يتناول المقال الالتباسات التي حكمت القضية الفلسطينية، ولا سيما تلك الناشئة عن العلاقة بين الفلسطينيين والأطراف العربية، منذ إعلان قيام "كيان عموم فلسطين"، وما انطوت عليه هذه العلاقة من عناصر خلل، وكذلك بروز المقاومة الفلسطينية وما شكلته من حرج للأنظمة العربية، واعتراف هذه الأنظمة بـ م.ت.ف. ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وهذه الالتباسات في علاقة المنظمة بالأنظمة ما زالت قائمة. ويخلص الكاتب إلى ضرورة إزالة ما صاحب العلاقة المذكورة من أوجه التباس، إذا ما أردنا للقضية الفلسطينية حلاً يتلاءم مع مركزيتها.
شهدت نهايات القرن التاسع عشر، منذ مئة عام، بروز نظريتين قوميتين على طرفي نقيض: الصهيونية على يد تيودور هيرتسل، والقومية العربية على يد رواد قوميين عرب، كان الكثيرون منهم من بلاد الشام. وهاتان النظريتان عبّرتا عن هواجس: هواجس يهود أوروبا، وربما يهود شرق أوروبا بالذات، من جراء تفاقم حملات الاضطهاد ضدهم، التي عُرفت بالـ Pogroms. وقد بلورت هذه المشاعرَ قضيةُ درايفوس الشهيرة في فرنسا، وهو ضابط يهودي اتهم زوراً ببيع أسرار عسكرية فرنسية لألمانيا. وكشفت هذه القضية عن عداء أصيل للسامية، تعاظم شأنه حتى في دول مستنيرة مثل فرنسا الجمهورية، فرنسا التي استقرت لديها قيم وشعارات ثورتها الكبرى في سنة 1789.
أمّا القوميون العرب، فقد حركتهم هواجس أُخرى، وبالذات حيال ما كان وارداً حدوثه بعد سقوط الخلافة الإسلامية، وبروز صور أُخرى من الحركات التي تنسب نفسها إلى الإسلام. وقد خشيت الأقليات، وخصوصاً في منطقة الشام، أن تجد نفسها عرضة لصور جديدة من الاضطهاد لم تألفها. كانت النظريتان، إلى حد ما، علمانيتين، لانطلاقهما معاً من افتراض أن الاضطهاد الديني وارد. ومنذ خمسين عاماً، برزت القضية الفلسطينية، لا مجرد قضية محلية في فلسطين، وإنما قضية ذات أبعاد إقليمية ودولية خطرة، نتيجة إقامة دولة إسرائيل الصهيونية على أرض فلسطين.
تمثلت الأبعاد الدولية لهذه القضية في قرار التقسيم الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947. فلقد اكتسبت الدولة اليهودية، بمقتضى هذا القرار، "شرعية دولية"، واعترف بها كل الأطراف في الساحات الدولية، باستثناء الأطراف العربية. صحيح أن هذا القبول الدولي كان مشروطاً، وكان من شروطه عودة اللاجئين الفلسطينيين، الذين هُجّروا سنة 1948، إلى ديارهم. وهذا الشرط لم يتحقق قط، وهو ما يشوب شرعية دولة إسرائيل بشائبة. لكن بحكم توازن القوى بين الدولة الصهيونية والأطراف العربية، غُض النظر عن هذا الشرط ولم يعد له ذكر، حتى فيما يجري الآن من مفاوضات سلام.
نشأت القضية الفلسطينية كقضية إقليمية ودولية، لا كقضية محلية محضة فقط، انطلاقاً من التباسات معينة حكمتها منذ البداية، وهي التباسات جدير بنا أن ننعم النظر فيها الآن بعد مرور خمسين عاماً على إقامة دولة إسرائيل، وفي ظرف تمر فيه القضية الفلسطينية بمرحلة بالغة الدقة والحرج. فلقد أصبح للفلسطينيين "سلطة" لا هي مستقلة ولا هي سيادية، لكنها مع ذلك "سلطة"؛ سلطة يريدها حكام إسرائيل الحاليون منبسطة على 3% فقط من أرض فلسطين، بينما تنادي الولايات المتحدة، راعية عملية السلام، ببسط هذه السلطة على مساحة تبلغ 13% من أرض فلسطين فقط! هذا في حد ذاته مقياس "كمي" لمدى تردي القضية الفلسطينية في الظرف الراهن الذي تحتفل إسرائيل فيه بمرور نصف قرن على إقامتها.
لا أعتقد أننا بحاجة إلى إبراز موقف دولة إسرائيل من القضية الفلسطينية. فمن الواضح أن إسرائيل ما زالت تصر على تصفية القضية الفلسطينية، لا على إيجاد تسوية لها. إن العملية الجارية الآن، المنسوبة إلى هدف السلام، هي، من وجهة نظر إسرائيل، عملية ما زالت تستهدف، لا مجرد تحجيم القضية الفلسطينية، بل أيضاً تحييدها، وترويضها، وإزالتها كتحدٍ في وجه الدولة الصهيونية. ولا أعتقد أن هذا كله بحاجة إلى إثبات.
كذلك هناك التباسات تتعلق بالأبعاد الدولية للقضية الفلسطينية. فثمة تسليم من دول أوروبا، على سبيل المثال، بأنه لا بد، على نحو أو آخر، من "دولة فلسطينية" في يوم ما، حتى لو كانت هذه الدولة منقوصة السيادة، ومنزوعة السلاح، ومكيفة لتلبية مطالب إسرائيل ـ وخصوصاً الأمنية منها ـ قبل تكييفها لتلبية مطالب الفلسطينيين.
وجدير بنا أن نلاحظ أن هذا الموقف تتبناه أطراف يهودية في الولايات المتحدة ذات شأن؛ أطراف ترى أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حتى لو كان مجرد اعتراف رمزي، أفضل لإسرائيل من عدم الاعتراف بها، وتعريض الدولة اليهودية لتهديد مستمر من الفلسطينيين، باعثه طموحهم المتجدد إلى أن تصبح دولتهم دولة فلسطينية حقيقية في يوم ما.
هذا كله مفهوم من إسرائيل، ومن المجتمع الدولي. غير أن هناك التباسات ما زالت قائمة إلى اليوم ولا يجوز لنا السكوت عنها، وخصوصاً في ضوء ما جرى للقضية الفلسطينية طوال نصف القرن الماضي منذ إقامة دولة إسرائيل. وأعني بذلك الالتباسات الناشئة عن العلاقة بين الفلسطينيين والأطراف العربية. أي أن المشكلة في صفوفنا نحن، نحن الذين ننسب أنفسنا جميعاً إلى القضية الفلسطينية. فهل صحيح أن الأنظمة العربية تولي القضية الفلسطينية الاهتمام الذي تدعيه؟ هل هي مخلصة للقضية إخلاصاً حقيقياً؟ لا أتصور أن من الممكن إحراز تقدم في القضية الفلسطينية، ولا تجنيبها مآزقها الراهنة، ما دامت الالتباسات في العلاقات العربية ـ الفلسطينية قائمة كما هي الآن. وأعتقد أن هذا هو مربط الفرس فيما يوصف بـ "عملية السلام" كلها. علينا أن ندرك أنه يقع على عاتقنا نحن تحمل مسؤولية خروجنا من مآزقنا قبل تحميل الآخرين هذه المسؤولية. وهذه قضية يتعين علينا بالذات أن نتذكرها ونحن نحتفل بمرور نصف قرن على وجود "قضية فلسطينية" معترف بها عالمياً.
إن تقرير ما قصد بإعلان قيام "كيان عموم فلسطين"، مع تخصيص مقعد في جامعة الدول العربية لممثل للقضية الفلسطينية في المرحلة التي سبقت ظهور حركة فتح، وغيرها من منظمات المقاومة الفلسطينية، لم يكن موضوعاً مثيراً للجدل قط. كان المقصود، بادئ الأمر، مجرد التذكير بأن العرب لا يعترفون بدولة إسرائيل. وأنهم قد أرادوا التنبيه إلى أن هناك مكاناً شاغراً يتعين ملؤه، وأن هناك "قضية فلسطينية"، معلقة يجب أن تُحل في يوم ما. ولأن القضية ساخنة، ولأن الفلسطينيين قاوموا وناهضوا الوجود الصهيوني بصور شتى في فترة الانتداب البريطاني، ومنذ وعد بلفور، ولأن وجود إسرائيل في قلب فلسطين خطر يمس المجتمعات العربية عامة لا الفلسطينيين فحسب، فإنه لم يكن هناك مناص من أن تولي الدول العربية اهتماماً خاصاً لإبراز "كيان ما" منسوب إلى "فلسطين" العربية. علينا أن نتذكر أن مجرد ظهور دولة إسرائيل في الساحة أحدث تحولات كبرى في عدد من العواصم العربية، وبرزت للمقدمة أنظمة نسبت نفسها إلى أيديولوجيات تقدمية، واستندت بالذات إلى القوات المسلحة كضرورة أملتها مواجهة التحدي الجديد. وقد وجد هذا التحدي تعبيره الأبرز في محاولات إسرائيل محو كل وجود لكيان عربي منسوب إلى فلسطين، ومن هنا الحاجة إلى تقرير وجود رمزي لهذا الكيان في المؤسسات العربية، وعلى رأسها جامعة الدول العربية طبعاً.
بيد أن هذه المعادلة افتقرت إلى اتساق وانطوت على عناصر خلل؛ من أبرزها أن الدول العربية أرادت أن يكون للقضية الفلسطينية "وجود" و"كيان سياسي ما"، لكن من دون أن يكتمل هذا الكيان، ويستقل بقراراته بصورة قد تعرض أمن الأنظمة العربية لأخطار غير محسوبة، وغير معروفة العواقب. وربما برز هذا "الخطر"، تحديداً، بعد نشأة حركة فتح في المرحلة السابقة لحرب 1967، وإحساس قادة عرب كثيرين بأن انطلاق حركة مقاومة تطلقها قوى فدائية فلسطينية بمنأى عن الأنظمة العربية قد يعرض موازين القوى الدقيقة بين الدول العربية لأخطار غير محسوبة. وربما كان هذا الأمر، تحديداً، مكمناً لالتباسات كثيرة أحاطت انطلاق حرب 1967 بعناصر ما زال يكتنفها الغموض، وخصوصاً بشأن ما قيل وقتذاك عن حشود إسرائيلية على الحدود السورية، إلى غير ذلك من التحركات التي لم تنجل بعد بصورة تشفي كل غليل.
لقد برزت المقاومة الفلسطينية قبل حرب 1967 وكأنما شكلت حرجاً للأنظمة العربية، ذلك بأن إرادة فلسطينية مستقلة كانت في صدد أن تبزغ. ومجرد بزوغها حمل معنى أن المقاومة الفلسطينية بلغت سن النضج، وأن الفلسطينيين أصبحوا يشعرون بأنه لا يستقيم أن يظلوا أسرى مناورات الساحات العربية، مع ما للأنظمة العربية من منطلقات عقائدية متعددة، ومصالح متباينة، وتوجهات هي في أغلب الأحوال متضاربة ومتنافرة. غير أن الأمر تغير عقب هزيمة الأنظمة في حرب 1967. وكانت معركة الكرامة أول تعبير عن الصمود في وجه العدوان. ولم تكن دلالة هذه المعركة مقصورة على القضية الفلسطينية وحدها، وإنما عبّرت، شاءت الأنظمة أم أبت، عن التصميم العربي على المقاومة ومواصلة المشوار، أياً تكن الصعوبات والمشقات. وهكذا اكتسبت المقاومة الفلسطينية بعداً جديداً في نظر الأنظمة؛ فلم تعد عنصر حرج للعالم العربي، وإنما أصبحت الرمز الأوضح للتصميم على الصمود والمقاومة، وعلى "إزالة آثار العدوان".
على أن علينا إدراك أن ما أصبح يوصف بـ "أزمة الشرق الأوسط" ظل بلا حل ومعلقاً في بعض جوانبه إلى اليوم. لا القضية الفلسطينية وجدت حلاً، ولا قضية سورية ولبنان. ومعنى ذلك أن الالتباسات التي أحاطت بالعلاقات العربية ـ العربية عامة، وبالعلاقات العربية ـ الفلسطينية خاصة، ما زالت قائمة، وما زالت ذات أثر بالغ في إعاقة التوصل إلى تسوية مرضية.
وجدير بالملاحظة أن الأطراف العربية كانت بحاجة إلى بروز حركات مقاومة لا تتحمل هي مسؤولية عنها بصورة مباشرة. كان لا بد لها من مقاومة لتذكير العالم بأن الأزمة ما زالت قائمة، ولم تحل، وبأنه يتعذر السكوت عنها إلى غير أجل. وهذه المقاومة حمّلتها الأنظمة العربية لمنظمات المقاومة الفلسطينية. وهكذا حددت لها "وظيفة" هي أن تُظهر ما يثبت أن القضية باقية، وقائمة، وما زالت تبحث عن حل. لكن كان على هذه الأنظمة أيضاً أن تضمن ألاّ تتجاوز المقاومة حداً معيناً، وتحديداً الحد الذي يعرض أمن هذه الدولة العربية أو تلك لخطر ضربات إسرائيلية في المقابل. بعبارة أُخرى: كانت المقاومة مطلوبة، لكن في حدود فقط، وللأسباب المذكورة أعلاه، ما دام لم يكن هناك أمل بتسوية سياسية.
وقد اعترفت الأنظمة العربية لمنظمة التحرير الفلسطينية بحقها في أن تكون "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني." كان ذلك في قمة الرباط سنة 1974. إن مجرد صدور هذا الإعلان حمل في طياته التباساً. إذ هل معنى ذلك أنه أصبح من حق المنظمة أن تتصرف مع إسرائيل كما تشاء؟ هل باتت تملك الموافقة على حل للقضية الفلسطينية لا يكون موضع رضا أو قبول أطراف عربية معينة؟ هل أصبحت المنظمة، بقرار القمة هذا، صاحبة الكلمة الأخيرة في القضية الفلسطينية؟ أم ظل للبعد القومي العربي الأولوية في تقرير شأن الفلسطينيين؟
الجدير بالملاحظة أن قمة الرباط عندما قررت قبول مبدأ أن المنظمة تملك من دون سواها التحدث باسم الفلسطينيين، إنما أحرجت عاهل الأردن. وقد احتج هذا الأخير فعلاً، ورأى في هذا القرار تخويل المنظمة حقاً نال من صلاحيات المملكة الهاشمية. وفي الواقع إن تسوية سياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي كانت بعيدة المنال وقتذاك، وبالتالي كان المطلوب أن تتصدى المنظمة لإسرائيل بعملياتها الفدائية، على أن تقدم على هذه العمليات من دون تحميل الأنظمة العربية عواقب تصديها هذا. ولذلك احتلت المنظمة مقدمة المسرح، وطُلب من عاهل الأردن أن ينزوي. وهكذا استمرت الحال حتى بدأت عملية التفاوض في مدريد. وقتذاك، استعاد الأردن مقعده كطرف في التفاوض، ذلك بأن الأردن كان يملك "أهلية" و"شرعية" كي يتفاوض؛ وهذا أمر لم تكن تملكه المنظمة، التي ظلت إسرائيل تدمغها بصفة الإرهاب.
غير أن القضية الفلسطينية، عندما عقد مؤتمر مدريد، كانت اكتسبت مكانة على المسرح الدولي لم تكن تحتمل الإغفال. وخروجاً من مأزق عدم اعتراف إسرائيل بالمنظمة، تقرر أن يكون للفلسطينيين وجود في مدريد، في وفد مشترك مع الأردن، على ألاّ يمثل الوفد الفلسطيني منظمة التحرير، وإنما يُنتقى من وجوه يملكون صدقية ويمثلون بالذات "فلسطينيي الداخل". غير أن المنظمة كانت في موقع يؤهلها لمناهضة فكرة استبعادها كلياً عن المفاوضات. ذلك بأن مشروعيتها الفلسطينية قد مكنتها من أن يكون لها كلمة فاصلة في تقرير موقف الوفد الفلسطيني في المفاوضات، على الرغم من عدم اعتراف إسرائيل بها كلياً. فقد ألزمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الوفد الفلسطيني بأن ينتهج خلال المفاوضات خطاً بالغ التشدد، بينما سعت هذه القيادة من جانبها لاتصالات بإسرائيل كان الهدف منها إقناعها بأن في يدها هي من دون سواها انتهاج خط أكثر واقعية واعتدالاً. وهكذا سنحت الظروف التي سمحت بعقد اتفاق أوسلو ـ 1، بعد أن أدرك قادة إسرائيل ـ وخصوصاً رابين وبيرس ـ أن التعامل مباشرة مع قيادة المنظمة هو وسيلة لمعالجة القضية الفلسطينية تحظى بالاحترام، وتفسح المجال للتوصل إلى تسوية. هذا إن وجدت أصلاً فرصة لبلوغ هذا الهدف.
وهكذا جاز لنا أن نقول إن الالتباسات في علاقة المنظمة بالأنظمة العربية ما زالت قائمة. ولم يكن هذا مصادفة. إذ إن جميع الاتفاقات التي عقدت بين الأطراف العربية وإسرائيل هي اتفاقات منفردة، عقدت خلف ظهر الأطراف العربية الأُخرى: انسحب ذلك على اتفاق كامب ديفيد، وعلى أوسلو، وعلى معاهدة الملك حسين مع إسرائيل. وهكذا يتضح أن الأطراف العربية عجزت حتى الآن عن الظهور بمظهر الكيان المتماسك، المتجانس، المنسجم الخطوات والتكتيكات والاستراتيجيات. بل جاز لنا أن نقول إن عملية السلام التي أُطلقت في مدريد هي عملية أطلقت بعد أن أصبح قرار صدّام حسين بغزو الكويت التعبير الأوضح عن أن التناقضات العربية ـ العربية هي الأكثر طغياناً، وأن التناقضات مع إسرائيل باتت توظَّف لخدمة التناقضات العربية ـ العربية، بدلاً من العكس.
إن عنصراً أساسياً في جعل عملية مدريد ممكنة كان توصل أنظمة خليجية عربية كثيرة إلى إدراك أن نظاماً عربياً، هو نظام صدّام حسين، أصبح في نظرهم عدواً ألد من إسرائيل، وأن "عملية سلام" مع إسرائيل هي وسيلة لـ "تحييد" العدو الصهيوني، كي يصبح في وسع هذه الأنظمة التفرغ لمواجهة خطر يتهددها على نحو أسوأ هو النظام العراقي. وعلينا هنا أن نتساءل: كيف يمكن، في مثل هذا الوضع، الحصول على سلام عادل وعلى تسوية منصفة للقضية الفلسطينية؟ إذ إن حتى قادة إسرائيل الأكثر اعتدالاً سيجدون على الدوام ما من شأنه إغراؤهم باغتنام فرصة التناقضات العربية ـ العربية، وتوظيفها في مصلحتهم، بدلاً من التسليم بضرورة قبول "تنازلات" معينة تشكل، في النهاية، الحد الأدنى المطلوب من أجل إقامة السلام على أسس عادلة.
وهكذا نرى أن كلا الالتباسات في العلاقات العربية ـ العربية، وبروزها كتناقضات تطغى على أية تناقضات أُخرى، بما في ذلك التناقضات مع إسرائيل، وربما بالذات فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، هو ما حكم على عملية السلام بالفشل حتماً، وأصبح يستدعي إعادة نظر جذرية فيما يجب أن تكون عليه العلاقات العربية ـ العربية، لو أردنا لهذه العلاقات القيام بدور فعّال في دفع عملية السلام إلى الأمام، بدلاً من تعريضها لانتكاسات وتعثرات متجددة على الدوام.
من المؤكد أن ما أضحى يوصف بـ "أزمة الشرق الأوسط" لن يحل في إطار الشرق الأوسط وحده. بل جاز لنا القول إن نسبة الأزمة إلى "الشرق الأوسط" عملية تنطوي على مغالطة، ذلك بأن "المسألة اليهودية" نشأت أصلاً في أوروبا، وتجري الآن محاولة حلها في الشرق الأوسط. وهذا أمر غير طبيعي. فلا يُتصور أن يكون لهذه "الأزمة" حل لو اقتصر على الشرق الأوسط وحده. إذ لا يمكن إيجاد علاج جذري للآثار الناجمة عن المشكلة اليهودية من دون إشراك الأطراف المسؤولة عن نشوب هذه المشكلة، بصفتهم أطرافاً أصيلين فيها.
وليس صحيحاً أن أوروبا وفت بالتزاماتها في هذا الصدد، ولو من باب أن ألمانيا دفعت تعويضات إلى إسرائيل جراء ما لحق اليهود من أوجه غبن واضطهاد، بل إبادة خلال المحرقة (Holocaust) وغيرها من الويلات. ذلك بأن أي حل منصف للمشكلة لا يتحقق بمجرد أن تقدم أوروبا تعويضات إلى اليهود ـ أو إلى الدولة الصهيونية ـ جراء ما أصابهم في أوروبا من اضطهاد وغبن، وإنما تتحمل أوروبا أيضاً، وقد تبنت "الحل الصهيوني" للمشكلة اليهودية، مسؤوليات حيال الفلسطينيين، من جراء ما أصابهم هم من اضطهاد وغبن. وما لم تقدم أوروبا على طرح القضية الفلسطينية على قدم المساواة مع القضية اليهودية، فلن يكون هناك أبداً حل منصف. بل لن يكون هناك حتى أساس لإزالة الالتباسات التي سبقت الإشارة إليها ـ في شتى صورها.
إن الالتزامات متشابكة والمسؤوليات متعددة. غير أنه لا يجوز لنا أن ننتظر من الآخرين أن ينهضوا بما نراه دوراً عليهم النهوض به إذا ما تقاعسنا نحن عن تحمل مسؤولياتنا في هذا الصدد. إنه في أيدينا ـ أو هكذا نفترض ـ أن نسوي الخلافات العربية ـ العربية، وإلاّ سلّمنا بما يدعيه العدو أن القومية العربية ما هي إلاّ أسطورة وسراب. وإذا ما أردنا أن ننطلق من أن الموقف القومي العربي هو موقف له أساس، وله أصالة ورسوخ، وأن المصلحة العربية المشتركة ذات وجود، وأن القضية الفلسطينية ذات ارتباط لا انفصام له بالقضية القومية عامة، فعلينا أن نزيل ما صاحب هذه العلاقة من أوجه التباس. هذا طرح أساسي إذا ما أردنا للقضية الفلسطينية حلاً يتلاءم مع مركزيتها، لا على الصعيد العربي فحسب، بل أيضاً في الإطار الأوسع لعملية التحرير عامة.