حوار مع سحر خليفة: "سيمتلىء البلد بشخصيات هجينة"
كلمات مفتاحية: 
سحر خليفة
المؤلفون
الروائيون
السلطة الوطنية الفلسطينية
مقابلات
الحركة النسائية
المرأة
نبذة مختصرة: 

تتحدث الروائية الفلسطينية في هذا الحوار عن أعمالها الأدبية وتجربتها الكتابية وعن الاضطهاد الواقع على المرأة في المجتمع الذكوري وعن تراجع الحركة النسائية وأداء السلطة الفلسطينية.

النص الكامل: 
  • امرأة في أوائل الثلاثينات، من نابلس، تطلع علينا مرة واحدة برواية - رواية لا قصة قصيرة - وأية رواية، رواية "لم نعد جواري لكم". ما الحكاية وراء هذه الرواية التي يحمل عنوانها دلالات كثيرة؟ ما الذي جرى؟
  • لا يوجد كاتب أو فنان يطلع مرة واحدة. كان لهذه الرواية تاريخ على المستوى الشخصي. لقد حاولت أن أتجاوز صعوبات حياتية: زواجاً فاشلاً، ومواهب كُبتت بالشرط الاجتماعي غير الملائم، فحاولت أن أجد لي مخرجاً أو مهرباً. طبعاً، في تلك الفترة لم أكن أميّز كثيراً بين المهرب والمخرج والتجاوز. لذا كانت القراءة بالنسبة إلي هروباً، ثم شيئاً فشيئاً وجدت أن في استطاعتي أن أكون جزءاً من جو الأدب، فشرعت أجرّب يدي في عدة محاولات شعرية لم ترضني. فبدأت كتابة رواية. روايتي الأولى، "بعد الهزيمة"، صادرها الإسرائيليون مني على الجسر، ولم تر النور. كانت تقع في 500 صفحة. بعدها كتبت "لم نعد جواري لكم" وحاولت أن أبلور شخصيات. في الواقع، إنني ككاتبة معنية ببلورة شخصيات أكثر من الكتابة الذاتية عن النفس. عندما أرسلت هذه الرواية إلى حلمي مراد وافق على نشرها، فنُشرت في سلسلة "اقرأ" التي تصدر عن دار المعارف. ومن البداية، كان لها صدى طيب. وكان هنالك بعض النقاد، مثل رجاء النقاش الذي هاجمها بصورة شرسة.
  • لماذا؟
  • حوت مجلة "المصور" صفحتين كانتا فعلاً غريبتين. أُدرج مقال بقلم عيسى الناعوري يقول فيه: "وأنا في هذا العمر وقد بلغت من العمر عتياً [كان في أواخر أيامه]، أخشى أن أضيّع وقتي على كتاب لا يشد وأن لا يكون له أي بعد فني... هذا الكتاب سمعت عنه من بعض الأصدقاء، فبدأت أتصفحه فشدني، ووجدتني أمام شخصيات. وهذا هو عماد الرواية: شخصيات حقيقية وجو." بينما رجاء النقاش يبدأ مقاله: "من هي سحر خليفة التي قلبتم الدنيا عليها؟!... روايتها يمكن أن نجدها على البسطات..."
  • يعني "أدب" لا قيمة له؟
  • كان يقصد أنه من نوع الأدب المتوفر في كل مكان وعلى البسطات في القاهرة.. كان يقصد: ما معنى أن هذه الأجنبية الغربية ما أن كتبت هذا الكتاب حتى قام الإعلام بكل هذه الضجة؟
  • لكن كرواية أولى، كتجربة، ماذا كانت تعني لك؟
  • لقد خرجت عن الموضوع الأساسي. إن رواية "لم نعد جواري لكم" كانت بالنسبة إلي مخرجاً والأرضَ التي سأقف عليها كي أخرج من الوحل الذي كنت فيه.
  • نحن شعب قصيدة وقصة قصيرة في الغالب، ما عدا استثناءات قليلة. وحتى هذا اليوم لا يزال معظم النتاج يراوح بين القصة القصيرة والقصة الطويلة، إلى ماذا تعزين هذا؟
  • الرواية، على العموم، كفصيل (نوع) أدبي هي نوعاً ما جديدة في العالم كله. فهي لم تبدأ في أوروبا إلا في أواخر القرن السابع عشر؛ وهذا يعني أن عمرها ثلاثة قرون. بالنسبة إلى العالم العربي، كانت بداية الرواية في أوائل هذا القرن وطلعت علينا وجوه، وخصوصاً في مصر، قدمت محاولات. لكن الرواية ظلت تتخبط حتى الخمسينات، وبرزت بعدها وجوه حملتها ودفعت بها مثل: نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، وغيرهم. وعلى الرغم من كل الذين جاؤوا بعد جيل محفوظ، فإن الرواية العربية ما زالت قصيرة العمر. وعادة، لا يمكن أن يحقق الأدب والفنون مكاسب إلاّ بعملية التراكم، والتراكم بحاجة إلى أجيال، لا إلى جيل واحد.

أحب تسمية الأشياء بأسمائها

  • من أين خرجت؟ امرأة تقليدية طالعة من نابلس...
  • القراءات. القراءة هي التي تفتّح العقل والمدارك والخيال. من المفروض أني كون الفنان صاحب خيال، والخيال ليس من المفروض أن يخيّل لك الأشياء غير الواقعية، وإنما تحاول أن تتخيّل كيف يمكن أن تعيد صوغ الواقع، لا أن تبقى هائماً وتحلم. أنا لست شاعرة...
  • هنالك صفحات كاملة ومقاطع في رواياتك ترقى إلى الشعر الجميل، "شعر الرواية"، إذا جاز التعبير.
  • أنا امرأة واقعية جداً. جرّبت قرض الشعر، لكن القصيدة لم تلب حاجاتي. ماذا أحكي لك؟ أحكي لك عن الياسمين وأنا أقصد الحب؟ أحكي عن دخان الجسد وأنا أقصد الجنس؟ القصيدة تلمّح ولا تصرّح. وأنا واحدة مصرّحة من الطراز الأول. لا أعتقد أن هنالك صراحة أكثر من ذلك، لأنها عندئذ قد تعتبر وقاحة.
  • منذ أول رواية عكست سحر خليفة همّين أساسيين: الهمّ الأول هو اضطهاد المرأة وتعرية مجتمع بطريركي متداع؛ الهمّ الثاني هو رصد واقع الاحتلال ومقاومته. كما تعرفين، لدى الأغلبية الساحقة من الكتّاب فكرة أثيرة، وأحياناً استحواذية، يدور في شأنها معظم أدبهم. الكاتب يعمل على تطوير فكرته وإنضاجها وبلورتها. دائماً، كان هناك تطور في كتاباتك، لكن كان هنالك فكرة، أو طرح أساسي يتكرر في كتاباتك وهو موضوع المرأة المضطهدة. هنالك متغيّر في كتاباتك، لكن الثابت كان دائماً قضية المرأة. ماذا تقولين في هذا؟
  • المرأة والاحتلال؟
  • صحيح.
  • صار هذا السؤال "ينرفزني"، لأنه يتكرّر كثيراً. وكل مرة أحاول أن أجد له تبريرات...
  • تبريرات؟!
  • تفسيرات. لم يستوعب الوعي العربي، أو القارئ، أو حتى الناقد، أن قضية المرأة بالنسبة إلى المرأة هي مثل قضية العمّال بالنسبة إلى العمّال، ومثل قضية الفلاحين بالنسبة إلى الفلاحين، وقضايا إنسانية أُخرى ملحّة. ماذا يعني أن تعملوا من الشعب الفلسطيني قضية طويلة عريضة؟ أنت لو أردت أن تتّبع تاريخ اضطهاد المرأة لوجدت أضعاف أضعاف المعاناة التي عاناها الشعب الفلسطيني. ما معنى أن تكون قضية الشعب الفلسطيني المعذّب قضية مقدسة، بينما قضية المرأة المعذبة والمذبوحة والمختونة عبر أجيال لا تُعتبر قضية مقدسة؛ فهنالك مئات الآلاف من النساء اللواتي متن تحت الاضطهاد أو تحت التعذيب، أو انتحرن لأنهن لم يحتملن أوضاعهن. إذا كنتم أنتم، كقرّاء وكنقاد وكذكور، لا تستطيعون أن تستوعبوا هذه القضايا، فمن يستوعبها إذاً؟ نحن علينا أن نفهّم، وأن نحمل هذه الراية وندافع عنها، ونحاول أن نجد طرقاً للتوعية الاجتماعية. يعني أنا لست ساذجة إلى درجة أن أفكر أو أعتقد أن يعي الناس حالتهم، حتى النساء لسن واعيات لأوضاعهن، فكيف أتوقع أن يكون الرجل واعياً لها؟

قبل أعوام، امتلكنا نحن النساء الوعي الجديد في العالم العربي. كان فينا نوع من النقمة وخصوصاً تجاه الذكور والمتنفذين، سواء أكان ثقافياً أم سياسياً، لأنهم لم يستوعبوا ما الذي نحكي عنه. لكن فيما بعد، بعد أن عركتنا التجربة وعندما نزلنا إلى الميدان الاجتماعي أكثر، وخصوصاً عندما صرنا ننجز أبحاثاً ودراسات أكثر عن الواقع والمجتمع، صرنا نفهم تضاعيف هذا المجتمع وتعاريجه، وكيف أن مسألتي التوعية والتنمية ليستا سهلتين. وأنت عندما تسعى لتغيير طقوس ونواميس وعملية معقدة من التربية والتراكمات والرواسب؛ فهذا يتطلب أجيالاً. لذلك صرنا، نحن اللواتي دخلن هذا المعترك، ننادي الآن بعمل أو بوضع برامج توعية للرجال مشابهة لبرامج التوعية النسائية.

  • في رواية "مذكرات امرأة غير واقعية"، التي هي تتويج للموقف النسوي، نقف على الغبن الفظيع والقاتل الذي تعانيه المرأة العربية. في أحد المقاطع تفكر عفاف "... وقلت إن الآخرين الذين يعتبرون الجرأة والصدق وقاحة هم الأوقح." ما الذي تريده عفاف؟
  • من المفروض أن يكون الصدق والجرأة مناقضين للنفاق الاجتماعي، ومناقضين لكل التربية التي ركّبت عندنا كل هذه التراكمات من الإحباط والكذب، ومن النفاق و"الدسدسة"، ومن "دحش" الزبالة تحت السجادة. هذا هو المقصود. المقصود أن نكون منطلقين ومنفتحين وشجعاناً بما فيه الكفاية كي نواجه تعقيداتنا وتربيتنا. هنالك رجال كبار وبارعون في مختلف مجالاتهم، وعندما تدرس فكرهم وإنتاجهم عامة، تجدهم كباراً حقاً، لكن إذا اقتربت أكثر من أحد هؤلاء الكبار في فكره وفنه وإنتاجه تجده مهزوزاً.
  • مهزوز؟! من أية ناحية؟
  • مهزوز لأن داخله وعواطفه وتركيبته العاطفية التي استقاها من البيت مضروبة أو مشوّهة... إمّا لأن أباه كان قامعه، وإمّا لأن أمه قمعته... أو...
  •  إذاً، الرجل عرضة للقمع أيضاً؟
  •  أتمنى أن يكون الرجل قادراً على مواجهة الذات، كما نفعل نحن النساء، عندئذ يرتاح أكثر.
  • مثل أي نساء تحديداً؟
  • النساء اللواتي عندهن الوعي، وعي مواجهة الذات، والنساء اللواتي صرن "فمينست" (feminist) بالمعنى السياسي والحضاري للكلمة.
  • أنتن صرتن "فمينست"، والرجل ماذا يصير؟
  • يصير أقل عنجهية، ويحاول أن يقول: أنا عندي نقاط ضعفي، ويواجهها ويفتحها بدلاً من أن يغطيها حتى تعتّم في جوّاه وتسممه. والكل يعرف نماذج من هذا القبيل. هذه النماذج لو فتحت جوّاها لارتاحت وأراحت. لكن هذا يتطلّب شخصية متواضعة، وشخصية تعترف بأنها مهما تعمل يظل هنالك أشياء كثيرة في العالم تقدر أن تحصل عليها. المرأة بصورة عامة، وهنا طبعاً لا أوقع نفسي في فخ التعميم الكريه، مهما وصلت إلى الشهرة تبقى متواضعة، ربما لأنها قُمعت منذ الصغر.
  • لنقل مهما أنجزتْ لا تفسدها الشهرة؟
  • أي أنها لا تلتفح عندما يطولها بريق الشهرة أو الإنجاز كما تقول. أنا لا أحكي بصورة فردية، أحكي بصورة عامة. إنها تبقى متواضعة.
  • كل هذا نتيجة الغبن الذي كان وما زال من نصيبها؟
  • الغبن الذي مرت به، لأنها لم تُستقبل في هذا العالم كأن جوهرة سقطت على العائلة. على العكس، في كل تاريخ النساء لا توجد امرأة، إلاّ النوادر، قوبلت بزغردة عند ميلادها. أنتم ما شاء الله.. يعملون لكم المولد والشموع والسبوع والطهور. وثمة بيوت تُعطَّر النساء فيها ببول الذكر الوليد.
  • ومنذ ولادة الذكر يكون مسنوداً من العائلة والمجتمع...
  • حقيقة أكيدة.
  • وعندما تريد المرأة أن تكون نفسها تعتبر وقحة؟
  • عندما تكون المرأة صدامية تعتبر وقحة، لأن هذا يُعتبر خروجاً على الإطار الذي حدده ورسمه لها المجتمع الذكوري. لكن، متى تعتبر المرأة ذات إنجاز أو غير وقحة؟ فقط عندما تنجح.. تفرض نفسها على الرغم منهم.. اسمها يصبح متداولاً...
  • متداولاً؟ إنهن لسن سحر خليفة.
  • أقصد عندما تكون المرأة حالها.
  • عندما تكون رفيف غاضبة في "عباد الشمس" تقول: "يطالبني أن أكون رجلاً وأن أكون امرأة وأن أكون حمارة... ويطالبني أن أكون وقوداً للثورة البردانة، وأن أكون وقوداً لرأسه البارد." وفي "مذكرات امرأة غير واقعية"، تقول عفاف: "ومررت بنزوات غريبة من التفنّن في إلغاء أنوثتي التي فاجأتني مبكرة. وأمعنت في قمع ملامح الجمال في خلقتي." وهذه إدانة صارخة للمجتمع العربي الذي يحب المرأة ويضطهدها في الوقت ذاته، لا بل يعمل أحياناً على أن تلغي المرأة أنوثتها. ومع هذا نرى أحياناً أن الهيمنة الذكورية تنجح، إذ يحاول بعض النساء تقليد الرجل والتشبه به لتحقيق الذات، أو للحصول على جزء من امتيازاته.
  • النساء هن اللواتي فرضن على أنفسهن مسألة التشبّه بالرجل أو تقليده. في الواقع، إنهن لم يكن واعيات لأنه كان في مسلكيتهن تناقض؛ ففي الوقت الذي كن يبحثن عن هويتهن كن يتشبهن بهوية الرجال. وهذا هو الخطأ بعينه.

السؤال المحوري حالياً بالنسبة إلى "الفمينست" الناضجة، هو ليس الحصول على امتيازات الرجل من خلال التشبه به، وإنما الحصول على امتيازاتها كامرأة، لا كشبيهة بالرجل. المرأة تريد أن تحصل على امتيازاتها مثلما هي ذاتها ونفسها.. وهي في قمة أنوثتها.

  • هذا يقودني إلى السؤال التالي، ومعذرة على هذا الاقتباس الطويل. في إحدى المقابلات قال الناقد السعودي عبد الله الغذامي: "حين بدأت المرأة تكتب أحسّت أنها لكي تكون كاتبة لا بد من أن تكون رجلاً. فاللغة هي لغة الرجل، وبالتالي راحت المرأة تستخدم هذه الآلة الذكورية في التعبير، فكأنها بذلك تنازلت عن أنوثتها واسترجلت لكي تعبّر عن نفسها. نعم.. لقد اكتشفت المرأة أنها لكي تكون مثقفة ومبدعة أنها أصبحت رجلاً. وهنا حدث التناقض بين أنوثتها كامرأة ورجولتها كأديبة. فهل الكاتبة كاتب في الحقيقة وليست كاتبة... لقد وقع حرج غير قليل حول هذه النقطة، ولهذا بدأت المرأة تشعر بشيء من القلق حتى لقد باتت تشعر أنها وقعت في مأزق، وأن هذا المأزق لن يحلّه إلاّ أن تحرّر اللغة ذاتها من هيمنة الرجل. وهنا يبدأ مشروع جديد، وهو مشروع لا أقول إنه نجح، ولكني أقول إنه مشروع مهم ما في ذلك شك. وأهميته تعود إلى وعي كثير من الكاتبات العربيات بضرورة تأنيث اللغة وتأنيث المكان وتأنيث الزمان أو التاريخ ثم تأنيث الذاكرة، فلكي يكون للمرأة موقع في هذه الأشياء لا بد أن يتم تحويلها عن ذكورتها أولاً...". ما رأي سحر خليفة في هذا، وخصوصاً أن هدفها الأولي لم يكن تأنيث الزمان والذاكرة فقط، بل محاربة الاحتلال أيضاً؟
  • حلو.. حلو.. إسمع، إن اللغة كالقماش الذي إمّا تفصّله بنطلوناً أو تنورة، وإمّا أن تقول سأغيّر هذا القماش كلياً ونهائياً، فهذا صعب وغير معقول، فكيف سأستّر حالي؟ ماذا سألبس؟ يبقى أن أفصّل هذا القماش أو اللغة على مقاسي.

المرأة تُدخل
على اللغة تعديلات

  •  ثمة رأي ثاقب وبالغ الدقة بشأن لغتنا العربية دوّنه قاسم أمين في أحد كتبه، فكتب: "في اللغات الأُخرى يقرأ الإنسان ليفهم، أمّا في اللغة العربية فإنه يفهم ليقرأ." لغتك أليفة وجميلة جداً ولا فذلكات أو تقعر فيها، لا بل أعتقد أن اللغة في "باب الساحة" و"الميراث" وفي بعض فصول "عباد الشمس" هي أجمل لغة قرأتها في الرواية الفلسطينية. ربما كان هذا عائداً إلى دراستك الأدب الإنكليزي الغني جداً والذي أغنى لغتك الأم، وإلى مواقفك التحررية على العموم؛ فاللغة كائن حي. في لغتك نبض وحياة يجعلان النص أكثر حيوية وجمالاً. اللغة طيّعة جداً بين يديك، كما أنها ليست بعيدة عن القارئ العادي والمثقف. باختصار: إنها لغة ليست ثقيلة الدم. كيف تتعاملين مع اللغة؟
  • أنا شخصياً أحاول أن أخرج من اللغة التقليدية، التي هي ذكورية أو بورجوازية أو متحجرة أو سمّها ما تشاء. أحاول أن أمغط هذه اللغة، وأن أجد فيها ألواناً وقصّات وتراكيب تتلاءم مع شخصيتي ومع نفسيتي، مع الأجواء، مع الشخصيات التي أحاول أن أعكسها. وتلاحظ أن بداية استعمالي للغة العامية أو اللغة الحميمة، لغة الناس، ابتدأت في "الصبار" على نحو قليل، وفي "عباد الشمس" أكثر، وفي "باب الساحة" أكثر فأكثر، وفي "الميراث" صارت تقريباً عامية، ما عدا الذي تقوله زينب باسم الراوية. المرأة تُجري على اللغة تعديلات لا إلغاءات، تعديلات تتلاءم مع فحواها الأنثوي، مع صوتها الداخلي.
  • نجحت في وصف شخصيات رجالية وحثثتهم على الإقدام والقيام ببطولات، طبعاً ترافق ذلك مع دعوة الكاتبة إلى التخفيف من حدة الاستعلاء الذكوري. ما الذي يفعله لك وجود رجل قامع وعاجز عن مواجهة الوضع؟
  • يحثّني على أن أكون أجرأ.
  • لكن الرجل غير قادر...
  • إسمع.. إسمع.. عندما أرى الرخاوة والضعف لدى الرجال في مواجهة الأنظمة، أجد أني أجرأ من كل هؤلاء الرجال. إذا كانت الشجاعة والإقدام مقصورين على الرجال، فأنا أحياناً أشجع من الرجال. أرني أين الكتّاب الذين يحكون عن الوضع المهلهل الذي نحن فيه؟ يحكون برموز. أنا لا أريد رموزاً. أنظر إلى ما نحن فيه: على مستوى إسرائيلي لم نحصّل شيئاً، وعلى مستوى اجتماعي تراجعنا، وعلى...
  • كانت مواقفك حادة بسبب ضعف...
  • أنا طبيعتي هكذا. ربما لأنني بدأت من مستوى غير مدلّل. ألا يقولون إن الفاقد كثيراً لا يخاف أن يفقد؟ نحن كنساء على ماذا نخاف؟ ثم أنا هكذا خلقت. ربما لأنني جئت من مستوى لا يوجد فيه امتيازات كثيرة. لا توجد حولي هالات. أنا عندما أطلع المنصة لا يمسحون لي جوخاً، كما يفعلون مع الرجال. على العكس، الشاطر هو من سيسلخ جلدي. أنا لست خائفة منهم، فأنا "هيك هيك" جلدي مسلوخ، فعلى ماذا أخاف؟ بينما هم لأن جلدهم ليس مسلوخاً يخافون أن ينسلخ. أنا أحكي ما أفكر فيه وما أريد لأنه "هيك هيك"، بطبيعة الحال، جلدي مسلوخ.
  • ألا يزالون يذبحون تفاحة الطفلة عفاف حتى اليوم؟
  • طبعاً. هل توقفت عملية الختان؟ هل توقّف اضطهاد الأنوثة؟ هل توقّف كبت أنوثة المرأة؟ حتى الآن، ما هو الاكتفاء الذي حصلت عليه المرأة؟ ضع نواحي العمل والتعليم والشروط الحياتية جانباً، ماذا عن الجانب الأنوثي؟ هل يُسمح للمرأة بأن تمارس الحب بصورة معلنة ومقبولة ومرضية؟ هل يُسمح لها بأن تعيش حياة جنسية مقبولة ومرضية؟ أعطني نماذج من العالم العربي. حتى الآن ما زالت المرأة العربية مقموعة من نواحي الأنوثة والجنس والعمل والتعليم. المرأة ما زالت مقموعة. التفاحة ما زالت مقسومة قسمين، وربما أكثر من قسمين.
  • التغير الذي حدث في الانتقال من "الصبار" إلى "عباد الشمس" هو أن التركيز في "الصبار" كان على الرجال، بينما في "عباد الشمس" كان على النساء، مع شخصية مركزية هي شخصية عادل الكرمي. في "الصبار" يتداعى نظام أبوي إقطاعي، بموت الأب ونسف بيت آل الكرمي وتثوير باسل (أي خروجه وانسلاخه عن طبقته الإقطاعية). النظام الأبوي كله يتداعى. في "عباد الشمس"، التي ترصد وضع الضفة الغربية ما بعد سنة 1973، أغلب أبطالها نساء، مثل: رفيف وسعدية وخضرة. الاحتلال بلع اقتصاد الضفة ودمر البنية التحتية، ومع ذلك هل كنا بحاجة (وهذا السؤال فرضي) إلى هزة خارجية لإسقاط هذا البيت الأبوي المريض؟
  •  طبعاً. كنا بحاجة إلى هزة وإلى زلزال سياسي واجتماعي كي يسقط البيت الأبوي. لكن السقوط كما تمثّلته أنا في "الصبار" ليس سقوطاً حرفياً لما حدث في الواقع، بل هو تفكير رغبي كان عندي وعند المثقفين اليساريين في تلك المرحلة، وكنا نتوقع أن انهيار النظام الإقطاعي أو نظام الوجهاء والعائلات المتنفذة والمخاتير من الممكن أن يؤدي إلى مجتمع ذي بنية أنظف، مجتمع ثوري، مجتمع فيه إصلاح اجتماعي، من الممكن أن يزول الفساد الاقتصادي، العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الرئيس والمرؤوس، بين الأب وابنه. لكن، في الواقع، إن العرض أو الطرح الذي يُطرح في "الصبار" لا يمثّل الواقع. كما حكيت، كانت هذه رؤية وتفكيراً رغبيين، بدليل أن الحركات التي تطلع في العالم العربي وفي العالم الثالث عامة، وبالذات الدول الإسلامية، هي حركات أبوية مضاعفة ومزيد من الأبوية عن الأبوية السابقة، وليست أبوية فقط، بل مشبعة بروح عدائية تجاه النساء وتجاه الفكر التقدمي وتجاه حرية التعبير. ما يصير في أفغانستان أو إيران من محاولات فرض النفوذ، أو نفوذ المتعصبين الإسلاميين في تركيا، أو الاجتياح الإسلامي في الجزائر، أو الاغتيالات الكثيرة التي تتم في مصر - اغتيال الأقباط والاعتداء على الكنائس القبطية في مصر - ماذا يسمى كل هذا؟ هل هو النظام الذي كنا نطمح إليه؟ هل هو انهيار النظام الإقطاعي الذي كنا نتوخاه أو نحلم به ويعمل تثويراً وبنية جديدة للمجتمع؟ طبعاً لا.
  • ما هو الحل؟
  • من المستحيل أن يكون هنالك حل عن طريق الأنظمة. فبعد أن رأى المواطن العربي نوعية هذه الأنظمة العفنة بات من الصعب عليه أن يؤمن بأن هذه الأنظمة يمكن أن تقوم بتغيير اجتماعي. يستحيل أن يكون هناك علاقة ثقة بين المواطن والنظام بعد أن عرف الأول ما هي طبيعة هذه الأنظمة. ما أعتقده هو أنه يجب أن نكتشف طريقة جديدة ومبدعة، لتجميع العناصر النظيفة، التي ما زالت نظيفة ولم تتسخ بفعل تلوّث الجو. تحاول هذه الفئات وهذه التجمعات أن تبني على مستوى تجمعات شعبية تنبت من القاع (Grass Roots)، أي من البنى التحتية في المجتمع لا من فوق سلطوية من نظام أو من أحزاب أو من تنظيمات، بل تكون من منبت ومنشأ المجتمع وتحاول أن تجمّع نفسها وتبدأ مقولات ومسلكيات جديدة وتحاول أن تفرضها بواسطة الإعلام والمؤسسات، تحاول أن تخترق هذه المؤسسات الحكومية وغير الحكومية. وبالذات نحن في فلسطين، في الضفة الغربية وغزة، أعتقد أن أكثر مكان يلائم وجود هذه التجمعات هو في المنظمات غير الحكومية، لأنها موجودة بكثرة في كل المدن تقريباً، وكان الفضل لوجودها هو الاحتلال. فلعدم وجود مؤسسات حكومية أفرز الوضع، على نحو ما، هذه المؤسسات غير الحكومية. لا تقدر أن تقول إن هذه المؤسسات طاهرة، لا يوجد شيء طاهر، إنما قياساً بالمؤسسات الحكومية التي تقيمها السلطة [الفلسطينية] حالياً والتي تثبت فشلها يوماً بعد يوم لعدم وجود كفاءات ولعدم وجود انضباطية داخل العمل الحكومي - وهذا شيء متوقع. إن موظف الحكومة في العالم الثالث لا يشتغل كما يجب. المهم، تسألني عن الحلول. أنا شخصياً لا حلول عندي أكثر من أن يستعيد الأشخاص الذين لم يتلوثوا بتلوث الجو قواهم لا على الطريقة التقليدية، سواء على مستوى الأحزاب والتنظيمات أو على مستوى مؤسسات حكومية، وإنما على مستوى تجمعات شعبية تنبت من القاع، وأن يحاولوا فرض مقولات ومسلكيات جديدة.
  • في مجتمعات تقليدية ومستقرة يكون التحدي الاجتماعي أحياناً أصعب من التحدي السياسي، إذ ماذا يعني أن ترفع شعاراً سياسياً عالياً بينما لا تستطيع أن تتحدى اجتماعياً؟! فما يجيزه مازن غيفارا الثوري لنفسه لا يجيزه لأخته نهلة مثلاً. رأينا في كتابات سحر خليفة رجالاً يرفعون شعارات ثورية براقة، لكن عند المحك، وبالذات اجتماعياً، في كل ما يتعلق بقضية تحرير المرأة، كانوا تقليديين وحتى رجعيين.
  • نحن بعد كل الأبحاث وبعد العمل الميداني الذي خضناه، سواء على صعيد أبحاث أو دراسات عن المجتمع والمرأة أو على صعيد الانخراط في الحركة النسوية، أو أنا على صعيد كتاباتي ومتابعتي للمسيرة الاجتماعية، تبيّن لي حالياً أن التغيير الاجتماعي أصعب كثيراً من التغيير السياسي، ويتطلب وقتاً أطول.

الرجل ضحية قيم وتربية

  • لماذا؟
  • لأن المسائل الاجتماعية تعتمد على التربية. يعني ما نشأ عليه الواحد في البيت وفي البيئة لا بد من أن يُصدّر إلى الخارج في المجتمع الأكبر. يأخذ الشخص هذه التربية من بيته، من أمه، ثم يعكس في المجتمع ما نشأ عليه في البيت. أنت كيف ستعيد تشكيل هذا الطفل بعد أن خرج إلى المجتمع وصار كبيراً؟ نحن نعرف أن الأعوام الأولى من حياة الإنسان هي الحاسمة في تشكيل شخصيته وتكوينها، وفيما بعد تحدث رتوشات وترقيعات وإضافات. أمّا البنية الأساسية فتشكل في الأعوام الأولى من حياة الشخص. إذاً، كي تربّي مواطناً جديداً عليك أن تربّي أمه. كيف تصل إلى أمه؟ في أول عشرة أعوام يكون ملاصقاً لأمه أكثر من أبيه، فعملية التغيير يجب أن تبدأ من البيت، وبالذات من الأم. من المؤسف أن نرى اليوم كل هذا المد الأصولي في المجتمع العربي لأن هذا يعوق عملية تطوير المرأة ولا يفرز تربية كالسابق، بل يفرز تربية تسلطية وديكتاتورية وقمعية وعقلية عفنة أكثر من الأول.

نحن من أين تعلّمنا هذه المقولات؟ وإذا كنت تذكر كيف كان لعادل الكرمي هالة، وقدسية، حتى الأقوال التي كان يلقيها كان فيها جلال. هكذا كانت نظرتي إلى الثورة، أي أن لها جلالاً. في "عبّاد الشمس" تكشفت عقد ومشكلات في شخصية عادل الكرمي؛ ليست عقداً بالضبط، وإنما عدم فهم لتضاعيف المسائل النسائية وتضاريسها، ويفكر أن تحرير المرأة يتم عن طريق تحرّرها جنسياً. هكذا كانت الفكرة في السبعينات لدى اليساريين. ورأينا نساء "تلغوصت" حياتهن بفضل هذه المقولات. والبنات والنساء اللواتي رصدن هذا الوضع استطعن أن يستخلصن من تجربتهن، سواء داخل التنظيمات أو داخل الحركة الوطنية على العموم، العبرة التالية: إن الرجل يستطيع أن يطرّز لك موعظة وتنظيراً من أجمل ما يكون، لكن على مستوى التطبيق ينعف ما نشأ عليه في بيته. هذه المقولة لا تنطبق على واحد أو اثنين. هذا شيء عام اكتشفناه في كل الفصائل، سواء الديمقراطية أو الشعبية أو فتح. وكلهن، وخصوصاً القياديين، كانوا يفرزون التربية التي تربوها والقيم التي اكتسبوها من البيت أو من الشارع. ومهما تمركسوا، ومهما "تيسّروا" (من يسار)، ومهما حملوا من شعارات، فإنهم في لحظة الاحتكاك الاجتماعي أو الاحتكاك بالمرأة يفرزون تراكمات العقد التي تربوا عليها. في البداية كنا نجادل الواحد، ثم نكتشف أن تحت الجلد رواسب وعُقَداً، فنبدأ مع الواحد "خناقة"، إلى أن اكتشفنا فيما بعد أن المسألة ليست مسألة فردية ولا نقدر أن نغيّرهم بهذه الطريقة. فالمسألة هي أن الرجل هو ضحية قيم وتربية. يبقى أننا نحن نتاج اجتماعي تربوي قيمي اكتسبناه على مستوى المرأة والرجل؛ وهذا فيه خلل، كيف تصحّحه؟

المرأة ضحية مضاعفة

  • مع كل الصدق في مواقفك، ألا تعتقدين أن هنالك "عدائية"، لن أستعمل "كراهية"، ضد الرجل؟ ألا تعتقدين أن الرجل هو أيضاً بحاجة إلى تحرير من أفكار بالية؟ المرأة عندك دائماً ضحية اضطهاد الرجل أو استبداده، ألا تعتقدين أن هنالك رجالاً ضحايا استبداد نساء؟ لماذا هذا الاتجاه الأحادي؟
  • هم [الرجال] ضحية، لكنهم يضحّون بالنساء أيضاً. عندما يأتي هو إلى المرأة ويفرش عليها عقده ويبصقها في وجهها، ماذا تفعل المرأة كضحية؟ تأتي المرأة وتقول: "آ، معلش، لأنك أنت ضحية، بهمّش تضحّي فيّ." صحيح نحن، من ناحية التنظير والتحليل وأخذ المشكلة في سياقها الاجتماعي الشمولي، قادرات على أن نرى أنه هو ضحية ونحن ضحية. وهذه الضحية الذكورية، التي هي الرجل حين يكون مقموعاً بهذا الشكل، يستضعف المرأة التي هي أضعف منه ويطلّع الغلّ الذي عنده. لكن، على مستوى التغيير الاجتماعي أو حقوق الإنسان، لا تجيز لمعقّد أو مريض أن يفرز مرضه على الآخرين وتقول هذا وضع صحي. إذا أردت أن تعالج الوضع المغلوط فيه أو المرَضي لا يجوز أن تترك المريض يمارس أمراضه وتقول "بهمّش، لأنه مريض، وخلّيه يعمل هيك وهيك." هذا لا يجوز.

صحيح أن الرجل ضحية، لكن المرأة ضحية مضاعفة، لأنها ضحية نظام وضحيته هو (الرجل). كيف سنغيّر؟ نخفف من الاستعلاء الذكوري بدخول عالمه. أنا عالجت الموضوع في كتاباتي. ومن قرأ كتابي الأخير يلاحظ أن لهجتي صارت أحنّ، لأني صرت أضع عقد وأمراض الرجل في سياقها الاجتماعي، ولا أحمّله وزر المشكلة كفرد. لقد استطعت، ككاتبة وباحثة اجتماعية، أن أستوعب أن الرجل يحمل على كتفيه تراكمات عقد وقيم بالية وأشياء اكتسبها من البيئة، لذا ككاتبة صارت لهجتي أحنّ وأكثر تفهماً...

  • بالذات في "الميراث" لأنهم كلهم ضحايا.
  • في "الميراث" هنالك رؤية أنضج.
  • أنضج قياساً بأعمالك القديمة؟
  • أنضج من "الصبار" و"عباد الشمس" و"باب الساحة"...
  • لكن في "باب الساحة" كان هنالك محاولة لاكتشاف الخلل؟
  • هذا صحيح جداً. في "باب الساحة" ثمة محاولة لاكتشاف أسباب الخلل. عندما جلس حسام نفسه وراء الباب "يتسمّع على النسوان" كيف يحكين، هنا كانت بداية تغييري أنا، تغيير اللهجة. وكي أوعّي هذا الرجل كان عليّ أن أجلب له وعياً جديداً. هذه هي النقطة. كيف؟ بأن أفتّح له الأشياء المغلقة. بالضبط مثل المشهد عندما جلست سمر ونزهة تتحدثان وهو جالس وراء الباب. تتكشف الأغطية وهو يمشي معنا في أثناء كشف هذه الأغطية. عندئذ يصير شريكاً بدلاً من أن يكون في الموقع المعادي. في البداية، عندما يصير شريكاً لا يستطيع تطبيق الوعي الجديد، لأنه اعتاد أن يكون المتميّز في المجتمع، وأن يكون رب البيت، وأن يكون عنجهياً وسيظل يمارس الممارسات القمعية القديمة نفسها.
  • ومع كل هذا ألا ترين أن الرجل هو الأضعف؟
  • كيف الأضعف وهو ماسك بزمام الأمور؟! هو المتنفذ سياسياً؛ هو الذي يمسك بنظام الحكم؛ هو الذي يمسك بالنظام الاقتصادي.
  • ربما بسبب هذا هو الأضعف، لأنه يقوم بكل هذه المهمات. لماذا يتحمل كل هذه الأعباء وحده؟
  • كيف يتحمّلها؟! هو يقطف ثمارها. عندما يطلّق المرأة متى يشاء؛ هذا بحد ذاته امتياز.
  • المرأة بالنسبة إلى سحر خليفة ليست رمزاً.. وليست أرضاً.. المرأة هي المرأة. هل غيّرت المرأة بعض المفاهيم الاجتماعية تجاه المرأة؟ أم كان على أحمد، شقيق نزهة، أن يقوم بعملية ويموت كي تُقبل أخته اجتماعياً؟ التمرد ضد الاحتلال لم يحمل معه تمرداً على وضع المرأة. هذا ما نراه ونلمسه في "باب الساحة".
  • في الواقع، إن التغير النسوي أو الفكر النسوي الذي يحاول أن يعطي نموذجاً جديداً وفكراً جديداً عن المرأة، من خلال منظور المرأة، لم يبدأ بالانتفاضة. لقد تكثّف في الانتفاضة، وكانت بداياته في منتصف السبعينات حين كانت المرأة منخرطة في الأحزاب والتنظيمات اليسارية وتعلّمت مفاهيم حقوق الإنسان وحاولت ممارستها؛ تعلّمت فنون التكتيك في الأحزاب؛ تعلّمت فن الصراع والبقاء من خلال المواجهات مع الإسرائيليين؛ وعندما تعلّمتها على المستوى الوطني حاولت أن تعكسها على قضيتها الذاتية التي هي قضية المرأة. إذاً، في منتصف السبعينات بدأت النساء تحركهن الوطني وتجمعهن في التجمعات والتنظيمات والأحزاب السياسية، عندئذ بدأت تباشير الوعي وكان أول تجمع نسائي أو أول تنظيم نسائي سنة 1978، وبادرت إليه الجبهة الديمقراطية وفيما بعد الشيوعيات، ثم الشعبيات، ثم الفتحاويات. ما أن كانت سنة 1982، حتى صار عندنا أربعة تنظيمات نسائية كبيرة. في البداية، ضمت هذه التنظيمات العشرات، ثم الآلاف. وعندما اندلعت الانتفاضة، أصبح التنظيم النسائي الذي كان يضم المئات يضم الآلاف، لأن الانتفاضة بديناميتها كانت نسائية؛ فالرجال كانوا معتقلين، والنساء هن اللواتي كن يملأن الشوارع. فصار الوجود النسوي في الشارع الفلسطيني كثيفاً وحاراً. إذا أردت أن تقول إنه في "باب الساحة" لم نقدر أن نرى أن هنالك تغييراً قيمياً عن المرأة...
  • عندما سألت سمر الداية زكية كيف أثّرت الانتفاضة في النساء؟ قالت: "هَمّ فوق هَمّ"!
  • بمنظور زكية البسيط هَمّ المرأة زاد. وفعلاً على مستوى عمليّ، زادت هموم المرأة. علاوة على الحبل والولادة شغل البيت ما زال من مهماتها. من المفروض أن تشتغل كي تقوم بأود الأولاد لأن الرجل إمّا هارب في الجبال وإمّا في المعتقل. وصار الوجود الذكوري قليلاً في أول أعوام الانتفاضة. وبالإضافة إلى هذا، عليها أن تحمي الرجل عندما تقوم المعارك، تحميه من الجندي أو تسحبه من بين يديه. يعني يجب أن تكون في الشارع باستمرار، إمّا للعمل من أجل كسب القوت، وإمّا للدفاع عن الرجل، وإمّا لأخذ مواقعه. لاحظ في بداية الانتفاضة، كانت قائدة فتح امرأة. عندما صارت كل الرؤوس الذكورية في المعتقلات صارت ربيحة دياب هي التي تقود فتح. هذا لا يعرفه أحد ولا يسجل في التاريخ. ربيحة دياب هي التي قادت تنظيم فتح بأكمله في الضفة الغربية. إذاً، هَمّ المرأة وأعباؤها ومسؤولياتها زادت. وفي مقابل هذا على المستوى الأدبي، كان هناك شخصية سحاب، التي لم نقابلها قط لأنها طيف يروح ويجيء، وهي مزودة بوعي جديد. لقد استقبلناها من خلال وعي حسام، الذي كان يتذكر ما تقوله سحاب. هذا الكلام الذي تقوله سحاب هو خلاصة الوعي والقيم النسوية التي بدأت تنتشر في المناطق المحتلة. إذا، صار هنالك تغيير، والتغيير لم يبدأ بالانتفاضة، وإنما تكثف فيها. وما زال هذا الوعي النسوي وهذه المفاهيم الجديدة عن المرأة موجودة. لكن تلاحظ أننا نحن في حالة صراع. يعني في مقابل تزايد عمل المرأة وتفتّح مداركها للمجتمع ولوضعها الخاص وللمشكلات العامة، سواء الوطنية أو غيرها، وازدياد نشاطاتها على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هناك ردة لدى النساء، طبعاً أفرزتها الحركات الأصولية. وارتداد المرأة رجّعنا كثيراً. لكن الصراع ما زال قائماً بين القوى التي تحاول دعم مسيرة التقدم الاجتماعي، وبالذات مسيرة المرأة، وبين القوى الظلامية الأُخرى التي تحاول أن تشد المرأة إلى الوراء وتكرّس وضعيتها الدونية والمستعبدة.

تعلّمت من أخطائي

  • أحياناً وأنا أقرأ كتبك وأسمعك، أشعر بأنك تمسكين هذا المجتمع وتشدينه من شعره على الرغم منه إلى حيث تريدين، أو إلى حيث يجب أن يكون ساعية لتحديثه. من أين لك كل هذه القوة؟ ينتابني شعور أحياناً بأنك تريدين تدمير العالم وإعادة بنائه.
  • في "الصبار" و"عباد الشمس" و"باب الساحة" قمت بهذا العمل وكان عندي أفكار جاهزة بشأن تثوير هذا المجتمع الذي يرفض الثورة. في الواقع، بسبب ما نراه من انهيارات وارتدادات يغدو الواحد محتاراً ومتردداً في تفسيره لكيفية رجوع هذا المجتمع إلى الوراء. النقطة الأساسية أنني تعلّمت خلال مسيرتي الأدبية من أخطائي. كنت أشد المجتمع قسراً وأحاول أن أوصله إلى المنظور الذي أريده أنا. عملت هذا في الروايات السابقة، ما عدا "الميراث"، وإلى حد كبير في "مذكرات امرأة غير واقعية". فيما يتعلق بالمسائل النسوية، لم أشد شعر هذا المجتمع في هاتين الروايتين، وإنما حاولت أن أحلّل الشخصيات وأفككها.
  • صار هناك لين وتعاطف أكثر.
  • أجل، تعاطف ولين وتفهّم.
  • من أجل تحسين المجتمع؟
  • من أجل فهمه. لتحسينه أعيد الكرة نفسها، كما في "الصبار"، و"عباد الشمس". تحسينه يعني أن أرجع إلى قوالب جاهزة، إنما تحليله لفهمه. أنا مستعدة الآن لأن أتحدى أي ناقد أن يجد في أية شخصية أو أي مشهد أنني حاولت أن أفرض رؤيتي في "الميراث". وهذا تعلّمته من خلال مسيرتي الأدبية وعملي في المجتمع وانخراطي في الحركة الوطنية والحركة النسائية.

تفتيت أوصال البلد

  • في بداية رواية "الصبار" المنشورة سنة 1976، يوقَف أسامة الكرمي العائد إلى بلده على الحاجز الإسرائيلي ويحقق معه جندي إسرائيلي تحقيقاً يكاد يكون تراجيكوميدياً.. وعلى الرغم من كل الإذلال في التحقيق، فإننا كقراء كنا نلمس ونعرف أن هناك أملاً؛ فأسامة قدم بروح كلها تحد. بعد اتفاق أوسلو، وفي صفحات روايتك الأخيرة "الميراث" (1997) تموت فتنة في باص ينتظر دوره على حاجز إسرائيلي. ما الذي تغيّر بين الحاجزين: حاجز "الصبار" وحاجز "الميراث"؟
  • حاجز أسامة كان ممراً أكثر منه حاجزاً. ممر من الحدود المفروضة أو الحواجز التي فرضتها وأقامتها السلطة الإسرائيلية لمنع الفلسطيني من العودة إلى وطنه. يكفي أن أسامة وغير أسامة اخترقوا هذا الحاجز ودخلوا الضفة الغربية وانخرطوا بين الناس حتى تشعر بأن هذا الحاجز كان قابلاً للاختراق وهو ممر للوطن. لكن الحاجز الذي ماتت عنده فتنة هو الـ "بلوك" أو الانغلاق أو التسكير على أي منفذ، لا إلى الخارج فقط، أي إلى العالم العربي الذي هو جزء منه، بل هو أيضاً حاجز يفتّت أوصال البلد نفسه، وتجد أنه تعبير مجسّد عن الحواجز التي نراها تقريباً يومياً ما بين المدن والقرى، والتي تعوق وصولنا إلى الوطن ونحن داخل الوطن.
  • هل بقي هناك أمل؟
  • لم يبق أمل. في هذا الوضع عندما تصير الحواجز الداخلية...
  • الفلسطينيون حرّاس حواجز الإسرائيليين؟
  • في هذا الوضع.. نعم.
  • ما هو...؟
  • إنتظر. يجب أن نأخذ السياق. السياق لا يريك أن سلطة فلسطينية هي التي أقامت الحاجز. إذا كنت تذكر في بداية مشهد المهرجان، عندما أرادوا أن يستقلوا سيارة الإسعاف كانت أمامهم نقطتا تفتيش: النقطة العربية والنقطة العبرية. يعني أن الحواجز تزيد بدلاً من أن تقل. فبدلاً من أن تكون عبرية صار هناك نقطة عربية أيضاً، والنقطة الفلسطينية تحمي النقطة العبرية. صحيح إنني أحاول أن أجسد كل هذا في "الميراث"، لكن إذا أردت أن تأخذ تفصيلات الواقع الذي نعيشه، فنحن داخلون في مآزق كافكاوية، نحن بيدنا أدخلنا أنفسنا فيها. أنا لا أفهم، ولا الشارع الفلسطيني الذي أنا على احتكاك دائم به يستوعب فكرة أن شرطة السلطة تدافع عن الإسرائيليين. يعني أنت كي ترشق حجراً على الإسرائيليين يجب أن تمرّر هذا الحجر من غربال السلطة. في أي احتلال في العالم حدث هذا؟
  • يعني هم مقاولون عند الإسرائيليين؟
  • أنت قلت ذلك. أنا لا أقول ذلك.
  • إذاً؟
  • في أي وضع في العالم عندما تكون محتلاً ومستعمَراً لا تسمح لك قواك الوطنية بأن تدافع عن حقوقك الوطنية؟ هذا لم يحدث. على الأقل إذا وصلت المسألة إلى طريق مسدود ترفع السلطة يديها وتقول "ما خصنيش"، ولتعطي الناس حرية التصرف ليقاوموا ويعملوا مشاريع للنضال كما يشاؤون في ظل الاحتلال. أن نسمّى محرّرين وعندنا بدلاً من النقطة نقطتان؟! هذا ليس معقولاً. "الميراث" حاولتْ أن تجسّد هذا الوضع، لكن من الصعب أن يجسّد لك كتاب واحد واقعاً بأكمله. نحن الذين نعيش في الداخل نرى واقعاً أكثر تدهوراً، وأكثر عبثية من الاحتلال.

تراجع مشروع تحرير المرأة

  • اليهود ذبحوا الوطن، والأهل ذبحوا تفاحة عفاف، والانتفاضة ذبحت سكينة (أم نزهة) في "باب الساحة"، ورفيف في "عباد الشمس" تصرخ عندما ترى خضرون اليساري الإسرائيلي: "وصلوك يا خضرون قبل أن يصلوني. آمنوا بك قبل الإيمان بي. يحاولون الوصول إلى شارعك قبل الوصول إلى دهاليزي"، وخضرة تقول: "الأب يضرب والجوز يضرب واليهود تضرب..."، ونهلة في "الميراث" تتزوج سمساراً من جيل والدها. هل فشل مشروع تحرير المرأة كما فشل الحل السياسي؟
  • مشروع تحرير المرأة في تراجع. فالتنظيمات النسائية بدأت تفقد كوادرها بأعداد هائلة، وتفقد قياديات لأنه لم يعد عندهن الإيمان بسبب ترهل الحل السياسي وتفاهته. لذا قرفن وابتعدن عن التنظيمات وتخلين عن مواقعهن القيادية، سواء في التنظيمات السياسية أو في التنظيمات النسائية. إذاً، نحن كحركة نسائية خسرنا كوادر على صعيدين: كوادر على صعيد القياديات اللواتي عندهن الخبرة التي لا تقدر بثمن لأنها حصيلة تجربة غنية ومرارات كثيرة على مر ثلاثين عاماً. هؤلاء تقوقعن وتراجعن وارتددن وتركن مواقعهن. وفي الوقت نفسه الكوادر الصغيرة، النساء الصغيرات مللن فتركن مواقعهن في التنظيمات والحركات النسائية. أيضاً على مستوى نظام السلطة الفلسطينية لم نر أن السلطة استطاعت أن تحقق حتى الآن أي إنجاز في اتجاه إنجاح مشروع المرأة كمسيرة. قانون الأحوال الشخصية الذي يناقشونه منذ أربعة أعوام حتى الآن، لم يخرج بصيغته النهائية، ونحن كنساء نشك في أن يلبي هذا القانون بعض الطموحات التي ناضلنا من أجلها أعواماً كثيرة.
  • شخصيات رواية "الميراث" عاديات. النبرة النسوية على الرغم من اللذع أحياناً خفيفة، ومع ذلك أكثر فعالية وإقناعاً ونضجاً. ثمة مأزق عام يخفض من لهجة جميع الشخصيات، حتى الرجالية. ثمة انكسار وتراجع معنويان وروحيان طاغيان على الجميع. هل تساووا جميعاً أمام الوضع العام البائس؟
  • القسم الأول من السؤال يتعلق في كيفية رصدي للأحداث والنبرة التي استعملتها. صحيح أن اللهجة خاصتي تخفّفت، صارت ألْيَن، صار فيها نضج أكثر، صار فيها استيعاب ورحابة، لأن التجربة كانت تجربة أوسع، والمراحل التي مررت بها أعطتني منظوراً أعمق وأشمل للقضايا الاجتماعية. هذا بالنسبة إلى أدبي. إذاً، نحن نستطيع أن نفهم لماذا تغيرت النبرة بسبب اتساع التجربة ورحابتها.

بالنسبة إلى الشخصيات الذكورية والأنثوية، فإن الحل السياسي هو الذي زاد الأمور تعقيداً بدلاً من أن يحلّها، وهو الذي أفقد الشارع الفلسطيني الأمل بإيجاد حل حقيقي كي يخلص به من الاحتلال؛ حل للكل لا لمجموعة أفراد. إن نمط الحل الذي أعطاه اتفاق أوسلو هو تكريس للاحتلال وإعطاؤه صدقية ومشروعية، ولم يفرض أو يجئ بأي حل حتى على المستوى الاقتصادي. وهذا أدى إلى انهيار الشخصيات معنوياً، وإلى انهيار معنويات الناس. وأنا، عادة، عندما أحاول من خلال التشخيص الدرامي ومن خلال الشخصيات التي هي نمطية ولها في الوقت نفسه فردانيتها، أحاول أن أعكس مزاج الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم وشرائحهم. الآن تلاحظ أن هذه الشخصيات التي تمثّل التنويعة أو التشكيلة الفلسطينية أو تشكيلة الشخصية الفلسطينية كلها منهارة، ولا تستطيع أن تحقق ذاتها أبداً. حتى من حقق ذاته وجاء يبني مصنع تطوير أو تنمية لتنقية الجو لا يستطيع أن يجد نفسه في وطنه.

"سيمتلئ البلد بشخصيات هجينة"

  • هنالك شخصية باسل "أبو العز" في "الصبار" و"عباد الشمس". ما الدور الذي يستطيع القيام به أبو العز في هذه الأيام العصيبة جداً؟ وهل سيحل محله ابن فتنة الهجين؟
  • ابن فتنة هو الوارث. هذا المولود الهجين الذي هو ليس إسرائيلياً أو فلسطينياً هو الذي سيرث هذا البلد، وليس بالضرورة أن يكون هو ابن الجو الحقيقي أو الأصيل. وسيمتلئ البلد بشخصيات هجينة، كابن فتنة الذي لا هو فلسطيني ولا هو إسرائيلي، هي مزيج. مازن غيفارا هو امتداد لباسل. حالياً أبو العز هو في موقع مازن غيفارا.
  • شخصيات سحر خليفة الشعبية ساحرة. فشخصية سعدية وخضرة وزكية ونزهة وزهدي ومازن غيفارا والبيك وكثيرين غيرهم، كلها مسحوبة من عمق الواقع وتنبض حياة. هذه الشخصيات يلتقيها الواحد في كل مكان، لا بل إن سعدية ترتسم في الذهن وتكاد تخرج من الكتاب ماشية، وخصوصاً في فصل الحمّام. من أين كل هذه الحميمية؟
  • من العمل الميداني. أنا أشك في أن يكون في إمكان أي كاتب أو شاعر أن ينقل حس الشعب أو الناس من دون أن ينخرط فيهم ومعهم. عملي الميداني، ولحسن الحظ بواسطة هذا المركز الذي نعد فيه أبحاثاً ودراسات عن المرأة، أتاح لي مجالاً وفرصة لا تعوض في دخول العمق الشعبي والحارات الشعبية.
  • أظن عندما كتبت "الصبار" و"عباد الشمس" لم يكن عندك مركز؟
  • صحيح. عندما كتبت عن الكثير من هذه الشخصيات لم يكن عندي مركز ولا كنت في الحركة النسائية ولا كان هناك حركة نسائية متبلورة. لكن من خلال معرفتي بالواقع النسائي من الحارات والشخصيات الشعبية، اكتشفت إلى أي حد نحن بحاجة إلى مراكز أو مؤسسات نسائية في استطاعتها أن تبلور الوعي النسوي، أو أن تدرس هذا الواقع.

رفيف ليست أنا

  • لضيق وقتك سأتنازل عن أسئلة أُخرى، إلاّ إن سؤالاً ما زال يلح عليّ، وهو: كثيرون من القراء بحثوا عن سحر خليفة في كتبها، وغالباً ما توقعوا، أو أجمعوا، أن رفيف هي سحر خليفة. لا أعرف مدى صحة هذا الأمر، وخصوصاً أن كل كاتب يسقط مما لديه على شخصياته. لكنني بعد أن سمعتك في باريس تتحدثين عن حياتك الشخصية والمسيرة الطويلة والصعبة التي قطعتِها لتحقيق ذاتك، أيقنت أن سحر خليفة تختلف عن كل شخصياتها. وعندما شرعت أقرأ كتابك الأخير توقعت أن أقرأ عملاً روائياً عن حياتك، كما فعل رشيد بو جدرة في روايته الرائعة، "الطلاق"، إلاّ إنك حتى اليوم لم تكتبي لنا هذا العمل. هل ستكتب سحر خليفة لنا ذات يوم مسيرتها روائياً؟
  • أشكرك على السؤال الذي أعتقد أنه مهم لأنه يعطيني مجالاً لتفسير نفسي ومَنْ أكون؛ إذ إن القراء لا يعرفون حياتي الداخلية بأبعادها المتشابكة والمعقدة، ويخلطون بين حياتي الخاصة وبنات خيالي وأفكاري. صحيح أن الإبداع لا بد من أن يعبّر في مجمله عن الأنا التي يحتويها، وأرجوك أن تشدد على عبارة "في مجمله"، لأن ما يعبّر عن شخصية الكاتب وأفكاره وأحاسيسه ومعتقداته هو المجمل لا التفصيل. وفي الأدب لا نقف عند شخصية أو مشهد أو فكرة ونقول "هذا هو الكاتب"، وإنما نتوقف في نهاية العمل ونستخلص. نقول: هذه هي رسالة الكاتب، هذه هي أجواؤه، هذه هي محاور أفكاره أو كوابيسه، هذه أحاسيسه، هذه جمالياته. أمّا أن تقول عن شخصية ما في عمل ما، أو فكرة ما في مشهد ما: هذا هو الكاتب أو هذه فكرته، فهذا خطأ فني كبير يقع فيه القارئ العادي. أمّا الناقد المتخصص، أو الكاتب المجرّب، فيعرف أصول اللعبة ولا يخلط.

صحيح أن هناك كتّاباً كتبوا، وما زالوا يكتبون عن تجاربهم الشخصية بشكل أدبي ويدمجون أو يستقون من الخاص ما هو عام، إلاّ إن هؤلاء، حتى هؤلاء، لا يمكن أن نحاسبهم ونقيسهم بحسب مقاييس السيرة الذاتية. حتى السيرة الذاتية، إن أردت التعمق في السؤال، لا تعبّر كلياً عن حياة الكاتب لأنها تعجز عن الإلمام بتفصيلاته. كما أنها - وهذا الأهم - مكتوبة بانتقائية وتصرّف، فما يدرينا ما الذي أفصح عنه الكاتب وما الذي لم يفصح عنه؟ وأي جانب قبيح في حياته أو في نفسه صرّح به، أو أخفاه ولم يصرّح به؟

عودة إلى رفيف، أأنا رفيف؟ أتمنى لو كنت؛ فمتاعب رفيف محدودة وآلامها معدودة، ولم تحمل الأعباء والآلام التي حملتُها منذ كنت في الثامنة عشرة حين تزوجت وطلّقت وربّيت طفلتين بعرق جبيني وتابعت دراستي وعملت وشقيت وذقت طعم القلّة والخوف من البطالة والخوف من نظرة المجتمع إلى امرأة صغيرة مطلّقة، والخوف من نظرات الرجال إلى امرأة مثلي يعتبرونها صيداً سهلاً وطريقاً سالكة. لقد عشت حياة صعبة ومريرة على المستوى الشخصي، وعشت تناقضات فكرية مؤلمة وقع فيها أبناء جيلي، وواكبت الاحتلال بأكمله، والانتفاضة بأكملها، والهبوط النفسي والهزيمة المطبقة بعد أوسلو. حياتي لم تكن مرفهة كما كانت حياة رفيف، وأعبائي كانت أضعاف أضعاف ما حملته رفيف، فكيف أُقاس برفيف؟ لا يمكن. قد تنطق رفيف ببعض أفكاري أو أحمّلها بعض مخاوفي، لكنها ليست أنا، بالتأكيد ليست أنا.

أمّا أن أكتب عن حياتي كما فعل رشيد بو جدرة، فقد أفعل ذلك يوماً، لكنه سيكون عملاً صعباً للغاية وبحاجة إلى تركيز كبير ونفسية قادرة على نبش الماضي باضطراباته وأحزانه وآلامه. أنا أخاف من ماضيّ لأنه ما كان سهلاً، بل كان مؤلماً جداً، وأكره كثيراً الرجوع إلى ذكراه لأنه يسبب لي توتراً وألماً لا أعلم إن كنت قادرة على احتمالهما. الكتابة بحاجة إلى الهدوء والتركيز، وهذا الموضوع يفقدني تركيزي ويجعلني مضطربة ومتخبطة، وأخاف أن تفلت مني أدواتي الفنية في تلك الحالة فأنتج عملاً متخبطاً وكابوسياً وقبيحاً.

السيرة الشخصية: 

رياض بيدس: كاتب فلسطيني مقيم في حيفا. وقد أجرى هذا الحوار بتاريخ 28 حزيران/يونيو 1997 في عمان.