يكتب شوفاني عن ذكرياته الشخصية مع صديق عمره ورفيق نضاله، الشهيد حنا إبراهيم ميخائيل (أبو عمر)، ويعرّف به كإنسان ومناضل، منذ التقيا أول مرة في جامعة برنستن الأميركية سنة 1963. ويعرض أفكار الشهيد وآراءه في الحركة الوطنية الفلسطينية. ويورد مقتطفات من دراسات له منشورة جزئياً أو مخطوطة.
"ربَّ صدفة خير من ميعاد." ربَّ صدفة تعتق المرء من ربقة دين في العنق فات ميعاده من دون الوفاء به، فيحمد الصدفة ويندم على التقصير! ومع ذلك، ينتهز الفرصة على استحياء ليقوم ببعض الواجب، وإن متأخراً، علَّ في ذلك شيئاً من التكفير عن التقصير. والصدفة/المناسبة هنا هي نشر أطروحة الدكتوراه لصديق العمر، الشهيد حنا إبراهيم ميخائيل (أبو عمر)،[1] الأمر الذي بقدر ما أسعدني أثار فيَّ مجدداً مشاعر الحزن على فقدانه في ذروة عطائه. وكان فقدانه قد حيرني أعواماً كثيرة في مسألة الخط الفاصل بين التضحية بالذات في النضال، وبين التفريط في الكوادر في الثورة. ومهما يكن، فطالما كان يردد مقولة "الكادر الصلب في الموقع الصعب." وأنا لا أجيء اليوم لأرثي "أبو عمر"، ولا لأتحلَّل من مسؤولية تربض على عاتقي، وإنما، وبكل تواضع، لأضيف شيئاً ولو قليلاً للتعريف بهذا الثائر الصوفي، إغناء لما كتبته زوجته الأخت جيهان الحلو (أم عمر)، والصديقان المشتركان - الأستاذ الكبير إدوارد سعيد، والأستاذة بيانكا ماريا سكارتشيا، في مقدمة الكتاب.
لقد التقيت "أبو عمر" عرضاً في جامعة برنستن الأميركية في صيف سنة 1963. وفيما جاءَها هو أستاذاً مساعداً في دائرة العلوم السياسية، بعد أن أنهى برنامج دراسته المقرر في جامعة هارفرد، فقد وصلت أنا إليها طالب دراسات عليا. وكان لقاءً قصيراً ومهذباً، على فنجان قهوة، شابه بعض التحفظ، على الأقل من جانبه، بعد اطلاعه على حقيقة أنني خارج من فلسطين المحتلة سنة 1948، وعلى خلفية الوعي السائد آنذاك فيما يتعلق بتلك البقية من شظايا شعبنا تحت الاحتلال. ومع ذلك، ولعله في مزيج من حبِّ الاستطلاع، وربما الفضول، ومن موروث العادات والتقاليد، فقد دعاني إلى بيته للعشاء، فقبلت الدعوة. وكانت سهرة كسرنا فيها بعض الجليد، لكن من دون شقِّ طريق إلى تلك الصداقة الحميمة التي نشأت بيننا لاحقاً، إلى أن افترقنا بغيابه، بما انطوت عليه من علاقات شخصية وعائلية وسياسية وتنظيمية، فأنا مدين له بقرار العودة إلى الوطن العربي، وبالتأكيد بالانضمام إلى "التيار الديمقراطي" في حركة فتح، الذي كان هو في قلب نواته الأولى.
لم يكن أنهى بعد كتابة أطروحته للدكتوراه، التي هي مضمون هذا الكتاب، في موضوع "نظرية الحكم السياسية في الإسلام"، استناداً إلى كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي، قاضي القضاة. ومع ذلك، قبلته جامعة برنستن بناء على توصيات أساتذته، وتفوقه في دراسته، أستاذاً مساعداً. وكان ناجحاً في عمله، لما تمتع به من ذكاء وفطنة وسعة اطلاع، ولما امتلكه من قدرة على الاستيعاب والتحليل والتعبير. لكنه في خضم التدريس، وفي الأجواء السياسية المشحونة في الستينات، فقد حماسته لإنهاء الأطروحة، واستحوذ عليه هاجس العودة إلى الوطن العربي، وغلب عليه الاهتمام بالعمل السياسي بديلاً من الحياة الأكاديمية، ومرَّ بفترة من القلق وعدم الاستقرار. وعلى الرغم من المناقشات الطويلة بيننا بشأن تلك الأطروحة، فقد ظل يؤجل العودة إليها وإنجازها حتى سنة 1968، أي قبل الموعد الذي حدَّده لنفسه للرحيل عن الولايات المتحدة بقليل. فكان أن تخرجنا في السنة نفسها. في الواقع، فإنه كتب تلك الأطروحة على مضض، من دون أن يخطر له على بال تطويرها وإعدادها للنشر. وقد تناولتها الأستاذة سكارتشيا بالعرض في مقدمة الكتاب فكفتني مشكورة مؤونة ذلك.
وبعيداً عن إصدار الأحكام والتقويمات، وخصوصاً إذا كانت تجيء في نظرة إلى الوراء، وعلى أرضية ما آلت إليه الأمور، وأين أضحت آمالنا وأحلامنا، فهو الذي غرس فكرة العودة إلى الوطن العربي في ذهني، الأمر الذي لم يكن قط وارداً في جملة الخيارات التي فتحها أمامي سفري لاستكمال الدراسة في الولايات المتحدة. وإذ كان يعي استحالة تجسيد تلك الفكرة في الواقع القائم آنذاك، فإنه كان على ثقة بأن التحولات الجارية في الوطن العربي، في الستينات، ستؤول حتماً إلى تغيير جذري في ذلك الواقع. وخلال الأعوام الأربعة (1963 - 1967)، التي توطدت فيها صداقتنا، تداولنا أمر مصيرنا ومستقبلنا، وفكرنا في العودة إلى الوطن؛ إذ كان اقتناعنا بضرورة عدم الاستقرار بأميركا مشتركاً، لكننا لم نستطع حسم السؤال: إلى أين ومتى وكيف؟
ومرت الأيام، وتأجلت البرامج إلى أمد غير مسمَّى. ومعها استمرت العلاقة بيننا على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. وعرفت فيه ذلك الإنسان الوديع، دمث الأخلاق، حميد السيرة، عفيف النفس واللسان، الذي تربى في مدرسة الكويكرز في مسقط رأسه - رام الله - ومنها انتقل إلى إحدى الكليات التابعة لتلك الجماعة الدينية في أميركا - هافرفورد - حيث درس الكيمياء، ثم التحق بجامعة هارفرد للدراسات العليا، وتحول إلى مادة العلوم السياسية. وكان محافظاً في سلوكه ومعشره وملبسه، يرتدي في معظم الوقت بدلة غامقة اللون، وربطة عنق على قميص أبيض. ولجديته في عمله، أحبَّه طلابه بلا حدود، وحظي باحترام كبير بين زملائه من الأساتذة، على صغر سنه وتدني مرتبته في الهرم الأكاديمي. وفي أوقات المرح، كان يبرز حبه للحياة، وتتجلى فيه روح دعابة غير عادية، فتنطلق منه الفكاهة عفوية خفيفة الظل. وكان يستمتع بتقليد اللهجات في لغات متعددة، وأحبُّها إلى قلبه تعبيرات أهل بلده في أميركا - خليط من العامية العربية والإنكليزية المعرَّبة "فلاحيّاً". حتى في الطبخ كانت له هواية، غير أنه لم يكن طويل الباع في هذا المجال، فكانت تطلعاته أكبر من قدراته. ومع ذلك لم تثنه الإحباطات المتكررة عن الدأب والمثابرة على المحاولات. فكانت قصص "طبخاته" موضوع تندر في حلقة أصدقائنا.
افترقنا في خريف سنة 1967 لا نلوي على شيء، بعد صيف ساخن في برنستن، عملنا فيه معاً على تدريس اللغة العربية في دورة صيفية، احتشد فيها طلاب وأساتذة من مراكز دراسات الشرق الأوسط في جامعات شرق الولايات المتحدة. وما أن انطلقت أعمال الدورة حتى توتر الوضع في المنطقة، وراحت غيوم الحرب تتلبد في سمائها، وصارت التطورات المتلاحقة موضوع حديث المشاركين في الدورة، وانقسم الناس في مواقفهم بحسب أهوائهم. ووجدنا نفسينا في معركة حامية الوطيس بشأن الحرب، أسبابها ودوافعها ومسؤولية الأطراف فيها وتوقعات نتائجها. لم يساورنا شك في شأن دور الولايات المتحدة فيها، وضلوع إدارة جونسون في التخطيط والإعداد لها. ومع ذلك، فقد غالينا في تقديراتنا وتوقعاتنا، ورأينا فيها معركة حاسمة مع الكيان الصهيوني. وأسوة بغيرنا من الملايين، وقعت علينا نتائجها وقع الصاعقة. وخلال الأسبوعين اللذين سبقاها، خضنا مناقشات صاخبة مع من حولنا من المنحازين إلى إسرائيل، الذين يتوقعون، بل يتمنون، الهزيمة لعبد الناصر وسحق الجيش المصري، بل أكثر منه لسورية وجيشها. لقد حرقنا جسورنا مع الكثيرين من معارفنا وزملائنا في برنستن. وتداولنا الأمر في ما بيننا، فتوصلنا إلى أن بقاءنا هناك لم يعد ممكناً. ورحل هو إلى الشاطئ الغربي، إلى جامعة سياتل، وقبلت بدوري عرضاً موقتاً للعمل في جامعة جورجتاون في واشنطن العاصمة.
وكنا على موعد في آب/أغسطس 1968، إذ طلبت منه أن يكون شاهد العريس في مراسم زواجي، فلبى الدعوة، وحدد الموعد، على أن يكون ذلك في نيويورك، حيث تقيم أختان له. ولم أكن أدرى أنه كان ينوي السفر إلى عمان. وبعد أخذ ورد، علمت منه أنه كان خلال السنة المنصرمة قد انضم إلى حركة فتح، وكنيته "أبو عمر"، وأسرَّ لي بأنه إذا سارت الأمور كما يتوقع، فإنه سيلتحق بالحركة هناك، ولن يعود. وطبعاً، أخفى ذلك عن أختيه. ومن جانبي أفضيت له بدوري أنني قد انضممت إلى الحركة أيضاً، منذ تأسيسها تلك السنة في أميركا، وأنني أعددت للسفر إلى أوروبا لمدة ثلاثة أشهر، تتخللها زيارة للبلد، وأنني بناء على طلب الحركة سأقوم ببعض المهمات في جولتي. لقد أصبحنا عضوين في الحركة من دون مداولة ولا تنسيق. وقرر الظرف الموضوعي لنا ما لم نستطعه خلال أربعة أعوام في برنستن. وتذرعنا بالسرية التي كانت القاعدة كما ينص "النظام الداخلي". وبينما كان في إمكانه السفر إلى عمان، والتقاء قيادة الحركة، ثم العودة إذا شاء، فإني لم أكن أستطيع ذلك لعدم امتلاكي جواز سفر. وودعته على أمل اللقاء في صفوف الحركة في يوم ما، وكان ذلك، ولكن بعد حين، في بيروت، وليس في عمان.
انقطعت أخباره عني عاماً كاملاً تقريباً، هو عامه الأول في صفوف الثورة بالأردن. إلا إنه فاجأني في آب/أغسطس 1969، إذ وصل إلى الولايات المتحدة، واتصل ليخبرني بأنه جاء لإجراء مناظرة في البرنامج المتلفز "المحامي" ("The Advocate") - المعروف على الساحة الأميركية - مع رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي سابقاً، يهوشفاط هركابي. استغربت الأمر جداً، فأكد أن ذلك بقرار من قيادة الحركة، وأن المناظرة لن تكون بالمواجهة المباشرة، وإنما على قناة مغلقة من أمكنة منفصلة، وستجرى على الشاطئ الغربي للولايات المتحدة، ولم يزد في التفصيلات. وكانت المناظرة، وكان بارزاً تفوقه على خصمه، شكلاً ومضموناً، بالمنطق السليم والتعبير المحكم والثقة بالنفس في الحوار. ولم يستطع هركابي، ولا منظم المناظرة المنحاز بطبيعة الحال إلى إسرائيل، على الرغم من التظاهر بالحياد، أن ينالا منه. وكان تعليق الكثيرين من المثقفين العرب في أميركا، أنه ذكّرهم بحوارات الدكتور فايز صايغ مع ديفيد سسكايند عن الصهيونية في التلفزة الأميركية، والتي تميز فيها الدكتور صايغ بالحجة والخطاب السياسي الرصين والبلاغة.
بعد المناظرة حضر إلى واشنطن، وبات عندي ليلته. وكان حديثنا بطبيعة الحال عن الحركة، وسمعت منه طوال ساعات عن تجربته في صفوف الثورة، وعن المتاعب التي لقيها في عمان من جراء العقبات التي اعترضت سبيله للالتحاق بالحركة في الوطن العربي. واستغربت الأمر كثيراً، وخصوصاً أن العراقيل التي وضعت في طريقه كانت في نظري مفتعلة وخارجة عن النظام الداخلي للحركة. واعتقدت في حينه، كما تأكدت من ذلك لاحقاً، أن أولي الأمر في عمان لم يكونوا يرغبون في وجود مثل هذا المثقف في صفوفهم، ولعلهم أرادوا منه، كما فعلوا معي، البقاء في الولايات المتحدة، وتوظيف طاقاته في العمل الدعائي، وفي مجمل الأحوال، بعيداً عن مركز صنع القرار والتأثير في جسم الحركة. وللحقيقة دهشت لإصراره العنيد على متابعة الخط الذي وضعه لنفسه، ورفض بحزم اقتراحي عليه البقاء في الولايات المتحدة فترة ما، نتعاون فيها بالعمل على تلك الساحة، وخصوصاً أن فرصة عودته إلى موقع عمله السابق ما زالت متوفرة. في المقابل، طرح هو علي أن أسعى للحصول على جواز سفر أميركي، يؤهلني للسفر إلى المشرق العربي، ويفتح أمامي خيار العودة، وربما الالتحاق بالثورة إذا شئت، وبالتالي التعاون معه بالعمل في "القطاع الغربي"، الذي كان ينوي الانصراف إليه.
ولشد ما كانت دهشتي عندما أفضى إليّ بدافع قدومه إلى واشنطن، وهو لقاء السناتور من ولاية أوريغون، مارك هتفيلد، الذي عرف بمناهضته العمل الصهيوني المنظم على الساحة الأميركية. وقد جرى ترتيب اللقاء بناء على طلب هتفيلد، بعد أن شاهد المناظرة، وعبر وسيط أميركي من أصل عربي، قريب من السناتور. وتحاورنا في الأمر طويلاً، فدعاني إلى مرافقته في اليوم التالي إلى اللقاء، وقبلت على أن أكون مستمعاً فحسب. وفي تلك الجلسة في مكتب السناتور، التي طالت أكثر مما كان مبرمجاً لها، سمعت من "أبو عمر" عرضاً شاملاً، وأول مرة، عن "الحل الديمقراطي" للقضية الفلسطينية. فبعد أن شرح أهداف حركة التحرير الوطني الفلسطيني بإيجاز، طرح عليه السناتور السؤال: ما الحل؟ فانطلق "أبو عمر" في تفنيد "الحل الصهيوني" واستحالة تطبيقه. ثم انتقل إلى "الحل الديمقراطي"، فأسهب، والسناتور يستمع باهتمام ظاهر، وبرغبة في الاستزادة، إذ قاطعه مراراً بطرح الأسئلة. وتجلى "أبو عمر" كأفضل ما يكون في تحليله وطرحه وتعبيره. فعرفت أنه قد أولى المسألة كثيراً من التفكير، وأنه يتكلم عن اقتناع بهذا الحل، وأن الأمر بالنسبة إليه ليس مجرد خطاب دعائي، كما كان المنافحون عن الصهيونية يدعون، أو كما كان المنافقون في صفوف الثورة يقولون. وقد أضفى حضوره، شكلاً ومضموناً، صدقية كبيرة على طرحه. فالرجل كان إنسانياً إلى أقصى الحدود، وكان مؤمناً بأن حل التناقض في فلسطين يجب أن يتناول مسألة "البشر قبل الحجر". وكان حديثه ينساب سلساً، متماسكاً ومقنعاً، وكلامه مرصعاً بمقتطفات ملائمة من مخزونه الفكري الوافر، وبتشبيهات ذات مدلولات قاطعة أعانته عليها فطنته الحادة.
افترقنا مرة أُخرى، ولم نلتق حتى شباط/فبراير 1971، وذلك لفترة قصيرة في بيروت، التي انتقل إليها للعمل في "القطاع الغربي"، بقيادة الشهيد كمال عدوان. وبرفقته التقيت هذا القائد، بحضور الشهيدين محمود الهمشري وعز الدين القلق. وفي الحديث استرعى انتباهي بعض المصطلحات في كلام "أبو عمر"، ذات الرنين الماركسي اللينيني. وفاتحته بالأمر، فلم يؤكد ولم ينف. وكان الأهم بالنسبة إليه العفوية التي سادت العمل في عمان، والتي لا يجوز أن تستمر، الأمر الذي يستلزم إعادة تقويم الأوضاع في الثورة، وبالتالي صوغها على أسس علمية، وهذا لا يمكن، في نظره، من دون دراسة الماركسية واللينينية وتجارب الثورات الأُخرى، وخصوصاً الفيتنامية التي أبدى إعجابه بها.
أدركت أن تحولاً جذرياً طرأ على تفكيره بعد تجربة عمان. وإذ أنحى باللوم على فصائل الثورة التي وفرت، بسلوكها هناك، الذريعة لانقضاض السلطة عليها وتأليب الجماهير ضدها، فإن اقتناعه كان راسخاً بأن الحركة الوطنية الفلسطينية تتعرض لمؤامرة شرسة، لم تكن أطرافها خارجية فحسب، بل امتدت إلى الداخل أيضاً. وبدا لي أنه فقد الثقة بقيادة الثورة، لكنه لم يقطع الأمل بعد بالإصلاح من الداخل، وأنه لا يضع جميع أعضاء القيادة في سلة واحدة. وليس أدلَّ على ذلك من عمله مع الشهيد كمال عدوان، على الرغم من الفوارق الكبيرة التي كانت تفصيل بينهما فكرياً وأيديولوجياً، إذ لم يساوره شك في وطنية هذا القائد وجديته. لم يعد واثقاً بأن القيادة الأولى تعمل من أجل التحرير كما تدعي، وإنما تسعى لإقامة كيان سياسي وأن كلامها عن التحرير لغو فارغ من أي مضمون.
في هذه الأثناء (سنة 1975) لبى رغبة دفينة في قلبه، والتحق بدورة حركية أُرسلت إلى فيتنام. لقد أراد أن يطلع بنفسه على نهج الثورة هناك في الممارسة اليومية، ويغني قراءاته عنها. وكانت تجربة غنية بالنسبة إليه، عاد منها أكثر وضوحاً في الرؤية، وأعمق معرفة في المسألة التنظيمية. وحمل معه مجموعة كبيرة من المحاضرات، أصبحت بعد تحريرها وتنقيحها ركناً أساسياً في البرنامج التثقيفي لـ "المنظمة" التي كان في لجنتها التأسيسية الأولى، والتي كانت سرية تموِّه على نفسها بأشكال متعددة، وتسبح في تيار عريض - "التيار الديمقراطي داخل "فتح". وكنت عندما التقيته في صيف سنة 1972، لاحظت أنه قطع شوطاً بعيداً في هذا الاتجاه. لكنه لم يفاتحني بشأن "المنظمة" حتى خريف سنة 1973، بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر، وظلت علاقتي به خيطية فترة طويلة. وشجعني على العمل في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ولاحقاً في مركز التخطيط الفلسطيني.
في هذه الفترة لاحظت التحول الجذري في شخصية هذا المناضل الثوري. فقد جاءت حرب تشرين الأول/أكتوبر، بعد أحداث عمان وجرش، لتعمق التزامه بالثورة وتصميمه على إعادة صوغ مضمونها السياسي وشكلها التنظيمي، ولكن من داخلها، وعبر التثقيف ونشر الوعي أولاً، وكذلك الممارسة اليومية نضالياً ومسلكياً، والعمل التنظيمي الدؤوب، لا داخل حركة فتح فحسب، بل أيضاً على ساحة الصراع بمجملها. فبعد حرب تشرين الأول/أكتوبر، وطرح مشاريع التسوية المرحلية، وانقسام الساحة الفلسطينية بشأنها، بين قابل بها ورافض لها، أحسَّ بالخطر الداهم على مستقبل العمل الوطني الفلسطيني، وبالتالي ضرورة التصدي الملحة لنهج الانحراف عن مبادئ الثورة وأهدافها. وكان يرى أن جذر الانحراف فكري طبقي، وأن دعاة مقولاته وخطابه السياسي قلة من أصحاب المصلحة في التسوية، فيما الكثرة لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل. ورأى في تأييد بعض فصائل "اليسار" لذلك النهج تسويغاً "ماركسياً" أو "شيوعياً" له. فذهب إلى أن المهمة المركزية في تلك المرحلة هي التصدي لتلك الظاهرة، وبالتالي صوغ المقولات النظرية والخطاب السياسي، وطنياً وماركسياً، وتوظيفها في دحض الأطروحات التسووية الرائجة.
غني عن البيان أنه كان يرفض الطروحات التسووية التي راجت بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر، ويرى في البرامج المرحلية انحرافاً سياسياً، ليس هدفه التحرير على مراحل، وإنما الاستسلام لإرادة العدو على مراحل. ومع ذلك، لم يكن يستعجل الانشقاق عن حركة فتح، أولاً لاقتناعه بأن التسوية المطروحة غير قابلة للتطبيق، وخصوصاً أن الكيان الصهيوني لم يكن مهيّأً لها، وأن لا مجال، في تلك الفترة، لتطويعه لإملاءاتها وشروطها. إلا إنه كان يعي الأضرار الفادحة الناجمة عن السير في هذا السبيل. وثانياً، لنهجه الديمقراطي الراسخ، البعيد عن الانقلابية، وإيمانه العميق بالعمل التنظيمي والتثقيفي. وثالثاً، لعلمه بدقة المرحلة وخطورتها، وبالتالي ضرورة الحفاظ على نمط من الوحدة الوطنية، مهما يكن هشّاً، في غياب الوحدة السياسية. وكان يعي أنه في غياب وحدة الهدف السياسي تتعذر الوحدة التنظيمية، وأن الوحدة الوطنية لا يمكن أن تتحقق على أرضية أي من مشاريع التسوية المطروحة. ومع ذلك كان مؤمناً بضرورة "إقامة الجبهة الوطنية المتحدة"، على غرار الجبهة الفيتنامية، "والتي تضم كافة القوى ذات المصلحة في تحرير فلسطين." وهذه الجبهة يجب أن تكون "جزءاً من حركة التحرر الوطني العربية"، وعليها أن تساهم بفعالية "في تحقيق أهداف الثورة العربية في التحرير والوحدة والديمقراطية والاشتراكية." وهي كذلك "جزء من الثورة العالمية... وتقف إلى جانب الشعوب المكافحة من أجل حقها في تقرير مصيرها." وكان يرى أن مسؤولية العمل لإقامة هذه الجبهة المتحدة تقع على عاتق فصيل طليعي، يتشكل من "اتحاد اختياري كفاحي، بين مناضلين ثوريين، نذروا أنفسهم من أجل انتصار الشعب، وتحرير الوطن بالعنف الثوري."
كانت الوحدة في نظره جمعاً تكاملياً واعياً، وليس تراكماً كميّاً وعفوياً، من جهة، ولا تطابقاً تماثلياً، وبالتالي إلغائياً، من جهة أُخرى. وهي تتم عبر ائتلاف طوعي بين منظمات أو أحزاب، معبرة حقيقة عن مصالح قواعدها وتطلعاتها، وتقوم على أسس ديمقراطية، بحيث يأخذ كل موقعه في قيادة الجبهة بحسب دوره في النضال وتمثيله لقطاعات الجماهير المنخرطة فيه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان يرى ضرورة العمل للتسريع في "تشكيل الحزب الشيوعي الفلسطيني من كافة الماركسيين واللينينيين والفلسطينيين... وصولاً إلى تشكيل حزب شيوعي عربي موحد، يكون أداة للثورة العربية." وقد أولى هذه المسألة جلَّ اهتمامه، سواء لناحية صوغ المضمون النظري والسياسي للعمل الذي نذر نفسه له، أو لناحية العمل التنظيمي والتثقيفي داخل الحركة وخارجها، حيث رأى مشروعه ينسحب على الساحة بمجملها. فانكب على القراءة وكتابة الملاحظات الأولية التي لم تكتمل في حياته، وظلت بمثابة قطع متناثرة على شكل مسودات. وكان لا ينفك يلتقي القوى والمنظمات والأشخاص، يحاور ويجادل، ما يحاضر في الدورات والندوات، أو يلتقي شخصيات محلية وأجنبية ولجان نصرة فلسطين، ومنها الكاتب الفرنسي الكبير، جان جينيه والمخرج الفرنسي المعروف غودار وكثيرين غيرهما. وقد استنفد ذلك كله وقته. فما كنت تراه إلا مسرعاً إلى هذا المكان أو ذاك، سيراً على قدميه في أغلب الأحيان، وعلى وجهه علامات الأرق والإعياء، وربما الجوع أيضاً. وكثيراً ما سمعته يردد مقولة "إذا راحت لك فرصة النوم ساعة فانتهزها، وإن دهمتك وجبة طعام فاغتنمها، فأنت لا تعرف متى تنام في المرة القادمة أو تأكل."
وكان من أولويات عمله وضع برنامج تثقيفي لكوادر "المنظمة" الطليعية التي رأى فيها أداة التغيير على الساحة. وإذا بدأ بلائحة من عناوين الكتب المختارة للقراءة، تغطي موضوعات متعددة اعتبرها ضرورية للارتقاء بوعي الكوادر، فإنه أصرَّ على ضرورة إعداد "دراسات ثورية" في شتى الموضوعات، وبجهود ذاتية. وقد تولى بنفسه موضوع "الثورة الفلسطينية والثورة القومية الديمقراطية العربية"، وكذلك موضوع "المجتمع العربي"، ووضع "ملاحظات حول نضالات الجماهير العربية في فترة ما قبل الاستعمار". وقد أنجز الموضوع الأول تقريباً، كما نشر جزءاً منه، بعد التحرير والتلطيف، في بعض منشورات الثورة، وذلك قبل استشهاده بفترة قصيرة، وبالتالي لم يستكمل نشر الموضوع. أمّا الدراسة الثانية، فقد ظلت مجرد مخطط بحثي، عبارة عن عناوين وملاحظات أولية جداً، في يدي صورة عنها، كان أعطاني إياها لإبداء الرأي، ولكنه غاب قبل أن تتسنى لنا مناقشة المخطط. وعلى العموم، فإن هذا المشروع، الذي كلف به آخرين أيضاً، لم يستكمل بعد استشهاده.
وقد جاء في مقدمة الدراسة المنشورة جزئياً ما يلي:
منذ أن أصبحت الثورة علماً، أصبح لزاماً على كل المناضلين أن يدرسوا علم الثورة حتى يستطيعوا أن يقوموا بواجبهم تجاه شعوبهم حق قيام. فنحن حين نتطرق لدراسة موضوع اجتماعي معين، ننطلق من آخر ما توصل إليه علم الاجتماع، الذي يساعدنا في فهم حركة المجتمع، ويوضح لنا مسألة هامة وأساسية، وهي أن حركة المجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل وحاضرها ومستقبلها، ما كانت في يوم من الأيام عشوائية، بل كانت حركة محكومة بقوانين موضوعية. وأصبح من الواضح أنه كي نفهم حركة المجتمع وندفع بها في اتجاه صحيح فنحن بحاجة إلى دراسة مثابرة للعلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وكل مناضل قادر على الإمساك بقوانين هذه العلوم إذا ما كرَّس حياته من أجل خدمة قضية شعبه وثابر على الممارسة الصحيحة. وبما أن الثورة علم فعلينا أن نتعلم باستمرار، أمّا الذين ختموا العلم فإن الجماهير قد ختمت عليهم بالعزلة والجمود.
وبعد عرض سريع للتناقضات في الطبيعة والإنسان، أراد منه الوصول إلى "التناقض الرئيسي القائم في الوطن العربي"، وذلك بقصد "تحديد القوانين السياسية التي تحكم هذا التناقض"، وبالتالي "وضع مقياس للتحليل، مبسط قدر الإمكان، يساعد المناضلين على فهم الواقع... ويكون بمثابة مسطرة سياسية تسهِّل على المناضل معرفة الخط السياسي الصحيح وإمكانية التحليل السياسي العام"، قال: "إن التناقض الرئيسي القائم في الوطن العربي من محيطه إلى خليجه هو التناقض بين جبهة الجماهير العربية وجبهة الأعداء، جبهة القوى الجماهيرية التي تناقض من أجل تحرير أراضيها ووحدتها وبناء مجتمعها التقدمي، وبين القوى الإمبريالية والمحتلة، والتي تدعم التجزئة وتنهب خيرات الوطن." وأكد أن هذا التناقض "تناحري... لا يمكن أن يحسم بالنقاش الهادئ، ولا بالحوار الديمقراطي ومظاهرات الاستعطاف، فالإمبرياليون لا يمكن أن يتركوا بلادنا إلاَّ طرداً وبقوة السلاح"، وأضاف: "صحيح أن الجماهير العربية تريد تحرير أراضيها المحتلة، وصحيح أن الجماهير العربية تريد دولة عربية موحدة، وأنها تريد أن تحمي تراثها الحضاري والديني، ولكن الهدف النهائي لجماهيرنا العربية هو بناء دولة عربية محرَّرة وموحَّدة، تضمن للجماهير الخبز والعمل والحرية والعدالة الاجتماعية."
وفيما يتعلق بالصراع مع الصهيونية، قال:
قد يتساءل البعض، وهل جوهر الصراع مع الصهيونية هو صراع بين مستغِلين ومستغَلين؟ نقول نعم! وعلينا أن لا نخلط بين جوهر الصراع ومظاهر الفوقية. فالصهيونية منذ نشأتها مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالإمبريالية... والكيان الصهيوني يمثل الامتداد الاستيطاني للإمبريالية المعاصرة في المنطقة العربية والمخفر الأمامي لحماية مصالح الإمبريالية وضمانة استراتيجية سيطرتها واستغلالها لثروات الشعوب العربية... ولسنا بحاجة إلى مناقشة ما يسمى بالمسألة اليهودية من جديد، فلقد أضحى ذلك أوضح من أن يناقش... وفي الدولة العربية التقدمية الواحدة سيعيش الجميع، بغض النظر عن الجنس والدين، متمتعين بحقوق اجتماعية متساوية.
ثم يعطي توصيفاً موجزاً للتنظيم الذي يراه أهلاً لهذه المهمة، فيقول:
إن هذا التنظيم لا يولد بقرار، ولا يستورد، بل هو وريث لكل التاريخ النضالي لجماهيرنا العربية عبر تاريخها العظيم والطويل. وهو يجسد ويتمثل بشكل خلاق كل التجارب النضالية لأمتنا، ويستخلص منها الدروس التي بدونها يصبح من المستحيل الإجابة على أسئلة الواقع الراهن، ووضع تصور للمستقبل بشكل صحيح.
أمّا الدراسة الثانية، "ملاحظات حول نضالات الجماهير العربية في فترة ما قبل الاستعمار"، والتي ظلت عبارة عن مخطط عام للبحث، في بضع ورقات (14 صفحة) بخط يده، فهي مقدمة وأربعة فصول هي: 1) البنيان التحتي للمجتمع؛ 2) التناقضات الخارجية ونضال الأمة من أجل حلها؛ 3) الصراع الطبقي أو التناقضات الأساسية ونضال الجماهير من أجل حلها؛ 4) خاتمة. وفي المقدمة حدّد إطاري المكان والزمان. "الوطن العربي... الذي تشكل تاريخياً، وامتداده الحالي من المحيط إلى الخليج مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفتوحات العربية التي انطلقت من جزيرة العرب تحت راية الإسلام، وامتدت لتشمل معظم العالم المعروف آنذاك، وأدَّت إلى تبوّء الأمة العربية مكانتها المرموقة في قلب العالم الإسلامي." أمّا الزمان فيمتد من "الفتوحات العربية الإسلامية التي اقترنت ببلورة مشكلة اقتصادية اجتماعية جديدة في المجتمع العربي... إلى التوسع الاستعماري للرأسمالية الأوروبية في بلادنا."
وقد أراد أن يدرس التاريخ الاجتماعي العربي من خلال حركات التمرد على المؤسسة الحاكمة في العصور المتعددة. لكنه أكد بدايةً أنه "لا يمكننا أن نفهم حركة المجتمع الموضوعية ونشاط البشر الواعي دون الانطلاق من البنيان التحتي للمجتمع، أي من دراسة نمط الإنتاج الذي يحدد كيفية إنتاج الخيرات المادية التي هي ضرورات الحياة، وكيفية توزيع فائض الإنتاج."
عندما استقر "أبو عمر" في بيروت بعد الخروج من الأردن، كان متفائلاً بأن الثورة ستنهض بعد النكسة التي ألمت بها في سنتي 1970 و1971، في عمان وجرش على التوالي. وكان مقتنعاً بأن المنظمات الفلسطينية ستستخلص العبر من تجربة الأردن، وتنأى بنفسها عن ممارساتها هناك. وفي المقابل، كان احتضان الجماهير الشعبية اللبنانية للثورة، ووقوف الحركة الوطنية اللبنانية بأحزابها المتعددة بحزم إلى جانبها، وتنامي التأييد العربي والدولي لها، عوامل مشجعة على التفاؤل. وإذا مرَّت سنة 1971 بسلام، فإن سنة 1972، ومنذ بدايتها، حملت تصاعداً مطرداً في حدة التوتر بين السلطة والثورة في لبنان. وفي المقابل، ومنذ هذه الفترة المبكرة، راحت تتضح المؤشرات إلى أن فصائل الثورة لم تستفد شيئاً من تجربة الأردن، لا على الصعيد السياسي، ولا على الصعيد المسلكي. وفعلاً، فإنها لم تقوِّم تلك التجربة، بل تركتها تغيب في عالم النسيان.
وكان كلما تردَّت الأوضاع، سواء على صعيد الجبهة الداخلية، في الحركة كما في الثورة عامة، أو الخارجية، مع السلطة اللبنانية، تكرس اقتناعه بضرورة التسريع في بناء التنظيم الذي رأى فيه أداة الإصلاح. وجاءَت حرب تشرين الأول/أكتوبر لتجمد الصراع الخارجي، ولتفتح الداخلي على مصراعيه، سواء بشأن الخط السياسي والموقف من التسوية، أو بشأن البنية الداخلية للحركة والثورة، وبالتالي شكل التنظيم وأطره ونهجه وممارساته. كان كئيباً عندما انفجر الصراع في لبنان؛ فقد وعى الخطر الذي يتهدد الثورة هناك، بعد أن أصبح لبنان، سنة 1975، ساحة العمل الفلسطيني الرئيسية. وكان يخشى تكرار مأساة الأردن، ورأى أن العدو الذي حقق مكسباً كبيراً، بل استراتيجياً، في إخراج الثورة من الأردن، لم يكن ليسكت على بناء قاعدة جديدة لها في لبنان، ولذلك فهو يصعد عدوانه على قواعدها فيه. وجاء التفجير الداخلي في لبنان مكمّلاً للمخطط الصهيوني في تصفية الحركة الوطنية الفلسطينية. لقد كان يعلم أن قيادة الثورة تسعى لتحاشي الصدام مع السلطة اللبنانية، وأنها تعلن تفهمها لخصوصية الوضع اللبناني، بالصيغة التي تريدها السلطة، لا الحركة الوطنية - حليفة الثورة. ولكنه كان يعرف أيضاً أن هذا التفهم يستلزم صوغ استراتيجيا دقيقة للعمل على تلك الساحة، اكتفت منها القيادة بالمناورات التكتية وإدارة الأزمة، من دون البحث عن حلول جذرية لها. كما كان على ثقة بأن سعي القيادة للخروج من المأزق عبر الحلول التسووية المرحلية سيصل إلى طريق مسدود.
كانت تكدره الأوضاع الداخلية في الثورة بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر وطرح الحلول المرحلية وانقسام الناس بشأنها، وما نجم عن ذلك من توترات واستنفارات، وكذلك اشتباكات مسلحة. ومع ذلك، فقد رأى بعض المبررات في ذلك الصراع، وإن كره النمط الذي اتخذه، واعتبر القيادة المتنفذة، التي سعت لإثبات جدارتها للانخراط في المشاريع التسووية المطروحة، المسؤولة الرئيسية عن توتير الوضع الداخلي. ومع أنه كان منحازاً بطبيعة الحال إلى "جبهة الرفض" سياسياً، فإنه ظل في حركة فتح تنظيمياً. ولعله اعتقد إمكان إعادة صوغ الوضع التنظيمي في الثورة على قاعدة سياسية، وفي ظل الانقسام الذي تشكل بشأن مسألة التسوية. وقد نشط في هذا المجال.
لكن أكثر ما كان يسوؤه الممارسات العبثية، بل المسلكية الغوغائية التي اتسم بها التصرف الفلسطيني على الساحة، لا إزاء الجماهير فحسب، بل تجاه الحركة الوطنية اللبنانية أيضاً. فلقد تعددت التنظيمات والأحزاب اللبنانية، ولم تكن يد قيادة الثورة بعيدة عن هذه الظاهرة. كانت هذه القيادة تبيت على تحالف ووفاق مع هذا التنظيم أو ذاك، وتغدو على خلاف، أو اشتباك، معه. أنماط متعددة من الحواجز، ونقاط التفتيش على الهويات، واحتلال البيوت، ومكاتب في الأحياء السكنية تتكاثر كالفطر، والإشكالات مع الناس مسألة رتيبة. ويستمر العابثون من دون رادع من سلطة، أو وازع من وعي، يفرضون نهجهم المضاد للثورة على الوضع عامة، ويحظون من القيادة بالحماية.
وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر الأمني والسياسي، وفي هذه الغابة من الفتان المسلكي والانفلاش التنظيمي، وحتى الانحدار الخلقي، كان "أبو عمر" الواعظ المبشر بمرحلة نهوض لاحق، وكان الصوفي الثائر الزاهد في حياته ومأكله وملبسه ومسكنه، كأنما أراد أن يكون قدوة ومثالاً، إن لم يكن لمحيطه فعلى الأقل لجواره. كان قد تخلى عن أناقته منذ زمن، وعلت محياه مسحة من الأسى، لكنه لم يفقد الأمل، ولم يصب بالإحباط. كان دائماً يكرر أن علينا الإعداد لمرحلة نهوض لاحق؛ فالثورة لن تنتهي ما دامت أسبابها قائمة، وسلوكنا في هذه الفترة الحرجة، وتصرفنا في هذه الغابة، وعملنا المتميز في خضم هذه الفوضى، التي لعلها مبرمجة، هي رصيدنا للغد وسلاحنا للمستقبل. لقد اقتنع بأن الممارسات الجارية هي نهج سياسي، منسجم مع المشروع التسووي، الذي يستوجب إنهاء أداة الثورة قبل إنجازها لمهماتها، واستبدالها بعدة الدولة، الأمر الذي كان في ظل الواقع المعاش يعمق أزمة العمل الوطني الفلسطيني باستمرار، ويؤدي إلى اختلال أوجه نشاطه. وبقدر ما استشعر الخطر على الثورة وأداتها، واستبعد إمكان التسوية، وبالتالي قيام الدولة التي كانت تبشر بها القيادة، بقدر ما تفانى في عمليه التنظيمي، الذي بنى عليه كل آماله، وكان المبرر الوحيد له للبقاء داخل صفوف حركة فتح.
لم توكل إليه مهمة محددة في الحرب الدائرة في لبنان، ولم يكن يتحرق لتولي مسؤولية كهذه، إذ كان يمقت تلك الحرب التي طالما وصفها بالقذرة. زارني مرة واحدة في بيتي الجديد بصيدا، وتناقشنا مطولاً في مسودة مخطط المادة التثقيفية عن التاريخ العربي المذكورة أعلاه. وبعد أيام وكان ذلك في منتصف صيف سنة 1976، التقيته مصادفة في حي الفاكهاني، وكان مهموماً. بلّغني المهمة الجديدة التي أُوكلت إليه، وهي مهمة المفوض السياسي في قيادة جديدة لفتح في منطقة الشمال اللبناني، تقرر أن تحل محل اللجنة القائمة هناك، التي كانت قد عاثت فساداً، وتسببت بحالة من الاحتجاج والتمرد عليها. وروى لي أن القيادة العليا اتخذت القرار رغماً عنها، وبعد جدل صاخب في داخلها، واضطرت إلى الإذعان لمطلب تغيير اللجنة على مضض، وربما ضغينة. حاولتُ ثنيه عن المهمة، عندما علمت أنه سينتقل مع نخبة من الكوادر من أعضاء القيادة الجديدة بحراً، لانسداد الطرق البرية بين بيروت والشمال في حينه، وخصوصاً أن المسألة تجيء على أرضية خلافية داخل القيادة، وبتأكيد قاعدة قسرية بالنسبة إلى اللجنة القائمة التي لم تكن راضية عن القرار، وقد لا تخضع للأوامر. وافترقنا على أن يولي المسألة المزيد من التفكير، لا بقصد الاستنكاف عن تحمل المسؤولية، لكن بقصد توفّر احتياطات أمنية، وترتيب أفضل للانتقال، علماً بأن القيادة اتخذت القرار قسراً، والاحتياطات والترتيبات لتأمين الطريق كانت شبه غائبة، والأمر لم يعد سرّاً. وعلمت في اليوم التالي أنه غادر مع تلك الكوكبة من المناضلين عن طريق البحر، واختفت آثار المجموعة، ولم نوفق بالعثور لها على خبر، على الرغم من جهود مضنية بُذلت في السنوات اللاحقة، تحملت زوجته المناضلة "أم عمر" القسط الأوفر منها، وظل مصير تلك النخبة من الكوادر (اثني عشر منهم) مجهولاً!
فسلام عليك "أبو عمر" أينما كنت ترقد! فنحن لا نعلم مثوى جسدك الطاهر وشخصك الرائع. ونحن - حواريوك وتلاميذك وأصدقاؤك - طالما افتقدناك، كما افتقدنا من بعدك، وفي أوضاع مشابهة، رفيقك الشهيد ماجد أبو شرار. لقد حاولنا أن نتابع السير في الطريق الذي رسمته وكرست نفسك، بل ضحيت بحياتك، من أجله. ونحن اليوم، في غيابك عنا، لا ندري إن كنا أصبنا أم أخطأنا!
[1] حنا ميخائيل، "الماوردي وما بعده" (بيروت: دار الطليعة، 1997). وكانت "مجلة الدراسات الفلسطينية" كلفت صديق ورفيق المؤلف في النضال، الياس شوفاني، إعداد مراجعة للكتاب، وارتأى أن يستبدل المراجعة برثاء للمؤلف، وبتعريف به كإنسان ومناضل.