يناقش الحسن في هذا المقال كتاب "نايف حواتمة يتحدث..."، من إعداد وحوار عماد نداف. وإذ يرحب الكاتب بصدور الكتاب، فإنه يشير إلى أنه ليس سيرة ذاتية، وإنما هو اختيار لموضوعات وانتقاء لمعلومات يسردها عنها. ومن هنا نشأ حاجة إلى الإشارة إلى بعض ما لم يقله ـ وهذا ما يفعله الحسن. حركة القوميين العرب/ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين/ أحداث أيلول 1970 / منظمة التحرير الفلسطينية / الفلسطينيون في لبنان
كلما ظهرت سيرة ذاتية أو سيرة سياسية أو مذكرات لسياسي عربي تنتابني مشاعر من الاهتمام والتقدير. فتسجيل التجارب وسردها من زاوية التفاعل الشخصي معها هما أول وأهم عملية حفظ للذاكرة النضالية لشعب ما؛ وهي عملية تساهم فيما بعد في كتابة التاريخ بأسلوب أكثر حيوية، وأكثر إنسانية، وأكثر دقة. لذلك شعرت بالاهتمام والتقدير عندما تلقيت كتاب "نايف حواتمه يتحدث...". فنحن نحتاج إلى هذا الكتاب، ونحتاج إلى عشرين وربما إلى خمسين كتاباً من نوعه، يسرد فيه كل مسؤول أو صاحب تجربة قصة مسؤوليته وتجربته، وخصوصاً أن السرد الشخصي يعطي الأحداث لمسة إنسانية تعجز عنها كتب التاريخ التي تهتم، بعد أعوام كثيرة، بتجريد الحدث من أجل استطلاع أعماقه، فتضيع في خضم ذلك أصوات معاناة البشر، وتتلاشى تفصيلات تطور الوعي لديهم، ويغيب الجانب الإنساني الذي يعطي الأحداث مشهد الحياة، والذي يستطيع وحده أن يتسرب إلى نفوس الأجيال الصاعدة ليضمن التواصل بينها وبين الأجيال التي سبقتها، من أجل أن يكون عطاؤها تطويراً لا مجرد تكرار.
لقد كتب القليلون عن تجربتهم في مسار الثورة الفلسطينية الحديثة، وكانت كتابات مختصرة وموجزة. ولا يزال لدى الذين كتبوا، والذين لم يكتبوا، الكثير مما يستطيعون قوله (إلاّ من رحمهم الله). إن كتاب حسام الخطيب عن تجربته في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية (أوائل السبعينات)، ربما يُعتبر المبادرة الأولى في هذا المجال، ثم جاء كتاب صلاح خلف (أبو إياد)، "فلسطيني بلا هوية"، مع الصحافي الفرنسي إريك رولو، وتلاه كتاب جورج حبش مع الصحافي اللبناني فؤاد مطر، وبدأ خليل الوزير (أبو جهاد) سلسلة "البدايات"، لكن لم يظهر منها سوى الكتاب الأول. وهذه الكتب مفيدة من دون شك، لكنها تبقى جزئية، ويبقى لدى أصحابها، ولدى الآخرين أشياء كثيرة يمكن قولها. وآخر هذه الكتب هو كتاب "نايف حواتمه يتحدث...". وهو إضافة إلى ما سبق من كتب، لكنها إضافة متميزة، مردها تميّز الجبهة الديمقراطية نفسها فكرياً وسياسياً في مسيرة الثورة الفلسطينية، ومردها أيضاً الكفاءة السياسية اللافتة التي تتوفر لصاحب الكتاب، والتي برزت طوال أعوام من عمله السياسي، ومن قيادته للجبهة الديمقراطية.
إن الكتاب مشغول بعناية، ومن دون تعجّل، ويظهر تميّزه من خلال الموضوعات العشرة التي يتناولها في ثلاثة عشر فصلاً، ثم من خلال قدرة نايف حواتمه على التحليل السياسي الاستراتيجي المترابط، على امتداد مراحل متعاقبة، بحيث يشكل هذا التحليل رؤية سياسية تثير من حولها الاتفاق أو الاختلاف، لكنها تبقى في الحالين صلبة ومتماسكة وجديدة.
إننا جميعاً نشعر بالأسف حين نحاول دراسة نكبة فلسطين سنة 1948، ولا نكاد نجد فيما يتعلق بها إلاّ القليل القليل من مذكرات المناضلين البارزين الذين ساهموا فيها. وقد احتاج الأمر إلى أربعين عاماً كي نقرأ مذكرات فوزي القاوقجي (إعداد خيرية قاسمية)، وإلى أربعين عاماً كي نقرأ مذكرات بهجت أبو غريبة، والتي هي في الواقع تأريخ للمعركة الفلسطينية - الصهيونية بشأن القدس. كما احتاج الأمر إلى أعوام تتجاوز الخمسين كي نقرأ بعض أجزاء مذكرات المؤرخ والمناضل محمد عزة دروزة، التي تعود إلى فترة الثلاثينات وما بعدها، وعسى عائلته أن تكون عثرت على دار للنشر تقبل إصدار المجلدات كلها. ولو أن هذه الكتب وعشرات من نوعها ظهرت في الخمسينات مباشرة، لكان تأثيرها في الوعي السياسي الفلسطيني كبيراً، سواء لجهة عمقه أو لجهة تخطي العقبات والحواجز التي واجهها رجال ذلك الجيل.
في المقابل، فإننا نشعر بالرضى لأننا نستطيع أن نقرأ الآن عن حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 (حرب رمضان) عشرات المذكرات السياسية والعسكرية، لكبار قادة الدبلوماسية المصرية، ولكبار قادة الجيش المصري، وهم يروون تفصيلات ذلك الحدث التاريخي الكبير من خلال علاقتهم به، ومن خلال الجدل السياسي والعسكري الذي ثار بشأنه ولا يزال يتفاعل حتى الآن.
ولكل هذا، نستقبل كتاب "نايف حواتمه يتحدث..." بتقدير واهتمام، ونعتبره كتاباً جاداً ومفيداً ومثيراً للنقاش، وإن كنا نعتقد أن لدى نايف حواتمه الكثير مما لا يزال يستطيع قوله.
إن الكتاب ليس سيرة ذاتية وإنما هو اختيار لموضوعات، وسرد لبعض المعلومات بشأنها، مع العناية بتحليل مدلولها السياسي. والمعلومات المسرودة معلومات منتقاة، بحسب المقدار الذي يريد حواتمه الكشف عنه، نستثني من ذلك الفصول الثلاثة التي يتحدث فيها عن المسيرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي تُوجت بالانتفاضة وبمؤتمر مدريد وباتفاق أوسلو وبقيام الحكم الذاتي الفلسطيني، إذ هنا يتوسع حواتمه في سرد ما يعرف، ويحلل المعلومات، ويستخلص النتائج، أكثر كثيراً مما ورد في فصول تتعلق بأحداث سابقة عايشها في لبنان أو العراق أو الأردن.
إن كون كتاب حواتمه اختياراً لموضوعات، وليس سيرة ذاتية، لا ينتقص منه. وهو مفيد جداً ضمن هذا الإطار، وسيكون مفيداً أكثر أن يكتب حواتمه سيرته الذاتية السياسية، فتكون إضافة أُخرى من نوع خاص.
لكن، لأنه اختار الموضوعات، واختار أن ينتقي المعلومات التي يسردها عنها، تنشأ حاجة إلى الإشارة إلى بعض ما لم يقله، لأن في تلك الإشارة جوهر النقاش مع أطروحاته واستنتاجاته.
حركة القوميين العرب
نتوقف في الفصل الثالث الذي يتحدث عن "حركة القوميين العرب"، عند موقع نايف حواتمه في قيادة التنظيم في الأردن. إن الواقعة الشخصية التي يرويها عن ابتعاد قيادات التنظيم من "كبار الرأسماليين وكبار رجال الأعمال والتجار"، وعن تحمله وحده مسؤولية التنظيم في الضفتين (ص 38 - 39) صحيحة كواقعة، لكن هل هي واقعة مكتملة؟ في ذلك الحين، أرسلت حركة القوميين العرب ثابت المهايني السوري ليكون مسؤولاً في نابلس، وأرسلت عدنان فرج الفلسطيني (توفي قبل أسابيع في عمان رحمه الله) ليكون مسؤولاً في عمان، وطلبت من الكثيرين من أعضائها في جامعات مصر العودة إلى الأردن. وكان هناك مناضلون في التنظيم، ومن طبقات كادحة، برزوا من خلال الأزمة، يكفي أن نذكر منهم مصطفى أبو علي، الأمين العام المساعد للجبهة الشعبية الآن. وقد كان الاعتقال المتكرر يبرز مسؤولين من درجات تنظيمية دنيا (أعضاء خلايا).
ويروي حواتمه أنه تشكلت داخل التنظيم، وتحت إمرته، مجموعات عسكرية (1957 - 1958)، ويصفها بأنها مجموعات عسكرية فدائية (تبدو كلمة فدائية هنا مقحمة لتُذكِّر بالعمل الفدائي الفلسطيني، ولتشير إلى الاستمرارية)، وقامت هذه المجموعات "بعدد من الأعمال ضد مؤسسات أميركية" (ص 39). وتطرح هذه الواقعة الصحيحة عدة تساؤلات:
مثلاً، هل كان في تشكيل هذه المجموعات العسكرية عودة إلى العمل الإرهابي الذي كان، بحسب رواية حواتمه، البداية الفعلية لتشكل حركة القوميين العرب؟ وهي البداية التي ينتقدها حواتمه بشدة، ويركز على أن مضمونها الفكري (مع مضامين أُخرى) شكّل الأفق المسدود أمام عمل ونمو الحركة سياسياً وجماهيرياً. وهل ينسجم هذا العمل العسكري، بواسطة تنظيم يضم العشرات فقط (بحسب اكتشافه الشخصي)، مع الوعي (الطبقي) لأفق بناء التنظيم، إذ إن العمل المسلح هو ذروة (آخر) نمو الوعي الطبقي وتأَهُّل الوضع الشعبي له؟
مثلاً، هل كانت العمليات العسكرية لهذه المجموعات موجهة ضد "مؤسسات أميركية" كما يقول حواتمه؟ إن بعض تعميمات حركة القوميين العرب. وبعض تفصيلات تلك العمليات كما نشرتها مجلة "الرأي" الناطقة باسم حركة القوميين العرب في دمشق في ذلك الحين، يتحدث عن عمليات ضد خطوط الهاتف والجسور، وعن متفجرات داخل المدن، أي أنها عمليات كانت تهدف إلى إزعاج السلطة الأردنية، ولم تكن موجهة إلى مؤسسات أميركية فقط، وهي بهذا المعنى كانت عمليات إرهابية.
مثلاً، الذين قاموا بهذه العمليات العسكرية (وأشهرهم في حينه ناديا السلطي وإبراهيم السلطي، إذ نُظمت حملات توقيع عرائض على مستوى عربي للإفراج عنهما)، هل كانوا يمثلون جيل الوعي الوطني والطبقي، المواجه لجيل الرأسماليين ورجال الأعمال الذين سقطوا مع أول تجربة نضالية؟ إن الوقائع تقول إن ناديا السلطي اختفت وزوجها من أجواء نضال حركة القوميين العرب بعد الخروج من السجن مباشرة.
مثلاً، يقول حواتمه: "إن تلك الروح النضالية والمساءلة الأيديولوجية والطبقية التي تصاعدت عند المناضلين الذين عملوا معنا آنذاك، دفعتهم إلى الانخراط في صفوف خط اليسار.... والذي بدأت ملامحه بالتشكل عام 1957.... كما حسم هذا التيار موقفه بعد حزيران [يونيو] 1967 في صف الجبهة الديمقراطية عندما أعلنت انطلاقها" (1969) (ص 39). إن هذا المسار صحيح، لكنه يحتاج إلى تدقيق. فالحدث يشمل اثني عشر عاماً ملخصة في بضعة أسطر، بحيث يحق لنا أن نتساءل: هل كان التوجه نحو اليسار بفعل نضالات تلك الفترة (1957)، أم بفعل قيام الوحدة المصرية - السورية وسقوطها، أم بفعل ميثاق الناصرية، أم بفعل الصراع القومي مع الحزب الشيوعي في العراق، أم بفعل حرب اليمن، أم بفعل هزيمة حزيران/يونيو 1967؟ إن حواتمه نفسه يعترف، في الصفحة التالية مباشرة، بأثر تلك الأحداث التي أدت إلى اكتمال دورة ساعة الزمن بحسب قوله.
مثلاً، يروي حواتمه أن نمو الحس الطبقي لديه كان متوافراً منذ أيام الدراسة الثانوية، وبقي متواصلاً طوال تجربته في تنظيم حركة القوميين العرب في الأردن، فيقول: "كان سِفْرُ التكوين الرابط بين الوطني والقومي والطبقي بدأ بالتجارب الملموسة في مجرى النضال على الساحات الأردنية، الفلسطينية، السورية، اللبنانية، اليمنية، أمّا سِفْرُ التطور، من مواقع الوطنية والقومية بالشعارات الغامضة، إلى الماركسية، فقد تكوّن على الأرض العراقية...." (ص 41). ويظهر من هذا النص تواصل التجربة ونموها من البداية إلى النهاية. لكن هناك، كما أعتقد، حاجة فكرية إلى تمييز نمو الحس الاجتماعي ونمو الحس الطبقي، من التحول إلى الماركسية. فقد كان الحس الاجتماعي، وأحياناً الطبقي، متوافراً داخل حركة القوميين العرب لدى الكثير من الأوساط في لبنان وسورية والأردن واليمن، لكن هذا الحس الاجتماعي لم يدفع تلك الأوساط تلقائياً نحو تبني الماركسية. لقد كان جو تلك المرحلة مشبعاً بالبحث عن "الطريق العربي" للاشتراكية. وكانت تجربة التسيير الذاتي في يوغسلافيا تيتو، تثير مخيلة المناضلين العرب الباحثين عن تعبير عن حسهم الاجتماعي والطبقي من دون الانحياز إلى الماركسية، ولقيت اشتراكية عبد الناصر تأييدها الشعبي بسبب ابتعادها الإرادي عن وصف نفسها بالماركسية. وساد ذلك إلى أن برزت نزعة نقد الناصرية في أوساط البعث (جمال الأتاسي وياسين الحافظ)، وفي أوساط حركة القوميين العرب (محسن إبراهيم ومحمد كشلي)، وفتحت نوافذ للإطلال على الماركسية، تفاعلت مع حالة اليأس التي سادت بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 - اليأس من الأنظمة والأحزاب القائمة وأيديولوجياتها - فانفتح الباب أمام قبول (تجريب) فكر سياسي جديد من خلال الماركسية. نقصد من وراء هذا أن نقول إن هناك مرحلتين متمايزتين: مرحلة الحس الاجتماعي والطبقي، ومرحلة الالتزام الماركسي؛ أي مرحلة ما قبل حزيران/يونيو 1967، ومرحلة ما بعد حزيران/يونيو 1967. وليس هناك بالضرورة مرحلة واحدة صاعدة من نقطة البداية إلى نقطة النهاية والاكتمال. وأميل إلى القول إنه لولا هزيمة حزيران/يونيو لبقي الانتماء إلى الماركسية ظاهرة شخصية وفردية، ولما اتخذ بعداً ثقافياً شبه جماعي. إن هذا التمييز ضروري لوصف الظاهرة موضوعياً، ولتوفير القاعدة اللازمة لممارسة النقد الذاتي الفكري، لأنه من خلال التعميم تضيع فرصة ممارسة هذا النقد فكرياً، والتعميم مع القفز عن النقد سمة ملازمة لتجربة الجبهة الديمقراطية (كما سنوضح فيما بعد).
مثلاً، يمارس حواتمه، في معرض سرده وتحليله، عملية إقحام مفاهيم طُرحت للجدل حديثاً في تجارب سابقة لم تكن فيها هذه المفاهيم مطروحة أو متداولة. يقول، مثلاً: "إن العوامل الموضوعية، التي فتحت الدروب للتطور.... إلى مواقع الماركسية بخصوصيات وطنية وقومية.... لحل معضلات التحرر وتقرير المصير... وحل معضلات التنمية المستقلة والدمقرطة بالتعددية وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة..." (43). ونتساءل هنا: هل كانت قضايا الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة مطروحة على الحركة الوطنية العربية في ذلك الحين، أم أن هناك رغبة ذاتية في إضفاء مقولات الحاضر على التجربة الماضية لإظهار وعيها المسبق، والإيغال في إبراز نزعة الاستمرارية التي تمنع، كما قلنا، من ممارسة أي نقد ذاتي فكري؟
وهناك أمثلة أُخرى تستدعي التدقيق بالوقائع، ووضعها في إطار يصحح مضمونها، لكننا نكتفي هنا بهذا المقدار.
ماركسية الجبهة الديمقراطية
يروي نايف حواتمه بكثير من التكثيف، ومن خلال جزء أساسي من الفصل الثالث الذي يتحدث عن حركة القوميين العرب، كيف برز التيار اليساري في الحركة، وكيف تطور إلى تيار ماركسي تصارع مع التيار القومي بعد سنة 1967، إلى أن تشكلت الجبهة الديمقراطية في شباط/فبراير 1969 كجبهة ماركسية، وكان لماركسيتها تأثير في الفصائل الفدائية (التي تبنت الماركسية)، وفي الأحزاب العربية، وفي تنظيمات ماركسية قائمة اندمجت مع الجبهة الديمقراطية.
ويروي نايف حواتمه بكثير من التكثيف أيضاً، ومن خلال الفصل الثاني عشر، المعنون "الشيوعيون العرب (نقد متبادل)"، تأثير ماركسية الجبهة الديمقراطية في الأحزاب الشيوعية والقومية والناصرية.
وفي كلا الفصلين يرد الحديث عن ماركسية الجبهة الديمقراطية كقضية مكتملة، وكقضية واضحة، وكقضية مسلّم بها. لكن هل كانت ماركسية الجبهة الديمقراطية، فعلاً، قضية مكتملة وواضحة ومسلّماً بها؟ لقد تبلورت ماركسية الجبهة في التحليل الوارد في "تقرير آب" (1968) الذي أعده نايف حواتمه لمؤتمر الجبهة الشعبية، والذي نشأ خلاف في شأنه تطور إلى انشقاق، ثم إلى تشكيل الجبهة الديمقراطية كفصيل مستقل يعتمد "تقرير آب" وثيقته النظرية الأساسية. ولقد أثار هذا التقرير، في حينه، ضجة كبيرة في أوساط حركة القوميين العرب، وفي أوساط الجبهة الشعبية، وفي الأوساط الفلسطينية في الأردن، كما كان له أيضاً صداه العربي والدولي. إن نايف حواتمه يقف في أطروحاته عند كلمة الماركسية، وعند مواقف الجبهة السياسية بعد تشكيلها (الحوار مع الأحزاب، ودخول منظمة التحرير) مستنكفاً من الخوض في أي نقاش (أو توضيح) فكري لماركسية الجبهة، بينما كانت أوساط كثيرة في تلك الفترة مشغولة بالتركيز على هذه النقطة بالذات، ومن أمثلة ذلك:
- واجهت تحليلات الجبهة الديمقراطية لأسباب هزيمة حزيران/يونيو 1967، وخصوصاً مقولتها الرئيسية بشأن سقوط أنظمة البورجوازية الصغيرة، وإدانتها منطق الحرب النظامية مع إسرائيل لمصلحة فكرة الحرب الشعبية الطويلة الأمد، نقداً حاداً من بعض الماركسيين الكبار، مثل الياس مرقص الذي خصص، لدحض هذه الأفكار، كتاباً من 400 صفحة بعنوان "العفوية والنظرية في العمل الفدائي الفلسطيني".
- في منتصف سنة 1969، أي بعد أشهر من تأسيس الجبهة الديمقراطية، وكانت آنذاك وثيقة الصلة بفرع الحركة المنشق في لبنان باسم منظمة الاشتراكيين اللبنانيين، طلبني محسن إبراهيم إلى جلسة مغلقة، حيث كنت أعمل معه في مجلة "الحرية"، وبلّغني أن قيادة التنظيم في لبنان اجتمعت وناقشت وضع الجبهة الديمقراطية، وارتأت أن الجبهة مطالَبة الآن، وبعد أن انتهت معركة الانشقاق بشأن الخط السياسي (يمين - يسار)، بتوضيح هويتها الماركسية، إذ لم يعد يكفي أن تقول الجبهة الديمقراطية أنها جبهة ماركسية، بل يجب أن توضح أي ماركسية تتبنى: هل تتبنى الماركسية السوفياتية، أم الماركسية الصينية، أم ماركسية ذات مواصفات أُخرى؟ وما هي مواصفات هذه الماركسية؟ وكلفني نقل هذه الرسالة إلى قيادة الجبهة في عمان. ولا يهم هنا تفصيلات بقية القصة، وإنما يهم توضيح أن المسألة كانت مطروحة للنقاش، وأن ماركسية الجبهة الديمقراطية كانت موضوع تساؤل حتى من أقرب حلفائها.
- في الأشهر الأولى من بدايات الجبهة الديمقراطية (قبل الانشقاق وبعده بفترة وجيزة) انفردت مجموعة أساسية من كوادر الجبهة بإنشاء قاعدة لها في ريف منطقة إربد (في الجبل)، وأصدرت عدة نشرات، كانت تعبر فيها عن نزعة ماركسية (غيفارية)، فتكثر الحديث عن "البؤرة الثورية" وعن حرق المراحل في العمل الثوري. وحين تراجعت هذه المجموعة عن تجربتها، أمام إحساسها الشديد بالعزلة (إذ لم يهرع الفلاحون إلى الالتحاق بها)، توجهت نحو عمان واندمجت في نشاطات الجبهة الديمقراطية اليومية، لكن كل أفكار غيفارا وتنظيراته بقيت في أذهان أعضاء هذه المجموعة.
- في دمشق، وبعد اندماج المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين في الجبهة الديمقراطية، تولى مسؤولية قيادة فرع الجبهة في سورية حمزة البرقاوي، أحد المسؤولين السابقين في المنظمة الشعبية، وكان على صلة جيدة بالعقيد المتقاعد صلاح البزري المعروف بيساريته. وكان العقيد البزري درس "تقرير آب" دراسة دقيقة مفصلة، وأخذ يعقد جلسات طويلة متعددة مع حمزة البرقاوي يعرض له فيها رأيه في هذا التقرير. وكانت خلاصة رأي العقيد أن هذا التقرير ماركسي صيني النزعة، وأن من المستحيل -استناداً إليه - مد جسور علاقة بين الجبهة الديمقراطية والاتحاد السوفياتي، الذي كانت النزعة الماركسية الصينية بالنسبة إليه آنذاك تعني الجريمة الفكرية الكاملة (إلى جانب التروتسكية). وكان حمزة البرقاوي، كما يبدو، طلب مساعدة العقيد البزري في إنشاء علاقة ثنائية بين الجبهة والاتحاد السوفياتي.
- بعد شيوع اسم الجبهة الديمقراطية، وبعد شيوع طرحها الماركسي، توافد عليها الكثيرون من الماركسيين والشيوعيين العرب والأجانب. وكان من أبرز العناصر التي التحقت بالجبهة آنذاك، ثلاثة أشخاص يتميزون بثقافة ماركسية واسعة، ويلمون بكل النقاش النقدي الأوروبي للماركسية السوفياتية، وهم: العفيف الأخضر (تونس)، ومصطفى خياطي (المغرب)، والسيدة حكيمة (المغرب أيضاً). واستقدم هؤلاء الثلاثة، بعد فترة قليلة، الرفيق بابلو زعيم الأممية الرابعة (التروتسكية) في فرنسا، وجرى تقديمه، لمن يسأل، على أنه مستشار الرئيس السابق أحمد بن بللا في شؤون الإصلاح الزراعي. وقد تفاعل هؤلاء طويلاً مع الجبهة الديمقراطية، وعاشوا مع كوادرها ومع مقاتليها في قواعدهم العسكرية، كما اقترحوا إنشاء مدرسة للكوادر، ثم قاموا بوضع برنامج التثقيف فيها وساهموا في عملية التثقيف. وقد اعتمد هؤلاء الثلاثة ماركسية روزا لوكسمبورغ أساساً لتثقيف كوادر الجبهة، وشرحوا لتلك الكوادر مطولاً نظرية المجالس الشعبية، وكان الشرح يقود في النهاية إلى نقد نظرية لينين في الحزب. ولم تتوقف هذه التجربة إلاّ عندما زار المدرسة أحد أعضاء القيادة، وطرح المسألة في المكتب السياسي منتقداً ومحذراً.
يتضح من هذه الأمثلة أن ما يسمى ماركسية الجبهة كان عرضة لتنازع تيارات شتى، تعكس حالة من الفوضى الفكرية في الجبهة تغطيها حالة من الحيوية السياسية الفائقة النشاط، وهي حالة من الفوضى لا يكفي في مواجهتها التركيز على كلمة "الماركسية" فقط. ولا نظن أن حواتمه يخفى عليه مثل هذه القضية، لكنه اختار أن يتجاهل هذا الجدل ليركز على النقطة الجذابة والجامعة. إن من شأن الجدل أن يبرز الاختلاف، أمّا ما هو جذاب فيبرز التناغم والانسجام، ويعفي بالتالي من مهمة النقد الذاتي.
يمكن القول هنا، طبعاً، إن ما ذكر أعلاه كان يخص فترة التأسيس، وإن الأمور تبلورت بعد ذلك وتوضحت واستقرت في نسق من الماركسية أمكن التزام أسسها، وتجنُب أخطاء الأحزاب الشيوعية بشأنها، وخصوصاً فيما يتعلق بالموقف من قضية فلسطين (التقسيم)، وأسلوب النضال ضد إسرائيل (الكفاح المسلح)، ونهج التحالف مع القوى الوطنية (منظمة التحرير الفلسطينية)، لو لم تستمر ماركسية الجبهة في التحول والتغير بعد التأسيس، من دون إقرار علني بهذا التحول والتغير، ومع إصرار على فكرة الاستمرارية التي تحجب النقد الذاتي وتلغيه.
- في أواسط السبعينات (1976 أو 1977، على ما أذكر)، أصدرت الجبهة الديمقراطية في بيروت برنامجاً مرحلياً جديداً لها، لا يرد له أي ذكر في موضوعات الحوار مع نايف حواتمه في هذا الكتاب. كان ذلك البرنامج متميزاً ولافتاً للنظر في توجهاته، فهو يقسم الشعب الفلسطيني إلى مجموعات هي: فلسطينيو 1948؛ فلسطينيو الأردن؛ فلسطينيو اللجوء في سورية ولبنان؛ الفلسطينيون العاملون في الخليج؛ فلسطينيو الشتات في مختلف دول العالم. ويتحدث البرنامج بدقة عن المهمات السياسية والنضالية لكل مجموعة من هذه المجموعات. إن هذا التقرير (البرنامج) يتناقض في مضمونه مع "تقرير آب"؛ فهو لا يطرح أي مسؤولية تغيير على الصعيد العربي، ويلتزم موقفاً من دولة إسرائيل يمكن وصفه بأنه موقف سوفياتي بحسب اصطلاحات تلك المرحلة، إذ كان الاتحاد السوفياتي يحرص على إقناع الفلسطينيين بالتخلي عن شعار التحرير وقبول قرار مجلس الأمن رقم 242. وقد كُتب هذا التقرير بعد أعوام من اتصالات مكثفة بين الجبهة والاتحاد السوفياتي، أسفرت عن إقامة نوع من العلاقات الخاصة بين الجبهة والحزب في موسكو، وسمح للجبهة باعتماد مندوب مقيم لها هناك. ويبدو أن البرنامج المرحلي المشار إليه كان ثمرة العلاقة التي ما كان لها أن تستقيم إلاّ على قاعدة نظرية عبّر عنها البرنامج بوضوح. ونستطيع أن نصف تلك المرحلة بأنها مرحلة الماركسية السوفياتية في الجبهة، مطروحة بلغة فلسطينية تختلف عن لغة الأحزاب الشيوعية.
- بعد ظهور الغورباتشيفية، وسقوط الاتحاد السوفياتي، وبروز أطروحات سقوط الماركسية، أظهرت الجبهة الديمقراطية حيوية فكرية بارزة، وكانت التنظيم الماركسي العربي الوحيد، ربما، الذي بادر إلى درس المسألة وإبداء رأي فيها. وتم ذلك من خلال كتاب نظري في جزأين من 400 صفحة تقريباً. وقد عُرض هذا الكتاب على المثقفين اليساريين العرب، وتمت مناقشته في ندوة علنية في دمشق (23/4/1994)، ثم عرض على المؤتمر الثالث للجبهة حيث تم إقراره رسمياً (تشرين الأول/أكتوبر 1994). وهذا الكتاب يواصل التمسك بالماركسية، ولا يجد تناقضاً مع الغورباتشيفية، ويجد أن الخلل في تجربة الاتحاد السوفياتي يكمن في البيروقراطية التي أنشأها ستالين، والتي قضت على الديمقراطية داخل الحزب الشيوعي السوفياتي وتراجعت عن أطروحات لينين للإصلاح الاقتصادي. ويجد الكتاب في أفكار لينين خلال 1920 - 1923، أي قبل بروز ستالين، سنداً فكرياً يؤكد صحة الماركسية، إذ كانت تلك الفترة تتميز بقبول وجود كتل داخل الحزب الشيوعي السوفياتي (التعددية والديمقراطية). ثم يكمل الكتاب تحليله استناداً إلى أطروحات سمير أمين النقدية للماركسية السوفياتية. إن هذا الكتاب بجزأيه (الدولي والعربي) جهد جاد، وهو جدير بالمناقشة، لكنه يبرز مرة أُخرى تحولاً في ماركسية الجبهة نحو العودة إلى الجذور إن صح التعبير؛ وهي عودة تتناقض في مضمونها مع جوهر البرنامج المرحلي للجبهة، ذي النزعة السوفياتية كما كانت تتجلى في مرحلة بريجنيف.
ومرة أُخرى نقول إن لا مشكلة في تحولات ماركسية الجبهة، وإنما المشكلة في عدم الإشارة إلى ذلك، وفي اعتبار العملية الفكرية عملية صاعدة باستمرار ومتواصلة باستمرار ومكتملة باستمرار، أي إخفاء الخطأ وإخفاء التغيير وتجنب كل نقد ذاتي بالتالي.
ولا نقصد من تسجيل هذه النقطة مجرد النقد الفكري، وإنما نركز عليها بسبب أثرها في علاقات الجبهة الديمقراطية بالأحزاب الشيوعية، وبالأحزاب والفصائل اليسارية الأُخرى.
العلاقة بالنظام الأردني
- في الفصل الخامس، "الرايات السود (أحداث أيلول 1970)"، يقول المحاور، استناداً إلى المصدر، إن الرئيس جمال عبد الناصر كان نصح للملك حسين اللجوء إلى الحوار لإيجاد مخرج سياسي للأزمة بين الحكم الأردني والمقاومة الفلسطينية، واقترح عليه اسم نايف حواتمه للحوار، وأن الملك حسين لم يأخذ بهذه النصيحة، ووقعت الحرب (ص 91). ثم يسأل المحاور: "أنتم متهمون بتفجير الحرب الأهلية في الأردن عام 1970." ويرد حواتمه قائلاً: "هذه تهمة غير مسندة. لا وقائع موثقة لها....". ويمكن أن نكرر القول مع نايف حواتمه مؤكدين "هذه تهمة غير مسندة، ولا وقائع موثقة لها." لكني أغامر فأقول إن الملك حسين ما كان من الممكن أن يقبل نصيحة جمال عبد الناصر، لأن لديه "تهمة مسندة وموثقة" ضد نايف حواتمه وضد الجبهة الديمقراطية، ومن الأرجح أن عبد الناصر لم يكن على علم بتلك التهمة. وسأروي هنا، أول مرة، هذه الواقعة وقد مضى عليها 27 عاماً.
في 15 أو 16 آب/أغسطس 1970، أي قبل شهر واحد من وقوع الصدام الدامي في الأردن، عقدت الجبهة الديمقراطية مؤتمرها التأسيسي الأول في جبل عجلون في الأردن، داخل قاعدة عسكرية بعيدة عن العمران ولا يمكن الوصول إليها إلاّ بصعوبة، وحضر المؤتمر 83 مندوباً يمثلون فروع الجبهة في لبنان وسورية والأردن بصورة خاصة. كانت الوثيقة الأساسية أمام المؤتمر مكتوبة ومطبوعة منذ زمن، وكان جوهرها تحليل وتثبيت ما هو مُعلن من مواقف وشعارات الجبهة الديمقراطية، وهي مواقف يلخصها شعاران: "لا سلطة فوق سلطة المقاومة"، و"كل السلطة للمقاومة". وجوهر هذين الشعارين تأكيد سلطة المقاومة إزاء سلطة النظام الأردني (ازدواجية السلطة)، من دون الانتقال إلى مرحلة القول بإسقاط النظام الأردني. وعندما يُذكر المؤتمر التأسيسي للجبهة تُذكر معه هذه الوثيقة، المكتوبة والمطبوعة والمعلنة، والتي لا تدين الجبهة في أي دعوة إلى إسقاط النظام الأردني.
لكن ما حدث داخل مؤتمر الجبهة الديمقراطية كان مختلفاً عن تلك الوثيقة كلياً، إذ تم وضعها جانباً كأنها غير موجودة، وتولى بعض أعضاء المكتب السياسي (أبو ليلى، وياسر عبد ربه) طرح تحليل جديد متكامل (وثيقة جديدة) خلاصته ضرورة تبنّي الجبهة شعار "إسقاط النظام الأردني" لأن الأوضاع مهيأة لذلك (!!). وقد جرت مناقشة صاخبة ومعمقة لهذا الطرح، وعارضه عضوان في المكتب السياسي هما خليل هندي وبلال الحسن، وقدما مداخلتين في المؤتمر. ركزت مداخلة بلال الحسن على خطر سيادة "العقلية المغامرة". أمّا مداخلة خليل هندي فركزت على شرح "الشروط الخمسة اللينينية للانتفاضة" وعدم توفر أي واحد منها في أوضاع الأردن الراهنة. ولا أريد هنا الاستطراد في ذكر الحجج التي أبداها كل طرف للدفاع عن موقفه، وأكتفي بالقول إن النقاش كان مفاجئاً، واستمر ليلة كاملة حتى الفجر، ثم تم التصويت على الاقتراح الجديد، ففاز بتأييد 80 صوتاً من مجموع 83 صوتاً، وكان المعارضون الثلاثة هم: خليل هندي، وبلال الحسن، وعضو ثالث يمثل تنظيم منطقة صور (لم أعد أذكر اسمه). وفي صباح اليوم التالي، كان عليّ أن أغادر المؤتمر لأحضر اجتماعاً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في عمان. وصلت إلى الاجتماع نحو الساعة الحادية عشرة صباحاً، وفوجئت فور دخولي ببعض أعضاء اللجنة التنفيذية يستقبلونني بعداء وشماتة وسخرية (كان على رأسهم الشهيد كمال ناصر)، ذاكرين جملاً كاملة مما قيل في المؤتمر بشأن ضرورة إسقاط النظام الأردني، مثل: "حتى لو فشلت المحاولة فستكون بمثابة ثورة 1905 التي مهدت لثورة 1917" في روسيا، الأمر الذي يؤكد أنهم يعرفون كل ما جرى في تلك الجلسة التي امتدت حتى الفجر، والتي لا يفصل بين انتهائها ووصولي إلى مقر اللجنة التنفيذية سوى ساعات. أدهشني الموقف وصدمني، وقد أنكرت عليهم أقوالهم، وتجاهلت الجمل التي استشهدوا بها كأني لم أسمعها، وبدأ سؤال مقلق يلح عليّ: كيف عرفوا بالأمر؟ انتحيت جانباً مع أخي خالد الحسن، رحمه الله، وكان عضواً في اللجنة التنفيذية أيضاً، وسألته عن الموضوع فبلّغني أن الملك حسين استدعى ياسر عرفات منذ الساعة التاسعة صباحاً، وهو غاضب جداً، فذهب إليه مع وفد يضم كمال ناصر (الناطق الرسمي) وضافي جميعان (مسؤول منظمة الصاعقة)، وبلّغهم الملك أن الجبهة الديمقراطية اتخذت قراراً بالعمل على إسقاط النظام، ونفى الوفد فوراً صحة هذه المعلومات (لأنه يعرف الموقف الرسمي للجبهة الديمقراطية)، فأخرج الملك محضراً وبدأ يقرأ منه. وتبين، فيما بعد، أن عضواً آخر في المؤتمر غادر المكان بعد مغادرتي، وقدم تقريراً كاملاً إلى المخابرات الأردنية عن وقائع تلك الليلة، وعرف الجميع في المكتب السياسي اسم ذلك الشخص، والذي كان قريباً لرئيس المخابرات الأردنية آنذاك (نذير رشيد)، وزير الداخلية حالياً.
إن هذه الواقعة لم يكتب أحد عنها إلى الآن، ولم يرد لها ذكر في أدبيات الجبهة. وقد بلّغني نايف حواتمه بعد أعوام، في أحد لقاءاتي معه في بيروت (ربما في سنة 1977)، أن لديه خبراً ساراً لي. وكان مضمون ذلك الخبر أن الجبهة مارست نقداً ذاتياً داخلياً (لم يُعلَن) لموقفها هذا في أحداث الأردن سنة 1970، وطلبتُ منه نسخة عن هذا النقد الذاتي ووعدني بإيصالها لي، لكنها لم تصلني قط.
من هذه الواقعة نستطيع أن نفهم لماذا رفض الملك حسين اقتراح الرئيس جمال عبد الناصر. ومنها نستطيع أن نفهم أيضاً لماذا يقول نايف حواتمه، في الرد على اتهام الجبهة بأنها مسؤولة عن تفجير الحرب الأهلية في الأردن سنة 1970، إن هذه التهمة "غير مسندة. لا وقائع موثقة لها." وفي ضوء هذه الواقعة، لو ذُكرت، أليس من الممكن أن يتغير كل التحليل الذي يقدمه نايف حواتمه عن دور الجبهة الديمقراطية ومواقفها في الأردن؟
- يدافع نايف حواتمه في حواراته عن مواقف الجبهة في الأردن، مشيراً إلى أنها كانت تسير في اتجاه "الحوار النشط مع جميع القوى الفلسطينية والأردنية، وبشكل خاص: الدولة الأردنية لحل التعارضات بحلول هادئة سليمة وسلمية" (ص 93). أمّا أن الجبهة الديمقراطية كانت تدير حواراً نشيطاً مع كل الأطراف فهذه صحيح، لكن هل كان هذا الحوار يتجه نحو الحلول الهادئة السليمة والسلمية؟ عند هذه النقطة يحتاج الأمر إلى تدقيق تؤثر نتائجه في مجمل التحليل المقدم.
في أوائل سنة 1970، بدأت الجبهة حواراً مع الحزب الشيوعي الأردني ممثلاً بالأمين العام للحزب آنذاك، فؤاد نصار. وكان وسيط اللقاء المرحوم إبراهيم بكر. وقد تمحور النقاش في الجلسة الأولى حول الموقف من النظام الأردني. وكان الحزب الشيوعي يرفع آنذاك شعار "إنشاء حكومة وطنية" في الأردن، وهو ما يعني السعي لاتفاق سياسي مع النظام، بينما كانت الجبهة الديمقراطية تطالب برفع شعار "إنشاء حكم وطني"، وهذا يعني السعي لتغيير النظام؛ وبالتالي كان التفاهم بين الطرفين غير ممكن وعدم التفاهم هذا يسميه نايف حواتمه "اختلاف المسافة بين اتجاه واتجاه." وأذكر أن الرفيق نصار قال معقباً على تحليل الجبهة الديمقراطية: لقد تحدثتم في تحليلكم عن سقوط الأنظمة الرجعية العربية (1948)، وعن سقوط الأنظمة البورجوازية الصغيرة (1967)، وعن سيطرة اليمين (فتح) على الثورة الفلسطينية، وعن خطأ موقف الاتحاد السوفياتي من قضية فلسطين، فكيف تريدون، استناداً إلى كل هذا التحليل، المطالبة بحكم وطني في الأردن إذا كان كل ما حولكم ساقطاً أو خطأ أو معارضاً لكم؟
أمّا ما يذكره نايف حواتمه عن "حواراتنا مع الدولة الأردنية"، فأنا أستغرب هذه النقطة كثيراً، إذ لا علم لي على الإطلاق بحوارات كانت تجري بين الجبهة والدولة الأردنية، لا كمعلومات ولا كوقائع منشورة. وأذكر فقط واقعتين ذواتي طابع شخصي، إذ تم مصادفةً لقاء بين نايف حواتمه وأحد كبار ضباط المخابرات الأردنية (أصبح رئيساً للمخابرات فيما بعد)، وكان هذا الضابط صديقاً لحواتمه منذ أيام الدراسة، وتقابلا مصادفة ثم التقيا.
وأذكر لقاء آخر مع عاكف الفايز في منزله، في فترة رئاسته الحكومة بالوكالة. وكانت السلطة الأردنية أنشأت جسراً على الطريق الواصل بين المطار والمدينة، ورفضت تسلمه من المتعهد لأن العقد ينص على تسليمه أبيض ونظيفاً، وكان أعضاء الجبهة الديمقراطية يكتبون على جُدُر ذلك الجسر يومياً شعارهم: "كل السلطة للمقاومة"، كي يراه كل زائر جديد للأردن، ويقوم المتعهد في اليوم التالي بمحو الشعار وتبييض الجسر وهكذا، إلى أن تم اللقاء مع عاكف الفايز في مناسبة اجتماعية، وقال لحواتمه: إنني الآن رئيس للوزراء، وأريد تسلم الجسر، وأريد تعهداً منك بعدم الكتابة على جدرانه. فوعده حواتمه بتنفيذ ذلك والتزم هذا الوعد. ولا أعتقد أن هذا النوع من اللقاءات يمكن أن نطلق عليه صفة "حواراتنا مع الدولة الأردنية."
الجبهة وتميُّز المواقف
- يسأل المحاور (ص 95): "وكيف كان تميزكم في العمل المسلح الذي طرحتموه في ذلك الوقت؟" ويرد حواتمه: "الجبهة الديمقراطية قدمت رؤية جديدة مختلفة عن غيرها للكفاح المسلح." وهو يذكر موقفين للجبهة الديمقراطية يميزانها في هذه المسألة: الأول، إن الجبهة اعتبرت العمل المسلح أحد أشكال النضال ولم تعتبره الشكل الوحيد، بينما أصر الآخرون على أنه الشكل الأساسي والوحيد للنضال؛ الثاني، العمل على نقل عمليات الكفاح إلى أرض الوطن، إلى الداخل. والكلام هنا صحيح وموثق بالبيانات الرسمية، لكن ماذا على صعيد الممارسة؟ هل استطاعت الجبهة الديمقراطية ممارسة أطروحاتها؟ أسارع فأقول: لا. أسارع فأقول إنها مارست ما هو معاكس تماماً.
لقد تشكلت الصيغة الواقعية للكفاح المسلح على يد حركة فتح بحسب المواصفات التالية: تمركز في دول الطوق؛ قواعد عسكرية ثابتة؛ إنشاء إدارة مكتبية تلبي حاجات القواعد العسكرية؛ اعتماد قاعدة التفرغ في العمل العسكري وفي العمل التنظيمي؛ إرسال الدوريات المقاتلة عبر الحدود؛ القصف الصاروخي عبر الحدود، مع محاولات لإيجاد قواعد ارتكاز في الداخل. وقادت هذه الصيغة كما رسمتها حركة فتح ومارستها إلى نشوء بيروقراطية إدارية تحمل كل صفات البيروقراطية، وإلى حالة اعتماد مالي كلي للأعضاء على قيادة التنظيم، كما ساهمت لاحقاً في نشوء ظواهر الارتزاق، والشللية، وغياب المحاسبة، والنقد للقيادة. وتعرضت هذه الصيغة منذ البدايات لنقد من الفصائل الأُخرى، وكان نقد الجبهة الديمقراطية أعلاها صوتاً لكن من دون أن تستطيع تحويل أقوالها إلى ممارسة واقعية، إلى أن تم بعد ذلك، وبسرعة، خضوع الجبهة الديمقراطية لصيغة فتح نفسها، وتكرار تجربتها العسكرية.
في أواخر سنة 1972 (كما أذكر)، استأجرت الجبهة الديمقراطية في بيروت، أول مرة، مبنى كاملاً مؤلفاً من ست طبقات ليكون المركز الإداري للجبهة (هاجمت إسرائيل المبنى في 8/4/1973). وكان هذا المبنى عنواناً بارزاً وواضحاً لتوجه الجبهة نحو إنشاء قواعد ثابتة في لبنان، تحتاج إلى جهاز إداري ثابت يكون في خدمتها. وقد أثار قرار استئجار المبنى، مع ما يرافق ذلك من توظيف وإدارة، جدلاً داخل الجبهة وبين أصدقائها، ورأى فيه الكثيرون قراراً سياسياً لا مجرد قرار إداري؛ قراراً سياسياً باعتماد أسلوب جديد للعمل العسكري لا يمت بصلة للأطروحات النظرية بشأن نقل العمل العسكري إلى الداخل. ثم كان هناك، طوال أعوام، عمليات عسكرية كثيرة قامت بها الجبهة انطلاقاً من نظرية القواعد الثابتة والدوريات التي تتجه من الخارج إلى الداخل. ومارست الجبهة، بتوسع، عملية تفريغ المقاتلين وعمليات تفريغ أعضاء التنظيم، مكررة بذلك تماماً صيغة حركة فتح في العمل الفدائي.
يصف نايف حواتمه (ص 121 - 122) وضع الجبهة العسكري في جنوب لبنان قائلاً: "أصبحت.... الجبهة تملك بنية عسكرية شبه نظامية تحيط بها قوات الميليشيا.... إضافة للكتائب الخاصة بمدفعية الميدان والهاون والمدفعية الراجمة الصاروخية." فأين هذه الصيغة من صيغة نقل العمل المسلح إلى الداخل؟ وكم تحتاج هذه القوات من أجهزة (بيروقراطية) لتلبية حاجاتها؟ ويعترف نايف حواتمه (ص 134) بأن "هذه الظواهر [البيروقراطية] المرضية أصابت فصائل المقاومة بلا استثناء." لكنه يعود فيقول (ص 306): "لم نقع في عنكبوت أمراض تضخم الأجهزة والهياكل البيروقراطية الواسعة المتفرغة التي وقعت بها الفصائل الأُخرى"، ولم نقع في ظاهرة "تفريخ الأجهزة البيروقراطية وتوسيعها المكلف." (ص 307).
يقول نايف حواتمه (ص 118): "الأعمال ليست دائماً نتاج صحة الرؤيا والخطى التي تحث عليها." وينطبق هذا تماماً على محاولة الجبهة الديمقراطية التميز عسكرياً من سواها من الفصائل الفدائية. إن السؤال الجدير بأن يُبحث فيه هنا هو: لماذا اتبعت الفصائل الفدائية كلها هذا النوع من العمل العسكري؟ هل كان ذلك لضرورة موضوعية مثل ضعف قواعد الارتكاز الشعبية في الداخل، أم لأن هذا المنهج مريح وفي متناول اليد، ويساعد في فرض سيطرة القيادة على القاعة؟ وسؤال آخر يطرح نفسه: هل كانت الممارسة العسكرية الفلسطينية بحكم الإمكانات المتاحة؟ إن تجربة حزب الله في الجنوب اللبناني تقدم صورة تسمح بالمقارنة والتحليل وتحديد نقاط القوة والضعف، شرط أن يكون هناك من يريد أن يقارن ويستنتج ويعترف.
- قضية ثانية تتعلق بتميز مواقف الجبهة من الفصائل الأُخرى، هي قضية الصدام العسكري مع سورية يوم دخول قواتها إلى لبنان. وفي هذا الشأن، يسأل المحاور نايف حواتمه (ص 120): "هل كانت الجبهة الديمقراطية وحيدة عندما طالبت بمنع التصادم [مع سورية]؟". ويرد حواتمه: "كانت معنا قطاعات من فتح ومن فصائل أُخرى." لكن ماذا عن الكراس الشهير الذي أصدرته الجبهة بعنوان "لنقاوم معاً التدخل السوري في لبنان"، وماذا عن التحالف الذي كان قائماً بين بعض قادة الحركة الوطنية اللبنانية وبين الجبهة الديمقراطية وبين كتلة اليسار في حركة فتح (بقيادة نمر صالح رحمه الله)، التي كانت توازنات القوى داخل حركة فتح تعطيها فرصة فرض القرار داخل الحركة، إلى أن حسمت "معركة المتن" الوضع لمصلحة سورية، وانهار وزن تحالف اليسار داخل حركة فتح؟
- القضية الأبرز التي يركز حواتمه على تميز الجبهة بها من جميع الفصائل الفدائية الأُخرى، هي مبادرتها إلى طرح برنامج الحل المرحلي سنة 1973. يقول حواتمه (ص 145 - 146): "الجبهة الديمقراطية هي القوة التي كان لها شرف المبادرة في بلورة وطرح البرنامج الوطني المرحلي.... البرنامج الوطني المرحلي انتقل بمنظمة التحرير.... إلى حالة إقليمية ودولية شاملة (قرارات الرباط 1974، دخول الأمم المتحدة 1974)." ومما لا شك فيه أن الجبهة هي التي بادرت إلى طرح هذا الموضوع "علناً"، ومما لا شك فيه أيضاً أنها هي التي كتبت في شرحه وتفسيره والدفاع عنه سلسلة من المقالات الرصينة في مجلة "الحرية" اللبنانية في حينه، ومما لا شك فيه كذلك أن الجبهة هي التي تولت شرح البرنامج والدفاع عنه في ندوات جماهيرية حاشدة في بيروت ومخيماتها. كل هذا يُسجَّل للجبهة من دون لبس أو غموض، وهو يشكّل إحدى مساهماتها السياسية الأبرز في مسيرة الثورة الفلسطينية. إلاّ إن الحقيقة والتاريخ يستدعيان إضافة بضع ملاحظات توضيحية:
أولاً: كان أول من طرح فكرة العمل في اتجاه إنشاء كيان فلسطيني هو الشهيد كمال عدوان، أحد قادة فتح، وذلك بعد خروج الثورة الفلسطينية من الأردن، وفي أثناء اجتماع للقيادة المركزية الفلسطينية (هكذا كان اسمها في ذلك الحين) في دمشق، وتسرب الطرح إلى الصحف اللبنانية ("الأنوار")، وأثار في حينه ضجة كبيرة رافضة للاقتراح.
ثانياً: كان هناك منذ فترة ضغط عربي بارز، وخصوصاً من مصر، كي تعمد منظمة التحرير إلى إصدار قرار ما يتيح الفرصة لاعتبارها طرفاً في المفاوضات السياسية المحتملة. وقد تجاوبت المنظمة (بقيادة فتح) مع هذا الضغط، فأصدرت برنامج النقاط العشر في المجلس الوطني الثاني عشر الذي عُقد في القاهرة بتاريخ 6 كانون الثاني/يناير 1973؛ وهو برنامج يمثل الخطوة الأولى في اتجاه ما طرحته الجبهة الديمقراطية فيما بعد، بدءاً من آب/أغسطس 1973.
ثالثاً: إن تبنّي حركة فتح "الصامت" لدعوة الجبهة الديمقراطية، والتحالف السياسي القائم بينهما آنذاك، هو الذي أوجد المناخ الملائم الذي تمكنت من خلاله الجبهة الديمقراطية من طرح البرنامج علناً، والدفاع عنه علناً، إذ لم تكن أجواء تلك الفترة تسمح بطرح علني من هذا النوع من دون وقوع مشكلات، وربما صدامات مسلحة. وكان الأمر يحتاج إلى مناخ يحمي "أمنياً" هذا الطرح الجريء، فكانت قوة حركة فتح هي التي وفرت هذا المناخ الأمني.
رابعاً: إن نتائج حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 كانت الأساس الحاسم والموضوعي الذي دفع الدول العربية إلى تبنّي قرار اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، وذلك في مؤتمر القمة في الرباط سنة 1974.
خامساً: إن التبني العربي لمنظمة التحرير الفلسطينية هو الذي فتح الباب أمام دعوة المنظمة كي تلقي كلمة فلسطين من على منبر الأمم المتحدة سنة 1974.
ضمن هذا الإطار يستقيم فهم مبادرة الجبهة الديمقراطية، إذ توضع المواقف في إطار حجمها الحقيقي، ويتم إيضاح العوامل التي وفرت إمكان طرح الموضوع علنياً وشعبياً، ومكنت بعد ذلك من تسلسل المواقف عربياً ودولياً بصورة متسارعة.
ملاحظات
ترد إلى جانب الملاحظات بشأن بعض القضايا الأساسية (التي اخترناها)، ملاحظات أُخرى، قد تبدو جزئية، لكنها مهمة للغاية بدلالاتها:
- يغيب عن كتاب "نايف حواتمة يتحدث..." ذكر أدوار الآخرين في بناء الجبهة، وبعضهم كان من أعضاء المكتب السياسي. ويغيب بصورة خاصة ذكر الذين ابتعدوا عن الجبهة، أو انشقوا عنها. وحين ترد أحياناً أسماء الذين انشقوا، ترد في سياق التزامهم مواقف يعتبرها حواتمه مواقف مغلوطاً فيها. إن التاريخ، وحتى تاريخ أي فصيل فدائي، هو صنع أجيال متعاقبة، لها آراؤها واتجاهاتها المتعددة أو المختلفة، ولا يجوز إسقاط دور أي جيل أو دور أي فرد لمجرد الاختلاف معه في مرحلة ما. لقد كُتب تاريخ الحزب الشيوعي السوفياتي أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يتم إسقاط الزعامات الحزبية التي تم الاختلاف معها، وسُميت هذه الكتابة للتاريخ السوفياتي باسم "الستالينية".
في ص 92، يتم الاستشهاد بكتاب "المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني - دراسة تحليلية لهجمة أيلول"، على أنه كتاب بإشراف د. نبيل شعث، ويغيب اسم المؤلف خليل هندي، وهو عضو في المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية حتى نهاية سنة 1971، وقد غادرها تنظيمياً وسياسياً.
في ص 47، يرد اسم أسامة الهندي، في سياق أنه لم يلتحق بصفوف اليسار في حركة القوميين العرب في فترة المخاض، وانخرط في الاتحاد الاشتراكي العربي، الناصر النزعة، وساند خطة الاندماج وهو في السجن في سورية. وأعتقد أن هذه الواقعة غير صحيحة، فأسامة الهندي لم ينخرط في صفوف الاتحاد الاشتراكي، وبقي على رأس المجموعة القيادية للحركة في سورية، وسجن بسبب الانخراط في تشكيل جبهة سياسية معارضة للحكم كان يمثل حركة القوميين العرب فيها، وقد أصبح فيما بعد عضواً في المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية (في لبنان)، ثم اختلف مع القيادة وغادر صفوف الجبهة، ولا يرد أي ذكر له بهذه الصفة.
في ص 325 يرد في الحاشية رقم 11 ما يلي: "الكتابات التي تلت اتفاقيات أوسلو، أوضحت مشاركة محسن إبراهيم، أمين عام منظمة العمل الشيوعي في لبنان في ليلة مفاوضات التلفون (....) في تونس مع عرفات، محمود عباس، أحمد قريع... والتي انتهت بالاتفاق على أوسلو." يغيب هنا اسم الكتاب الذي ذكر هذه الواقعة وهو كتاب "قصة اتفاق أوسلو"، ويغيب أيضاً اسم المؤلف وهو ممدوح نوفل عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية، ومسؤولها العسكري طوال 20 عاماً تقريباً، وقد غادر الجبهة في انشقاق سنة 1990 (أنظر أيضاً حاشية رقم 90، ص 231).
في ص 198، الحاشية رقم 11، يتم ذكر اسم ياسر عبد ربه، أول مرة، لكن في سياق أنه فتح قناة تفاوض مباشرة مع السفير الأميركي في تونس، روبرت بيللترو، كجزء من التكتيك الذي يعتمده ياسر عرفات، ويغيب ذكر أنه الأمين العام المساعد للجبهة طوال ربع قرن.
في ص 96، نقرأ نموذجاً فاقع اللون لكيفية معالجة قضية الخلافات الفكرية والسياسية في الجبهة الديمقراطية. يسأل المحاور: "أين أصبح أولئك الذين اندفعوا في اتجاهات يسارية مغامرة داخل الجبهة الديمقراطية؟" ويجيب حواتمه قائلاً: "في مجرى عمليات أيلول لمس عدد من هؤلاء لهيب الحرب الأهلية، فغادروا صفوفنا والنيران مشتعلة.... وعدد آخر التحق بسياسة يمين منظمة التحرير الفلسطينية وسلطة الحكم الذاتي." إن الفقرة الأولى من الرد تشير إلى أشخاص مثل خليل هندي، وهو رمز لأشخاص لا يمكن أن يُطبق عليهم وصف "اليسار المغامر"، بحكم موقفهم في المؤتمر التأسيسي على الأقل. إن تهمة "اليسار المغامر" هنا تنطبق بدقة على بقية أعضاء المكتب السياسي الذين تبنوا سياسة العمل لإسقاط النظام الأردني. وبعد شهر واحد فقط من تحليلهم وموقفهم هذا، ظهر خطأ الموقف والتحليل وسقطت المقاومة الفلسطينية في الأردن. أمّا الفقرة الثانية من الرد فتشير إلى المجموعة التي انشقت عن الجبهة سنة 1990، وهي تضم أبرز قادة الجبهة الديمقراطية طوال أكثر من 20 عاماً، مثل: ياسر عبد ربه؛ صالح رأفت؛ ممدوح نوفل؛ جميل هلال؛ عصام عبد اللطيف. وهؤلاء لم يغادروا الجبهة بسبب "لهيب الحرب الأهلية". فبين "لهيب الحرب الأهلية" ومغادرتهم الجبهة فترة زمنية تتخطى 20 عاماً. إن الأمر يحتاج من دون شك إلى تحليل من نوع آخر لهذه الظواهر.
وهناك ظاهرة مغادرة واسعة لصفوف الجبهة الديمقراطية لا يشير إليها الكتاب. إنها ظاهرة مغادرة المناضلين العرب الذين التحقوا بالجبهة، وكان عدد كبير منهم من المناضلين العراقيين (شيوعيو جناح عزيز الحاج الذي دعا إلى الكفاح المسلح على صعيد عربي). لقد غادر قسم من هؤلاء المناضلين الجبهة قبل خروجها من الأردن، بعد أن اصطدم "المثقف" بسلبية وحذر "الفلاح"، فيئسوا واعتبروا الظروف الموضوعية غير مهيأة بعد لتقبل مستوى وعيهم الطبقي والتاريخي. لكن القسم الأكبر والأبرز غادر بعد إعلان البرنامج المرحلي للجبهة الديمقراطية سنة 1973. لقد كان "تقرير آب" سنة 1968 دعوة إلى نضال فلسطيني - عربي لإسقاط أنظمة البورجوازية الصغيرة العربية (المسؤولة عن هزيمة 1967). وهنا وجد هؤلاء المناضلون لأنفسهم دوراً عربياً محدداً داخل الأفق الفلسطيني، أمّا بعد إعلان البرنامج المرحلي، فقد رأوا أن المهمة المركزية أصبحت مهمة فلسطينية (بناء دولة مستقلة) لا دور لهم فيها، فغادروا يأساً، أو للالتحاق بأشكال نضال أُخرى. وتستحق هذه الظاهرة وقفة تحليل خاصة بها، بحيث تأخذ ظاهرة مغادرة صفوف الجبهة تحليلاً أوسع وأعمق، ولا يتم حصرها تحت بند "التساقط" النضالي فقط.
- إن كتاب حواتمه كتاب شامل، يناقش ظواهر أساسية في مسيرة النضال العربي - الفلسطيني منذ سنة 1948 إلى الآن، وهو يتمركز حول القضية الفلسطينية وتشعباتها العربية والدولية. لكن القارئ يلاحظ أمراً غريباً بعد الانتهاء من الكتاب، إذ يغيب عن الحوار الموسع والمفصل والشامل موضوعان: موضوع واقع الشعب الفلسطيني، وموضوع آخر يتعلق بإسرائيل. لا أعتقد أن حديثاً عن الثورة الفلسطينية المعاصرة يمكن أن يكتمل من دون أن يحتل هذان البندان موقعاً أساسياً فيه، وغيابهما يثير الحيرة حقاً، وتزداد هذه الحيرة بروزاً حين يعود القارئ بذهنه إلى المساهمة الفكرية الأساسية للجبهة، المتعلقة بمناقشة مقولة سقوط الاتحاد السوفياتي (سقوط الشيوعية، سقوط الماركسية.. أم لا) في الكتابين اللذين أشرنا إليهما، حيث تتم مناقشة أزمة الثورة على الصعيد العالمي في الكتاب الأول، وأزمة الثورة على الصعيد العربي في الكتاب الثاني مع تحليل طبقي واجتماعي واقتصادي للواقع العربي، وتغيب أي مناقشة مماثلة عن واقع الشعب الفلسطيني. وأذكر أن مؤتمر الجبهة الديمقراطية الذي أقر هاتين الدراستين، اتخذ توصية بضرورة إعداد دراسة مكملة عن واقع الشعب الفلسطيني. إنها توصية مؤلمة بعد 28 عاماً من تأسيس الجبهة الديمقراطية.
- ثمة ظاهرة أُخرى في الكتاب، هي الغرق شبه الكامل في مناقشة برامج العمل وتحليلها. ويظهر العمل الفلسطيني في الكتاب أنه عبارة عن سلسلة مكثفة من الاجتماعات والمناقشات والبيانات والاتصالات السياسية، من أجل الاتفاق على برنامج العمل السياسي. وأنا أعرف أهمية البرنامج السياسي في تاريخ أي حزب، وأعرف أهمية البرنامج السياسي في تاريخ أي تحالف سياسي أو نضالي، لكن ماذا عن الجوانب الأُخرى؟ ماذا عن فعالية النضال العسكري ضد الاحتلال أو عدم فعاليته؟ ماذا عن البناء التنظيمي للفصائل؟ ماذا عن النضال المدني ضد الاحتلال؟ ماذا عن ميكانيكية بناء التحالف داخل منظمة التحرير الفلسطينية؟ لماذا لم يستطع اليسار الفلسطيني أن يتحول إلى ظاهرة شعبية واسعة الانتشار ومؤثرة في القرار السياسي؟ لماذا تعارض عشرة فصائل فدائية اتفاق أوسلو والحكم الذاتي ويستطيع فصيل فدائي واحد أن يفرض واقع اتفاق أوسلو والحكم الذاتي؟ إن هذه القضايا تغيب كلها عن ساحة النقاش الجاد الذي يمتد على صفحات الكتاب كله. ولا أعتقد أن النقاش بشأن صحة الموقف السياسي يمكن أن يكتمل إذا لم تنجز مناقشة جادة لهذه القضايا، إذ إن الموقف السياسي لا يُرسم استناداً إلى مقولات نظرية مطلقة (صورية)، وإنما هي محكوم بتوازنات القوى على أرض الواقع، بدرجة نضج الواقع، أليس كذلك؟ هل ندرس الواقع ثم نمضي إلى البرنامج السياسي أم نفعل العكس؟
- ملاحظة أخيرة عن المحاورين (عماد نداف هو المحاور الأساسي). إن جديتهم في الحوار واضحة، واجتهادهم في طرح الأسئلة الصريحة واضح أيضاً، وقد قاموا بجهد يشكرون عليه، لكنهم يعانون مشكلتين: مشكلة الانبهار بشخصية نايف حواتمه وبتجربة الجبهة الديمقراطية (وهذا من حقهم)، ومشكلة عدم المعرفة الدقيقة بتاريخ الجبهة وصراعاتها الداخلية والفلسطينية والعربية. وبسبب هاتين المشكلتين غابت قضايا كثيرة عن الحوار، وقُبلت إجابات وتوضيحات حواتمه كمسلّمات، ولم تتم مناقشة الكثير من الإجابات، على الأقل بهدف توضيحها أكثر.
يبقى أن نقول إن كتاب "نايف حواتمه يتحدث..." كتاب قيم ومفيد، وهو وثيقة سياسية جادة عن تجربة شخص أساسي في تاريخ المقاومة الفلسطينية الحديثة، وشهادة سياسية أيضاً في مرحلة (بل مراحل) من تاريخ الثورة الفلسطينية وتفاعلات صنع القرار السياسي داخلها. ويا ليت نايف حواتمه يكمل ما بدأه في هذا الكتاب، فيسجل كل جوانب تجربته، وكل جوانب تجربة الجبهة الديمقراطية، لأنها ستكون بالتأكيد بلورة لصورة الفكر السياسي الفلسطيني في حيوية جدله وصراعاته وخلافاته وجهوده لشق طريق المستقبل.