أُجريت المقابلة في بيروت في 26/6/1997. وهي تتناول المؤثرات الأولى في تكوين العظم وتشكيل وعيه، وعن نشأته في دمشق وعيشه في بيروت وتغيرات المدينتين، كما تتناول قضايا عصر النهضة وأفكار التنوير، وتقويم الأصولية الإسلامية، وتقويم تجربة العظم الفكرية، وكذلك الإسلام والرأسمالية والعولمة وتجربة الاتحاد السوفياتي، ومفاوضات التسوية السلمية والقضية الفلسطينية.
الحياة الثقافية في لبنان مدينة، بلا ريب، للدكتور صادق جلال العظم ببعض توهجها وتوثبها وحيويتها. ولصادق جلال العظم أيضاً نصيب كبير في تشكيل الصورة الراهنة للفكر العربي الحديث لمساهماته النقدية الكثيرة التي قدمها خلال أكثر من ثلث قرن. فمنذ أن اقتحم الدكتور العظم الحركة الثقافية في لبنان في أواسط الستينات، وهو يخوض في ثناياها ناقداً ومجادلاً وصانع أفكار، فساهم في هز الفكر العربي الراكد وفي خلخلة العقلية الخرافية الموروثة، وحاول أن يوقظ، ما استطاع، العقول الذاهلة من ذهولها والفكر الناعس من غفوته وأن يحرض على الانعتاق والتحرر داعياً، في الوقت نفسه، إلى تقويض جُدُر الانغلاق، فتمكن من أن يحفر في الثقافة العربية أخاديد وجداول وأنهاراً من النقد والتفكر والمحاججة والسجال.
أشعل صادق جلال العظم الكثير من المعارك النقدية، فقامت عليه قيامة العالم القديم كله، وثارت في وجهه عفاريت السلطات وكائنات الكهوف. ومنذ "النقد الذاتي بعد الهزيمة" و"نقد الفكر الديني" مروراً بـ "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية" حتى "ذهنية التحريم" ثم "ما بعد ذهنية التحريم" ظهر كأن هوايته ابتداع الأفكار والتصدي للمشكلات الكبرى وإثارة الدبابير من أعشاشها. وفي منزله في بيروت، وبين لوحات لفاتح المدرس ونزيهة خانم وعارف الريس، جرى هذا الحوار.
البدايات والتكوين:
كيف تحول الأرستقراطي الدمشقي إلى ماركسي
- ما هي المؤثرات الأولى التي ساهمت في تكوينك وتشكيل وعيك؟ كيف تحول الأرستقراطي الدمشقي إلى ماركسي؟
- سأبدأ جوابي برواية من الذاكرة: في أواسط الستينات، عندما هدَّ التنظيم العمراني الجديد بيت جدّي في منطقة الجسر الأبيض بدمشق، أذكر أنني لم أتأثر البتة بزوال هذا المعْلَم. كان البيت كبيراً، فهو بيت عربي على الطريقة القديمة. إنه بيت إكليل بك المؤيد العظم ولواحقه وحدائقه والذي كان مركز الثقل في منطقة الجسر الأبيض. كان المدخل إليه يبدأ بطريق مرصوفة بحجر روماني (اسمها حارة المؤيد نسبة إلى جد جَدّي مؤيد باشا العظم)، وينتهي إلى البيت الكبير. طبعاً، مع تقدم الزمن قُسِّم البيت الواحدة عدّة بيوت سكنها الأولاد والأحفاد وأولاد العمومة... إلخ. وكما تعلم، كان ثمة الكثير من الأشياء التقليدية الحمية المنتشرة في البيت، مثل شجر الكبّاد والنارنج، والتي تكون، عادة، لصيقة بالذات وبالذاكرة. لكن، وعلى الرغم من ذلك كله لم أتأثر البتة بزوال هذا المعْلَم، ولم يترك هدّه فيّ أي انطباع خاص أو أي إحساس بالأسف أو الأسى.
- كم كان عمرك حينها؟
- كان ذلك في أواسط الستينات، كنت في بيروت عائداً للتو تقريباً مع زوجتي فوز [طوقان] من الدراسة في الولايات المتحدة الأميركية. جرى هذا الحدث بعد وفاة جدّي الذي عمّر كثيراً؛ عاش نحو 110 - 112 عاماً. بعد وفاة والدتي سنة 1987، راجعت نفسي ثانية بشأن الموضوع وتساءلت: لماذا لم أتأثر وقتها؟ لماذا هذا الحياد العاطفي واللامبالاة الداخلية أمام حدث من هذا النوع، ولا سيما أن جمعيات عدة نشأت للمحافظة على مدينة دمشق وتراثها المعماري، مثل جمعية "أصدقاء دمشق"؟ كان المكان باتساعه أشبه بحي كامل. ولو أردت النظر إليه من منظور سياحي لربما كان من الممكن تحويله إلى ما شبه "البلاكا"[1] في أثينا اليوم. إذاً، راجعت نفسي وتساءلت: لماذا كنت بارداً تماماً تجاه زوال هذا المعْلَم؟ اكتشفت أنني في لاوعيي كنت أكره هذا البيت لأن والدتي كانت تكرهه كرهاً شديداً. وأدركت، طبعاً، أن هذا الكره انتقل إليّ، وخصوصاً أنها اعتبرت خروجها منه خلاصاً من جوّه ومناخه ورهبته. فهذا البيت كان يعني لها القهر والقمع والرقابة الدائمة والعجز عن تحقيق أي من طموحاتها الحقيقية أو الشخصية أو الفردية. كانت أمي شخصية قوية جداً وامرأة جميلة جداً، تتكلم التركية بطلاقة، والعربية طبعاً. لكن، حتى تعلَّمتْ القراءة والكتابة قاست الكثير. تعلمت بالسر والخفاء. كانت تُهرِّب مدرِّسة اللغة الفرنسية تهريباً إلى البيت. تعلَّمتْ القليل من الفرنسية؛ وكان هذا إنجازاً مهماً بالنسبة إلى جيلها وقريناتها. ظلّت تفهم الفرنسية وتتخاطب بها طوال حياتها. كذلك، تابعت بالسر وبالخفية أيضاً دروساً في الرسم الزيتي، وما زلتُ أحتفظ بإحدى لوحاتها في منزلنا. كانت والدتي تحاول في تلك الفترة، أي في مطالع هذا القرن، أن تحقق شيئاً من نوازعها وطموحاتها ومواهبها. ولكن ذلك كله دُمِّر وقُمع في جو البيت العربي الكبير ولم ينجم عنه شيء. كان الخروج من هذا المناخ محاولة للتحرر من جانبها؛ وكان الانتقال من البيت القديم بعد زواجها من ابن عمها، إلى بيت مستقل يعيشان فيه وحدهما، عملية هروب تحررية حقيقية. وتعويضاً من الظلم الشديد، الذي كانت تشعر بأنه لحق بها نتيجة نشأتها، كانت حريصة وشديدة جداً في مسألة المساواة والندية في العلاقة بين الصبيين من أولادها من جهة وبين ابنتها الوحيدة سونيا من جهة أُخرى (بما في ذلك مسألة الميراث). لذا أقول إن أحد المؤثرات المهمة في تكويني هو بالضبط ليس غياب التنشئة التقليدية في البلدة القديمة وفي البيت العربي الكبير فحسب، بل أيضاً في الموقف السلبي من هذا كله منذ البداية، هذا فضلاً عن النشأة في منزل سيطر عليها نزوع قوي نحو الجديد والحديث.
تكامل والدي مع هذا الجو، ووالدي هو ابن عمها، درس في إستنبول، في أفضل المدارس. وكان هو وعمي من أنصار كمال أتاتورك، على الرغم من أن جدي صادق باشا كان مقرّباً جداً من السلطان عبد الحميد، وفقد مركزه ومنصبه عندما استولت جماعة الاتحاد والترقي على السلطة في إستنبول. لكن أولاده قاتلوا مع مصطفى كمال في حرب تحرير تركيا من الاحتلال الأجنبي، وجرح والدي في المعركة المعروفة بـ "قلعة شانه". بعدها سافر إلى أوروبا وعاش فترة في فرنسا، وخصوصاً في باريس. وعندما عاد إلى دمشق تزوج والدتي، وعاش في مناخ الكمالية وقيمها. حتى إنني أذكر أنه عندما تمت الوحدة بين مصر وسورية، وكنت حينها أتابع دراستي في الولايات المتحدة، كان والدي الوحيد من آل العظم الذي أيّد الوحدة. لقد كانت مشاعره متعاطفة مع الوحدة ومع جمال عبد الناصر. وأعتقد أنه رأى في عبد الناصر ما يذكّره بكمال أتاتورك وبالحركة الكمالية. طبعاً، أعرف أيضاً أن عمي، الذي بقي في إستنبول وصار مواطناً تركياً، ظل هو وفرع العائلة هناك كماليين. وتستطيع القول إنهم متعصبون حتى اليوم للقيم الكمالية. وهذا مؤثر آخر في تكويني المبكر تكامل مع الأول.
أدركت الأهمية البالغة لهذه الخلفية البيتية والتربوية والدراسية لاحقاً، وخصوصاً حين اكتشفت أن كثيراً من أصدقائي، أو من الذين صاروا في ما بعد أصدقائي وزملائي، كانوا قد مروا بأزمة وجدانية عميقة وصعبة ناجمة عن تربية دينية متشددة وصارمة، اصطدمت رأسياً بصعود التيار القومي واندماجهم في خطه. نجوت من مثل هذه المحنة أو من هذه المعمعة، لأن التدين المتزمت في تربيتي لم يكن موجوداً، وإنما كان هناك تدين عادي متسامح غير متمسك بالشعائر والطقوس ومنفتح على النقاش وتبادل الآراء مع تربية بيتية حديثة نسبياً فيها مقدار لا بأس به، في تلك الأيام، من العلاقات الديمقراطية والليبرالية. ثمة جانب آخر للمسألة، هو أن تدين الأرستقراطية ليس كالتدين الشعبي؛ التدين الأرستقراطي يميل إلى أن يكون عملياً ولصيقاً بالسلطة وبالقوة وبعلاقات القوة، وهو مرن بحسب الأوضاع والمصالح المتبادلة. فالتقوى الزائدة لا تجدها كثيراً عند الأرستقراطية. ربما تجد ميلاً إلى التعصب الشديد لدى الأقوياء من أفرادها. والتعصب الشديد هنا هو نوع من تأكيد البطريركية والسيطرة. لكن عندما تأتي إلى المصالح وعلاقات القوة فإن التدين هو الذي يتكيف معها لا العكس. أذكر، مثلاً، حين كنا صغاراً، إذا ارتكبت الخادمة ذنباً ما وأرادت والدتي معاقبتها، تلجأ الخادمة إلى الدفاع عن نفسها بمجموعة من ردات الفعل ذات الطابع القدري، كأن تبدأ بالقول إن "الله هيك قدر"، أو أن قصدها كان شيئاً آخر، لكن "المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين"، أو "لأنه كله شغل الله"، إلى آخر ذلك من اللغو الشعبي المعروف. طبعاً، في النهاية كانت أمي تعاقبها. لكن لو أذنبت أنا ولجأت إلى المنطق نفسه للهروب من المسؤولية أو تبرير موقفي يكون عقابي مشدداً، لأن ما ينفع في "أيديولوجيا الخدم" لا ينفع في "أيديولوجيا الأسياد". هذه نقطة مهمة؛ فالخادمة مسموع لها (بل متوقع ومطلوب منها) بأن تتهرب من المسؤولية باللجوء إلى القوى الفوقية الخفية، كالقضاء والقدر، للتملص من عواقب أفعالها. أمّا أنا فغير مسموح لي البتة بهذا التملص، لأنني أتربّى لأغراض أُخرى؛ فمن غير المسموح لي به أن أتكلم اللغة نفسها أو تكرار لغو لا تترتب عليه نتائج.
من جانب آخر، أنا محظوظ أيضاً لأنني ذهبت إلى أفضل المدارس المتوفرة في تلك الأيام. في تلك الفترة كان أولاد العائلات والأُسر المعروفة يذهبون إلى المدارس الأجنبية، التي كانت في معظمها ذات طابع تبشيري وأهداف تبشيرية، لكن المحتوى التدريسي كان علمياً حديثاً. بدأتُ الدراسة في مدرسة الفرير في دمشق، ثم انتقلت إلى المدرسة الإنجيلية في صيدا. أبناء جيلي ذهبوا إلى مدارس الشويفات وبرمانا وسوق الغرب وغيرها. في ذلك الحين لم تكن هناك حواجز بين لبنان وسورية مثل الآن. كان السفر إلى بيروت كالذهاب إلى بلودان. وأنا نفسي نشأت في لبنان منذ الطفولة وعشت فيه أكثر كثيراً مما عشت في دمشق. وكان لهذا الأمر تأثير كبير ومهم لجهة تعزيز التوجه الحديث الذي تسرب إلينا من الدراسة في المدارس الأجنبية، ومنها الجامعة الأميركية في بيروت.
من المسائل التي أعتبرها مكسباً كبيراً لي شخصياً، أنني اطلعت جيداً عند الإنجيليين على الكتاب المقدس، والتوراة بالتحديد. وهذه التجربة بقيت معي، وما زلت، إلى اليوم، أعود إلى الكتاب المقدس أقرأه وأعيد القراءة. طبعاً، لم أكن أعي شيئاً عن أهمية التوراة في تلك الفترة. بل كنت كبقية التلاميذ في المدرسة أعتبر التوراة مجرد جزء من درس من الدروس يجب أن نتلقاه. لكن، رويداً رويداً، شعرت بأهمية ما كنت أتعلمه، وخصوصاً أن البروتستانت كانوا ميّالين إلى إعطاء الدرس لا كدرس ديني تلقيني وإنما كنقاش فيه مقدار لا بأس به من الفكر والتأويل والجدل والفلسفة، على عكس الطريقة التقليدية، التي تقدم درس الدين وتفرضه كمجموعة عقائد للحفظ لا أكثر.
- متى بدأ وعيك السياسي بالتشكل؟
- وصلت إلى نوع من الوعي السياسي، في الحقيقة، مع اندلاع حرب السويس. كانت حرب السويس مهمة جداً في تكويني الثقافي - السياسي، وكنت وقتها طالب سنة ثالثة في قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت. بعدها انطلقت تطورات متسارعة جارت المد القومي، علماً بأنني لم أكن في أي بلد عربي في تلك الفترة بل عشت الأحداث عن بُعد من خلال المواكبة والاطلاع. كنت وقتها أتابع دراساتي العليا في جامعة ييل (Yale) في الولايات المتحدة. من التجارب التي أذكرها، وكان لها تأثير فيّ وفي زوجتي فوز، مجيء عبد الناصر إلى الأمم المتحدة في تلك الأيام والحضور الذي فرضه.
أمّا في ما يخص التحول إلى الماركسية، فهذا عملية نمت ببطء، ولم تأتِ من أي تلقين أو نتيجة تأثير أشخاص معينين، وإنما أتت بصورة متدرجة وعفوية تراكمية، أي عن طريق الثقافة ولا سيما الثقافة الليبرالية التي اكتسبناها في الجامعة الأميركية في بيروت عبر الاطلاع على مصادرها الكلاسيكية، بنصوصها الأصلية.
- ألم تتأثر بأفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان له حضور قوي في سورية ولبنان في تلك الفترة؟
- بلى، لكن ذلك كله كان قبل حرب السويس، أي قبل العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر في خريف سنة 1956، وقبل اكتساب زعامة عبد الناصر شرعيتها الشعبية والجماهيرية العربية الكاسحة نتيجة تأميم القناة. وكما قلت لك، كانت حرب السويس هي لحظة التبلور الجاد لوعي سياسي - ثقافي ذاتي محدد في حياتي. كنت وقتها طالب سنة ثالثة في الجامعة الأميركية في بيروت. قبل ذلك، كان للحزب السوري القومي حضور قوي في الثانوية الإنجيلية في صيدا، وتفاعلت مع هذا الحضور وتأثرت به بكل تأكيد. في الصف الثاني الثانوي كنت أقرأ لسلامة موسى بشغف. استهواني كتاب أنطون سعادة المشهور "نشوء الأمم"، وخصوصاً أني تصارعت معه بعد أكثر من قراءة متأنية لكتاب سلامة موسى "نظرية التطور وأصل الإنسان". أكثر ما اهتميت به من أفكار الحزب القومي المطروحة وقتها تأكيد أهمية العقل والعلم الحديث وفصل الدين عن الدولة ضمن حدود مدارك تلميذ مدرسة لا أكثر، بطبيعة الحال.
- ذكرت التوراة كواحد من المؤثرات المهمة التي رافقت تكوينك، هل كان الإسلام، أو لنقل بصورة موازية القرآن، من المؤثرات أيضاً؟ هل درست الإسلام والدين الإسلامي في طفولتك أو في صباك، أم أن ذلك لم يحدث قط؟
- لم يحدث ذلك بصورة منتظمة. بعد جلاء الجيوش الفرنسية عن سورية وإغلاق مدرسة الفرير، أتممت المرحلة الابتدائية من دراستي في مدرسة الملك فيصل في منطقة عرنوس في الطرف الحديث من دمشق. كان مدير المدرسة يعطي درس الدين، ومع أن الدرس لم يكن "مشايخياً" بالمعنى الحرفي للعبارة إلا إنه لم يكن فيه ما يتعدى التلقين والحفظ والتكرار، وخصوصاً بعض السور القرآنية. الخوف من العقاب الجسدي والضرب... إلخ وحده كان يضبطني ويجعلني أتابع؛ لذا لا أحمل أبداً ذكريات طيبة عن دروس الدين هذه. جاء التأثير الإسلامي من الحياة العادية: القيم والمناخ والجو العام. في البيت نحن مسلمون وكفى. ولم يكن أحد حولي يصلي أو يصوم. غير أنني اكتشفت القرآن بالمعنى الجدّي عندما نضجت، إذ درسته عن وعي واطلاع ومن دون عُقَد وأزمات. وهذا، بلا ريب، مكسب كبير لي.
- حسناً. أين التقيت فوز طوقان، كيف تتذكر ذلك العشق؟
ÿ تعرفت إلى فوز عندما كنا طالبين في الجامعة الأميركية في بيروت. وأعتقد أن العلاقة التي نشأت بيني وبينها كانت أقرب، في البداية، إلى الشيء الذهني والفكري والثقافي، قبل أن تكون لها علاقة بأمور أُخرى كالأُسرة والعائلة والحسابات التقليدية للزواج، ولا سيما بين أسرتي العظم وطوقان. عشق؟ طبعاً، أحببنا بعضنا، لكن لا أعتقد أن كلمة العشق تنطبق على هذه الحالة. أعترف بذلك. وأنا كنت حتى في هذه المسائل الانفعالية، وخصوصاً في فترة الشباب، عقلانياً وأحاكم الأمور بدماغي؛ يعني أتلقاها ذهنياً وأضبط عواطفي على هذا الأساس.
بين بيروت ودمشق وعمان
1968 - 1970
ذكريات مرحلة صاخبة
- بما أن العشق لا يحضر كثيراً في تاريخك، كذلك فهو لا يحضر في ما كتبت إلا لماماً. وبلا شك، كنت عاشقاً حيناً، ومعشوقاً أحياناً، أو عاشقاً ومعشوقاً في آن واحد، لماذا لا يظهر أثر هذا البوح في كتاباتك؟
- تجربة العشق ليست بغريبة عني. أعترف بذلك. ولكني لا أعتبر نفسي أديباً، لأن الكتابة عنه تحتاج إلى مزاج آخر وإلى طرائق أُخرى في التعبير لإيصال هذه المشاعر والتعبير عن هذا النوع من التجارب. أشعر بنوع من العجز في هذا المجال. حتى عندما كتبت في موضوعات قريبة من هذا العنوان كتبت بطريقة أقرب إلى التحليل الذهني أو التحليل السوسيولوجي. لا يعني هذا، بالضرورة، أن المشاعر العميقة والمتدفقة لا تحركني أو تهزّني، لكني لا أمتلك الأدوات التعبيرية للبوح بها بالأسلوب المعهود أو بأسلوب جديد آخر.
- إذاً، يبدو كتابك "في الحب والحب العذري"،[2] يتيماً بين مجموعة مؤلفاتك، فما قصة هذا الكتاب؟
- قصة كبيرة على أكثر من مستوى. بالنسبة إلى المستوى العاطفي والغرامي لا بد من التحفظ والتكتم في الوقت الحاضر، لأن التجربة ليست ملكي وحدي، ولأن الكلام عنها يعني بالضرورة مس أشخاص آخرين ومس خصوصياتهم وحساسياتهم (بمن فيهم ولدانا عمرو وإيفان)، وقد لا يريد هؤلاء إثارة الموضوع لألف اعتبار واعتبار. وأنا من جانبي لا أرغب في إحراجهم أو الإساءة إليهم تقديراً مني لهم واحتراماً لما هو بيننا، بحلوه وبمره، وأعرف أن لا شيء سيمحوه إلا الموت. قد يأتي يوم يخف فيه عبء مثل هذه الاعتبارات، ويصبح من الأسهل علي البوح بهذا الجانب من قصة الكتاب. أمّا بالنسبة إلى الجانب الآخر، فقد كنت حينها أمر فكرياً بمرحلة من إعادة النظر النقدية في بعض مسلمات التراث. كتبت "في الحب والحب العذري" بعد أن أنجزت دراسة "مأساة إبليس". والمنطق الذي أملى كتابة "مأساة إبليس" هو الذي أملى، إلى حد كبير، كتابة "في الحب والحب العذري". كان هذا المنطق يقول: أقف أمام قصة في التراث، كقصة إبليس، وقصص كثيرة غيرها جاءت في القرآن أو التراث. أجد نفسي عاجزاً عن الاعتقاد بصحتها الحرفية كما بالتأويلات التقليدية لها بسبب كوني ابن هذا القرن وصاحب ثقافة عقلانية حديثة وفكر علمي نقدي معاصر. ماذا أفعل بها إذاً؟ هل أهملها؟ هل أحذفها من اهتماماتي الثقافية... إلخ؟ لا بد من وجود طريقة لإعادة النظر فيها، أو لإعادة امتلاكها بأسلوب له معنى ما بالنسبة إلينا كمثقفين نعيش ونفعل في عصر معين. في حينها انتشرت فلسفات ونظريات وأفكار، مثل الوجودية وسارتر وفرويد وماركس، مارست تأثيراً كبيراً في جيلنا وفي الجيل الذي أتى بعدنا. وكان لديّ تصور أن الثقافة الحية تعيد النظر في نفسها وفي ماضيها على الدوام. كان هذا أحد الدوافع الذي جعلني أبادر إلى اختيار شخصية إبليس ودراسة قصته في ضوء فكرة المأساة، ولا سيما أن الفكر الإسلامي، على العموم، والفكر الإسلامي السنّي بالتحديد، متهمان بفقدان حس المأساة لديهما. حاولت أن أجد في قصة إبليس نموذجاً يحاكي فكرة المأساة أو يقترب منها أو يشتبك معها، فالمادة الخام موجودة فيها ضمناً وما علينا إلا إخراجها إلى العلن بعد درسها والغوص في رموزها وإشاراتها. والدافع إلى كتابة "في الحب والحب العذري" كان يشبه، نوعاً ما، الدافع الذي ألجأني إلى كتابة "مأساة إبليس". طبعاً، ثمة أساطير كثيرة عن موضوع الحب العذري. حاولت إعادة النظر في بعض الحكايات والقصص. أخذت حكاية "جميل بثينة" كمثال ودرستها في ضوء أفكار ووجهات نظر ونظريات تعني لنا شيئاً في منتصف القرن العشرين. دهشت، في الحقيقة، حين اكتشفت أن كل ما قرأته تقريباً في تلك الأيام عن الحب العذري يكرر المفاهيم والمقولات العتيقة نفسها وكأننا ما زلنا نعيش في القرون الإسلامية الأولى. (فاتني وقتها الاطلاع على تحليل طه حسين التجديدي للظاهرة في "حديث الأربعاء"). حاولت في كتاب "الحب والحب العذري" و"مأساة إبليس" قبله أن أتعرض لموضوعات إنسانية كلياً والإفادة من التراث العربي والإسلامي ومن التراث الأوروبي في آن واحد، وأن أقوم بنوع من التقاطعات والمطابقات بينهما.
- عشت في بيروت صاخباً لاهباً، أبدعت فيها أبرز كتاباتك وكتبك، وحوكمت وسجنت، ثم عدت إلى دمشق ولم تشاكس، لكنك أنتجت فيها عدداً من أهم ما كتبت مثل، "دفاعاً عن المادية والتاريخ"،[3] و"ذهنية التحريم"،[4] و"ما بعد ذهنية التحريم".[5] كيف تقابل بين المدينتين في الثقافة والتحضر والدعة وجمال العيش؟
- على صعيد مشاعري الشخصية، أنا نشأت في لبنان وأمضيت ردحاً من عمري في بيروت أكثر مما أمضيته في دمشق. لكنني أعتبر نفسي في العمق دمشقياً شامياً. في الحقيقة، أنا منقسم على نفسي بالنسبة إلى المدينتين وأشعر بالراحة لوجودي في المكان الملائم في الوقت الملائم، أكان ذلك في دمشق أم في بيروت. أمّا في ما يتعلق بالإنتاج الفكري فأحسب أنه كان سيبقى على حاله، سواء عشت في بيروت أكثر قليلاً من دمشق أو العكس. لكن يستحيل عليّ أن أتصور نفسي كاتباً ومفكراً من دون المدينتين معاً، بل من دون البلدين معاً. أمّا التنقل بين بيروت ودمشق فتحكمه ضرورات مرحلية وحياتية ومهنية، وأحياناً سياسية لا علاقة لها بالثقافة أو الفكر بالضرورة. أقمنا في بيروت حتى نهاية حصارها سنة 1982. وجاء الانتقال إلى دمشق اضطرارياً وقتها من دون أن يكون له أية علاقة بالثقافة أو بالفكر.
دمشق مدينة ما زالت فيها تقاليد الثقافة الشفوية قوية جداً، وما زال فيها أشخاص مثقفون ثقافة عالية، لكنهم لا يكتبون شيئاً والجلوس معهم غنى بحد ذاته، وفيه عمق متميز وتجربة من نوع آخر. في مدينة دمشق تمثل المشاركة في هذا النوع من المناقشات والسهرات والأشخاص التجربة الثقافية والفكرية الأهم والأعمق والأكثر ثراء.
أمّا في بيروت، وخصوصاً في رأس بيروت، فإن هذا الشأن أضعف إذ إن العقل الكتابي هو الأقوى والثقافة الكتابية هي الغالبة. ولأن أهل الثقافة يريدون الكتابة، فإنهم يتكتمون على أفكارهم خوفاً من أن تُسرق. قبل الحرب الأهلية اللبنانية كانت الهموم تبدو أكبر في الشام وكذلك الإحساس بها، لكن هامش التعبير العام عنها أضيق، وكان هذا يجعلها في دمشق أثقل وأكثر خطورة مما هي عليه في بيروت. طبعاً، بيروت تمتلك المتنفّسات اللازمة، وصمامات الأمان فيها أكبر وأوسع. حين اندلعت معركة كتابي "نقد الفكر الديني"[6] أعتقد أني كنت أول كاتب أو مثقف يلجأ في تلك الفترة من لبنان إلى سورية. طبعاً، لا يمكن القول إنني لجأت إلا مجازاً، فأنا رجعت إلى مدينتي. بقيت في دمشق إلى أن تمت المفاوضات مع السلطات اللبنانية في شأن كتاب "نقد الفكر الديني"، فعدت إلى بيروت وسلّمت نفسي إلى السلطات. تكمن المفارقة في كوني المفكر الوحيد وقتها الذي خرج من لبنان فاراً من السلطات اللبنانية ليلجأ إلى كنف السلطات السورية في وقت كان التيار كله يجري في الاتجاه المعاكس. هذا ملخص ممتاز عن طبيعة علاقتي بالمدينتين.
أمّا عن عدم مشاكستي في سورية، فهناك كثيرون يعتبرونني مشاكساً كبيراً، على الأقل بمعايير البلد. عندما أصدرت، في أواخر السبعينات، كتاب "سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية"[7] ثم كتاب "زيارة السادات وبؤس السلام العادل[8] (كأنني كنت أتوقع بؤس السلام المقبل) مُنع الكتابان في سورية وشعرت بأن العين احمرّت عليّ، فلزمت بيتي في بيروت فترة مع أني كنت قد بدأت التدريس للتو في كلية الآداب في جامعة دمشق. وطبعاً أعتبر هذين الكتابين مشاكسين جداً.
- إذاً، كيف تجد بيروت وتحولاتها بين زمنين: بيروت الستينات التي عشت فيها، وبيروت التسعينات التي تراها الآن؟ ثم كيف ترى دمشق وتغيّراتها في الفترة نفسها؟
- دمشق أصبحت مدينة حقيقة، وأنا متعصّب للمدن، وابن مدينة، وأحب حياة المدينة. وعلى الرغم من المشكلات الموجودة في أية مدينة عربية، بما في ذلك دمشق، فإني أجد الحياة في الشام الآن أكثر تقدماً ممّا كانت عليه عندما كان عدد سكانها أقل من مليون نسمة، مثلاً. فالخيارات فيها اتسعت، وتعدّدت نوعيات الناس والبشر والأنماط والمستويات والممارسات، والمرأة أكثر حضوراً في حياتها من السابق. وذلك كُله، يعنيني ككاتب وكمراقب، وأجد فيه مصدر ثراء إضافي.
أمّا بيروت، فأقل ما يمكن أن يقال فيها إن وضعها الآن مأساوي. وأكثر ما أشعر به عند زيارتي لبيروت هو الألم والإحباط بسبب تعلقي بها. وأنا، في النهاية، تعلمت في بيروت، وتزوجت فيها، وولدانا وُلدا هنا ونشآ هنا وكبرا هنا. وأكثر ما يحز في نفسي هو إحساسي، بعد هذه التجربة الطويلة من الحرب الأهلية في لبنان، أن العناصر المكوّنة للمجتمع اللبناني كلها انسحبت إلى داخل قواقعها الطائفية بصورة أسوأ كثيراً مما كانت عليه سابقاً. في السابق كان هناك، على الأقل، أصوات نقدية وحركات تدعو إلى التجاوز وتيارات تحاول أن تمشي إلى الأمام. الآن نادراً ما تلحظ في الخطاب العام مثل هذا التوجه. إن الطاغي هو الخطاب الطائفي الضيق الفئوي الذي حتى لو غُلّف ببعض الكلمات عن لبنان فأنت تشعر بأن لا شيء يهمه إلا نفسه. إن أي طرف يتكلم على الحريات، مثلاً، لا يعني حقاً حريات المواطنين جميعاً بل يعني حريات جماعته وطائفته وامتيازاتهما لا أكثر. أحياناً أشعر باليأس التام من إعادة تركيب لبنان لأن فكرة إعادة ترقيعه من درزي وسني وماروني وشيعي... إلخ، لا أمل فيها ولا أمل منها. ولا أجد أي مشروع آخر مطروح غير هذا المشروع المستحيل والمجنون. من غير نمو حس بانتماء مدني لبناني يتمركز حول فكرة المواطنة، لا أعتقد أن هناك مستقبلاً للبنان.
- تبدو صاحب ذائقة أدبية رفيعة في كتابك "ذهنية التحريم". كيف كوّنت هذه الذائقة؟ وهل ثمة أثر من فوز طوقان؟
- لم أكوّن الذائقة الأدبية بأي فعل إرادي، بل إنها نمت مع نمو ثقافتي ومع اطلاعي. لكنني لا أعتبر نفسي خبيراً بقضايا الأدب. كان الأدب في أعمالي، منذ البداية، مصدراً من مصادر لتأكيد طروحات فكرية معينة، وخصوصاً حين يعبّر الأدب عمّا أريد بصورة مشخّصة وعينية جداً، فألجأ إليه وأستشهد به. عندما كنت أدرّس نيتشه وجدت في روايات دستويفسكي تأكيداً محسوساً لأفكاره. فالهم الفكري مقروناً بالأدب هو نوع من تقديم النماذج والأمثلة والشرح للأفكار التي أعالجها. طبعاً، كان لفوز الأثر الكبير في إثارة اهتمامي بالأدب وقضايا - وخصوصاً النقد الأدبي. فعندما كنّا ندرس معاً في جامعة "ييل" كانت هي في قسم الأدب الإنكليزي، الذي كان وقتها أهم قسم في الولايات المتحدة كلها.
لا شك في أن التفاعل مع فوز في الموضوعات الأدبية كان له أثر بارز فيَّ. مثلاً، حين اشتغلت على موضوع سلمان رشدي، قابلت أسلوبه بأسلوب فرانسوا رابلييه. طبعاً، إن أول معرفة لي برابلييه كانت في دروس الجامعة الأميركية. قرأت له نصوصاً مقررة علينا وأحببته، وخصوصاً النَفَس النهضوي الطاغي عنده. بعد ذلك كنت أرجع إليه بين حين وآخر. عندما قرأت "آيات شيطانية" أحسست بشيء من روح رابلييه فيها وفي طريقة تأليفها؛ فكنت أول من قابل بينهما.
- لمن تقرأ في هذه الأيام من الأدباء والشعراء، وهل تتابع حركة الأدب والفنون الجميلة في العالم العربي؟
- ليس متابعة المختص. لكن متابعة المثقف، أو كما كان العرب يقولون من كل واد عصا أو من كل علم خبر. طبعاً، أتابع الحركة التشكيلية في سورية بحكم وجودي في دمشق، وبحكم الاتصال المباشر بالفنانين والرسامين وبعضهم أصدقائي، ولهم لوحات في بيتي. أدعى إلى المعارض دائماً. أحب متابعة محمود درويش بصورة خاصة وأقرأ لممدوح عدوان، ليس لأنه وزوجته الرائعة إلهام صديقان عزيزان. كذلك أقرأ لعبد الرحمن منيف؛ فهو ظاهرة مهمة جداً في الرواية العربية. تصبح الرواية أكثر كثافة وقوة إذا تمكنتُ من ربطها بموضوع أشتغل به. في أثناء إعداد كتابي الأخير "ما بعد ذهنية التحريم" (العنوان من وضع الناشر، أمّا عنواني الأصلي فهو: "قراءة الآيات الشيطانية") رجعت إلى الكثير من الأعمال الأدبية مثل رواية يحيى حقي "قنديل أم هاشم" التي كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد وهو أهداني إياها في الستينات وبتوقيعه. قابلت "قنديل أم هاشم" ببعض ما كتبه سلمان رشدي، وخصوصاً القسم الأول من "أطفال منتصف الليل". في أثناء الكتابة أستعيد مثل هذه المرجعيات، بصورة أكثر عنفاً وتوهجاً في داخلي مما لو كنت أقرأها قراءة عادية. عدت فقرأت "أولاد حارتنا" وناقشتها بمناسبة ما كنت أكتبه عن سلمان رشدي. ثم قرأت، للغرض نفسه، رواية "ليالي ألف ليلة" التي بناها نجيب محفوظ على كتاب "ألف ليلة وليلة"، لأن سلمان رشدي متأثر كثيراً بالتراث الحكائي العربي والهندي.
- ما قصة خروجك من الجامعة الأميركية في بيروت؟
- القصة طويلة نسبياً وفي حيازتي ملفها الكامل، على صعيد الصحافة اللبنانية كما على صعيد المراسلات الداخلية في الجامعة. بدأت المشكلات في أواسط الستينات مع دراستين ومحاضرتين لي نشرتا لاحقاً في كتاب "نقد الفكر الديني" وهما: "الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني" و"مأساة إبليس". كنت وقتها أستاذاً مساعداً في قسم الفلسفة في الجامعة، وكنت ألقي محاضراتي العامة في النادي الثقافي العربي في رأس بيروت. انزعجت إدارة الجامعة كثيراً من النقاشات التي أثارتها محاضراتي ودراساتي في هذا الميدان، وتفاقمت الأمور ضدي حين نشرت في شباط/فبراير 1967، مراجعة نقدية لاذعة في ملحق "النهار" الأسبوعي للمؤتمر الذي أقامه شارل مالك في الجامعة تحت عنوان: "الله والإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر". كان مؤتمر شارل مالك خاوياً وهزيلاً ومدعياً، لا فكر فيه ولا إنسان، كما كان موظفاً بفجاجة لا تصدق، لخدمة الحلف المعادي لحركة التحرر العربي على العموم وللرئيس عبد الناصر وقيادته بالتحديد. قلت ذلك كله بصراحة في مقالي الذي أرسلته إلى "النهار" تحت عنوان: "الله والإنسان في الجامعة الأميركية". كانت النتيجة حتمية ومتوقعة، نقمة عارمة من جانب شارل مالك الذي أدى الدور الأهم في تخليص الجامعة الأميركية مني. أضف إلى ذلك علاقاتي الطيبة وصلاتي اليومية بوجوه الحركة الوطنية في الحرم الجامعي كله. تعقدت الأمور أكثر فأكثر بعد وقوع هزيمة حزيران/يونيو 1967 وقيامي بنشر كتاب "النقد الذاتي بعد الهزيمة"[9] الذي كتبته كله في مكتبي في "نايسلي هول" على أرض الجامعة الأميركية. أدى إعلان إدارة الجامعة قرارها النهائي بشأن إلى تظاهرات طالبية وإلى تعطيل التدريس ثلاثة أيام على أقل تعديل في كليات الجامعة كلها (بما في ذلك كلية الطب - وكانت هذه سابقة) دعماً لموقف واحتجاجاً على قرار الإدارة.
- ماذا فعلت بعد مغادرتك الجامعة الأميركية؟
- لا شيء مهماً في البداية. على الصعيد الشخصي والتقني والفكري كنت أحاول استيعاب صاعقة الهزيمة وآثارها في بيروت ودمشق؛ أحاول أن أفهم ما حدث لنا وأبعاده، أناقش وأستمع وأتابع كل ما يمكن متابعته عنها وفي كل مكان تقريباً، وأقرأ بتمعن كل ما كنت أتمكن من الحصول عليه باللغات الإنكليزية والفرنسية والعربية. الحدث الذي أخذ يفرض نفسه علينا جميعاً وقتها كان بداية صعود المقاومة الفلسطينية المسلحة في الأردن، وانتقال أعداد من المثقفين إلى هناك للالتحاق بالتجربة والاطلاع عليها وما شابه.
- ماذا عن ذكريات عمان في تلك الفترة؟
- سنحت الفرصة لي للذهاب إلى عمان الملتهبة في صيف سنة 1968، حين عرضت علي الجامعة الأردنية التدريس في قسم الفلسفة هناك. لم تكن الجامعة هناك بالنسبة إلي إلا محطة عابرة استمرت شهوراً فقط لأن هموم الهزيمة والمقاومة الفلسطينية وحرب الاستنزاف كانت هي المسيطرة والطاغية، كانت كلها مجسمة كقضايا حياة أو موت، أو هكذا بدت لي ولغيري وقتها. في ربيع سنة 1969، وضعتني السلطات الأردنية المسؤولة على متن طائرة مسافرة إلى بيروت على عجل، وأدرجت اسمي في قوائم الممنوعين من دخول البلد. أمضيت تلك الفترة متنقلاً بين بيروت وعمان ودمشق وفقاً للأوضاع ومتطلبات العمل والمناخ السياسي، مستخدماً أوراقاً [ثبوتية] صادرة عن المنظمات الفلسطينية. في نهاية السنة، انفجرت قضية كتابي "نقد الفكر الديني" في لبنان مما اضطرني إلى الاستزادة من التنقل بين العواصم المذكورة. عدت إلى عمان - المقاومة حيث بقيت حتى بداية أيلول/سبتمبر 1970، وحضرت اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني الذي عُقد هناك في أواخر آب/أغسطس من السنة ذاتها، وإلى أن طلب مني المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية السفر فوراً إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا في جولة إعلامية ومالية طويلة. سافرت في مطلع أيلول/سبتمبر، إلا إن أحداث أيلول الأسود ووفاة عبد الناصر بدلتا كل شيء فعدت إلى بيروت بدلاً من عمان، أي عدت، بعد أقل من شهرين، إلى حيث نزحت المقاومة نفسها. هنا انضممت، كباحث، إلى هيئة العاملين في مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير في بيروت. في أثناء عملي في المركز ألّفت كتابي "الصهيونية والصراع الطبقي"،[10] وكتاباً نقدياً لتجربة المقاومة في الأردن[11] الأمر الذي أدى إلى فصلي من مركز الأبحاث ومنعي من الكتابة في مجلة "شؤون فلسطينية"، بأمر مباشر من ياسر عرفات، علماً بأني لست من مؤسسي المجلة فحسب، بل أيضاً من مؤسسي مركز الأبحاث ذاته مع الدكتور فايز صايغ سنة 1965 تقريباً. أريد أن أستفيد من هذه المناسبة لتوجيه الشكر إلى الدكتور أنيس صايغ (مدير مركز الأبحاث وقتها) لإنصافي أخيراً ومؤخراً بالنسبة إلى مسألة ملابسات عملي وفصلي من المركز هذا، بعد أن قرر الدكتور أنيس البوح على صفحات الجرائد والمجلات بجزء من المعلومات التي يختزنها بعد تلقيه صدمة اتفاقات أوسلو وملاحقها.
كان سؤالك: "ماذا عن ذكريات عمان في تلك الفترة؟"، ذكريات سيئة في الحقيقة على الرغم من التفاؤل في البداية والتملق بالمقاومة كخشبة خلاص... إلخ. تبيّن لي بسرعة أن المقاومة في العمق هي جزء من حركة التحرر العربي، على العموم، بتركيبتها وقياداتها ومصالحها وعقليتها وعجرها وبجرها. وإذا كانت الحركة الأكبر قد هزمت أمام المشروع الصهيوني فلن يكون مصير الفرع بأفضل من الأصل؛ وهذا ما قلته بصراحة ووضوح في كتابي عن تجربة المقاومة في عمان. تعرضت وقتها لتهديدات جدية من قيادة فتح (كمال عدوان تحديداً)، واضطررت إلى التواري عن الأنظار فترة (مرة ثانية الهرب من بيروت إلى دمشق حين تضيق الفسحة). لكن الغارة الإسرائيلية الشهيرة على بيروت، التي استشهد فيها كمال عدوان وغيره من قادة فتح، غطت على مشكلتي ومشكلة كتابي، واكتفت فتح بعدها بشراء جزء منه لسحبه من الأسواق، وبمنع الناشر من إخراج طبعات لاحقة عنه.
قضايا عصر النهضة:
الطموحات الكبيرة لم تتحقق لكن حدث تقدم وتراكم مهمان
- ثمة هجوم لا يهدأ في هذه الأيام، على أفكار التنوير وعلى المفكرين التنويريين. أين يكمن في رأيك النبع الذي تستقي منه هذه الظاهرة جرأتها وقدرتها؟
- أعتقد أن مصدر المشكلة ليس الأفكار التنويرية نفسها بالضرورة. يكمن مصدر المشكلة في ارتباط أفكار التنوير بمشروع سياسي اجتماعي تحرري وطني كبير، نسميه المشروع القومي أو النهضوي أو حركة التحرر العربي أو الثورة العربية وما شابه، وانتهاء هذا المشروع إلى أزمة وانهيار وانسداد وإخفاق. أعتقد أن هذه الواقعة هي التي تجعل الكثير من القوى تتجرأ على مهاجمة المشروع كله أحياناً، والأفكار التي رافقته أو أتت معه أو ارتبطت به بصورة من الصور في أحيان أُخرى.
كنا في الستينات، كتيار يساري، لا ننتقد أفكار التنوير ذاتها وإنما أوجه قصور عصر النهضة من مواقع بدت لنا يومها أكثر راديكالية وتقدماً وتقدمية. أي أننا كنا نرى أن عصر النهضة لم يكن جذرياً بما فيه الكفاية، ولم يكن ثورياً تماماً، وننتقد التعلق المرضي به. كنا نضيق بهذا الترديد الدائم لأسماء محمد عبده والكواكبي والأفغاني وغيرهم، كأن شيئاً مهماً لم يطرأ على حياتنا منذ أيامهم.
طبعاً، كان انتقادنا مبنياً على فرضية تقول إن المناخ القومي الجماهيري الجديد والحركة الناصرية وحركة التحرر العربي تجاوزت كلها، من حيث المبدأ، عصر النهضة وأفكاره، ولذلك لا بد الآن من إنتاج فكر ملائم ومطابق وأكثر تقدماً من فكر عصر النهضة. تبين أننا كنا ضحية تفاؤل كاذب، إذ دمرت هزيمة حزيران/يونيو 1967، الفرضية التي أوهمتنا بأننا تجاوزنا، أو تمكنا من تجاوز، عصر النهضة ومشكلاته وأطروحاته. الآن، يبدو لي أن هناك تراجعاً إلى خط الدفاع الثاني أمام الهجوم الآتي من اليمين، وخصوصاً اليمين الديني، علماً بأن هجوم أعضائه لا يتركز على التنوير وقيمه فقط، بل أيضاً على عصر النهضة برمته. والغلاة منهم يمجّدون الحقبة العثمانية، وربما المملوكية السلجوقية قبلها. أنا أجد نفسي الآن، مع آخرين كثيرين، في موقع الدفاع عن عصر النهضة وإنجازات عصر النهضة وأفكار التنوير. كما أعتقد أن قيم التنوير جديرة بأن يُدافَع عنها، ويُدافَع عنها بقوة، ولا سيما أن هناك خطأً آخر ارتكبه اليسار ويتمثل في إهماله القيم المرتبطة كلاسيكياً بالتنوير. أعني استخفاف الخطاب اليساري والممارسات اليسارية بأشياء مثل المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن والحريات العامة والعلمانية... إلخ. وكلها أصبحت مدرجة الآن في جدول أعمالنا بقوة. وهنا أقول إن ياسين الحافظ كان المفكر اليساري الأبرز الذي سبق الجميع وأشار إلى هذه المسألة ووعى أهميتها ونبه إلى خطورتها، في الوقت الذي كان اليسار يعدّها إمّا مسائل جانبية، وإمّا أنها ستأتي بصورة عفوية مع انتصار الثورة وما شابه. أضف إلى ذلك أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الواسعة التي طرأت على المجتمعات العربية المركزية ودولها، منذ الخمسينات، تفرض اليوم طرح هذه القيم مجدداً في الحياة العربية، وبصورة أكثر إلحاحاً مما سبق.
- في ما يتعلق بالمجتمع المدني، ألا تعتقد أن طرح مثل هذه الفكرة الآن متأخر على التاريخ كثيراً، ولا سيما أننا ندخل في عالم جديد عناوينه الكوكبة أو العولمة. والمجتمع المدني، الذي أنجزته أوروبا منذ زمن طويل، أخلف وعده في بلادنا. الآن نعود إلى هذه الفكرة بعد فشل المشاريع القومية واليسارية. هل ستفوتنا أيضاً الفرصة التاريخية لبناء مجتمع مدني ديمقراطي مثلما فاتتنا الوحدة القومية والسوق العربية الواحدة زمن محمد علي؟
- وصفك للوضع صحيح. ثمة الكثير من الأمور نحن متخلفون عنها قرناً أو قرنين. ويخطر لي، أحياناً، أن العرب أهملوا القرن العشرين وراحوا يتأرجحون بين أصالة ومعاصرة، بين ماض وحاضر، بين تجديد وتقليد، بين إسلام وعلمانية... إلخ. خذ المثال التالي: كانت ثقافتنا ثقافة شفوية أمية، إلى أن بدأت الكتابة تفرض نفسها على الجميع. لكن قبل أن تأخذ الكتابة مداها الكامل في حياتنا وتنمحي الأمية، نشأ نوع جديد من الثقافة الشفوية على مستوى تكنولوجي أعلى: التلفاز، والفيديو، والقنوات الفضائية... إلخ. أي جاءتنا المرحلة الشفوية الأعلى حتى قبل استكمالنا المرحلة الكتابية. إن مسألة المجتمع المدني تشبه بأكثر من معنى هذا المثال؛ ولا أرى حلولاً سهلة المعضلة. ومن مواقعنا الآن ليس أمامنا إلا الدفاع عن فكرة المجتمع المدني وتعميقها وتعميمها، مع التذكير دوماً بأن المجتمع المدني هو شيء غير المجتمع الأهلي التقليدي. لا شك عندي في أن الدولة التحديثية أدت الدور الأهم في إنشاء المجتمع المدني وإرساء قواعده في الحياة العربية، وراح هذا المجتمع الآن يطالب الدولة نفسها بحقوقه المهضومة من جانبها. كانت الدولة أول من أدخل فكرة سيادة القانون على الجميع، لكن المجتمع المدني هو الذي يطالب اليوم بتطبيق الفكرة والتقيد بها في حين أن الدولة هي التي تتلكأ، لأن في ذلك انتزاعاً لسلطات ومواقع وامتيازات وحيازات... إلخ. هذه معركة أرى أن لا بد من خوضها في الوقت الحاضر.
- لاحظت في كتاباتك وفي محاضراتك كأنك لا تفرق بين مفهوم النهضة ومفهوم التنوير. وأرى أن التفريق بين الاثنين ضروري منهجياً وتاريخياً. لو سمحت لي بأن أوضح فأقول: إن العالم العربي، في تاريخه المعاصر، لم يشهد عصراً نهضوياً حقاً، وإنما شهد ظهور مفكرين متنورين أطلقوا أفكاراً ذات مضامين تقدمية، واقتصرت النهضة، إلى حد ما، على المجال الفكري فقط. ذلك لأن مفهوم النهضة هو مفهوم تاريخي شامل يتعلق بشعب راح يستيقظ ويتصدى لكي ينهض بمختلف جوانب حياته الحضارية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وليس بالضرورة أن يترافق التنوير مع النهضة؛ فظهور المفكرين المرموقين والأعمال الفكرية والنقدية اللامعة، التي سطعت في سماء العالم العربي بعد الحملة الفرنسية، يمكن أن نجد على غرارهم في عصر الانحطاط أيضاً مثل ابن خلدون وبهاء الدين العاملي وجلال الدين السيوطي وابن منظور والزبيدي والفيروزآبادي، فضلاً عن ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن خلكان والقزويني وابن بطوطة والمقريزي؛ فهؤلاء جميعاً ظهروا في ما اصطلح على تسميته "عصر الانحطاط". كيف تنقد هذا الرأي؟
- أنا لا أوافقك الرأي تماماً، لأنني أعتقد أن خلفية ما سمي "عصر النهضة" و"التنوير" هي حركة التنظيمات في الدولة العثمانية. فمن غير حركة التنظيمات ما كان لهذه المسائل كلها أن تظهر أصلاً. بدأت الحركة نحو سنة 1830، وشُرّعت في ما بعد بفرمان وجاءت، على ما أعتقد، نتيجة عاملين: يتمثل الأول في المعلومات التي أخذت تتجمع على امتداد 50 - 60 عاماً لدى النخب العثمانية عما يجري في أوروبا من تقدم عسكري وعلمي هائل. وفي الوقت نفسه، كانت الدولة تخسر مقاطعاتها الواحدة تلو الأُخرى أمام التوسع الأوروبي الغربي من ناحية، وأمام التوسع الروسي من ناحية أُخرى. وتمثل العامل الثاني في الضغط على الدولة الآتي من تحت نتيجة نشوء طبقة وسطى حديثة، بعد الاختراقات الرأسمالية والامتيازات، صار لها مصالح وأهداف إصلاحية. جاءت إصلاحات محمد علي باشا الكبير ضمن إطار التنظيمات العثمانية بصورة عامة، وما كان لعصر النهضة أن يحدث من دون ما أسسه محمد علي بعجره وبجره، بفشله ونجاحاته. إن قولك عدم وجود مشروع نهضوي أصلاً ليس دقيقاً على أقل تعديل. ولا معنى للتنوير وأفكاره وقيمه ودعواته خارج هذا السياق، لذا لا يمكنني الفصل بين التنوير والنهضة على الطريقة التي اقترحتها. من جهة أُخرى، أريد أن ألحظ أيضاً أن عصر النهضة العربي، كما الأوروبي قبله (وكذلك الهندي على ما أعتقد)، ليس عصر مؤسسات ومدارس فكرية متبلورة ومشاريع شبه جاهزة وما إليه، إنما عصر شخصيات كبيرة وقوية هي في وقت واحد من نتائج الماضي ولكنها ترهص بما هو قادم وتحمله وتبشر به.
- منذ مئة عام تقريباً بدأت أفكار التنوير تعصف بالمنطقة العربية، وبزغ في هذا الفضاء كثيرون من طراز الكواكبي والأفغاني وشبلي الشميل وسلامة موسى وقاسم أمين وطه حسين ومنصور فهمي وغيرهم. وكان الفكر الاجتماعي يتجه صعوداً من التنوير والعلمانية إلى الماركسية والثورة. أمّا الآن فيبدو أن اتجاه الفكر ينحدر نزولاً من الثورة إلى التنوير، وراح الكثيرون من الماركسيين يخلعون عباءاتهم ويلطفون انتماءاتهم وينتسبون إلى العلمانية، كأنهم وجدوا في الفكر العلماني ملاذاً يقيهم صولة السلفية الدينية المتوثبة. هل تجد في هذا الوصف صدقية معينة؟ وإلى أين ستتجه البوصلة في المستقبل القريب؟
- تشخيصك سليم على العموم. لكن، في الوقت نفسه، وبمراجعة للذات أعتقد أن مسألة العلمانية كقضية كانت دائماً متضمنة في الفكر اليساري، لكن لأسباب تكتية لم تكن تعلم أو يحكى عنها. كان تبرير ذلك أنها تهرّب الجماهير، والجماهير مؤمنة وما إلى ذلك من كلام ألفناه. لم تكن هذه وجهة نظري بالتأكيد، إلا إنه كان للأحزاب والتنظيمات اليسارية حساباتها وتكتيكاتها واجتهاداتها العملية.
في رأيي، العلمانية مسألة مهمة جداً. فالشيوعية والرأسمالية اقتتلتا واختلفتا في كل شيء تقريباً بما في ذلك الموسيقى والرقص والأدب، وحتى الرياضيات في بعض اللحظات. لكن ثمة مسألة لم تقتتلا بشأنها قط هي العلمانية. بعد انهيار النظام الشيوعي في بولونيا، حين حاولت الكنيسة في لحظة انتصارها التدخل في مسألة العلمانية في اتجاه الحد منها وتصفيتها إن أمكن، حدثت ردة فعل فورية وشعبية لمصلحة علمانية المجتمع ومؤسساته ودولته وضد الارتداد عن إنجاز الحد الأدنى هذا، إذ لا مواطنة ولا مساواة أمام القانون ولا ديمقراطية جدية من دون مجتمع مدني علماني. في العالم العربي اليوم يتكلم نقاد العلمانية بمنتهى السطحية عنها قائلين إننا لسنا بحاجة إليها لأن العلمانية نشأت في أوروبا في مواجهة الكنيسة، والإسلام ليس فيه كنيسة. حسناً، لننظر إلى الهند؛ أكبر مدافع عن علمانية الدولة هناك هو الأقلية المسلمة لأن الأصولية الهندوسية تريد تحويل المسلمين من مواطنين إلى ذميين عبر الإطاحة بعلمانية الدولة وتحكيم الهندوسية فيها رسمياً. أضف إلى ذلك أن ليس في الهند كنيسة أو دين توحيدي واحد أو حتى لغة واحدة، ومع ذلك تطرح مسألة العلمانية نفسها اليوم لا كوجهة نظر، وإنما كمسألة حياة أو موت، وبصورة خاصة بالنسبة إلى الأقليات غير الهندوسية، بما فيها الأقلية المسلمة.
ذكرت سابقاً أن العلمانية شرط من شروط الديمقراطية، أي ديمقراطية المواطنين لا ديمقراطية الطوائف أو القبائل أو العشائر. وإذا كانوا لا يحبون كلمة علمانية فلا بأس وفي إمكانهم تسميتها حكومة مدنية على طريقة الشيخ محمد مهدي شمس الدين في لبنان الذي أدرك أن لا خلاص للبنان ولا مستقبل له بالعودة إلى "ديمقراطية" الطوائف. لن أناقش في التسميات، لكني لا أعتقد أن الديمقراطية ممكنة من دون حد أدنى من المجتمع المدني العلماني الذي يتجاوز الولاءات الطائفية أو الجهوية أو المذهبية أو العشائرية ويستوعبها في علاقة المواطنة وقيمها، من دون أن يعني ذلك أن في العلمانية حلاً سحرياً للمشكلات والتوترات والصراعات المعروفة.
طرحت في السابق تعريفاً للعلمانية بحدودها الدنيا، يقول إن العلمانية هي الحياد الإيجابي للدولة وأجهزتها ومؤسساتها إزاء الأديان والطوائف والمذاهب والإثنيات التي يتألف منها المجتمع المعني بها. قدمت هذا التعريف لأن العلمانية بمعانيها وممارساتها القصوى غير مطروحة علينا فعلياً في الوقت الحاضر، ولا طائل فيها في النقاش الجاري بشأن الموضوع حالياً في العالم العربي. لا تفرض الحدود القصوى أو العليا للعلمانية نفسها عادة إلا في اللحظات الثورية الكبرى كما في الثورة الفرنسية والثورة البلشفية. أمّا علمانية الحركة الكمالية في تركيا فكانت في منزلة بين المنزلتين، أو هي أدنى قليلاً من حد الوسط بينهما. ولا شك في أن علمانية الناصرية كانت أضعف من علمانية الكمالية.
- التيارات السلفية المعاصرة ترى في العلمانية خصماً حقيقياً. أنت، هل ترى في السلفية الجديدة خصماً حقيقياً؟
- نعم، هي خصم جدي. ولكن تقويمي العام للسلفية الجديدة أو "الأصولية الإسلامية" أنها، في الأساس، ردة فعل أكثر مما هي فعل إنشائي جديد، ولا تنطبق عليها شروط النهضة أصلاً. إنها ردة فعل على أوضاع معينة. لنأخذ، على سبيل المثال، نشوء حركة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928. أنا لا أفصل بين ثورة سنة 1919 التي وصلت فيها البورجوازية المصرية، والإسلام المصري استطراداً، إلى مرحلة نضج جديدة وإلى مرحلة تأكيد نفسها وتنفيذ نزعاتها التحديثية. ومع أن الثورة فشلت، إلا إن عملية تحديث كبيرة وواسعة حدثت في مصر في الفترة 1920 - 1930. لا أفصل نشوء الإخوان المسلمين عن ردة الفعل على هذا النوع من الحراك في الحياة العربية. ثمة طريقة أُخرى في فهم الظاهرة. قلنا إن هناك إصلاحاً دينياً حدث، وإن كثيرين من الباحثين يشبّهون محمد عبده بمارتن لوثر كينغ. ونحن نعرف أن حالات الإصلاح التي يسمّونها Reformation تستجر دوماً ما يسمونه الـ Counter-reformation أي إصلاح ديني مضاد. وأنا أرى نشوء الإخوان المسلمين نوعاً من الإصلاح الديني المضاد. إذا درسنا تاريخنا الحديث نلاحظ أن ثمة ميلاً عاماً إلى مقاومة الاستعمار. بدأت مقاومة الاحتلال الاستعماري بنمط ديني، مثلاً في النموذج الكلاسيكي الليبي والجزائري. قاتلته قوى تقليدية، وقاتلت جيداً وخلقت أبطالاً ونماذج عظيمة. جرت المعارك كلها في الفيافي والسهوب والبوادي، لكن المقاومة أخفقت في النهاية. في المرحلة الثانية، انتقلت المقاومة إلى المدن، وهي التي حققت الاستقلال؛ وهذا علامة من علامات تراجع دور الشأن الديني في مواجهة الاستعمار، لا كقوة تعبوية، لأن هذه موجودة دوماً، وإنما كتنظيم وحركة وقيادة وأفكار وأيديولوجيا ووعي وأهداف. أعطتنا المرحلة الجديدة مصطفى كامل وسعد زغلول بدلاً من سليمان الحلبي ومشايخ الأزهر؛ أعطتنا الأحزاب وفكرة المواطنة والوطن وشعار "الدين لله والوطن للجميع"؛ كما أحلّت أشياء مثل التظاهرة والإضراب والاعتصام والعصيان المدني وأساليب الاحتجاج المديني المعروفة الأُخرى محل ما يسمى، عادة، حركات العامة في المدن وتمردها وشغبها. هذه واحدة من نقاط تراجع "الديني" في حياة المجتمع العامة. خذ نظام التعليم، كمثال آخر، الذي سُحب رويداً رويداً من أيدي رجال الدين والمؤسسات الدينية، واستُبدل بنظام مدني حديث. خذ كذلك التشريع والقضاء حيث حدث الشيء ذاته. هناك، إذاً، ميل عام إلى تحويل الدين والتدين إلى الشأن الفردي والشخصي والعائلي، الأمر الذي يعني تراجع الهيمنة الدينية وتراجع سيطرتها على الحياة العامة للبلدان العربية المركزية. صار كل من الإيمان وممارسة الشعائر متروكاً إذا لم يكن للفرد وحده بعد فللأسرة. صار عادياً أن ترى في الأسرة الواحدة ابنة متدينة وابناً ملحداً وابنة أُخرى في منزلة بين المنزلتين كما يشهد على ذلك أدب نجيب محفوظ. أعتقد أن الحركة الأصولية، إذا درسنا أفكارها بتمعن، هي ردة فعل على هذه التطورات العميقة والجذرية؛ وإلا ما معنى الدعوة إلى إعادة تطبيق الشريعة الإسلامية؟ معناها أن الشريعة الإسلامية غير مطبّقة، وهذا صحيح. أي أن الأصولية هي استعادة لوضع كان سائداً في السابق، أي أسلمة المجتمعات الإسلامية. والأصولية تحاول استعادة مواقع فُقدت. بهذا المعنى هي حركة "رجعية" واسترجاعية بالمعنى الحرفي للعبارتين. كل قضية الحسبة في مصر، مثلاً، هي محاولة عودة إلى تجريد الفرد من حقه المكتسب حديثاً في اتخاذ قراراته الحرة بالنسبة إلى مسائل الاقتناع الديني أو غيابه، ممارسة الشعائر أو عدم ممارستها. هنا منبع عدائهم للعلمانية وللديمقراطية. فالديمقراطية تفترض حرية الضمير وحرية المعتقد، وهذه الأشياء كلها مرفوضة عند الأصوليين. بعد فشل المشروع القومي الشعبوي واليساري سنحت الفرصة لهم لاسترجاع الخسارة التاريخية التي لحقت بهم واستعادة المواقع التي ما زالوا يظنون أنها من حقهم ومن حق أمرائهم ومشايخهم. من هنا رفضهم لأعظم شعار رفعه التاريخ العربي الحديث: "الدين لله والوطن للجميع"، ودعوتهم صراحة، بالتالي، إلى إخراج الأقباط من الجيش المصري ومنعهم من الخدمة فيه. هنا تبقى نقطة أخيرة تتعلق بالعلمانية. في بلد مثل تركيا خاضت حرباً منتصرة ضد خصومها، بعد هزيمة الدولة العثمانية نهائياً، استطاع مركز الإمبراطورية القديم، ممثلاً بشخص مثل مصطفى كمال، إعلان علمانية الدولة الجديدة وفصل الدين عنها بصورة رسمية ومن قمة هرم السلطة المنتصرة. أمّا في أطراف الإمبراطورية العتيقة، أي الولايات العربية، فإن أياً من هذه التطورات والإنجازات لم يكن ممكناً بسبب ضعفها الشديد وتشتتها. لذا جاءت عمليات علمنة الحياة العربية العامة بحكم الأمر الواقع (de facto)، أي كسلسلة من الوقائع والإجراءات والتطورات والتحولات المتتالية والمتراكمة بلا إعلان رسمي يفصح عن علمانيتها، وبلا خطاب علماني متبلور وواضح وصريح يعبر عنها. العلمنة العربية الواقعية جاءت بطيئة ومترددة وحذرة وخجولة ومساومة حتى آخر لحظة. إني مقتنع بأنه لو قام الرئيس عبد الناصر بإعلان فصل الدين عن الدولة رسمياً لحظة تأميم قناة السويس لنجح الإجراء ولربما تغيرت أشياء كثيرة، لأن تلك اللحظة عربياً شبيهة بلحظة انتصار أتاتورك على جيوش الغزو والاحتلال التي كانت تعمل على تمزيق بلاده. على صعيد آخر يرى الأصوليون أن علمانية الأمر الواقع العربية هذه أخطر كثيراً من علمانية أتاتورك، لأن الثانية معلنة رسمياً وبصراحة ووضوح، أمّا العلمنة العربية فهي تسلّلية؛ تسري في المجتمعات سرياناً خفياً مع الإبقاء على الغطاء الديني بصورة أو بأُخرى.
- كنت دائماً مثيراً للزوابع، ومنذ كتابك "نقد الفكر الديني" حتى كتابك "ذهنية التحريم" برزتَ ناقداً ومساجلاً ومشاكساً. فمنذ ثلاثين عاماً وأنت تقاوم ما تعتقده بالياً وعتيقاً ومعيقاً للتقدم، وتتصدى بالنقد والتحليل لكل كوابح العدالة والحرية. الآن، كيف تقوّم تجربتك الفكرية؟ هل أينعت؟ هل حرّكت حصاتك المستنقعات الراكدة، هل تمكنتَ وغيرك من المفكرين التنويريين من أن تحفروا في هذا الجمود العربي مسارات للعقلانية ومسارب للتفكير النقدي والعلمي؟
- أعتقد أن الإجابة بصورة إجمالية وعامة هي نعم. وهذه ليست إجابة متعلقة بشخصي فقط، لأني أرى نفسي جزءاً من حركة وتيار يعودان إلى عصر النهضة، وإلى بدايات النقد الأدبي والفكري والاجتماعي الذي انطلق في تلك الفترة. والقول إن لا شيء تحقق أو تراكم منذ ذلك الوقت حتى الآن مغلوط فيه. كما أعتقد أن الدراسات العلمية والاجتماعية والسياسية تُبيِّن أنه زعم غير صحيح. لا شك في أن الطموحات الكبيرة لم تتحقق، ولكن هذا لا ينفي حدوث تقدم وتراكم على صعيد المهمات التي طرحها هذا التيار على نفسه، وأنا واحد من شخوصه. إن المستنقعات الراكدة تحركت إلى هذا الحد أو ذاك، وأنتجت ردّات فعل قوية وفي مستوى أفضل من العقلانية. إذا قابلنا النصوص الأرقى في بداية القرن وفي العشرينات والثلاثينات بنصوص حديثة راقية سنجد مَيْلاً عاماً إلى عقلانية أكبر وموضوعية أعظم وتجديدية أهم وغيبية أقل وخطابية أضعف. هذا مَيْل عام، طبعاً، لأنك ستجد دائماً نصوصاً من عصر النهضة أفضل كثيراً من أي نص راهن، وستجد العكس أيضاً.
إنصافاً للعالم العربي وللفكر العربي الحديث، دعني أقول إن هناك سلسلة طويلة من الكتب الشبيهة بـ "نقد الفكر الديني" (وغيره من مؤلفاتي) التي أثارت زوابع محلية، وأحياناً عربية، وأحياناً أُخرى وصلت أصداؤها إلى العالم الإسلامي، كما كان لها أثرها في أوروبا. وكعربي، أشعر بالفخر أن أصحاب هذه السلسلة الطويلة من الكتب الرائدة لم يدفعوا ثمناً باهظاً بسبب مواقفهم وتحليلاتهم وطروحاتهم. صحيح أنهم تعرضوا للمضايقة والإزعاج والمعاملة الخشنة وبعض الاضطهاد، لكنهم لم يدفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم الشجاعة، باستثناء فرج فوده، منذ قاسم أمين، مثلاً، وعلى امتداد هذا القرن كله. بهذا المعنى تجربتهم أينعت عربياً، راكمت شيئاً جديداً ومهماً في حياتنا المعاصرة. كان كل كتاب من هذه الكتب، هو والضجة التي كان يثيرها، يسهِّل التجربة على الكتاب الذي سيليه وعلى المفكر الذي سيتبعه. مرة ثانية، هذا ميل عام ويجب ألاّ يفهم كلامي هنا حرفياً.
- عندما أصدرت كتاب "نقد الفكر الديني" سنة 1969، ثارت في وجهك الأبالسة، وعندما أصدرت كتابك "ذهنية التحريم" سنة 1992، ثارت الملائكة والأبالسة معاً. وأظن أنك تعودت منذ "النقد الذاتي بعد الهزيمة" و"نقد فكر المقاومة" أن تواجه بالفكر والحجة والمنطق أصوات هؤلاء وسياط أولئك. هل تستعد في هذه الأيام لإثارة الدبابير من أعشاشها مجدداً؟
- أنا لا أتقصد إثارة الدبابير أو أتقصد، واعياً، على أقل تقدير، النقد من أجل أن يثور خصومي الفكريون؛ وبعضهم، طبعاً، أصدقاء. أريد أن أتناول وأعالج وأشتبك مع القضايا الشائكة وأحياناً المحرمة وأحياناً الممنوعة. وفي أحيان أُخرى أريد نقل القضايا، التي نتداولها في الجلسات الخاصة ولا أحد يتجرأ على البوح بها، إلى المجال العام. أشعر بأن في عدم نقل مثل هذه القضايا إلى المجال العام خسارة فادحة لنا حاضراً ومستقبلاً، أي أن فيه نوعاً من الخداع للنفس، نوعاً من الكذب على النفس. وبالنسبة إلي، لقد طفح الكيل منذ زمن طويل فيما يتعلق بمسألة خداع النفس والكذب عليها. لذا سأستمر في وضع يدي على النقاط التي تعتبر حساسة حين أجد ضرورة لذلك، وحين أجد في عدم إثارتها خسارة محتمة لنا. هذا تماماً ما فعلته حين وصفتُ علناً وعلى رؤوس الأشهاد ما كان يجري داخل منظمة التحرير "بالصهيونية الفلسطينية" في وقت مبكر وقبل الجميع، وفي وقت كان يمكن أن يكون ثمن هذا الكلام باهظاً حقاً. من يعترض على هذا النعت اليوم؟ حتى المنعوتون به لا يعترضون، هذا إذا لم يفاخروا به. وإذا ثارت الدبابير من أعشاشها فلا بأس. وهنا آخذ "الدبابير" والإثارة بمعانيهما الأكثر إيجابية. فأنا أرى فيهما جزءاً من حيوية حياتنا الثقافية والسجالية والفكرية والنقدية.
- لكنك في دفاعك عن إبليس كنت تقريباً وحدك، وفي دفاعك عن سلمان رشدي كنت تقريباً وحدك أيضاً، ثم رحت تدافع عن المادية عندما راح معظم اليسار يتخلى عنها. هل أنت ملتزم الدفاع عن القضايا الخاسرة؟
- لا أخرج للدفاع عن قضية لأنها خاسرة، مع أن الدفاع، إذا أخذنا المنطق القانوني، يكون - عادة - من حق المتهم والضعيف والمذنب والخاسر الذي يجب أن يدافع عن نفسه وأن يجد من يُدافع عنه. أعتقد أن هذه مسألة مهمة يجب أن نتعود عليها جيداً في حياتنا. حتى أعداء سلمان رشدي، يُفترض أن يقبلوا بمبدأ حقه في الدفاع عن نفسه، حقه في أن يُسمع دفاعه هذا وحقه في أن يجد من يدافع عنه، حتى لو كانوا مقتنعين بأن مصيره هو المقصلة. يجب أن يترسخ هذا الحق مبدأً عاماً في حياتنا. بهذا المعنى (وهو أضعف الإيمان) ليس لديّ مانع في أن أدافع عن القضايا الخاسرة، علماً بأنني أعتقد أن القضايا التي دافعت عنها ليست قضايا خاسرة على العموم، وفي المنظور المتوسط قد لا تكون رابحة تماماً، لكن وزنها في حياتنا كبير. فالدفاع عن إبليس، مثلاً، كان في الحقيقة تأكيداً لفكرة الاجتهاد وأهميتها ودفاعاً مبكراً عن حقنا، كمثقفين أحياء اليوم، في أن نعيد الاستيلاء على التراث ونعيد معالجته وتقديمه وتفسيره بطريقة نرى فيها معنى بالنسبة إلينا. أجد الآن أن هذه القضية مطروحة اليوم على بساط البحث بقوة أعظم كثيراً وبإلحاح أشد، بما لا يقاس، مما كانت عليه الأمور حين عالجت حكاية إبليس وشخصيته في مطلع الستينات. والشاهد على ذلك القضايا التي أثيرت بمناسبة صدور كتاب الدكتور محمد شحرور[12] في سورية، وكتاب الدكتور نصر حامد أبو زيد في مصر. وتتلخص المسألة المركزية في هذا كله في السؤال: هل لنا الحق كعرب أحياء اليوم في أن نعيد وضع يدنا على التراث وأن نعيد فهمه ومعالجته والاجتهاد فيه، والاستفادة منه وامتصاصه بأي أسلوب من الأساليب نراه ملائماً لواقعنا وأحوالنا؟ هذه المعركة مستمرة ومستعرة في الوقت الحاضر، ولا أعتقد أنها معركة خاسرة.
بالنسبة إلى سلمان رشدي ورواية "الآيات الشيطانية" ربما كنت وحيداً في الدفاع عنهما في البداية، لكني لم أعد كذلك الآن. حين كنت أعد لكتابة "ذهنية التحريم" وجدت ردات الفعل العربية معادية بلا استثناء. لكن المناقشات المطولة التي استجرها كتابي أظهرت أن تبدلاً مهماً طرأ على الموقف العربي المثقف والنقدي من رشدي. وكان أول من لفت نظري إلى هذا التبدل سلمى الخضراء الجيوسي، علماً بأن سلمى انحازت ضد رشدي وروايته منذ البداية. ستجد في مناقشات "ذهنية التحريم" من دافع عن رشدي بطريقة غير مباشرة عبر الدفاع عن العقل والاجتهاد وحرية الرأي والنقد والإبداع وما إليه؛ وهو ما يعني، ببساطة، الدفاع عن أدب رشدي من دون تبنيه أو تبني محتواه بالضرورة. وستجد فيها من خفف من حدة عدائه ومن أعاد النظر إلى هذا الحد أو ذاك، في مبررات هذا العداء وأسبابه في اتجاهات أكثر موضوعية. حدث مثل هذه التطورات لمؤلفات كثيرة سابقاً، بما في ذلك رواية بوريس باسترناك "دكتور جيفاغو" وكتب علي عبد الرازق وطه حسين وعبد الله القصيمي وكثيرين غيرهم. لذا لا أعتقد أن الدفاع عن رشدي هو دفاع عن قضية خاسرة لأني مقتنع بأن إنتاجه الروائي على العموم و"الآيات الشيطانية" بالتحديد سوف يجدان لنفسيهما المكان الملائم خلال الأعوام العشرين القادمة، في تيارات الأدب العالمي والعولمي للنصف الثاني من القرن، تماماً كما أخذت رواية باسترناك مكانها الملائم في تاريخ الأدب الروسي في القرن العشرين، على الرغم من العاصفة الدولية الهوجاء التي أثارتها عند صدورها سنة 1958.
أمّا كتاب "دفاعاً عن المادية والتاريخ"، فهو دفاع مزدوج: أولاً، عن الفكر النقدي التاريخي في تناول النظام الرأسمالي العالمي وهو الفكر الذي ما زلنا نجد صورته الأرقى في الماركسية وألوانها وتنوعاتها الكثيرة، وخصوصاً أن هذا النوع من الفكر باق معنا على امتداد بقاء الرأسمالية ذاتها. وهو، ثانياً، دفاع عن المادية، لا استناداً إلى نصوص مسبقة، وإنما استناداً إلى قراءة لتاريخ الفلسفة الحديثة وللثورة العلمية الحديثة التي أنتجت تلك الفلسفة وحكمت تطوراتها وتحولاتها منذ نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا. هنا أيضاً لا أعتقد أني أدافع عن قضية خاسرة بقدر ما أدافع عن قضية مهمة جداً ستبقى معنا بقاء العلم الحديث واكتشافاته واختراعاته وتطبيقاته. دعني أعبر عن اقتناعي أيضاً بأن مادية العلوم، على العموم، والعلوم الطبيعية، بصورة خاصة، تترسخ وتتجذر وتتقوى أكثر من أي وقت مضى، إن كان بالنسبة إلى منهاجها أو تفسيراتها أو تعليلاتها أو سببيتها أو تقنياتها أو حساباتها أو تطبيقاتها. دعني كذلك أقرأ عليك ترجمة للاستنتاج الذي توصلت إليه هيئة كبار العلماء التي طلب منها الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، دراسة مسألة الاستنساخ البشري وأبعادها المتعددة والمتنوعة ومن ثم رفع توصياتها إليه. استنتجت اللجنة أن "من غير المقبول خُلقياً في الوقت الحاضر، بالنسبة إلى القطاع العام كما بالنسبة إلى القطاع الخاص في البلاد، محاولة خلق طفل (to attempt to create a child) بواسطة الاستنساخ، إن كان ذلك في سياق بحث علمي أو في سياق سريري (clinical). من الواضح، من عبارات هؤلاء العلماء الدقيقة والمنتقاة بعناية فائقة، أنهم يعرفون جيداً ماذا يفعلون (يخلقون الأطفال على طريقتهم الخاصة) ويعرفون جيداً، بالتالي، إلى أي حد وصلت مادية علومهم وترسخت.
في الإسلام والرأسمالية والعولمة...
وتجربة الاتحاد السوفياتي
- من موقعك الفكري، ماذا استخلصت من فشل التجربة السوفياتية؟
- لا يمكنني القول إني استخلصت أي شيء مهم بالمعنى الدقيق، وخصوصاً أني لا أعرف تلك البلاد ولا أعرف أية لغة من لغاتها. مصادر معلوماتي كانت المتابعة العادية للأحداث الدولية ولتطورات الحرب الباردة وتوتراتها وانعطافاتها وانعكاسات ذلك كله علينا وعلى منطقتنا وعلى العالم الثالث عامة. أضف إلى ذلك اطلاعي المسبق والجيد على ثورة تشرين الأول/أكتوبر وتاريخها عبر مؤرخ مثل إسحاق دويتشر وغيره من ماركسيين وغير ماركسيين.
لا يعني هذا غياب الاستخلاصات الصغيرة من انهيار الاتحاد السوفياتي، مثلاً: (أ) حجم دقة التحليلات الغربية على العموم، وخصوصاً الأميركية، للوضع الداخلي السوفياتي وصحة تشخيصاتها لمتاعبه ومعضلاته ونقاط ضعفه ومقاتله. كان اليسار عندنا لا يهتم بهذه التحليلات، أو هو يعدها لا أكثر من دعاية إمبريالية ضد الشيوعية والسوفيات والعالم الثالث وما إليه، من دون أية محاولة للاستفادة الجدية مما تحتويه من معلومات ومعطيات وحقائق. بالنسبة إلي كنت أطّلع على بعض هذه المواد معتقداً أن فيها الكثير من المبالغة والتهويل والتشويش، لكن فيها جرثومة من الحقيقة أيضاً لا بد من التقاطها حرصاً على التجربة ذاتها وحرصاً على أنفسنا من الانخداع كلياً، كذلك. (ب) حجم معرفة الصحافة الغربية الراقية ("لوموند"، "النيويورك تايمز"، "الواشنطن بوست") بأحوال الاتحاد السوفياتي الداخلية معرفة متقدمة دقيقة واقعية ولا غش فيها للنفس. كنت أنا أيضاً أميل إلى الاستخفاف بما تنشره هذه الصحف من معلومات ومعطيات وتحقيقات واستنتاجات وتنبؤات عن الاتحاد السوفياتي وعن نقاط قوته ونقاط ضعفه، مع إحساسي الدائم بأن "لا دخان بلا نار" في مثل هذه المسائل، مهما بلغت رغبة الإعلام الغربي من قوة في تشويه صورة التجربة السوفياتية والتشنيع على الحركة الشيوعية على العموم. (ج) حجم خواء وديماغوجية منطق يساري عربي (وفلسطيني بصورة خاصة) كان لا يكل ولا يمل من إعلامنا بأن "الإمبريالية في أزمة" و"إسرائيل في مأزق" و"كامب ديفيد في طريق مسدود" وبأن الاتحاد السوفياتي يعاني بعض المتاعب والصعوبات فقط، ليتبين لاحقاً أن العكس تماماً هو الصحيح؛ أي أن الإمبريالية هي التي تعاني بعض المتاعب والصعوبات فقط، في حين أن الاتحاد السوفياتي هو الواقع في الأزمة الحقيقية والغارق في المأزق الذي لا مخرج منه والماشي في طريق مسدود إلى حدود الانهيار والتلاشي. وأقول بتواضع إني كنت أحتقر هذا المنطق أشد الاحتقار، ولا أهتم به إلا من قبيل التنبيه إلى ضرره البالغ وإساءته الكبيرة. دعني أذكّر أيضاً بمنطق يساري مشابه كان شائعاً عربياً لكنه كان يأخذ منحى "إرهابياً فكرياً" من دون أن يقل عن الأول خواء وديماغوجية وتعطيلاً لأي تفكير نقدي جدي ولأي تحليل موضوعي مستقل. كان يقدم هذا المنطق نفسه على شكل سؤال خطابي بسيط وتبسيطي وبديهي يقول: يتألف عالم اليوم من المعسكر الإمبريالي وحليفته الرجعية العالمية في كل مكان، من ناحية، ومن المعسكر الاشتراكي وحليفته قوى التحرر الوطني العالمية في كل مكان أيضاً، من جهة أُخرى، وهل عندك أي شك في أي من المعسكرين سينتصر؟ وفي تلك الأيام، من كان يجرؤ على التعبير العلني عن أية شكوك من هذا النوع أو عن مجرد الظن، مهما كان ظنه افتراضياً وجدلياً، في إمكان تحقق الاحتمال الآخر؟ طبعاً، اصطدمت بهذا المنطق مراراً، وخصوصاً بشأن كتاباتي ومحاضراتي ومداخلاتي عن السياسة الأميركية في المنطقة وحقيقة توجهاتها وبواعثها وخلفياتها وآلياتها الأعمق. (د) حجم فقدان النخبة الشيوعية السوفياتية نفسها كل ثقة بمؤسساتها ونظامها واقتصادها وأهدافها ودولتها ودورها، وفقدانها كل ثقة بقدرتها على البقاء وقدرتها هي على الاستمرار. يبدو لي أن فقدان الثقة المتراكم هذا هو الذي يفسر جزئياً الطريقة الفجائية وشبه العجائبية التي انهار بها الاتحاد السوفياتي واضمحل.
مسألة مهمة أُخرى لفتت نظري بالنسبة إلى انتهاء التجربة السوفياتية، على النحو المعروف، هي هذا التقصير الهائل من جانب الأعداد الكبيرة من العرب الذين درسوا في الاتحاد السوفياتي وتعلموا اللغة الروسية واطلعوا على تجربته عن كثب كما عاشوا حياة البلد وعايشوا مشكلاته وأزماته... إلخ. هذا التقصير في قول أي شيء لافت بشأن ما جرى، أو تقديم أية إضاءة حقيقية لأسبابه وخلفياته التاريخية والاقتصادية والاجتماعية أو استخلاص النتائج الناجمة عن تحليل جاد للانهيار. لا أجد عند هؤلاء ما يقولونه حتى الآن سوى إرجاع أسباب انهيار التجربة إلى عوامل ظاهرة وسطحية مثل فقدان الديمقراطية...
أو سباق التسلح.
- نعم، أو سباق التسلح، أو حرب النجوم أو... أو... هذه ليست تفسيرات بقدر ما هي كليشيهات سريعة تصلح لحديث الصالونات. لكن التعمق فيما حدث يتطلب مستوى آخر من الدراسة والتحليل، وهذا كله غائب عربياً. لا منظور علمياً عربياً مستقلاً ومتماسكاً نسبياً حتى الآن لمقاربة ما حدث للاتحاد السوفياتي، أقصد منظوراً ينطلق من مواقعنا نحن ومن تجربتنا كعرب، أحياء اليوم، مع التجربة السوفياتية ذاتها ومع الحرب الباردة كذلك. إن القضايا والمسائل والمشكلات والأسئلة التي تهمنا في هذا الشأن وتمس مصالحنا الحيوية ليست هي ذاتها بالضرورة التي تهم الغرب وتمس مصالحه الحيوية. لذا نجد أن الدراسات المتخصصة والتقنية في الغرب عن انهيار التجربة السوفياتية ونهايتها لا تعد ولا تحصى، لكن نادراً ما تتطرق هذه الدراسات إلى الأسئلة الكبيرة والمهمة التي تعنينا نحن كعرب وكعالم ثالث وكيسار... إلخ. مثلاً: هل كانت ثورة تشرين الأول/أكتوبر منطلقاً حقيقياً لتأسيس نمط إنتاج جديد هو نمط الإنتاج الاشتراكي؟ إذا كانت أنماط الإنتاج (وعددها قليل في تاريخ البشرية) تنشأ تاريخياً وتنحل تاريخياً وتعيش طويلاً، هل من الممكن تأسيس نمط إنتاج جديد إرادياً وبقرارات واعية؛ أي هل يفبرَك نمط الإنتاج فبركة؟ إلى أي حد كانت اشتراكية التجربة السوفياتية لا أكثر من الغطاء الأيديولوجي الضروري لعملية تصنيع روسيا وتحديث مجتمعها في العمق ورفعها إلى مصاف الدول الأوروبية المتقدمة الأُخرى، عسكرياً على أقل تعديل، مهما كان الثمن. وحين تحقق ذلك على العموم، كان لا بد من طرح الغطاء المذكور، بأجهزته ومؤسساته وتنظيماته، جانباً لأنه استنفد أغراضه؟ بهذا المعنى تكون التجربة السوفياتية قد انتهت لأنها نجحت في إنجاز مهمتها التاريخية الحقيقية في تحديث روسيا وتصنيعها وليس لأنها أخفقت. مسألة كبيرة أُخرى تهم الجميع: نحن نعرف أن الفلاح في المجتمعات الأوروبية المتقدمة قد انقرض، أقصد الفلاح كما عرفته آسيا تقليدياً، مثلاً، وكما عرفته أوروبا، على العموم، حتى مطلع هذا القرن مع ذلك فإن الزراعة مزدهرة إلى أقصى الحدود في تلك البلدان على أسس جديدة تماماً (الزراعة محل الفلاحة)، وإنتاج الأغذية والأطعمة ومشتقاتها يتم بوفرة هائلة فيها. في الواقع، إن أعظم منتج للمواد الزراعية والغذائية ومشتقاتها في العالم اليوم هو المجتمعات الأكثر تصنيعاً وليس الدول المصنفة زراعية. كما تمتلك هذه الكتلة من الدول فائضاً غذائياً ضخماً مخزوناً عندها على الدوام من أجل الطوارئ ولأغراض شتى غيرها. هل تمشي البروليتاريا الصناعية في البلدان المتقدمة المذكورة على الطريق ذاتها التي سارت عليها الطبقات الفلاحية فيها من دون أن تتأثر حركة الإنتاج الصناعي وتقدمها البتة؟ أنا أطرح الأسئلة فقط من دون الزعم أن لديّ أية إجابات عنها، ومن دون الادعاء أني مؤهل حتى للاقتراب من معالجتها جدياً.
- في مقابلة لك مع جريدة "ملييت" التركية سنة 1996، عبرت عن رأي جديد ومفاجئ هو أن الإسلام يمكنه أن يصبح علمانياً. هل يمكن إيضاح كيف توصلت إلى مثل هذا الاستنتاج؟
- المقابلة التي نشرت في مجلة "ملييت"، هي خلاصة لمحاضرة بعنوان "الإسلام والعلمانية"، ألقيت في الأسبوع الثقافي الثاني لقسم الفلسفة وعلم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة دمشق، كما ألقيت في أماكن متعددة في سورية، بما فيها السويداء وحمص ودير الزور. تحاول المحاضرة معالجة هذه المسألة بأسلوب مباشر وجدي. أمّا الترجمة الصحافية من التركية إلى العربية فكانت رديئة جداً في لبنان كما في الخليج. لقد حاولت أن أقول التالي: هناك فكرة يتفق عليها الاستشراق الغربي والإسلاميون عندنا، وهي أن ثمة شيئاً ما في الدين الإسلامي يميزه من باقي الأديان كلها، وهو عداؤه الجوهري للعلمانية واستحالة تقبله لها بأي صورة من الصور. أردت فك هذه العقدة أو قطعها لأني لا أعتقد أن الدين الإسلامي يتباين إلى هذا الحد عن باقي الأديان الكبرى بالنسبة إلى هذه المسألة مما يؤدي إلى هذا النوع من الاستعصاء. العلمنة خيار تاريخي وقد تحدث أو لا تحدث، لكنني لا أرى أن هناك مانعاً مبدئياً في الإسلام يميزه من باقي الأديان الأُخرى، يجعل العلمنة رابع المستحيلات. لهذا الغرض ميزت في التاريخ الإسلامي بين ما سميته الـ "لا الصراطية" والـ "نعم التاريخية" والصراع بينهما. يمكن تلخيص الفكرة في السؤال التالي: هل كان الإسلام القرآني - النبوي البسيط والمؤسساتي الأول لينسجم مع الحكم الملكي الوراثي الذي كان سائداً في الإمبراطوريات الكبرى يومها والتي فتحها العرب وسيطروا عليها؟ تاريخياً الجواب هو نعم بالتأكيد، على الرغم من أن الـ "لا الصراطية" كانت تقول دوماً إن الإسلام الإمبراطوري أدى إلى حلول الملك العضوض محل الإسلام الرشيد وتقاتل من أجل عودة ما إلى الإسلام القرآني - النبوي الذي زال. مثَّل الخوارج الـ "لا الصراطية" بأنقى صورها، أي الإسلام شبه البدوي المساواتي الأول والبسيط. أمّا معاوية فشكل الطرف الآخر الذي عرف كيف يؤسس دولة إسلامية عربية كادت تتحول إلى إمبراطورية. طبعاً الـ "نعم التاريخية" تتبدل وتتغير وفقاً للأوضاع والأحوال، لكن في إمكاني القول بصورة عامة إن الانتصار كان دائماً حليفاً للـ "نعم التاريخية" في التاريخ الإسلامي، أي حليفاً للإسلام الذي ينسجم مع الواقع التاريخي المتحول أو الذي يعرف جيداً أنه إذا لم يواكب هذا الواقع ويتكيف معه سيضمر ويتراجع ويتحجر ويتهمش. أعتقد كذلك أن العلمانية هي الـ "نعم التاريخية" للعصر الحديث، والإسلام قادر على الانسجام معها فعلياً وواقعياً كما انسجم مع أشياء جديدة كثيرة قبلها، وقادر على أن يعيد تفسير نفسه وتأويل ذاته بما يحقق هذا الغرض. الآن، إذا ما كان هذا التطور سيأخذ مجراه ويكتمل فإن ذلك يعتمد على ما يفعله العرب والمسلمون وأية خيارات ينتقون وأية قرارات يتخذون، إذ لا ضمانات مسبقة لأحد في مثل هذه المجالات. دعني أضيف أن الإسلام، كنموذج مثالي لمجموعة من العقائد السرمدية، لا ينسجم إلا مع نفسه. أمّا الإسلام، كإيمان بشري متطور ومتحرك تاريخياً، فقد قبل جميع أنماط التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي عرفتها البشرية، وانسجم معها بطريقة أو بأُخرى: قبلية، زراعة؛ مدن؛ إمبراطورية؛ عبودية؛ ميركانتيلية؛ صناعة حديثة؛ دولة قومية... إلخ. من هذا المنطلق قلت إني لا أرى ما يمنع الإسلام، من حيث المبدأ، من قول العلمانية بصفتها جزءاً من "النعم التاريخية" لعصرنا الراهن. خذ مثلاً انسجام المؤسسة الدينية الشيعية في إيران مع فكرة الجمهورية، مع أنهم كانوا ضدها في الأساس.
- ثمة عصر جديد ينبثق الآن. إنها العولمة تأتي عاصفة صاخبة، فلا تقوى أقوع القلاع والأسوار الصينية على الوقوف في وجهها. تماماً كالرأسمالية في فترة صعودها الهادر. أترى موقعاً مستقبلياً للعالم العربي في ظل هذه التغيرات المتسارعة والعنيفة؟
- لا شك في أن العولمة الرأسمالية الآن منفلتة من عقالها، كما أن عبارة الأسوار الصينية وردت في "البيان الشيوعي" في سياق مشابه جداً وبالمعنى الذي قصدته تماماً تقريباً. ألقيت مؤخراً محاضرة، في الأسبوع الثقافي الرابع لقسم الفلسفة وعلم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة دمشق، حاولت أن أجيب فيها عن السؤال التالي: ما هي العولمة؟ لن ندخل الآن في تفصيلات الموضوع باستثناء الإشارة، أولاً، إلى أن موضوع العولمة لم يفرض نفسه بهذه القوة والكثافة على انتباهنا وانتباه العالم، على العموم، إلا بعد زوال العقبة الأخيرة في وجه انفلاتها من عقالها على النحو الذي نراه الآن، أي زوال الاتحاد السوفياتي وفتح تلك المنطقة من العالم لها من دون منازع جدي أو شريك يذكر. ثانياً، التخلص من الوهم المبتذل الذي لا يرى في العولمة إلا ثورة المعلوماتية والاتصالات والمواصلات فائقة السرعة وحركة الأموال الكثيفة على سطح الكرة الأرضية، بالإضافة إلى الأقمار الصناعية والإنترنت والـ Fiber Optic وما شابه ذلك من تقدم تكنولوجي وعلمي هائل لا شك فيه. ثالثاً، محاولة لتحديد الجديد الذي تحمله العولمة وتتصف به ووضع الإصبع عليه، وخصوصاً بعد أن نتذكر الإجماع القائم - من آدم سميث إلى سمير أمين مروراً بريكاردو، وماركس، وماكس فيبر، وأندريه غوندر فرانك، وفوكوياما، وهانتينغتون، وبول سويزي - على أن نمط الإنتاج الرأسمالي نمط عالمي ودولي وتوسعي بطبيعته ومنذ نشأته. ما الجديد في العولمة إذاً؟ إن المسألة الحيوية بالنسبة إلينا هي: هل العولمة مملكة الضرورة، أم أنها نوع من القدر والمصير؟ إذا كان الجواب بالإيجاب يجب ألا يعني هذا اختزال الذين يتأثرون بالعولمة، وخصوصاً في عالم الأطراف، إلى مجرد كم منفعل لا حول له ولا قوة أمامها. العولمة ميل عام، وي داخلها توترات وتناقضات كأي حركة ضخمة تجري على مستوى العالم كله. وأعتقد أن دور أية تشكيلة من تشكيلات الأطراف لا يعتمد على العولمة وحدها، وإنما على ما تفعله هي أيضاً. في إمكاننا تحديد مواقف وسياسات وتقديم مشاريع والقيام بأعمال تبين أننا نعرف كيف نتعامل، من موقع فاعل نسبياً، مع العولمة. أرى أن جزءاً من النقلة العولمية النوعية في النظام الرأسمالي العالمي حالياً هو الانتقال من الاستثمار الرأسمالي في المواد الخام والمرافئ والمعابر والطرق والصناعات الاستخراجية إلى الإنتاج الصناعي في دولة الأطراف، أي الاستثمار في الإنتاج المباشر. هل نعرف كيف نستفيد من هذه النقلة النوعية في حياة النظام الرأسمالي العالمي؟ هذا هو السؤال؟
فلسطين...
وحدس الشاعر
- تبشرنا الدعاية الرائجة الآن بأن السلام المرتقب مع إسرائيل سيحمل معه الديمقراطية والرفاه إلى الشعوب العربية التي أنهكتها الحرب وقوانين الطوارئ. أنا أرى العكس تماماً؛ فالقمع والتشدد هما جائزتنا في المستقبل، لأن السلطات العربية التي ستوقع اتفاقات السلام ستحتاج، من أجل حماية تواقيعها، إلى البطش لتواجه غضب الناس الذين ستخيب توقعاتهم، وغضب المعارضة التي ستحاول الاستفادة من هذه الخيبة. كيف تراقب المشهد من مرصدك؟
- أعتقد أن وصفك صائب. إن دعاوى الديمقراطية والرخاء هي مجرد دعاية لأن الديمقراطية إذا كان لها أن تنشأ فستنشأ بحكم العوامل الداخلية، وحمايتها ستكون داخلية. أعرف أن الأنظمة استخدمت قضية فلسطين من أجل قمع الحريات وضرب أية تطلعات نحو الديمقراطية، لكن العكس لا يصح. غياب قضية فلسطين لا يعني حضور الديمقراطية وحضور الحريات العامة. الأنظمة غير عاجزة عن اختراع مئة عذر آخر ومئة عدو متخيل أو جدي أو ما شابه من أجل استمرارها في سياساتها. لذلك، أحسب أن حماية تواقيعها هو بد ذاته عذر من الأعذار للاستمرار في سياساتها القائمة.
ولا آتي بجديد إذا قلت إن بنيامين نتنياهو حسم مسألة القدس من حيث المبدأ، وحسم مسألة السلام. ويعمل الإسرائيليون والأميركيون على أساس الفرضية المعتادة: سيحتج العرب ويعارضون ويهبون، وقد تستمر المعارضة فترة 10 - 15 عاماً، لكنهم في النهاية سيخضعون للأمر الواقع. وعلى الأرجح هم على حق في ذلك. هناك كلام دوماً على مؤامرة وصفقة تمت مع عرفات: القدس لإسرائيل في مقابل شيء ما لعرفات. بصفقة أو بغير صفقة أعتقد أن نتنياهو حسم المسألة ولن يتخلى عن القدس. تمكن بهذا من تعبئة الناس خلفه وهو سياسي عقائدي وعلينا أن نصدقه ونحمله على محمل الجد. في الضفة الغربية نشأ وضع جنوب إفريقي بانتوستاني عماده الأوتوسترادات أو ما يسمى "الطرق الالتفافية". في الإمكان الآن القيام بجولة في الضفة الغربية كلها على طريقة جنوب إفريقيا، أي من غير أن يشاهد الزائر فلسطينياً إلا في الورشة، ومن بعيد، أو كما يقول الأميركيون البيض عن السود "لا تراهم إلا في المطبخ." في هذا الوضع المتطور يصبح الفلسطيني "غير مرئي" (Invisible)، وهذا تماماً ما يقوله البيض عن السود هناك. إنسان موجود وجود الشبح - هذا الشبح الذي لا بد من أن يلحق الأذية بشيء ما هنا أو هناك، ومن حين إلى آخر. إنه "أبارتهايد الأوتوسترادات" الذي أخذ يظهر أول مرة في العالم، كما علّق أحد السفراء الإسكندنافيين في دمشق. أعتقد أن هذا المشروع سوف يؤدي في المنظور البعيد إلى بقاء فلسطين موحّدة وفيها شعبان، وربما يكون نتنياهو يعمل على تحقيق هذا المشروع من دون أن يدري؛ وهذا نتيجة من النتائج غير المقصودة تماماً لقراراته وأفعاله.
- يعني دولة ثنائية القومية؟
- أنا لا أستبعد، في المنظور الأبعد، أن تعود فكرة يهودا ماغنس القديمة إلى الظهور، لكن على طريقة هيغل، أي عبر مكر التاريخ. أي أن تعود هذه الفكرة إلى الظهور وتفرض نفسها من حيث لا يريد نتنياهو ولا يريد عرفات؛ أن يحدث للفلسطينيين ما حدث في المناطق التي خضعت للأبارتهايد والاحتلال في جنوب إفريقيا كأن يجدوا، في النهاية، أن فرض أنفسهم كمواطنين على الدولة المحتلة هو الخط الوحيد والملائم لتحصيل الحد الأدنى من حقوقهم السياسية والمدنية والإنسانية، على العموم، ولتحقيق شيء من التقدم في وضعهم وحياتهم.
من الاطلاع على تاريخ الاستعمار الاستيطاني لاحظت وجود خطين: حيثما تمكّن الاستعمار الاستيطاني من إبادة السكان الأصليين ساد وانتهى الأمر. وحيثما لم يتمكن ارتد السكان الأصليون على الاستعمار الاستيطاني بصورة أو بأُخرى ونشأ شيء جديد هو مزيج لا نعرف تماماً كيف هو وما هو. الجزائر نموذج، وزمبابوي نموذج آخر، وجنوب إفريقيا نموذج ثالث؛ وقد تتطور فلسطين الموحدة إلى نموذج رابع. لذا لا أستبعد في المستقبل نشوء حركة فلسطينية مطلبية مدنية تطالب بالحقوق السياسية والمدنية والمواطنية في شيء ما هو إسرائيل - فلسطين أو العكس. شيء ما على طريقة مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة، وكنضال نلسون مانديلا الذي لم يطالب في يوم من الأيام بتقسيم البلاد أو بالانفصال. العنصريون المتطرفون وحدهم نادوا بدولة مستقلة لهم تنفصل عن المجتمع الأسود في جنوب إفريقيا. أضف إلى ذلك أن حركة مطلبية مدنية مكافحة من هذا النوع ستحظى بتأييد واسع جداً حكومياً وشعبياً في كل أنحاء العالم. طبعاً، الأبعد نظراً من نتنياهو وجماعة الليكود يتخوفون من مستقبل كهذا. كذلك أمثال آبا إيبن ويهوشفاط هركابي. عزمي بشارة، مثلاً، يطرح مثل هذه الأفكار الآن وقبله عرض سري نسيبه مثل هذا الرأي. أنا أرى أن التوجه التاريخي للقضية قد يسير جدياً في هذا الخط، على الرغم من كل الإرادات.
- لكن هذه النتيجة هي لمصلحة الفلسطينيين في المنظور البعيد.
- نعم. ربما هي لمصلحتهم في غياب أية خيارات أُخرى. كان الأفضل لو صار للفلسطينيين دولة مستقلة. لكنني أعتبر أن خيار الدولة أصبح خارج الاحتمال التاريخي الجدّي الآن، ولا سيما بعد أن حسم نتنياهو موضوع القدس. طبعاً، أنت تعرف أنني منذ طرح فكرة الدولة الفلسطينية كنت أعتقد وأناقش أن احتمالات تحقيقها في ظل الأوضاع السائدة فلسطينياً وعربياً هي أضعف من ضعيفة. منذ البداية، كان الشعار تعبيراً عن ضعف وهزال لا عن قوة وحيوية وتجدد. سأخبرك عن الحادثة التالية: كنا في كاليفورنيا، أنا وفوز، وحضرنا محاضرة عامة لآبا إيبن في الجامعة هناك. كان الدبلوماسي العتيق، وهو صاحب بيان ساحر في عدة لغات، يحاول أن يشرح لليهود الأميركيين ومخاطر إسرائيل الكبرى بمعنى ضم الضفة الغربية وغزة. استخدم آبا إيبن المثال التالي في الشرح؛ قال: كان في القرن التاسع عشر شيء اسمه جبل لبنان، وفيه أقلية مسيحية كان من الممكن أن تتطور إلى كيان مسيحي ما متحضّر ومتقدم في المنطقة، لكن الفرنسيين خلقوا لبنان الكبير سنة 1920 بضم هذا الرهط من الشيعة والسنّة إلى الجبل. انظروا إلى ما جرى هناك الآن؛ إذ ابتلع الأكثر تأخراً وتخلفاً لبنان وراحت على المسيحيين الأكثر رقياً وتقدماً وانفتاحاً. أمّا الدرس الذي أراد إيبن إيصاله فهو واضح تماماً. إذا ضمت إسرائيل هؤلاء "البرابرة" الفلسطينيين "سيكون مصيرنا كمصير لبنان." قالها بهذا الوضوح، لكن من غير استخدام كلمة "البرابرة". الحل عنده هو السماح للفلسطينيين بإقامة دولتهم المنزوعة السلاح والمحدودة السيادة، لأن هوية إسرائيل الحضارية ودورها المتقدم أهم من التوسّع. أي، ألا يكفي إدخال اليمني والحبشي والعراقي والهندي والأوكراني الذين ارتبكت إسرائيل في هضمهم؟ أتريدون أن تدخلوا علينا الفلسطينيين أيضاً؟ في كتاب يهوشفاط هركابي "لحظة إسرائيل المصيرية" نجد الأفكار والتحليلات نفسها والطروحات ذاتها. كان هركابي رئيساً للاستخبارات العسكرية، وانتقل، مثل عيزر وايزمن الذي كان قائداً لسلاح الجو، من معسكر الصقور إلى معسكر الحمائم كما يقولون عندهم، ليس حباً بالعرب ولا الفلسطينيين، كما كان يصرح من دون غموض، إنما حرصاً على دولة إسرائيل وبقائها ممثلة لكل ما هو حضاري ومتقدم في المنطقة. إن دخول المحليين والشرق الأوسطيين عليها سيخربها في نظرهم. طبعاً، الليكود سائر في الخط المعاكس، ونتنياهو بصورة خاصة. قرأت مؤخراً مقالاً طويلاً للكاتب الإسرائيلي المرموق عاموس إيلون (وهو قريب سياسياً من بيرس)، في New York Review of Books، عنوانه "إسرائيل ونهاية الصهيونية". ويقصد كاتبه أن الحركة الصهيونية حققت أهدافها المعلنة الكبرى كلها بجدارة مشهودة وألمعية ظاهرة؛ وبهذا المعنى تكون قد "انتهت" كمشروع وكأيديولوجيا - أي انتهت إلى ما أرادت، وخصوصاً بعد اتفاقات أوسلو وانتهاء حرب المئة عام مع العرب، على حد قوله. لذا يهاجم إيلون نتنياهو وتكتل الليكود الحاكم لأنهما على وشك إفساد هذا النجاح الهائل بإصرارهما على المزيد من الاستيطان والأرض وضم الجولان وقمع الفلسطينيين والتنكيل بهم وإخضاعهم. في الواقع، يتهم إيلون هذه المجموعة الحاكمة الآن صراحة بالعمل على حصر الفلسطينيين في عدد محدود من "البانتوستانات" والمدن الصغيرة (Townships) المعزول بعضها عن بعض وعلى مساحة لا تتجاوز العشرة في المئة من الأراضي المحتلة، على أن تطوقها المستعمرات من الجهات جميعاً. وسيؤدي هذا الوضع، وفقاً لتعابير الكاتب، إلى تدهور الديمقراطية الإسرائيلية، إلى الأبارتهايد للفلسطينيين من ناحية وإلى ديمقراطية إسرائيلية جنوب إفريقية سابقة على طريقة نلسون مانديلا من ناحية أُخرى. يكتب موشيه ماعوز في الصحافة الأميركية ليقول الشيء نفسه تقريباً، مستخدماً تعابير أكثر تهذيباً مثل "كانتونات" و"جيوب" يجري حصر الفلسطينيين فيها وحبسهم داخلها.
- لكن مفكري الليكود يحاولون تجنب هذه النتيجة.
- طبعاً، يعتقدون أنهم عن طريق القمع والضبط سينجحون في منع حدوث الأسوأ. ألقت ياعيل دايان محاضرة في أحد الأندية بالقرب من برنستون في الولايات المتحدة، ضربت فيها مثالاً ما حدث في الاتحاد السوفياتي لإقناع اليهود هناك بوجهة نظرها. قالت إن كل جبروت الدولة السوفياتية وسلطتها وسطوتها لم تستطع ضبط موضوع الإثنيات والقوميات والأقليات وترتيبها على الدوام "على كِيف المركز". بعبارة أُخرى، ما تقوله ياعيل دايان لليهود الأميركيين هو أنه إذا كان هناك حدود لما يمكن أن تفعله الدولة السوفياتية في عزها على هذا الصعيد، فإن هناك بالتأكيد حدوداً أيضاً لما يمكن أن تفعله إسرائيل على صعيد ضبط الفلسطينيين والسيطرة عليهم... إلخ. طبعاً، ثمة اقتناع لدى كبار الأمنيين في الليكود بأنهم يستطيعون الاستمرار في الاستيلاء على الأراضي وحكم السكان من دون أن يصلوا إلى هذه النتائج. بينما هناك آخرون يعتقدون أن هذا متعذر ويتخوفون من ذلك كثيراً، وأنا من رأيهم، لأن الأسوأ سيقع، على ما يبدو لي؛ أي الأبارتهايد.
- هل تعتقد أن السلام ربما يؤدي إلى متغيّرات أساسية في بنية الكيان الإسرائيلي وفي الصهيونية نفسها باعتبارها فكراً سياسياً وأيديولوجياً زائفاً يدّعي تحرير اليهود؟
- أولاً أعترض على القول إن الصهيونية فكر سياسي وأيديولوجي زائف. هي فكر سياسي وأيديولوجي استعماري استيطاني، لكنه ليس زائفاً على الإطلاق. الحركة الصهيونية من الحركات التي نشأت في نهاية القرن الماضي وكانت حركة ناجحة جداً وفعلت كل ما فعلته ولا يمكن وصف فكرها بالزائف، أو على طريقة روجيه غارودي الذي تحدث عن "الأساطير المؤسِّسة لإسرائيل". إن حركة نجحت في تأسيس دولة من هذا النوع لا تؤسس على الأساطير. نحن الذين حملنا الأساطير الأكثر خطورة، عن أنفسنا وعن اليهود والصهيونيين وفلسطين وما إليه. هم حملوا الأساطير أيضاً، مثل كل البشر، لكنهم حملوا أيضاً حساً بالواقع وبالقوى السياسية والتوازنات الدولية أفضل كثيراً منّا وبما يكفي لتوظيف الأساطير في إنجاز ما أنجزوه.
أمّا بالنسبة إلى تأثير السلام إذا حل، وهو يبدو مستبعداً الآن، في تركيب إسرائيل الداخلي فليس عندي أي شيء مهم أقوله لأني لا أتابع الوضع الإسرائيلي الداخلي، ولا أعرف ما يكفي عنه حتى أتمكن من تقديم التوقعات والترجيحات وما إلى ذلك. ألاحظ ميلاً عاماً مستمراً، على الرغم من كل شيء، في اتجاه تحول المجتمع الإسرائيلي أكثر فأكثر إلى مجتمع شرق أوسطي شبه محلي، وتراجعاً بطيئاً إلى هذا الحد أو ذاك لطابع البلد الأوروبي الزائد. في إسرائيل شرائح واتجاهات وميول ترحب بهذا التطور وتريد للبلد أن يصبح أكثر متوسطية وأكثر شرق أوسطية، أو أن يشعر بأنه جزء من المنطقة. هناك شرائح واتجاهات تنزعج جداً من هذا الميل وترفضه وتحاربه. لا أعرف أي اتجاه سيعززه حلول السلام في المستقبل، يتوقف ذلك كثيراً على نوع السلام الذي سيحدث: هل هو سلام القبور، أم سلام العبيد، أم سلام الأسياد، أم سلام الشجعان؟
كلمة أخيرة بشأن الموضوع الفلسطيني: أثبتت الأحداث أن حدس الشاعر والفنان كثيراً ما يكون أصدق من التحليلات كلها، وأفضل من التنظيرات جميعها. لذا أعتقد أن الوقت حان لتذكير قيادات الشعب الفلسطيني الحالية، بيمينها ويسارها ووسطها وداخلها وخارجها ومسلَّحها ومفاوضها، بالأُمنية الشعبية العميقة والصادقة التي تجرأ إبراهيم طوقان على البوح بها أمام قيادات شعبه في زمن غير بعيد نسبياً حين أنشد:
ما جَحَدنا "أفضالكم" غير أنّا |
|
لم تزل في نفوسنا أمنية |
في يدينا بقية من بلاد |
|
فاستريحوا كيلا تطير البقية |
* أُجرى الحوار في بيروت بتاريخ 26 حزيران/يونيو 1997.
[1] البلاكا هي الحي القديم في أثينا، وهو أقدم حي في أوروبا، وكان آهلاً منذ الألف الرابع قبل الميلاد. ويقع في المنطقة الشمالية الشرقية من جبل الأكروبول حيث يقف البارثينون شامخاً على قمته.
[2] بيروت: دار العودة، 1970.
[3] بيروت: دار الفارابي، 1987.
[4] شركة رياض الريس للكتب، الطبعة الأولى، 1987، والطبعة الثانية، نيقوسيا: مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية، 1994.
[5] دمشق: دار المدى، 1997.
[6] بيروت: دار الطليعة، 1969. ثم صدرت ست طبعات متلاحقة.
[7] بيروت: دار الطليعة، 1977.
[8] بيروت: دار الطليعة، 1978.
[9] بيروت: دار الطليعة، 1969.
[10] بيروت: دار العودة، 1975.
[11] "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية"، بيروت: دار العودة، 1973.
[12] أصدر الكاتب السوري محمد شحرور كتاباً بعنوان: "الكتاب والقرآن"، لاقى ضجيجاً وسجالاً، وطبع مرات عدة في دمشق وبيروت والقاهرة.