، وعلى زيادة ميزانية التصدي القتالي للصواريخ الباليستية، وعلى تبني عدة مبادئ من السياسة الاقتصادية للجمهوريين.
بعكس الاعتقاد الشائع، فإن ولاية ثانية في الحكم لا تضمن لرئيس الولايات المتحدة قوة غير محدودة. وتدل الولاية الثانية للرؤساء أيزنهاور ونيكسون وريغان على أن التربع على سدة الرئاسة أربع أعوام أُخرى في البيت الأبيض يمكن أن ينطبق عليه "قانون الربح السياسي المتناقص." إن ذروة قوة هؤلاء الرؤساء (حتى كلينتون ربما) كانت في فترة أيام انتخابهم لولاية ثانية، ومن بعدها أخذت تضعف بالتدريج قدرتهم على تحقيق سياساتهم. فبينما كانت نسبة نجاح كل من أيزنهاور وريغان في إقرار تشريعات في الكونغرس في الولاية الأولى 89٪ و82٪ على التوالي، انخفضت النسبتان في الولاية الثاني إلى 52٪ و50٪ فقط! وبينما يتمتع الرئيس الجديد برصيد إعلامي وجماهيري مستمد من خوضه المعركة ضد المؤسسة الحاكمة، فإن الرئيس يفقد من جاذبيته، ويمتزج بالمؤسسة، ويتحول بالتدريج إلى هدف لسهام الإعلام والخصوم السياسيين والشخصيين، المتزايدين مع مرور الوقت. ويتضح أن حتى الرئيس الشديد الحيوية تبدو عليه، بمرور الوقت، علامات التعب، ويؤثر ذلك سلباً في صورته العامة. كذلك يثقل عليه، كما يبدو، استقالة كثيرين من وزرائه ومستشاريه المخلصين، الذين هم أيضاً يصبهم الإعياء جراء عب العمل مع زعيم العالم الحرب، الذي يحمل على عاتقه مسؤوليات مهمة كثيرة، ضمنها، على سبيل المثال، العمالة في كاليفورنيا الجنوبية، والحدائق القومية في يوتا، والضمان الاجتماعي الوطني للمتقاعدين في الولايات المتحدة، وشحنات الأسلحة إلى الكويت، والتهديد النووي الإيراني، والمركبة الفضائية إلى المريخ. وعلى سبيل المثال، أيضاً، انسحاب وزراء الخارجية والدفاع والمالية والعمل وآخرين من إدارة كلينتون سنة 1997، الأمر الذي تسبّب بهزّات وظيفية في نظام الحكم.
لقد كان أسلاف كلينتون في "نادي الولاية الثانية" متورطين في فضائح هي جزء من المشهد السياسي في واشنطن. ولسبب ما "تلتصق" الفضائح، بالذّات، بالساسة الذين تطول ولايتهم في البيت الأبيض (فضيحة تجسس موظف كبير في وزارة الخارجية في فترة أيزنهاور؛ ووترغيت وإيران غيت في فترتي نيكسون وريغان). ويتضح أن كلينتون أيضاً لم يفلت من عبء التحقيقات والقضايا التي تقلص قدرته على المناورة السياسية: من وابت ووتر وماديسون، مروراً ببيل غيت وبولا جونز، وانتهاء بتلقي تبرعات غير قانونية، على ما يبدو، من جهات أجنبية لمعركة الانتخابات في سنة 1996.
ويبرز الانخفاض المتدرج في مكانة الرئيس بصورة خاصة في علاقته بأعضاء المجلس التشريعي من حزبته، الذين من المفروض أن يكونوا جنوده في الصراعات التشريعية. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، مني كلينتون بفشل ذريع عندما اضطر إلى تأجيل التصويت على قانون يهدف إلى توسيع صلاحياته في إدارة المفاوضات بشأن اتفاقيات التجارة الدولية إلى العام التالي. ويعزو كلينتون المسؤولية عن الفشل إلى معارضة مشرّعين ديمقراطيين كثيرين لسياسته، بينهم زعيم تكتل الأقلية في مجلس النواب (غبهارت) وحامل السوط [المسؤول عن الانضباط الحزبي خلال التصويت] فيه (بونيور). وكانا. في كانون الثاني/يناير 1994، عارضا حتى اتفاقية "نفتا" [اتفاقية التجارة الحرة في شمال أميركا]، ولم يجر إقرارها إلا بفضل تأييد الزعامة الجمهورية. وأيضاً خلال الفترة 1992 – 1994، عندما كان كلينتون يتمتع بأغلبية ديمقراطية في الكونغرس، فإنه فشل، أحياناً، في محاولات لتطبيق سياساته. فالمشرعون [الديمقراطيون] في الكونغرس لا يدينون له، في معظمهم، بمقاعدهم فيه (بعكس النظام السياسي في إسرائيل، لا يعتاش المشرّع الأميركي من مائدة السلطة التنفيذية، بل هو، بصورة عامة، لا يتورع حتى عن الدخول في صراع معها!)؛ وجزء منهم يبتعد عن الرئيس خوفاً من أن تتضرر فرصه في الانتخابات التي ستجري في تشرين الثاني/نوفمبر 1998. وتبرز هذه الظاهرة، بصورة خاصة، في أوساط المشرّعين الديمقراطيين من الولايات الجنوبية والغربية، التي تسيطر على معظم مراكز القوة في تلة الكابيتول. وعلى وجه العموم، هناك ميل في الولايات المتحدة إلى الاعتقاد أن كل رئيس يفوز بولاية ثانية يتحول بالتدريج إلى "بطة عرجاء" (Lame Duck)، لأن دوره السياسي، وأهميته بالنسبة إلى مستقبل المشرعين، يأخذان في التناقص مع مرور الوقت.
لا يمكن معرفة وزن المشرّعين في الولايات المتحدة في رسم سياسة بلدهم نظرياً وعملياً من المقارنة بوزن الكنيست في إسرائيل ومكانته في مقابل الحكومة. فبعكس النظام السياسي في إسرائيل، حيث يكون رئيس الحكومة ومعظم وزرائه من أعضاء الكنيست الكبار، يتمتع أعضاء مجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة بفصل مطلق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويعزز قوة السلطة التشريعية – التي لها المكانة العليا بحسب الدستور الأميركي، وإن لم يكن هذا هو حالها في الواقع السياسي – نظام فعال من الموازنات والكوابح، يحول دون إمكان تحكم الرئيس في مقدّرات الأمور ويمنع هيمنة السلطة التنفيذية (الإدارة). إن الإدارة هي، في الواقع، المبادر الرئيسي والمنفذ الوحيد لسياسة الولايات المتحدة، لكن التطبيق الروتيني يعتمد على قرارات وتشريعات مجلسي الكونغرس. وفي يد الكونغرس السيطرة على الأداة الحاسمة لتطبيق السياسة: الميزانية. ويرجع إليه أن يصادق عليها، أو يخفضها، أو يجمدها، أو يغيرها. وعندما حاول الرئيس [جورج] بوش، في سنة 1991، أن يتجاهل مبادرة الكونغرس من أجل توثيق التعاون مع إسرائيل في الحرب ضد الإرهاب، هدد المشرّعون بتجميد ميزانية التعاون الدولي لمحاربة الإرهاب برمّتها. وتراجع بوش، وتعمق التعاون مع إسرائيل، وأجاز الكونغرس من ناحيته صرف الميزانية. كما أن تعيينات الموظفين الكبار في الإدارة، بمن في ذلك أعضاء الحكومة والسفراء ورؤساء الوكالات التابعة للإدارة، يجب أن يقرها الكونغرس، وهناك ضرورة لأغلبية، وخصوصاً من أجل إقرار المواثيق الدولية. بل إن الكونغرس يمتلك صلاحية إضافة أذرع تنفيذية للإدارة أو إنقاص الأذرع الموجودة، ومراقبة أداء الإدارة لمهماتها في المجالين الخارجي والداخلي، واستدعاء ممثلي الإدارة والتحقيق معهم في أي وقت يشاء، وإلزام الإدارة تقديم تقارير دورية عن طريقة تنفيذها للسياسة، والمبادرة إلى وضع سياسات، والقيام بأبحاث في موضوعات دولية ومشاريع في مجال المساعدات الخارجية، والمبادرة إلى اقتراح أو إلغاء صفقات عسكرية، وإصدار تعليمات بتطوير أنظمة تسليحية، وإنشاء أو إغلاق قواعد عسكرية، والمبادرة إلى اقتراح أو إلغاء تدريبات مشتركة مع جيوش أجنبية، وتقصير أو إطالة أمد تطبيق سياسة ما. كما يوجد في يد المشرعين سلاح الأساليب المعوقة لتعطيل إقرار القوانين (filibuster)، الذي – بعكس الصيغة الإسرائيلية العاجزة – يتيح للشيوخ "قتل" أي اقتراح قانون بإغراقه في ثرثرة لا نهاية لها، إلا إذا تمكنت الإدارة من تجنيد أغلبية 61٪ لإغلاق باب النقاش.
ويجدر أيضاً أن نضيف أن قوة الكونغرس الحالي تفوق قوة السلطة التشريعية قبل عقد السبعينات. وقد تعززت قوة الكونغرس، وبلغت شأواً لم تبلغه من قبل، جراء تغيرات في البنية والميزانيات والاستراتيجيات طرأت على النظام السياسي في واشنطن عقب حرب فيتنام، و"قضية ووترغيت"، وتفكك الاتحاد السوفياتي. إن أحداث فيتنام و"ووترغيت" أدت إلى تآكل صدقية مؤسسة الرئاسة ومكانتها، وأدت من ناحية أخرى إلى زيادة كبيرة في قوة الكونغرس. ومن أجل التوضيح: إن عدد المعاونين المحترفين الذين يساعدون المشرعين في مراقبة الإدارة هو حالياً نحو 12,000 شخص (!) في مقابل 4000 شخص فقط في السبعينات. وأصبح تدخل المشرعين في موضوعات السياسة الخارجية حقيقة لا يعترض أحد عليها. وبينما كانت مجموعة صغيرة مكونة من عدد من رؤساء اللجان في الكونغرس هي التي تحدد موقف "التلّة" [تلّة الكابيتول] في الموضوعات الدولية، يعالج اليوم هذه الموضوعات 15 لجنة تشريعية. ويشهد على ازدياد الأهمية الدولية لتلة الكابيتول زيادة نحو 200 شخصية أجنبية رفيعة المستوى لها سنوياً.
نعود إلى العلاقات الإسرائيلية – الأميركية: إن الرئيس هو الذي يقود، في الواقع، مركبة السياسة الخارجية، لكن مكانة إسرائيل ليست موضوعاً تقليدياً من موضوعات السياسة الخارجية. فإسرائيل والشعب اليهودي هما، في نظر أغلبية الجمهور والمشرّعين في الولايات المتحدة (منذ فترة الآباء المؤسسين في سنة 1776)، موضوع خاص تمتزج فيه جوانب داخلية عاطفية وثقافية وتاريخية ودينية وسياسية.
ينظر الجمهور الأميركي ومشرّعوه إلى إسرائيل كدولة متماثلة مع قيم المجتمع الأميركي: التقاليد، والتاريخ، والقيم اليهودي – المسيحية، والديمقراطية، والوطنية، والعائلة، والصمود في مواجهة التحديات، والاستعداد للنضال من أجل مبادئ محاربة الإرهاب ومن أجل الأمن.
إن الجمهور الأميركي لا يبالي، بصورة عامة، بموضوعات السياسة الخارجية، لكنه ليس كذلك بالنسبة إلى مصير إسرائيل، وينطبق هذا القول أيضاً على المجلسين التشريعيين. وبينما يتمتع الرئيس، إجمالاً، بتأييد قوي لجزء كبير من سياسته الخارجية والأمنية، يختلف الأمر فيما يتعلق بإسرائيل. لقد كانت المجالس التشريعية السابقة مؤيدة جداً لإسرائيل، لكن الكونغرس الحالي أكثر تأييداً (صقرية!) منها. إن زعامة مجلس الشيوخ والنواب، وأغلبية أعضائهما، تعتقدان أن [حافظ] الأسد و[ياسر] عرفات لم يتخليا عن الإرهاب. وهما تؤيدان سيطرة إسرائيل على هضبة الجولان واستمرار السيطرة الإسرائيلية على المناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية، وتؤيدان الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل حصراً. وتراوح موقفهما تجاه اتفاقات أوسلو منذ توقيعها بين التشكك فيها ومعارضتها، وأعربتا عن رأيهما في هذا الشأن أيضاً في فترة حكومة "المعراخ" [حزب العمل]. واتضح من استقصاء للرأي العام نشر في صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 2/10/1997، أن الجمهور يؤيد المشرعين الذين انتخبهم في هذا الأمر. فبحسب الاستقصاء، هناك فجوة كبيرة بين مواقف وانتقادات الرئيس كلينتون وبين مواقف الجمهور الأميركي المؤيدة لإسرائيل. ويعتقد الجمهور الأميركي (كما أظهر أيضاً معظم الاستقصاءات السابقة)، بنسبة 1:4، 1:3، 1:8، 1:3، أن إسرائيل تتطلع إلى السلام أكثر مما تتطلع "م.ت.ف." إليه، وأن "الفلسطينيين" سيستمرون في الإرهاب حتى لو أقيمت دولة "فلسطينية"، وأن عرفات مسؤول عن الإرهاب أكثر من نتنياهو، وأن إسرائيل يجب أن تكون صاحبة السيادة الحصرية في القدس. إن التعاطف العميق الجذور والمستمر لدى الجمهور الأميركي تجاه إسرائيل يردع الإدارة (المنهمكة منذ الآن في انتخابات سنة 1998 وسنة 2000) من جهة، ويعزز جانب الكونغرس من جهة أخرى.
إن اتجاه الرأي العام المؤيد لإسرائيل مكّن الكونغرس (وبصورة خاصة المشرّعين الجمهوريين) من تحدي إدارة بوش وبيكر، ومن توسيع، لا سابقة له، للتعاون الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة، وبالذات في فترة العلاقات الصعبة بين شمير والرئيس بوش. وعلى الرغم من المعارضة الحادة من جانب الإدارة، التي حاولت أن تحبط إقرار قوانين مؤيدة لإسرائيل، فإن الكونغرس صادق في عام 1990/1991 – إضافة إلى المعونة السنوية البالغ مقدارها ثلاثة مليارات دولار – على معونة بقيمة 650 مليون دولار، وعلى نقل أنظمة أسلحة [إلى إسرائيل] بقيمة 700 مليون دولار، وعلى زيادة الأسلحة الأميركية المخزونة في إسرائيل، وعلى توسيع منشآت ميناء حيفا وتحسينها، وعلى فتح مناقصات البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) في أوروبا أمام الشركات الإسرائيلية، وعلى توسيع التعاون في الحرب ضد الإرهاب، وعلى ضمانات قروض بقيمة 400 مليون دولار، وعلى أمور أُخرى.
هل يدل الفشل في الحصول على ضمانات قروض بقيمة 10 مليارات دولار في عهد رئيس الحكومة يتسحاق شمير على محدودية قوة أصدقاء إسرائيل في واشنطن، وعلى تفوق قوة رئيس مصمم على رأيه – كلينتون مثلاً – في صراع مع إسرائيل وأصدقائها؟ رأي هو أنه على الرغم من أنه لا يجوز تجاهل مركزية الرئيس في رسم السياستين الخارجية والأمنية لإسرائيل وتطبيقهما، ومن الصعوبات الكامنة في الدخول في مواجهة معه، فإنه يجب عدم مقاسة مصير المعركة بشأن الضمانات في عام 1991/1992 بالمعركة بشأن الممتلكات الدائمة الأمنية والتاريخية لإسرائيل في عام 1997/1998.
وبينما كان جورج بوش رئيساً في فترة أزمة (حرب الخليج التي سرقت الأضواء في فترة المعركة بشأن الضمانات)، فإن بيل كلينتون يحكم في فترة هدوء. ويعلمنا تاريخ الولايات المتحدة أن قوة الرئيس تزداد وقت الأزمة، لأن المشرعين يتفادون في أثناء ذلك تحديه في شؤون أُخرى، كي لا يتهموا بانعدام المسؤولية القومية. وبالمقدار نفسه، تضعف قوة الرئيس في فترة الهدوء وتزداد في المقابل جرأة المشرِّع وتصميمه. ويجب أن نتذكر أيضاً أنه قياساً ببوش وبيكر، اللذين قلبا زهر المجن لليهود عامة، ولإسرائيل خاص، يمثل كلينتون تشكيلة سياسية وشخصية حساسة تجاه اليهود عامة، وتجاه إسرائيل خاصة، مع ما يرتبط بذلك من نتائج داخلية – سياسية (مع اقتراب انتخابات سنة 1998 وسنة 2000)، وأن كلينتون، بعكس بوشـ هو صديق حقيقي لإسرائيل، مع أن مواقفه متماثلة مع تفسير الجناح "الحمائمي" في إسرائيل لاتفاقات أوسلو.
ويجب أيضاً أن نتذكر أن وزيرة الخارجية، أولبرايت، هي في الواقع تلميذة بريجنسكي، أكاديمياً وسياسياً، وبصورة خاصة في معارضتها للاستيطان، إلاّ إنه لا يوجد لديها الضغينة والاستخفاف البارد اللذان ميزا موقف بيكر تجاه إسرائيل.
وإذا كانت الأغلبية الديمقراطية المؤيدة لإسرائيل في كونغرس عام 1991/1992 اتسمت بتأييدها لمبادىء اتفاقات أوسلو، فإن الأغلبية الجمهورية المؤيدة لإسرائيل في كونغرس عام 1977/1998 تتسم بتأييدها لمبادىء المعسكر القومي [معسكر اليمين]؛ بصورة خاصة في موضوع القدس، لكن أيضاً في موضوعات الجولان، و"م.ت.ف." ويهودا والسامرة [الضفة الغربية]. (وهنا يجب أن نعود فنكرر أن هذه الصداقة تتطلب رعاية مكثفة، وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع المستعمرات).
إن ذكر الفوارق الجوهرية بين الواقع كما هو اليوم وبين الظروف السياسية التي كانت سائدة في عام 1991/1992 ليس القصد منه دفع إسرائيل إلى الدخول في مواجهة مع الإدارة. لقد أتيت إلى ذكرها (وبالمناسبة هناك فوارق أُخرى لكن لا مجال لإيرادها) من أجل التحذير من التبسيط الكامن في المقارنة التي يجريها البعض بين الرئيسين وبين الفترتين. إن تفحصاً جيداً للظروف السياسية يظهر أنه يجب، في الواقع، عدم استسهال المواجهة مع الإدارة في الولايات المتحدة، لكنه يظهر أيضاً أنه يجب عدم الارتداع عنها.
في خضم الاستعداد للاتصالات القريبة المقبلة بين قادة إسرائيل والولايات المتحدة، من المهم جداً أن نذكر أنه، بعكس النظرة التبسيطية، لا توجد ضمانة أن "الانقباض" تحت ضغط الرئيس من شأنه أن يؤدي إلى تحسين العلاقات بالولايات المتحدة، أو أن الصمود في مواجهة الضغط سيكون وصفة تلقائية لتدهورها. فعلى سبيل المثال، في سنة 1988، في ذروة "الانتفاضة"، وعلى الرغم من التدهور في صورة إسرائيل في الولايات المتحدة، ومن التدهور في العلاقات بين الحكومتين، فإن الدولتين وقعتا الاتفاقية الاستراتيجية الأكثر تطوراً وأهمية. بل حتى أن الولايات المتحدة دعت إسرائيل إلى المشاركة في برنامجها المهيب، "حرب النجوم". وفي سنة 1983، بعد حرب "سلامة الجليل" [اجتياح لبنان في سنة 1982]، وعلى الرغم من رفض رئيس الحكومة [وقتئذ مناحم] بيغن اللاذع لـ"مشروع ريغان"، وعلى الرغم من الصدع الذي هدد العلاقات الشخصية بينهما، فقد وُقّعت اتفاقية استراتيجية أحيت اتفاقية سنة 1981. ومع انتهاء الحرب الباردة في عام 1991/1992، بينما رثا موظفون كبار في القدس وواشنطن الارتباط الاستراتيجي الخاص بالولايات المتحدة، وعلى الرغم من حنق وغيظ الرئيس بوش ووزير الخارجية بيكر، فإن الكونغرس وافق علة سلسلة تشريعات أغنت، على نحو لا سابقة له، التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل، وحسنت بصورة جذرية الارتباط الاستراتيجي بين الدولتين.
منذ سنة 1948 حتى سنة 1992، كان هناك خلاف مستمر بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن العناصر الحساسة في الصراع العربي – الإسرائيلي، وكان هذا من سمات العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة. ولم تعترف الإدارة من ناحيتها حتى بسيادة إسرائيل على القدس الغربية، ومارست ضغطاً على جميع حكومات إسرائيل للانسحاب إلى خطوط سنة 1949. لكن ذلك كله لم يمنع من رفع إسرائيل، في سنة 1988، رسمياً إلى مكانة حليف استراتيجي مفضّل في نظر واشنطن. لقد تسبب خلافات حادة في الرأي (مثلاً، الخلاف في إثر قصف المفاعل النووي العراقي في سنة 1981) بتوترات قصيرة الأمد، لكن هذه الخلافات لم تنقص من التقدير الاستراتيجي البعيد المدى لأهمية إسرائيل (شكر وزير الدفاع تشيني، في سنة 1991، إسرائيل على قصف المفاعل النووي، الأمر الذي كانت له مساهمة كبيرة في حرب الخليج).
إن الارتباط الاستراتيجي القائم بين الدولتين لم يُقَم على دعائم الصراع العربي – الإسرائيلي. إنه يدور على محور مصالح وتهديدات مشتركة، نابعة من الإطار الإقليمي والعالمي، وهذه أكثر أهمية من عملية أوسلو، ومن اتفاق الخليل، ومن "النبضة الثانية" [إعادة الانتشار الثانية]، ومن "هار حوماه" [جبل أبو غنيم]، ومن نقاط خلاف أُخرى ذات صلة بالصراع العربي – الإسرائيلي: تهديد الإرهاب الإسلامي؛ إمداد قادة راديكاليين بأنظمة أسلحة غير تقليدية؛ تزعزع نظم حكم عربية مؤيدة للغرب؛ تهديد لمصادر وطرق الملاحة البحرية؛ وغير ذلك من شؤون.
إن محاولة تركيز العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة في بؤرة عملية أوسلو هي محاولة تبسيطية ومجافية للواقع المركب، وتقلص أهمية إسرائيل الاستراتيجية. وتلحق الضرر أيضاً بالمصالح الحيوية الإسرائيلية والأميركية. وينطبق ذلك أيضاً على محاولة تقليل وزن الكونغرس وتصوير الرئيس أنه كلي القدرة. ومثل هذه المحاولات من شأنه إضعاف قدرة إسرائيل على المساومة، وهو ينطوي على تنازل عن مراكز قوة مؤيدة لإسرائيل برهنت على قدرتها واستعدادها للتخفيف من ضغط الإدارة على إسرائيل، بل حتى تحييد هذا الضغط.
ضغط نفسي معتدل[2]
يجمع معظم الخبراء بعلاقات الولايات المتحدة – إسرائيل، في البلد وعبر البحار، على أن إدارة الرئيس بيل كلينتون لن تمارس ضغطاً على حكومة بنيامين نتنياهو، حتى لو لم يتجاوب رئيس الحكومة مع خطة السلام الأميركية التي تدعو إلى الانسحاب من 13٪ من الضفة الغربية ونقل هذه المناطق إلى السلطة الفلسطينية. "إن الضغط سنة 1998 سيكون طرازاً مختلفاً تماماً عما عرفناه حتى الآن." هذا ما يقوله أحد الخبراء، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه لأنه مقرب من حزب العمل ويشارك في العملية السياسية. وهكذا فليس من المتوقع أن تقوم الإدارة [الأميركية]، في المدى القريب، بتعليق المساعدة الاقتصادية أو منع الإمداد بنظم الأسلحة، أو حتى بمواجهة علنية أو إطلاق تصريحات استثنائية وخطرة. مع ذلك، يمكن الافتراض أنه سيتم اللجوء وراء الكواليس إلى وسائل شتى: دبلوماسية وعسكرية واقتصادية – وهي خطوات تعني، في الواقع، الضغط.
هناك من يرى ذلك حتى في أقوال هيلاري كلينتون يوم الخميس الفائت [7/5/1998]. فهي قالت، رداً على سؤال لدى ظهورها أمام شباب، إن الشعب الفلسطيني جدير بدولة خاصة به. ويرى يوسي [يوسف] ألفر، الذي كان سابقاً رجلاً في الموساد وباحثاً كبيراً في مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، وهو الآن مدير مكتب الشرق الأوسط التابع للجنة اليهودية – الأميركية، أن لا شك في أن أقوال زوجة الرئيس "لم تأت مصادَفة، وكانت بالتنسيق مع زوجها." وبحسب رأيه، فإن هيلاي كلينتون ليست معروفة بتأثيرها في تشكيل تفكير الرئيس في موضوعات شتى فحسب، بل يجدر أيضاً تناول أقوالها في السياق العام للسياسة الأميركية. ففي كانون الثاني/يناير من هذه السنة، قال كلينتون في أثناء اجتماع بينه وبين ياسر عرفات إن جميع الشعوب جديرة بدول خاصة بها. وقبل أسبوع، لمّحت وزير الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، خلال لقائها رئيس الحكومة نتنياهو في لندن، إلى أن الإدارة [الأميركية] قد توافق – أو على الأقل لن تعارض – على قيام عرفات بإعلان دولة فلسطينية في أيار/ مايو 1999 (وفقاً لتصريحه أنه سيفعل ذلك إذا لم يتم التوصل حتى ذلك الحين إلى اتفاق مع إسرائيل بشأن الوضع النهائي للمناطق).
أمّا البروفسور إيتمار رابينوفيتش، الذي كان سفيراً لإسرائيل لدى واشنطن حتى ما قبل عام ونصف عام، فلعل لديه تحفظات إزاء يقينية ألفر بشأن مدى التنسيق المسبق بين هيلاري كلينتون وزوجها. لكن من الواضح له أيضاً أنه يوجد مثل هذا التوجه، لا في الإدارة وحدها، بل في البيت الأبيض أيضاً. ويشير إيتمار، دليلاً على ذلك، إلى أن بيل كلينتون وافق على أن يظهر في الأسبوع الماضي في اجتماع لـ"جمعية الخريجين الأميركيين العرب" – وهي جمعية تعتبر راديكالية في مواقفها حيال إسرائيل والصراع العربي – الإسرائيلي. إن مجرد ظهور رئيس الولايات المتحدة في مثل هذا الاجتماع، أول مرة في تاريخ هذه الجمعية، يعتبر إشارة سياسية ساطعة مفادها أن مكانة إسرائيل ورئيس حكومتها لدى الإدارة الأميركية قد تآكلت، في حين أن مكانة الجالية العربية – الأميركية عامة، والجالية الفلسطينية خاصة، تتجه صعوداً.
لعل حزب العمل وميرتس والفلسطينيين والدول العربية، وحتى دول الاتحاد الأوروبي، لا ترى في الخطوات التي تتخذها الولايات المتحدة ضغطاً شديداً، كما كانوا يريدون أن يروا، لكن نتنياهو نفسه يفسّر الوضع على هذا النحو. وتصريحاته الأخيرة، بصيغة: نحن دولة ذات سيادة ولا أحد يملي علينا أي موقف نتخذ، تدل على ذلك. ومع ذلك، يرى إيتمار رابينوفيتش أن "مفاهيمنا بشأن ضغط أميركي لم تعد صالحة للاستعمال في ظل الواقع الجديد وتتطلب إعادة النظر فيها."
وبحسب تجربة ربع القرن الأخير، وفي الواقع منذ الخمسينات، لم تتردد الإدارة الأميركية في ممارسة ضغوط وتهديدات على إسرائيل لحملها على قبول مقاربتها، في كل مرة لن ترض فيها الإدارة – سواء أكانت إدارة الجمهوريين أم إدارة الديمقراطيين – عن موقف إسرائيل. وقد بدأ ذلك منذ تشرين الأول/أكتوبر 1953، عقب هجوم الجيش الإسرائيلي على قرية قبية في الضفة الغربية (الذي قُتل فيه 69 مدنياً)، وأعمال تحويل مياه نهر الأردن التي قامت إسرائيل بها في سهل الحولة. ففي إثر ذلك، قرر الرئيس دوليت أيزنهاور، ووزير خارجيته جون فوستر – دالاس، تجميد المساعدة الاقتصادية (التي كانت حينها في هيئة قروض) لإسرائيل بقيمة 26 مليون دولار. وبعد عملية سيناء سنة 1956، مارست الإدارة ضغطاً سياسياً شديداً أجبر الحكومة الإسرائيلية على سحب قواتها من قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء. وفي ختام حرب الأيام الستة، في حزيران/يونيو 1967، انضمت إدارة لندون جونسون إلى الاتحاد السوفياتي وفرضت على إسرائيل، من خلال مجلس الأمن الدولي، وقف إطلاق النار. وتدخلت الولايات المتحدة على نحو مماثل في نهاية حرب يوم الغفران في تشرين الثاني/نوفمبر 1973، الأمر الذي أدى إلى وقف إطلاق النار ومنع إسرائيل من إبادة جيش مصري محاصر في الضفة الغربية لقناة السويس، وبعد مرور نحو عامين، أعلن وزير الخارجية هنري كيسنجر، والرئيس جيرالد فورد، سياسة "إعادة التقويم" – حين رفضت إسرائيل الانسحاب من مضيقي ميتلا والجدي في سيناء من أجل تسليمهما إلى مصر وإنجاز الاتفاق المرحلي. وشمل تجميد المساعدات لإسرائيل هذه المرة تجميد صفقات الأسلحة أيضاً، النتيجة التي كانت واشنطن تريد تحقيقها؛ فقد اضطرت حكومة يتسحاق رابين إلى تليين مواقفها، وتم في آب/أغسطس – أيلول/سبتمبر توقيع الاتفاق المرحلي مع مصر وواصلت إسرائيل انسحاباتها من سيناء.
وفي اللقاء الذي جرى في كامب ديفيد، والذي أدى إلى إقامة السلام بين إسرائيل ومصر سنة 1979 وإلى إجراء محادثات بشأن إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين، وُجّهت مجموعة ديناميات رافقتها ضغوط مارسها الرئيس جيمي كارتر على رئيس الحكومة الإسرائيلية، مناحم بيغن، في الغالب، وعلى الرئيس المصري أنور السادات أيضاً أحياناً.
ومورست منظومة العقوبات الأميركية مرة أُخرى في كانون الأول/ديسمبر 1981، حين أقر الكنيست قانون ضم الجولان الذي اقترحته حكومة مناحم بيغن. فقد كانت ردة فعل إدارة الرئيس رونالد ريغان الصديقة فورية: جُمدت مذكرة التفاهم بشأن التعاون الاستراتيجي بين الدولتين، وأوقف إرسال 75 طائرة ف – 16 إلى سلاح الجو الإسرائيلي.
بلغت منظومة الضغوط والعقوبات الأميركية على إسرائيل ذروتها في عهد إدارة الرئيس جورج بوش، ووزير الخارجية جيمس بيكر. فقد حمل الاثنان، اللذان كانا في ذروة قوتهما وهيبتهما، حكومة يتسحاق شمير على الاشتراك في مؤتمر السلام في مدريد، الذي عُقد بصيغة مؤتمر دولي كان شمير يعارضه أشد المعارضة. كما أن بوش وبيكر منعا تحويل ضمانات إلى إسرائيل، بقيمة عشرة مليارات دولا، تهدف إلى استيعاب الهجرة من روسيا ومن رابطة الدول المستقلة لأن حكومة شمير رفضت وقف الاستيطان. ولم تمنح إدارة بوش الضمانات إلاّ بعد أن اعتلت سدة السلطة حكومة حزب العمل برئاسة يتسحاق رابين. لكن بعد وقت قصير من ذلك، وجود بوش نفسيهما خارج البيت الأبيض.
إن بيكر، في الواقع، ينصح لخليفته أولبرايت، من حين إلى آخر، السير على خطاه واتخاذ موقف صلب حيال إسرائيل. لكن لا هي، ولا الرئيس كلينتون بالتأكيد، يميلان إلى قبول نصيحته – أقله في هذه المرحلة. إذ يجمع معظم الخبراء على أن كلينتون هو الرئيس الأكثر صداقة لإسرائيل على الإطلاق. و"هو أيضاً الرئيس الأكثر سياسية"، كما أشار، بشيء من السخرية، الخبير الذي طلب عدم ذكر اسمه، والذي أضاف قائلاً: "يبدو أنه يفضل السلام مع الجالية اليهودية على السلام في الشرق الأوسط."
وبحسب رأي إيتمار رابينوفيتش، فإن الرئيس غير معني بمواجهة مكشوفة مع إسرائيل لعدة أسباب. والسبب، في المقام الأول، هو الوضع السياسي داخل الولايات المتحدة، حيث ضعف موقفه في إثر قضاياه الجنسية، ولا سيما علاقاته بمونيكا لوينسكي. والسبب الآخر هو "هشاشة وضع نائب الرئيس آل غور"، الذي ارتبط اسمه بعدد من فضائح تجنيد الأموال للديمقراطيين من رجال أعمال مشكوك في أمرهم. ويعتزم غور أن يدخل المنافسة كمرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة بعد نحو عامين، وهو سيكون بحاجة إلى دعم أصحاب رأس مال يهود في حملته الانتخابية. ولذلك لن يتخذ الرئيس خطوات تضعف فرص من يرى فيه وارثه.
ويضيف البروفسور رابينوفيتش أن انتخابات الكونغرس القريبة هي أيضاً سبب كاف لمنع الإدارة من ممارسة ضغط مكشوف على إسرائيل. ويؤكد يوسي ألفر "أن لا شك في أن الإدارة تنظر شزراً طوال الوقت إلى الجالية اليهودية، ولا سيما الجزء المنظم منها، وإلى قيادتها، من أجل أن ترى كيف سترد." فبعد الأقوال التي أطلقتها هيلاري كلينتون، أُغرق مكتبها والبيت الأبيض ببرقيات احتجاج أرسلها رؤساء الجالية اليهودية، وحتى من لا يتماثلون، في الغالب، مع سياسة نتنياهو.
وعلى هذه الخلفية، يعتقد إيتمار رابينوفيتش أن "نتنياهو يقرأ الوضع الذي نشأ في الساحة السياسية الأميركية قراءة صحيحة. وهو أدرك أن كلينتون وإدارته غير معنيين بمواجهة علنية مع إسرائيل ولن يمارسا ضغطاً من الصنف القديم." ويعتقد السفير السابق أيضاً أن رئيس الحكومة يشعر بأن في إمكانه تحقيق إنجاز لا سابق له إذا استمر في رفضه الاستجابة للطلب الأميركي، وبأنه قادر على هزيمة الرئيس في عقر داره – الأمر الذي لم يحدث، حتى الآن، مع أي رئيس حكومة إسرائيلي.
حاول رؤساء حكومات إسرائيلية، مرتين على الأقل، الدخول في مواجهة جبهية مع رؤساء للولايات المتحدة. ففي سنة 1981، حاول مناحم بيغن تجنيد الكونغرس ضد إدارة رونالد ريغان من أجل منعها من إمداد السعودية بطائرات الأواكس. وكانت المرة الثانية، عندما حاول يتسحاق شمير الوقوف في مواجهة الرئيس بوش في قضايا مؤتمر مدريد والمستعمرات. وهُزم رئيسا الحكومة في المرتين، وكانت خسارة إسرائيل مثلثة وبحسب رأي إيتمار رابينوفيتش: الإدارة انتصرت. والعالم كله شهد أن إسرائيل تحدت الإدارة الأميركية وانهزمت، والإدارة غضبت على الحكومة الإسرائيلية.
وبحسب السفير السابق، فإن بنيامين نتنياهو يعتقد أن معادلات القوى في الساحة السياسية الأميركية تختلف اليوم عما كانت عليه. ويقول رابينوفيتش: "الدليل على ذلك أقوال رئيس مجلس النواب، نيوت غينغريتش، الذي دان الإدارة بسبب محاولاتها إضعاف إسرائيل. ولا شك لديّ في أن غينغريتش ينسق جيداً مع حكومة نتنياهو." مع ذلك، يقدر كل من إيتثمار رابينوفيتش ويوسي ألفر أن رئيس الحكومة يفضل الامتناع من المواجهة. ويقول ألفر "إن نتنياهو يجهد في ألاّ يقول لا للإدارة."
وبحسب رأي الاثنين، فإنه حتى إذا كانت الإدارة لا تسعى لمواجهة مكشوفة مع إسرائيل، فإنها لا تزال تملك وسائل متنوعة يمكنها استخدامها من وراء الكواليس كإشارات وتحذير بشأن العقوبة المتوقعة لإسرائيل. ويمكن أن يتجسد ذلك في خطوات قليلة الشأن ظاهرياً، يقول ألفر: نبدأ نرى هنا وهناك بوادر مماطلة في الاستجابة للطلبات الإسرائيلية المتعددة – في مجال التعاون الاستراتيجي والأمني في الأغلب – التي لا تصل أنباؤها إلى وسائل الإعلام. وبناء على توجيهات من فوق – من البيت الأبيض أو البنتاغون أو وزارة الخارجية – قد يبدأ موظفو الإدارة "العمل بحسب الكتاب"، والحرص "على قلب الأوراق"، بحسب تعبير خبير آخر، وهو يشير بذلك إلى الوضع الذي نشأ بعد الكشف عن [الجاسوس] جوناثان بولارد، قبل اثني عشر عاماً، حين كان يتم إشعار الموظفين الإسرائيليين، ولا سيما من ينتمي منهم إلى أجهزة الاستخبارات، بأنهم بمثابة مشتبه فيهم، وكانوا في كل مرة يدخلون فيها مكاتب نظرائهم، يخفي هؤلاء عنهم وثائق كانت قبل ذ1لك توضع على الطاولة من دون خوف. مع ذلك، فإن التهديد بإلحاق الضرر بالمساعدات الاقتصادية ليس إمكاناً معقولاً، إذ إن تقليص هذه المساعدات نوقش في هذه الأثناء في المحادثات التي أجرها وزير المالية، يعقوف نئمان، في واشنطن.
قد تلجأ الولايات المتحدة إلى وسيلة لن تروق لحكومة نتنياهو. فهي تستطيع التوجه سراً إلى الاتحاد الأوروبي قائلة له: "نحن حاولنا واستنفدنا الإمكانات. فلتحاولوا أنتم." ويعتقد ألفر رابينوفيتش وخبراء آخرون أن أخطر عقوبة يمكن أن تُتخذ حيال إسرائيل هي إيجاد جو يدل على أن الولايات المتحدة عافت أفعال الحكومة الإسرائيلية، وأنها تتخلى عن عملية السلام. ويرى رابينوفيتش أنه "إذا توصلت الإدارة إلى استنتاج مفاده ضرورة تغيير قواعد اللعبة، فإنها ستتسبب لإسرائيل بدفع ثمن باهظ على المدى الطويل."
إن التخلي الأميركي، بالتدريج، عن التدخل في العملية [السلمية]، وهو ما بدأ ألفر يشخص بداياته الأولى، سينقل معه إلى الرأي العام في الولايات المتحدة وفي العالم أجمع، وكذلك إلى الجيل الشاب من يهود أميركا، الذي لا يني يبتعد عن إسرائيل في كل حال، رسالة واضحة مفادها أن في الإمكان إلحاق الضرر بصيت الإسرائيليين.
يقول ألفر: "في الواقع، علينا أن نسأل أنفسنا عن هدف ممارسة الضغط." ويوضح قائلاً: "بحسب النموذج الذي أوجده بوش وبيكر، الهدف هو عز الحكومة الإسرائيلية، ولا سيما من يقف على رأسها، وإيجاد فاصل بينه وبين الرأي العام الإسرائيلي." وبعبارة أُخرى، فإن هدف إدارة كلينتون في الفترة المقبلة، إذا لم تستجب إسرائيل للخطة الأميركية أو إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، سيكون – بحسب تقدير ألفر – استحداث الانطباع لدى الرأي العام الإسرائيلي بأن الولايات المتحدة غاضبة على نتنياهو وتعتبره مسؤولاً مباشراً ورئيسياً عن تدهور العلاقات بين الدولتين. وتقوم هذه المقاربة على قاعدة الأمل بأن يقوم الرأي العام الإسرائيلي نيابة عنهم [عن الأميركيين] بالمهمة القذرة: خوفاً من الأضرار التي ستلحق بموقف إسرائيل في المستقبل، ولا سيما بوضعها الاقتصادي، فإن الرأي العام في البلد سيضغط على رئيس الحكومة كي يغير سياسته ويفرض عليه قبول [الخطة الأميركية].
الانسحاب الأميركي [من المفاوضات] ليس الحل[3]
ثمة خطران يحومان، في الآونة الأخيرة، فوق إسرائيل والفلسطينيين في حال فشل جهود الوساطة الأميركية الحالية أيضاً: يتمثل الأول في أن الولايات المتحدة ستقول للطرفين إنه إذا كانا لا يريدان التوصل إلى حل وسط معقول، كما تقترح هي، فإنها ستتركهما ينضجان على نار هادئة. والثاني هو أنه إذا عُلِّقت المفاوضات فإن الإدارة [الأميركية] ستنشر مشروعها بشأن حل الصراع، ولن ترتدع عن توجيه إصبع الاتهام نحو من يعرقل عملية السلام. [لكن] من المشكوك فيه كثيراً أن تجري الأمور على هذه الصورة.
لا يوجد أي دليل على أن هناك ما يُسمى "مشروع كلينتون"، على غرار "مشروع روجرز" و"مشروع ريغان" اللذين اقترحا، في حينهما، وسائل لحل الصراع العربي – الإسرائيلي. ويبدو أن واشنطن استنتجت الدروس من الفشل [الذي لحق بالمشروعين السابقين]. فمثل هذه المشاريع يصاغ، في الغالب، بطريقة غير مرنة، الأمر الذي يصعّب إيجاد حلول وسط. وتكون النتيجة أن يتحول الوسيط في نهاية الأمر إلى فريق في الصراع. وفي المقابل، نجحت في الماضي جهود وساطة أميركية لم تكن خاضعة لإطار جامد، والمثال لذلك الوساطة في الاتفاق المرحلي في سيناء بين إسرائيل ومصر، أو في اتفاق فصل القوات في الجولان بين إسرائيل وسورية، أو حتى الاتفاق الصامت بشأن "الخطوط الحمر" في لبنان للجيش السوري.... سنة 1976.
وبدلاً من "مشروع كلينتون"، نتوقع أن نسمع أفكاراً أميركية عن الموضوعات محط الخلاف. ولا يعني غياب مشروع أميركي محدد أن ليس لدى الإدارة رأي فيمن يتحمل مسؤولية أكثر عن عرقلة عملية السلام. ويمكن أن يوجَّه مثل هذا التوبيخ إلى إسرائيل، لكن بأسلوب حذر لا ينتهك قواعد اللعبة. كما يسود الرأي في إسرائيل أن نشر مشروع أميركي لتحريك العملية سيلحق الضرر بإسرائيل قبل أي شيء وهذا صحيح.
والأكثر تعقيداً من ذلك هو التهديد بأن واشنطن قد تتخلى عن مهمة الوساطة وتترك الإسرائيليين والفلسطينيين لوحدهم. فمثل هذه الخطوة يتناقض جوهرياً مع موقف الولايات المتحدة بصفتها دولة عظمى قائدة ومع تصورها لذاتها، كما أنه يضر بمصالح أميركية.
إن انسحاباً أميركياً من المفاوضات يعني إيجاد فراغ بين الفريقين المتنازعين. وقد سبق أن تعلمنا مثل هذا الفراغ السياسي والعسكري لا يدون فترة طويلة، وينتهي في الإجمال بأن تملأه عناصر متطرفة تسعى لاستخدام وسائل عنيفة من أجل فرض وقائع على الأرض. فلنتصور وضعاً لا وجود فيه لمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين ولا وجود لوسيط، والجمود يلف كل شيء. في الجانب الفلسطيني، ستزداد قوة من يطالبون باستعمال القوة والإرهاب وأساليب أخرى، حتى إذا أدت إلى سقوط ضحايا كثيرين، وذلك من أجل أن يتخذ العالم والولايات المتحدة خطوة حازمة في اتجاه فرض حل.
وفي الجانب الإسرائيلي، سنشهد في مثل هذا الوضع خطوات أحادية الجانب تستند هي ايضاً إلى مبدأ القوة، كتوسيع المستوطنات مثلاً. فمن الواضح أن الضغط الداخلي من جانب الأحزاب اليمينية لزيادة مستوطنات سيقوى، وكذلك ستزداد قوة المعارضين في المعسكر الإسرائيلي لعملية السلام، ولا سيما إذا لجأ الفلسطينيون إلى العنف.
ربما في إمكان قوى عظمى أن تتحرك بطرق غير مباشرة، أو أن تتخذ جانباً، إذا اقتنعت بأن الفريقين خرجا من جمودهما عقب مواجهة كبرى أو حرب، أو عندما يظهران استعداداً لأن يتوسط أحد بينهما ويوقف سفك الدماء. وقد وُجّه مثل هذه التهمة، في حينه، إلى هنري كيسنجر فيما يتعلق بحرب يوم الغفران [سنة 1973]. ومن الصعب أن نصدّق أن هذا هو التوجه الأميركي [الآن]. ربما نعرف كيف يبدأ مثل هذه المواجهة، لكننا لا نعرف كيف سيتطور. فمثلاً، هل ستنضم دول عربية إلى تحرك عنيف ضد إسرائيل إذا أفرطت في استخدام القوة ضد الفلسطينيين؟ وبالتالي، فإن خطر التخلي الأميركي [عن المفاوضات] غير وارد. وفي أقصى الحالات، فإن الولايات المتحدة ستقلل تدخلها، لكن مع الاحتراس.
ثمن سيُدفع[4]
تأتي زيارة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الحالية للولايات المتحدة في ظروف استثنائية للغاية. فقد ازدرى نتنياهو بيل كلينتون، ووزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، مؤخراً عدة مرات. واتهم هو والناطقون بلسانه كلينتون وإدارته بممارسة ضغط على إسرائيل للتضحية بمصالحها الأمنية من أجل التوصّل إلى اتفاق مع ياسر عرفات، وجنّدوا عدداً كبيراً من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب – وخصوصاً رئيس مجلس النواب نيوت غينغريتش – لدعم الموقف الإسرائيلي، وتحذير كلينتون من إضعافه.
والمدهش أن هذا كلّه قوبل بردّة فعل خفيفة من الإدارة الأميركية. فعلى الرغم من التهديدات المتتالية بإعلان خطة أميركية، وبإلقاء أولبرايت خطاباً تلوم فيه نتنياهو على انهيار المفاوضات، أو تعلن فيه انسحابها من عملية السلام، فإن كلينتون ومساعديه وافقوا على تحديد موعد أو مكان جديد للزيارة، وأوفدوا أيضاً دنيس روس في زيارة نهائية أُخرى للمنطقة. وحين أخفق نتنياهو في استيفاء الشروط لقمّة واشنطن، التي كان مقرّراً عقدها يوم الاثنين الماضي [11/5/1998]، أُلغيت تلك القمة، واستبدلت باجتماع نتنياهو – أولبرايت في وقت لاحق من الأسبوع.
وهذه السلسلة الاستثنائية من الأحداث تنبثق من مصدرين مختلفين جداً:
(1) قيام واشنطن، في أواخر سنة 1996، بدور جديد في عملية السلام الفلسطيني – الإسرائيلي، إذا لم تعد مجرد ميسّر للعملية، بل أصبحت أيضاً شريكاً ثالثاً وحكماً نهائياً فيها، وذلك بتشجيع إسرائيلي وفلسطيني. فهكذا تم التوصّل إلى اتفاق الخليل في كانون الثاني/يناير 1997. وكان من نتاجات هذا التطوّر الجانية حدوث تحوّل في مصالح واشنطن وحساباتها. فقد بات من المهم للولايات المتحدة ألاّ تكتفي بالحؤول دون انهيار الاتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي، بل أن تحمي أيضاً صدقيتها وهيبتها. وكان النتاج الجانبي الثاني التغيّر الذي حدث طوال 14 شهراً مضت، في العلاقة بين الأطراف الثلاثة في اتفاق الخليل. ففي الواقع أصبحت الولايات المتحدة والفلسطينيون، مع مرور الوقت، في جانب واحد، بينما بقيت إسرائيل في الجانب الآخر، في حين بدأت الولايات المتحدة وعرفات اتهام نتنياهو بتأخير المزيد من التقدم. وهكذا، حلّ التفاهم الأميركي – الفلسطيني، والتنافر الأميركي – الإسرائيلي المتزايد، محلّ النموذج التقليدي المعتاد من التعاون الوثيق والحميم بين إسرائيل وواشنطن، كأساس لعملية السلام.
(2) كان التطور المهم الثاني، منذ كانون الثاني/يناير الماضي، إضعاف رئاسة كلينتون بإثارة قضية لوينسكي. وفي ظل هذه الظروف، لم يشأ الرئيس ومساعدوه المضيّ في مواجهة مباشرة مع نتنياهو وأصدقائه اليهود والجمهوريين المحافظين.
لقد أثبت نتنياهو، خلال الأشهر الأربعة الماضية، أنه يستطيع تحريك غينغريتش والقسّ جيري فالويل وعدد كبيرة من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب، لدعمه ضد سياسات الإدارة الأميركية. وقد قام بعضهم بذلك بعد بعض التحريض، بينما أحبّ بعضهم الآخر أن يثبت وجوده وآراءه على حساب السلطة الرئاسية وامتيازاتها. وقد سبق أن حدث بعض هذا الأمر في الماضي، لكن ليس على هذا النطاق. فليس هناك سابقة بهذا المستوى من التدخل الإسرائيلي في السياسة الداخلية للولايات المتحدة.
من المهم في هذه المرحلة تحذير نتنياهو من اجتياز خطوط جديدة في هذه المواجهة. فالجدال الدائر حالياً مع الولايات المتحدة ليس بشأن مسألة مصيرية، بل هو بشأن تفصيلات اتفاق واحد في عملية طويلة. كما أن ليس من الضروري اتخاذ مواقف حاسمة بصورة اعتباطية. فإسرائيل ليست أمام إدارة [أميركية] معادية حريصة على دفعها إلى الوراء إكراماً لأصدقائها العرب.
إن كلينتون وإدارته يكنان الودّ لإسرائيل ويدعمانها بصورة استثنائية. طبعاً، لدى كل منهما وجهة نظر مختلفة بشأن عملية السلام. وهما اليوم يريان أنّ انهيارها سيعرّض استقرار الشرق الأوسط للخطر، ويقوّض هيبة الولايات المتحدة وصدقيتها، ويؤثر في علاقتها بحلفائها العرب. وهما مصممان على تنفيذ إعادة انتشار إضافية. ولهذا، يجد نتنياهو نفسه عالقاً في معركة إرادات مع رئيس الولايات المتحدة.
من الممكن جداً التوصّل إلى صيغة تسوية ما، في أثناء زيارة نتنياهو للولايات المتحدة. ففي الواقع، إن اللين في موقف واشنطن يعود إلى توقّعها أن في مرحلة ما سيقرّر نتنياهو عقد الاتفاق.
لكن ذلك ربما لا يحدث، الأمر الذي قد يغري نتنياهو بتصعيد ضغطه على الإدارة الأميركية في مؤتمر "إيباك"، وخلال وجوده في "تلة الكابيتول"، أو من خلال مقابلاته مع وسائل الإعلام. وسيكون ذلك خطأً فادحاً. إذ لا يجوز لرئيس حكومة إسرائيلي أن يتحدّى رئيس الولايات المتحدة في عقر داره، لأن ثمن هزيمته سيكون باهظاً، لكن ثمن انتصاره سيكون باهظاً أيضاً. وقد لا يستحق دفع الثمن فوراً، لكن سيكون هناك ثمن في المدى البعيد.
لقد نجح نتنياهو، إلى الآن، في إحباط مطالب الفلسطينيين وتوقّعاتهم. لكنه أدى، بعمله هذا، إلى توتير علاقة إسرائيل بواشنطن إلى نقطة خطرة. وإذا ما فشل في التوصّل إلى اتفاق مع أولبرايت في هذا الأسبوع، فينبغي له أن يتجنّب إثارة المزيد من التوتّر مع الولايات المتحدة.
الخصم الجديد لنتنياهو[5]
اختار رئيس الحكومة، نتنياهو، خصماً جديداً هو الولايات المتحدة. فطوال 18 شهراً مضت، فعل كل ما في وسعه لاختبار صبر الإدارة الحالية في واشنطن، وتقويض حسن نيّتها. وقد أزعج الرئيس كلينتون وسخر منه وتحدّاه وراوغه وحاول حتى أن يهينه.
إن سجلّ أعمال نتنياهو لمضايقة كلينتون حافل تقريباً. ويكفي أن نتذكّر بعض البنود البارزة فيه: نكث نتنياهو، تكراراً، وعوداً قطعها للرئيس، مسيئاً بذلك إلى علاقات الولايات المتحدة بشركاء مهمين (في طليعتهم الملك حسين). بدأ البناء في مستوطنات مثيرة للخلاف الشديد، وخصوصاً في هار حوما ورأس العمود؛ تضامن علناً مع زعماء اليمين الديني الأميركي، الذين يقفون وراء حملة التشهير بكلينتون (جيري فالويل على سبيل المثال لا الحصر)؛ شارك بوضوح في ضغوط الكونغرس ضد سياسة الإدارة الأميركية؛ وفي هذا الأسبوع بالذات، أثار غضب وزير الخارجية مرة أُخرى في لندن، بعد جهود أميركية حثيثة لإعادة المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية إلى سكّتها.
فما الذي يأمل نتنياهو بأن يحقّقه باستفزاز الحليف الأقرب (البعض يقول الأوحد) لإسرائيل؟
إن هدف رئيس الحكومة، ظاهرياً، هو التخفيف مما يسمّى الضغط الأميركي على إسرائيل في أكثر المراحل دقة من إطار العمل المتهاوي لاتفاقات أوسلو. وربما كان هدفه أبعد من ذلك، إذ يظن الكثيرون أن غايته هي إحباط العملية كلها. وإذا كانت هذه المهمة تستلزم التشكيك في القدرات التفاوضية للولايات المتحدة، وبالتالي تقويض صدقيتها، فليكن. ويعتقد نتنياهو أنه يمكن لهذه المناورة أن تنجح لأسباب، بينها هشاشة وضع الرئيس كلينتون على الجبهة الداخلية. كما يمكنه أن يعتمد على عدم مبالاة قطاعات واسعة من مجتمع اليهود الأميركيين تجاه نأزق إسرائيل، حيث أصبح هؤلاء، في أحسن تقدير، أكثر بعداً عن إسرائيل بسبب قانون التهوّد وقضايا أُخرى. وهو يراهن على انهماك المعارضة الإسرائيلية في قضايا داخلية، كالدين والدولة والنسبة العالية للبطالة، فضلاً عن مراهنته على ردة الفعل العفوية من الجمهور الإسرائيلي حيال تهديد التدخّل الخارجي، من أجل تعديل ردات الفعل المحلية.
وهكذا، فإن رئيس الحكومة يُظهر مرة أُخرى ضيق رؤية خطراً، ينذر بنحر المصالح الإسرائيلية الأساسية على مذبح المكاسب المرحلية العابرة. قبل كل شيء يخلط نتنياهو، بصورة منهجية، بين المشاركة الأجنبية والضغوط الخارجية. إن المشاركة الدولية في عملية السلام في الشرق الأوسط، وخصوصاً المشاركة الأميركية المباشرة، كانت حجر الأساس في كل اتفاق سلام وقعته إسرائيل مع جيرانها. فتلك هي الحال في اتفاقي كامب ديفيد، وفي مبادرة أوسلو حتى الآن، وفي معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية. وسيكون ضرباً من التهوّر مجردة التفكير في إمكان التوصل إلى سلام دائم مع الفلسطينيين (هذا فضلاً عن سورية أو لبنان) من دون الجهود الطيّبة والضمانات التي تقدّمها الولايات المتحدة. إن إسرائيل وجيرانها العرب لم يتوصلّوا في الماضي، ولا يمكنهم التوصّل إلى اتفاق من جون المشاركة الفعّالة من فريق ثالث. والولايات المتحدة تبقى الدولة الوحيدة المعنية بأداء هذا الدور، والقادرة على القيام به.
ثانياً، يتعمّد نتنياهو الترويج لعدم المبالاة الدولية تجاه عملية السلام. لكن الثمن الذي قد تدفعه إسرائيل لمثل هذا الإهمال والتخلّي المحتمل [عن العملية] باهظ جداً. ولمّا كان العرب وإسرائيل لا يستطيعون معالجة الوضع الراهن بأنفسهم، فإن الاعتراض على إشراك الولايات المتحدة يصبح بمثابة دعوة إلى تجدّد دورة العنف، وربماً حتى إلى إثارة أشكال جديدة من المواجهة في المنطقة. ولهذا السبب، فإن رسالة ماك ليبرمان، الصادرة بنيّة طيّبة حتماً، والتي أيّدها 81 عضواً في مجلس الشيوخ، قد تكون لسوء الحظ عملاً وجهداً في غير محلهما. وبدعوة الولايات المتحدة إلى إنهاء دورها الذي استمر 30 عاماً كوسيط للسلام في الشرق الأوسط، فإن هذه المناشدة الموجهة إلى الرئيس قد تشرّع، بفعالية، اتجاهاً للتنصّل من هذا الدور؛ الأمر الذي ربما يعرّض إسرائيل للخطر في النهاية.
ثالثاً، بينما يواصل نتنياهو سياسته هذه فإنه يبدو راغباً في دفع ثمن عزلة إسرائيل عن المسرح العالمي. وفي عالم يتبادل بعضه الاعتماد على بعض، حيث يعتمد الرفاه الاقتصادي والسياسي لإسرائيل على تفاعلها مع الدول الأُخرى، فإن إحساء الشعار القديم، الداعي إلى الوقوف بانفراد ضد عالم معادٍ، سلوك ملآن بالتبجُّح بمظاهر الشجاعة، وبالغطرسة التي لا تطاق. وبعبارة أكثر تحيداً، فإن ذلك يتعارض مع المصالح الحيوية لإسرائيل في المدى البعيد.
رابعاً، إذا واصل نتنياهو استفزاز الولايات المتحدة فإنه يركب مخاطرة القضاء على العلاقة العريقة بين إسرائيل والولايات المتحدة. ولا يمكن التقليل من أهمية هذه العلاقة. فبالإضافة إلى الحماية السياسية والاقتصادية التي وفّرتها هذه العلاقة لإسرائيل طوال الأعوام، فإنها شكّلت مظلة معنوية لا يمكن لإسرائيل الاستغناء عنها. والإساءة إلى هذه العلاقة تعني نكران الجميل وانعدام المسؤولية بكل معنى الكلمة.
وأخيراً، بينما يواصل نتنياهو زعمه أنه يكافح لحماية أمن إسرائيل، فإن عبثه بتحالف إسرائيل مع الولايات المتحدة قد يؤثر سلباً في الأمن الذي يدّعي الدفاع عنه.
كما أن إمكان قيام الفلسطينيين بإعلان دولة فلسطينية من جانب واحد في 4 أيار/مايو 1999، يؤكد ضرورة التوصل إلى تسوية متفاوض في شأنها خلال السنة المقبلة.
فإذا بقي دور الولايات المتحدة موضع تساؤل من جانب إسرائيل، وبقيت إمكانات النجاح ضعيفة، فإن الولايات المتحدة، في غياب الحافز على التوصّل إلى اتفاق، ربما تبحث عن وسائل أُخرى لضمان مصالحها في المنطقة، الأمر الذي قد يعرّض إسرائيل لتهديدات واسعة وبعيدة المدى. وإسرائيل وحدها ستعاني انعكاسات هذا السلوك وكل العنف الذي سينجم عن مثل هذا السيناريو.
إن بنيامين نتنياهو، بكل ما لديه من معرفة مفترضة بالحياة الأميركية، إنما يلعب بالنار، فوضع إسرائيل على مسار تصادم مع الولايات المتحدة هو، ضمنياً، هزيمة للذات، وهو، عملياً، إجراء يعود بالضرر. ورغم أنف بيبي [بنيامين نتنياهو] فإن الإسرائيليين في معظمهم يرحّبون بدور أميركي في عملية السلام، ويدركون الجهود الكبرى التي بذلتها الولايات المتحدة للتوصل إلى سلام في هذه المنطقة. وهو لا يريدون أن يعيشوا كابوس الإهمال، ولا يستسيغون فكرة الانعزال. فإلى رئيس الحكومة نتنياهو نقول: ضع هذه الأفكار في اعتبارك قبل أن تقرّر ما إذا كنت ستسافر إلى واشنطن في الأسبوع المقبل أم لا. وللولايات المتحدة نقول: واصلي عنايتك بنا، فنحن بحاجة إليك.
[1] "هأومّاه"، العدد 130، شتاء 1997، ص 141 – 146
[2] "هآرتس"، 10/5/1998.
[3] "هآرتس"، 12/5/1998.
[4] The Jerusalem Post, May 15, 1998.
[5] The Jerusalem Post, May 8, 1998.