تتطرق هذه المقالة إلى العاملين الأساسيين الذين أثرا في مسألة الهوية الفلسطينية في مرحلة ما بعد أوسلو وأعادا تحديد العلاقة بين الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم وبين فلسطينيي الشتات. وهذان العاملان هما نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية والتطورات التي طرأت على حركية المجتمع المدني. فيناقش الكاتب مسألة الوعي المحلي وسياسات المنفى والهوية، ومسألة تكوين الدولة والهوية مشيراً إلى ظهور نواة للتعددية الفلسطينية على الرغم من أسلوب سياسة الاحتواء والمحسوبية الذي تتبعه القيادة الفلسطينية.
تتوخى هذه المداخلة النظر في التحول الذي طرأ على مسألة الهوية الفلسطينيةفي فترة ما بعد اتفاق أوسلو بفعل عاملين أعادا تحديد العلاقة بين الفلسطينيين الذين ظلوا في وطنهم وبين مجتمع الشتات، وهما: نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية، والتطورات التي طرأت على حركية المجتمع المدني.
مع مجازفة التبسيط الشديد يمكننا أن نرى أنه قبل أوسلو كانت صور التجزئة الفلسطينية ونماذج المنفى هي التي تسيطر على جدل الهوية الفلسطينية. أمّا بعد أوسلو فنلحظ أن النواحي القانونية للهوية (المواطنة، البعد الأردني... إلخ) والمسائل المتعلقة بالإقامة والحصول على المواطنة في ظل نظام من السيادة المشروطة بدأت تسيطر على هذا الحوار.
غير أن هذا الانقسام بين سياسات المنفى وسياسات الدولة يخفي جانباً أكثر عمقاً فيما يتعلق بالهوية الفلسطينية؛ أي مسألة الوعي المحلي من ناحية، والتوتر بين بُعد أوسلو في مقابل البعد الإقليمي في التشكل الاجتماعي الفلسطيني الجديد، من ناحية أُخرى.
الوعي المحلي
خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، أدى المجتمع المحلي في بلاد الشام - سواء منه القائم على القرية أو المدينة أو الوحدة الجغرافية الأوسع - دوراً غالباً في تحديد الولاءات الفلسطينية (والولاءات العربية الأُخرى). إذ غلبت هذه المحددات للهوية، بالإضافة إلى القرابة، على الهويات الدينية والقومية. ثم إن الخاصية المحلية تعززت بنظام الإدارة اللامركزي، والأسواق الإقليمية. وجرى التعبير عنها من خلال اللهجات المميزة المعروفة. وقد بلغت هذه الولاءات المجتمعية ذروتها في نظام "الالتزام" (جمع الريع الزراعي) عبر مشايخ النواحي في العهد العثماني.
ثم ساهمت الحداثة (التي كان من علاماتها حملة إبراهيم باشا والتنظيمات [الإدارية العثمانية] بعد انهيار الاحتلال المصري)، والسيطرة الاستعمارية البريطانية، والصهيونية، في إضعاف الهوية المحلية الفلسطينية واصطدامها بهوية قطرية (تجاوزت في الغالب حدود فلسطين الحديثة)، الأمر الذي شكل لبّ الفكر القومي الحديث في فلسطين.
إلا إن هذه الهوية القطرية ذاتها كانت مشوبة بالازدواجية وبالتناقض. ونجم هذا التناقض، في بدايات القرن الحالي، عن التحدي الذي واجهته الهوية القطرية من جانب أولئك الذين شعروا بأن ولاءهم الأساسي هي لبلاد الشام، وبأن فلسطين هي جزء من سورية الجنوبية (حزب الاستقلال)، وأيضاً - جزئياً - من جانب أنصار الملك فيصل والمؤيدين للثورة العربية وللوحدة العربية. وكان هذان التياران هما الممهدان للتيارات الناصرية والبعثية والسورية القومية التي سيطرت على التيارات السياسية الفلسطينية في الخمسينات والستينات من القرن الحالي. ومع أن في الإمكان القول إن بروز منظمة التحرير الفلسطينية أضعف هذه التيارات، فإنها ظلّت على الرغم من ذلك تساهم في الإطار الأوسع في ميدان الثقافة الحالي؛ وهنالك حالياً كثير من الجدل، على سبيل المثال، بشأن ضرورة نفخ الثقافة الفلسطينيةببعد عربي في الكتابات الأخيرة بشأن الهوية.
سياسات المنفى والهوية
لقد كان المؤشر الحاسم للهوية الفلسطينية المعاصرة هو سياسات المنفى. وترجع جذور ذلك إلى سمة اجتماعية خاصة بالتجربة الفلسطينية، وهي أن الجسم الأساسي للقيادة الفلسطينية، بالإضافة إلى المثقفين وقاعدتهم المهنية، أي جميع أولئك الذين أدوا دوراً حاسماً في تكوين الوعي الوطني الفلسطيني مستمداً من تجربة اللاجئين في حربي 1948 و1967، كانوا قد طُردوا أو جرى نفيهم أو، كما في حالات بعض المثقفين، اختاروا المنفى.
وقد طغت سياسات وشعر المنفى في هذه الفترة التكوينية، حتى أن الأحوال والتطلعات ونظرة الفلسطينيين الذين ظلوا في فلسطين (نحو نصف مجموع الفلسطينيين تقريباً) نُسيت تماماً. لقد تحولوا إلى موضوع مجرد التمجيد والبطولة. وعملياً، لم يقتصر الأمر على تهميشهم كعنصر في السياسة الفلسطينية، بل أيضاً صُنّفوا كبقايا، كجزء من شعب موقعه الحقيقي هو في الشتات. وكان هناك في اللاوعي شيء من اتهامهم بالخيانة، من حيث أنهم هم أيضاً لم ينفوا، أو اختاروا ألا يعيشوا في المنفى. كان ذلك هو ذروة الانفصام في الهوية الوطنية الفلسطينية.
وكان لا بد من حدثين حاسمين لتغيير هذه النظرة: يوم الأرض (1976) الذي أبرز تشديد الفلسطينيين في الجليل (ثم بين البدو في النقب في وقت لاحق) على هويتهم الوطنية؛ والانتفاضة سنة 1987. رسّخ الحدث الأول النضال من أجل المساواة داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي كتيار شرعي ومعترف به داخل السياسة الفلسطينية، وأدخل، أكثر من أي وقت آخر، إلى الوعي الوطني الفلسطيني، ككل، آمال وتطلعات الفلسطينيين في إسرائيل. أمّا الانتفاضة، من ناحية أُخرى، فصححت انعدام التوازن في هيمنة منظمة التحرير الفلسطينية على "قوى الداخل".
الداخل/الخارج
كانت الانتفاضة نفسها ذروة عملية أدركت، من خلالها، منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها حاملة مشعل الشتات، بعد أعوام من التطويق العربي والسيطرة الإسرائيلية العسكرية، أن عليها أن تعيد ترسيخ نفسها في الإرادة السياسية الناشئة في الوطن الفلسطيني. وقد نُظر إلى هذا التحول، بصورة رسمية، باعتباره انحرافاً عن استراتيجيا التحرير، وتوجهاً نحو تبني استراتيجيا تسعى للاستقلال. ومثل هذا التحول لم يتطلب فقط تبني سياسة براغماتية جديدة قائمة على التوصل إلى حل وسط يرتكز على تقاسم الأرض وعلى حوار مع العدو، بل شكّل أيضاً انفصالاً راديكالياً عن التراث الأيديولوجي للمنظمة.
تمحور هذا التراث حول فكرة الخلاص عبر العودة، باعتبارها أساس الاستراتيجيات السياسية الفلسطينية جميعاً. ثم تضخمت نحو صوغ رؤية حنينية إلى الماضي سعى الشعب الفلسطيني المجزأ لاستعادتها. وكانت أداته لذلك مزيجاً من التعبئة الجماهيرية العامة، والكفاح المسلح، وربط المجموعات المنفية بعضها ببعض عبر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت القاعدة الاجتماعية لهذه السياسة هي، في الأساس، مخيمات اللاجئين في البلدان العربية المضيفة، وأصحاب المشاريع الاقتصادية، والمهنيون العاملون بأجر في بلدان الخليج والأردن.
وخلافاً لذلك، كان التحول في الثمانينات نحو استراتيجيا إقليمية في اتجاه إرساء السياسة الفلسطينية على قاعدة المجتمعات المستقرة نسبياً (والمحافظة أيضاً) في الضفة الغربية وغزة. ولئن كانت هذه المجتمعات تضم كماً كبيراً من اللاجئين، فإنها كانت، إلى حد كبير، تشكل استمرارية تاريخية للمجتمع الريفي في المرتفعات الجبلية الفلسطينية ولنخبهم المحلية.
غير أن هذه المجتمعات المستقرة لم تشكل مجتمعاً قومياً. لقد كانت تتميز بدرجة عالية من الوعي القومي، وبدأت بصورة متزايدة - منذ السبعينات - تعبّر عن تطلعاتها السياسية داخل إطار منظمة التحرير الفلسطينية. لكن قيادتها، خلافاً لـ "القوى الخارجية" في المنفى، بقيت في أيدي النخب المحلية في الضفة والقطاع، والتي استمدت قوتها وثروتها وهيبتها من شبكة موسعة من علاقات القرابة والنسب، المتجذرة بصورة مميزة في نابلس والخليل والقدس وبيت لحم.
تكوين الدولة والهوية
لم يكن استلام السلطة الوطنية الفلسطينية صلاحيات السلطة بعد اتفاقية القاهرة (1994) بداية عملية تكوين الدولة فحسب، بل أيضاً دمجاً لتلك النخب السياسية والتجمعات الاجتماعية، في المناطق المختلفة، في إطار تشكيل قومي جديد أُعيد بناؤه. وهكذا أنجزت منظمة التحرير الفلسطينية، عبر كوادرها وبيروقراطيتها في الشتات التي انتقلت إلى "الداخل"، دوراً صاهراً للمجتمعات المجزأة في الضفة الغربية وغزّة، وهو أمر لم تستطع الحركة الوطنية أن تفعله خلال 29 عاماً من الحكم الإسرائيلي. وبما أن هذه العملية لا تزال في حالة الصيرورة، فإننا نعجز في الوضع الحالي عن تمييز الأمور بوضوح. وفي الحوار القائم حالياًَ بشأن دور العائدين فيما يتعلق بتوزيع المناصب والنفوذ، يشار إلى أن القوى العائلية والإقليمية ممثلة أكثر - أو أقل - مما ينبغي. ومن المؤكد أن السلطة الوطنية الفلسطينية(وعرفات) كان لا بد من أن تأخذ ثقل هذه القوى بعين الاعتبار عند إجراء توزيع مراكز القوى. وعلى أية حال، نشهد بصورة متزايدة كياناً قومياً يفرض وجوده، متجاوزاً أجزاءه التي يتألف منها بصورة متدرجة. وبسبب الطبيعة الدولانية لهذا الكيان المركب، فقد كانت الضحية الرئيسية هي قطاع الرأسمالية الخاصة لا النخب في المناطق المختلفة.
ثم أصبح هذا المنحى أشد وضوحاً في أثناء انتخابات المجلس التشريعي في كانون الثاني/يناير 1996، وبعدها. لقد بدا أن الحملة نفسها تشير إلى العودة إلى العائلية والجهوية، لكن أشكال التعبئة التي سيطرت على الحملة عكست بالنتيجة مزيجاً من الاهتمامات الوطنية والمحلية. وكانت النتيجة نصراً للانتماء الوطني العام على المحليات الضيقة. وانعكس ذلك لا في البرنامج الذي تبنته أكثرية المرشحين - وهو إنشائي في الغالب في محتواه - فحسب، بل أيضاً في خلفية المرشحين الذين فضلهم الناخبون، والذين كانوا من ذوي التاريخ النضالي الحزبي، أو من العائدين من الشتات أو المنفى ويفتقرون إلى قاعدة اجتماعية محلية.
الانقسام الجديد
على الرغم من الهيمنة الحالية لـ "العائدين" على السياسة الفلسطينية، فإنني أرى أن الانقسام الذي كان سائداً في السياسة الفلسطينية بين قوى "الخارج والداخل" حتى فترة قريبة قد تمّ تجاوزه بفضل الدور السياسي/البيروقراطي للسلطة الوطنية الفلسطينية. وبمقدار ما يوجد من انقسام حالياً فإنه يعكس مطالبة بالنفوذ والمغانم من جانب أقلية لا تزال سياستها وخلفيتها الاجتماعية وميولها الأيديولوجية متماثلة، في الأساس، مع المجتمع "الأصلي". ولا يجد المرء أي فارق يذكر إلا في مسائل الثقافة الاجتماعية، إذ إن سلوك "العائدين" ينم عن خلفية (متجذرة في تجربتهم في المنفى) أكثر حضرية، وعلمانية، واغتراباً عن المجتمع. إن هذه الجماعة المزروعة في الموطن الجديد لا تزال تبحث عن مفاصلها.
إن التعددية الفلسطينية، كشكل سياسي، مبالغ فيها إلى حد كبير، لكنها مع ذلك موجودة فعلاً، أو لنقل إن لها نواة حقيقية. فهي متجذرة في تعدد التجربة السياسية في المنفى، وفي تنوع أشكال المقاومة للحكم الإسرائيلي؛ وهي في الشتات العربي قائمة على ما يعادل التكافؤ في الصراع الأيديولوجي بين التيارات الفكرية الوطنية واليسارية (أو ما كان يسارياً)؛ وهي في فلسطين، وفي المجتمع العربي في الداخل أيضاً، قائمة على التعايش الطوعي بين الاتجاهات السياسية الإسلامية والقومية. والعامل المهم الذي يساهم في استمرار هذه التعددية هو أسلوب القيادة الذي فضل، حتى الآن، سياسة الاحتواء والمحسوبية على سياسة المواجهة وسيطرة الحزب الواحد. على أننا نشهد في الوقت الحاضر انحرافاً كبيراً عن هذا التقليد، وفيه تخوض مؤسسات المجتمع المدني والتجمعات المتعددة، التي نشأت خلال عقود من الاحتلال، معركة جديدة في سبيل الدفاع عن بدايات المعارضة الديمقراطية حيال سلطة الدولة الناشئة.
خاتمة: المجتمع المدني ونهاية "الجنينية"
في أثناء الثمانينات، كانت الاستراتيجيا التي سادت أوساط الأطر الفلسطينية الجماهيرية استراتيجيا "جنينية". وهذا هو المصطلح الذي يشير إلى رؤى عدد من مجموعات المقاومة أن مهمة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة هي، حيال احتمال بقاء الاحتلال الإسرائيلي مدة طويلة، إنشاء أجهزة سلطة بديلة على المستوى المؤسساتي (من بلديات وجامعات ومدارس، إلخ) وتأمين الخدمات في ميادين الصحة، والدعم التنموي، والعناية اليومية، إلخ. ومن شأن هذه المؤسسات والخدمات، من الناحية السياسية، أن تصب في النهاية في هدف إنشاء أجهزة سلطة بديلة من جهاز الدولة الاحتلالي. وحين تحين اللحظة التاريخية تقوم هذه المؤسسات "الجنينية" بدور الدولة البديلة الناشئة. كان التوقع هو أن أية دولة فلسطينية مقبلة لا بد من أن تؤسس قاعدة سلطتها على أسس هذه الأجهزة الناشئة، غير أن النظام الذي برز مع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية أثبت كم كانت هذه الاستراتيجيا مخطئة في توقعاتها. ففي مستوى معين، كانت طبيعة مؤسسات المجتمع المدني هذه موجهة لتنظيم مقاومة الاحتلال والتعبئة ضده أكثر مما هي موجهة لإنشاء مؤسسات سلطة وطنية بديلة. على أن "فشلها" يعود، في الأساس، إلى اختيار منظمة التحرير الفلسطينية عن عمد ترسيخ سلطتها على التحالف مع النخب الاجتماعية المحلية وكوادر منظمة التحرير الفلسطينية العائدة، واستثناء هذه التيارات الجذرية. إن مؤسسات الدولة الناشئة في فلسطين تبدو أشد شبهاً اليوم بأنظمة الدول العربية المجاورة منها بمؤسسات مجتمع مدني نشأ في أثناء أعوام المقاومة. وأي مستقبل لما تبقى من المنظمات الجماهيرية، التي لا تزال ناشطة حالياً، يقع في البحث عن إنشاء قوة معارضة تركز على الديمقراطية والحقوق المدنية والتعددية السياسية. والميدان الطبيعي لهذه المعركة هو المجلس التشريعي والمجلس البلدي والهيئات غير البرلمانية، كالأحزاب والصحافة والإعلام.