انطباعات عن "المؤتمر البديل" في ذكرى مئوية مؤتمر هيرتسل
كلمات مفتاحية: 
الصهيونية
مؤتمرات
المؤتمر الصهيوني العالمي
المؤتمر الصهيوني الأول
نبذة مختصرة: 

مشاهدات من نشاطات المؤتمر الذي عُقد في بال بسويسرا، في الفترة 15ـ17/8/1997، رداً على احتفال الحركة الصهيونية بالذكرى المئوية للمؤتمر الصهيوني الأول.

النص الكامل: 

 

عشر ساعات من السفر بالطائرة تفصل بين مخيم برج البراجنة، إحدى الضحايا الحية للمشروع الصهيوني، وبين مدينة بال السويسرية التي شهدت منذ 100 عام ولادة هذا المشروع. لكن المسافة كانت أبعد كثيراً بين السهرة الأخيرة، التي أمضيناها نحتسي الشاي على سطح بيت "أبو علي حديد" في المخيم، وبين أول سهرة دعانا إليها منظمو المؤتمر في مطعم يقدم المأكولات التايلندية. هنا في الضاحية الجنوبية من بيروت سهرة بسيطة، فيها لغة بسيطة، وواحدة فقط. أمّا هناك، فكان نحو 30 شخصاً بين ضيف ومضيف، جاؤوا من غير مكان، يتحدثون بغير لغة، وتختلط اللغات، الإنكليزية والفرنسية والألمانية والعربية والعبرية، وكثيراً ما تمتزج. منهم من تتعرف إليه أول مرة، ومنهم من فرّق الاحتلال الصهيوني بينك وبينه منذ 25 عاماً، ومنهم من سبق أن قرأت له أو قرأ لك، وها أنتما تحاولان المطابقة بين الصورة التي نسجها أحدكما للآخر وبين صورته الجديدة وهو يجالسك بشراً من لحم ودم.

السهرة في المطعم التايلندي كانت الافتتاح الرمزي للمؤتمر؛ وقد سبق الافتتاح الرسمي بيوم. كان جميع الحاضرين يتناقشون، بمختلف اللغات، في شأن قضايا المؤتمر، لكن بصورة عفوية وحميمة. وصودف أن كنت أجلس بين عكيفا أور ومحمد أبو الهيجا: عكيفا هو أحد مؤسسي منظمة "ماتسبن" المعادية للصهيونية، ومحمد هو رئيس "لجنة الأربعين" التي تعنى بالقرى العربية الأربعين التي لا تعترف السلطات الإسرائيلية بها، وهو نفسه يعيش في واحدة منها: عين حوض. كان النقاض بينهما يجري باللغة العبرية أساساً، يتخلله بعض المفردات أو العبارات العربية أو الإنكليزية. مجرد سماعي العبرية شكّل لي صدمة مذهلة، هي الثانية بعد الصدمة التي نجمت عن "تواضع" الإمكانات المادية لدى المنظّمين. وتتالت الصدمات، فيما بعد، نتيجة ما كنت أسمع. محمد ظل يعتقد أنه مواطن إسرائيلي، له كامل الحقوق التي لليهود. عاش بين اليهود، ودرس معهم، وصادقهم، وتحدث العبرية بطلاقة، وتخرج في معهد "التخنيون" في حيفا حاملاً شهادة الهندسة الكهربائية. وفي سنة 1978، كانت الهزة الأولى لهذا الاعتقاد، عندما تقدّم بطلب لوظيفة شاغرة في... مفاعل ديمونا النووي! "لا يا شيخ؟!"، علّق عكيفا مندهشاً بلغة عربية واضحة، وأضاف بالعبرية: "إني لو مأمين، أني لو مأمين" (أنا لا أصدق، أنا لا أصدق). وفي وقت لاحق من النقاش، روى عكيفا قصة الصراع قائلاً: إنها قصة بسيطة جداً، مجموعة من الأوروبيين جاءت فلسطين بقصد استعمارها. فاستولت على جزء من الأرض وطردت معظم السكان الأصليين، واستغلت من تبقى منهم، بالإضافة إلى استغلالها اليهود الشرقيين. وأكد: هذه ببساطة الحكاية كلها.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الدقائق الأخيرة من السهرة كشفت عن بعد آخر، مأساوي وعميق، في هذا الصراع، من خلال ما تشعب النقاش إليه. كان الحديث قد ذهب بعيداً جداً، إلى نقاش واقعة تاريخية، لا علاقة زمانية أو مكانية واضحة بينها وبين الصراع العربي - الصهيوني. وكانت تلك الواقعة تتضمن ظلماً ألحقه طرفٌ ما بالطرف الآخر، واعتذر عنه في نهاية المطاف. هنا، عَلِق النقاش بين محمد وعكيفا عند طرفي نقيض: الثاني يقول إنهم اعتذروا ولو متأخرين، والأول يقول: كلهم، كلهم، يعتذرون فيما بعد. انفرط عقد السهرة، وكلاهما متمترس يردد جملته. وكان واضحاً أنهما كان، في إشارتهما إلى الماضي البعيد، إنما يفكران في الحاضر القائم والمستقبل القريب. كان الماضي والحاضر والمستقبل ماثلين في أعمال "المؤتمر البديل" كافة، في الجلستين العامتين والطاولتين المستديرتين، وفي ورش العمل التي فاق عددها الاثنتي عشرة. بل، أكثر من ذلك، اختلطت هذه الأبعاد الزمانية الثلاثة على لسان عدد من المتحدثين في المؤتمر، ولا سيما الفلسطينيين منهم، على الرغم مما تضمنه برنامج المؤتمر من تقسيم زماني واضح. وكذلك كان اختلاط اللغات الرسمية (الإنكليزية والفرنسية والألمانية). وكان الفشل، في كثير من الأحيان، من نصيب الترجمات الفورية، التي قام بها متطوعون من الشابات/الشبان السويسريين.

في "برج بازل" هذا، كان اليهود المعادون للصهيونية هم الأكثر حضوراً في المؤتمر، وصوتهم هو الأعلى. قلة عددية كانوا، لكنهم جاؤوا، نساء ورجالاً، شيباً وشباناً، من كل صوب: من فلسطين وتونس والمغرب وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. وأسمعوا صوت قضيتهم/قضيتنا المشاركين الـ 800 في الجلسات، ووسائل الإعلام.

عكيفا أور، القادم من شمرياهو في فلسطين، ومن تجربة 66 عاماً من العمر، أعاد سرد الرواية إياها. وأضاف إلى السرد عناصر جديدة. غادر الحزب الشيوعي الإسرائيلي "لأنه لم يكن ثورياً بما فيه الكفاية"؛ ساهم في تأسيس منظمة "ماتسبن" المعادية للصهيونية؛ وها هو اليوم يقف فرداً ضد الاضطهاد الذي أوقعته الصهيونيةبالشعب الفلسطيني. و"الاضطهاد" كلمة - مفتاح في خطاب أور. يقول أنه ضد كل اضطهاد: كان يناهض اضطهاد اليهود، وهو اليوم ضد اضطهاد الفلسطينيين. وهو، أيضاً، يعارض اضطهاد الرجل للمرأة، واضطهاد الوالدين للأبناء، وصولاً إلى اضطهاد الإنسان للحيوان.

كان ثمة أصوات مشابهة أُخرى علت في المؤتمر، مثل: جاكوب مونيتا، الناشط في الحركة النقابية الألمانية؛ تكفا هونيغ - برناس، رئيسة تحرير المجلة الشهرية News From Within التي تصدر عن مركز المعلومات البديلة في القدس؛ جورج عَدّة من تونس. وأيضاً، وخصوصاً، كان صوت إيلا حبيبة شوحط.

إيلا، أستاذة الدراسات الحضارية ودراسات المرأة في جامعة مدينة نيويورك، "يهودية عربية" من أصل عراقي، كما تعرّف نفسها. "لا أعترف بإسرائيل، وأرض العيش فيها" - لذلك غادرت هي وعائلتها فلسطين نهائياً إلى أميركا. حملت قضية "اليهود العرب" (الـ "مزراحيم") إلى المؤتمر، ونجحت في إرخاء ظلال هذه القضية على أجوائه، وفي الربط بين قضية "المزراحيم" وقضية الفلسطينيين، إلى حد ما. فأكدت أن القيادة الصهيونية الأشكنازية انتزعت الأراضي من عرب فلسطين و"هجّرت" اليهود الشرقيين وحوّلتهم إلى "لاجئين" يمثلون قوة عمل رخيصة تحل محل الفلسطينيين في تلك الأراضي. وتحدثت عن إقامة مدن التطوير للمزراحيم، وعن قضية خطب أبناء اليمن، وعن تسمية الأشكناز لهم بـ "السود" أو "الحيوانات السود" باللغة الييديشية، والعمل على محو ثقافتهم وتاريخهم وهويتهم. ثم دعت إلى حوار يؤدي إلى "تحالف" المزراحيم والفلسطينيين في وجه "الأقلية الغربية"، بدلاً من التنافس بينهم في البؤس."

ميرو غال، فنان التصوير الفوتوغرافي، هو أيضاً "يهودي عربي"؛ وقد علّق الياس خوري عندما رآه أول مرة: شكله شكل ابن مخيم. ولد في القدس، لعائلة يهودية أصلها من الخليل، لكنه غادر فلسطين نهائياً سنة 1980 ليستقر بنيويورك. جاء إلى بال، ونشر مجموعات من صوره الفوتوغرافية على جُدُر القاعة الكبرى للمؤتمر: صور للروح العسكرية الإسرائيلية ملتقطة من مستعمرة بسغات زئيف؛ وأُخرى للتمييز الذي يمارسه الأشكناز ضد المزراحيم (مثلاً، صورة لكتاب التاريخ المدرسي تظهر كيف أن بضع صفحات فقط تتناول تاريخ اليهود الشرقيين من أصل مئات الصفحات في الكتاب).

كان هناك، أيضاً، بين اليهود المناهضين للصهيونية، تكفا؛ واسمها يعني بالعربية: أمل. وتكفا في السبعينات من عمرها. كنت أعرف من قبل موقعها في مركز المعلومات البديلة وفي المجلة التي تصدر عنه. وكنت قرأت بعض ما كتبته، وأعجبت - بصورة خاصة - بموقفها الجري المعارض لاتفاق أوسلو. وعندما عرّفنا صديق مشترك أحدنا إلى الآخر، أشارت إلى أنها كانت لاحظت منذ البداية ترددي في التعاطي معها. وفي نقاش المائدة المستديرة الذي جمعنا، بدأت كلامها بتسجيل موافقتها على ما كنت قلته في مداخلتي؛ وهو يرقى في رأي بعض المشاركين الفلسطينيين العرب إلى مستوى الهرطقات أو المحرمات أو الخطايا: فقد كنت تحدثت عن حل يقوم على أساس تفكيك الكيان الصهيوني. وعندما ودّعتُ تكفا، عانقتني بحرارة واضحة، بينما كنت أتساءل: أهو عناق أم اعتذار؟ فطوال أيام المؤتمر، نادراً ما نسيتُ أنها قاتلت في صفوف البلماح سنة 1948. معرفتي بذلك شكلت صدمة هي الأُخرى. (عكيفا، أيضاً، قاتل في حرب تلك السنة. لكنه، كما قال، لم يطلق حينها رصاصة واحدة في أي اتجاه، "حتى لا في اتجاه السماء ولا في اتجاه الأرض"!).

بعد اليهود، كان السويسريون، من حيث الحضور في المؤتمر؛ فَهُم كانوا في أثناء التحضير لـ "المؤتمر البديل"، كما خلال مداولاته، كالساعة السويسرية، من حيث الدقة والمتابعة والمواظبة. ولا يغيّر من هذه الصورة الثغرات التي برزت في الترتيبات الخاصة بالمؤتمر، التي يعود جلّها إلى ضعف الإمكانات المالية. لقد كانوا خلال أكثر من شهر قبل عقد المؤتمر، يراسلون المتحدثين عبر الهاتف والفاكس والبريد الإلكتروني، متابعين أمور تأشيرات السفر والتذاكر والإقامة ببال وموضوعات أحاديثهم، ويعدّون إعلانات المؤتمر، ومبنى الـ "سالباو ريبارك"... إلى ما هنالك، حتى أدق التفصيلات. في المطار، أو في محطة القطار، تجد أحد المنظمين في انتظارك، حتى بعد ساعتين أو أكثر من التأخر في رحلتك. يعتذر إليك عن "تواضع" النزل الذي حجزوه لك، ويحجز بطاقتين لك وله في الباص، وينتظر معك ربع ساعة تقريباً ليرافقك إلى النزل، ثم يعتذر مرة أُخرى لأنه سيذهب لاستقبال مشارك آخر.

خلال أيام المؤتمر، كان منظموه السويسريون - وأخص بالذكر بيرغت ألتالار، النمساوية الأصل - يهتمون بجميع التفصيلات وبأدقها. وكانوا ديمقراطيين ومتسعي الصدر إلى حد مدهش، حتى في اللحظات التي يقتضي فيها - تنظيم مؤتمر يضم مثل هذا العدد الكبير - اتخاذ قرارات أو توجيهات واضحة. كان، مثلاً، وجه بيرغت وهي تدعو الحضور إلى الانضمام إلى جلسة ما يظهر أنها تعتذر إليهم عن مقاطعة أحاديثهم، وأحياناً ثرثراتهم.

وفي توزيع المشاركين على المقاعد في قاعة المؤتمر الكبرى، كان المنظمون السويسريون عفويين، وديمقراطيين أيضاً: لا أماكن محجوزة سلفاً للمشاهر والمسؤولين. الرئيس أحمد بن بللا، مثلاً، يجلس في الصف الثالث أو الرابع، وكبار السياسيين السويسريين ينتشرون في القاعة، وصولاً إلى الصف الأخير. فأتذكر المنتديات الثقافية في بيروت أو عمان أو غيرهما، بـ "وجهائها" من الكتّاب والسياسيين وهم يتصدرون الصفوف، وأتذكر منهم من كان يغادر القاعة نهائياً إذا لم يجد مكاناً له في الصف الأول.

هنا نصل إلى الحضور الفلسطيني - العربي في "المؤتمر البديل". لقد كان هذا الحضور هو الأضعف (قياساً بالحضور اليهودي والسويسري المناهض للصهيونية)، في مناسبة تخص الفلسطينيين والعرب أولاً. حضور يوحي بالغياب، وعلى غير مستوى. فالمتحدثون في المؤتمر كانوا في الغالب يقدمون "خطاباً" مكروراً، واستعراضياً أحياناً، ولا علاقة له - بالضرورة - بموضوع النقاش. وعدد الحضور كان ضئيلاً، في بلد يستضيف عشرات الآلاف من الفلسطينيين والعرب، ومشاركتهم في الحوار كانت محدودة للغاية. بل إنهم، كما حال المتحدثين أنفسهم، كثيراً ما كانوا يغادرون قاعدة الجلسات العامة أو قاعات ورش العمل بحجة "شبعنا من الحكي"، ويذهبون إلى المطعم/المقهى المجاور، يجلسون و... و... ويحكون، ولا يملون الحكي.

وبالمناسبة، لم تقتصر أعمال المؤتمر على النقاش. بل اشتملت على أنشطة ثقافية متنوعة. فبالإضافة إلى معرض الصور التي أعدها ميرو غال، كان ثمة معرض آخر بعنوان: "ممحوة عن الخريطة"، لصور القرى الفلسطينية الأربعين التي لا تعترف السلطات الإسرائيلية بها. وأحيطت باحة مبنى "سالباو ريبارك"، على ضفة نهر الراين الذي يخترق بال، بمنصات عرض اشتملت على الكتب والنشرات والمطرزات... إلخ، وحتى على ساندويشات الفلافل. كما أحيا الموسيقار الفلسطيني المقيم بالنمسا، مروان عبادو، أمسية قدم فيها، بمصاحبة العود، عدداً من الأغاني باللغة العربية بعد أن كان يترجم فحواها إلى اللغة الألمانية. كذلك اشتمل المؤتمر على عروض لثلاثة أفلام من إخراج السينمائي الفلسطيني ميشيل خليفي، هي: "عرس الجليل" و"نشيد الحجر" و"حكاية الجواهر الثلاث". ولعل النشاط الثقافي هو ما أنقذ المشاركين الفلسطينيين من شبه الغياب في المؤتمر.

*  *  *

عندما عدت، ليلاً، إلى بيروت كان مخيم برج البراجنة على طريق المطار يغط في نوم عميق. وفي اليوم التالي، في وضح النهار، تفتحت عيناي على جانب من واقعنا الفلسطيني - العربي الغارق في سبات أعمق. لقد نجحت المنظمات السويسرية وحفنة من اليهود المناهضين للصهيونية في أن تحيي - على طريقتها - الذكرى المئوية لمشروع استعماري جلب الاضطهاد والقتل والدمار إلى منطقتنا. لكن أصوات المؤتمر لم تصل، كما يبدو، إلى المسامع العربية إلاّ لماماً. وتكاد الذكرى نفسها تمر، عندنا، كأنها لم تكن. ولكأنما بلغنا دَرَكاً يراد لنا معه أن نستمرئ دور الضحية، وأن ننسى/نتناسى كل ما يوقظ الذاكرة الغافية أو يشحذ الوعي المثلوم.