يتناول المقال خلفية العلاقة بين المتدينين والعلمانيين في "إسرائيل"، وقضايا الخلاف والاتفاق بين الطرفين. ويخلص إلى أن العلاقة بين المجموعتين ستظل، على الأرجح، كما كانت دائماً: انقسام في إطار "الهوية المشتركة". ويلحق بالمقال ثلاثة نصوص مختارة ومنقولة عن العبرية: آراء في المسألة لأكاديمين وحاخامين وكتّاب، ومقال عن "ثقافة التقاطب" بين القدس وتل أبيب؛ واستطلاع للرأي بشأن احتمال نشوب حرب أهلية بين المتدينين والعلمانيين.
حدث مؤخراً ازدياد ملحوظ في وتيرة نشاط الحركات الدينية في "إسرائيل"، ولا سيما منها الحركة الحريدية (أي المتزمتة، أو الأصولية). وتمثّل هذا النشاط، فيما تمثل، في: إغلاق الشوارع أيام السبت والأعياد الدينية، وخصوصاً شارع بار ـ إيان في القدس الغربية؛ ازدياد أعداد الطلبة في مؤسسات "التائبين" و "الييشِفوت" (مدارس التوراة والدراسات التلمودية)؛ إقامة مهرجان حاشد في تل أبيب، العلمانية، صرح فيه منظموه "أننا نقلنا الحرب إلى أرض العدو."
وأثارت هذه التطورات جدلاً علنياً واسعاً تحدث عن "انقلاب حريدي"، وعن إمكان نشوب "حرب أهلية" على قاعدة الشرخ الديني، وعن مغادرة العلمانيين القدس، وعن خطر تحول هذه المدينة إلى مدينة للحريديين والعرب في المستقبل غير البعيد. وتم، بطلب من محكمة العدل العليا، تأليف لجنة خاصة لدراسة العلاقة بين المتدينين والعلمانيين، لكن اللجنة انتهت إلى الفشل في "تربيع الدائرة"، على حد تعبير رئيسها.
يتضمن هذا المقال نظرة عامة إلى خلفية العلاقة بين الطرفين، وواقعها المتوتر في تجلياته الجديدة. كما يشتمل على نصوص متنوعة مترجمة عن الصحافة العبرية، تلقي مزيداً من الضوء على هذا الموضوع القديم/الجديد.
نظرة عامة
الخلفية
تجسد المواجهة بين المتدينين والعلمانيين تطلعات منفصلة في الأطر الاجتماعية، لكنها تجسد أيضاً تطلعاً نحو الوحدة والتمأسس في إطار سياسي يدور النقاش ضمنه. والقطيعة بين الطرفين هي الأعمق والأقدم تاريخاً بين سائر حالات القطيعة في صفوف اليهود. فهي بدأت منذ أواسط القرن الثامن عشر، حين بدأ الشقاق بين اليهود الذين اختاروا الخروج من أسوار "الغيتو" إلى الثقافة الرأسمالية العلمانية الأوروبية وبين اليهود الذين اختاروا مواصلة الانغلاق خلف هذه الأسوار. وقد نشأت، ضمن هذين الخيارين، حركات عديدة ومتنوعة، تصادمت هي الأُخرى فيما بينها. ولم يكن الخلاف يدور بشأن الهوية المشتركة، بل بشأن مكوِّنات تحديد هذه الهوية. وسعى شتى التيارات داخل الحركة الصهيونية لجَسر الهوة بين جميع الاتجاهات، ذلك بأن الصهيونية ـ وإن كانت تمثل أقلية بين اليهود ـ اعتبرت نفسها تمثل اليهود أجمعين.
على هذه الخلفية، نشأ ما يعرف بِـ "الستاتيكو" ("الوضع القائم")، الذي يجمع بين وجود المؤسسات اليهودية والحفاظ في إطارها على الفرائض التي لا يجوز انتهاكها، وبين عدم التدخل في نمط الحياة الشخصية للأفراد وفي نمطي الحياة والتعليم اللذين يطبقهما كل "قطاع" في الإطار التنظيمي الخاص به. كما تبلور بين الطرفين اتفاق على عدم وضع دستور للدولة، والاستعاضة عنه بعدد من "القوانين الأساسية". لكن الاتفاق على "الستاتيكو" لم يوقف سعي مختلف الحركات لتجسيد معتقداتها بصورة كاملة. ومع مرور الزمن، برز في صفوف المتدينين اتجاهان متقاطعان يعزز كل منهما الآخر: الاتجاه إلى الانفصال على المستوى الاجتماعي (ضواح وتجمعات سكنية ومؤسسات تعليمية وأنشطة ثقافية ـ كلها منفصلة)، والاتجاه، في الوقت نفسه، إلى تولي دور قيادي على المستوى السياسي العام من أجل التأثير في المجتمع العلماني بواسطة القيم الدينية.[1]
ويرى بعض المحللين الإسرائيليين أن حرب حزيران/يونيو 1967، بنتائجها المعروفة، كانت معلماً بارزاً في تعاظم قوة المتدينين، على قاعدة التمسك بـ "أرض إسرائيل" الكاملة. لكن لواء الرأي السائد ينعقد على اعتبار الثمانينات الفترة التي برزت فيها هذه القوة، وبصورة ملموسة. ففي الشارع، بدأ الحريديون منذ أواسط تلك الفترة يشنون "المناوشات"، في محاولة لفرض معتقداتهم على الجميع. وكان عنوان هذه المحاولة نزع اللوحات الإعلانية الخلاعية أو طمسها بالألوان أو تحطيمها. وفي النصف الثاني من سنة 1996، كان الحريديون بلغوا من القوة ما يمكنهم من شن ما يشبه "حرب شوارع"، تمثلت في الإغلاقات المتكررة للشوارع (ولا سيما شارع بار ـ إيلان) أيام السبت والأعياد الدينية. وأكثر من ذلك، فإنهم حاولوا نقل "المعركة" إلى مدينة تل أبيب العلمانية.
من جهة أُخرى، كانت انتخابات الكنيست الحادي عشر قد أسفرت عن فوز قائمة شاس، الحريدية الجديدة لليهود الشرقيين، بأربعة مقاعد. وأنبأت تلك الانتخابات بإعادة تشكيل الخريطة الحزبية الإسرائيلية على نحو تحتل الأحزاب الدينية فيه مساحة متزايدة الاتساع. وفي الانتخابات التالية، سنة 1988، أصبحت هذه الأحزاب، حقاً، بمثابة "بيضة القبان"؛ إذ إنها حصلت مجتمعة على 18 مقعداً. وارتفع تمثيل القوائم الدينية في الكنيست إلى أن حصدت، في انتخابات سنة 1996، ما مجموعه 23 مقعداً، تتوزع كالآتي: 10 مقاعد لشاس؛ 9 مقاعد للحزب الديني القومي (المفدال)؛ 4 مقاعد ليهدوت هتوراه.
بعد هذا العرض المقتضب لجذور الصراع العلماني ـ الديني، ولصعود القوى الدينية اليهودية، ولا سيما الحريدية منها، في مجتمع ذي أكثرية علمانية، ننتقل إلى تناول أبرز قضايا وأشكال المواجهة بين الطرفين.
الصراع بشأن طابع الدولة
إن الخلاف في الموقف من الدين في "إسرائيل" خلاف مركب ومعقد ومتنوع، ولا يمكن اختزاله بالتقسيم الدارج للإسرائيليين إلى متدينين وعلمانيين. ومن أجل فهم أفضل لهذا الخلاف، لا بد من أخذ الوقائع التالية في الاعتبار:
1ـ يمكن تقسيم الجمهور الإسرائيلي، بناء على تعريفه لنفسه، إلى أربع مجموعات، بحسب ما جاء في استطلاع خاص للرأي أجراه معهد "داحف". وجاءت نتائج هذا الاستطلاع على النحو الآتي: 52% يعتبرون أنفسهم علمانيين، و31% محافظين على التقاليد الدينية، و10% متدينين، و7% حريديين.[2]
2ـ ينقسم جمهور العلمانيين نفسه، على الصعيد السياسي ـ الاجتماعي، انقساماً واضحاً؛ إذ نجد أن ولاء هذا الجمهور يتوزع على حزب ميرتس، المدافع عن إقامة دولة فلسطينية وعن العلاقات الجنسية الشاذة (بين المتماثلين أو المتماثلات جنسياً)، مروراً بحزب تسومت المتآلف مع الليكود (بل بالليكود نفسه)، وحتى المفدال، الحزب الديني الذي نال في الانتخابات الأخيرة 50 ألفاً من أصوات العلمانيين.
3ـ ينقسم المتدينون أنفسهم انقساماً عميقاً، بناء على أكثر من تصنيف. فهم يتوزعون أيديولوجياً بين "حريديين" متزمتين، و"محافظين" على التقاليد، ومجرد "متدينين" وإصلاحيين. وأمّا من الناحية العرقية، فيمكن تمييز أربع مجموعات بينهم على الأقل. فقد توصلت دراسة أُجريت مؤخراً على الأشكناز والسفارديم والإثيوبيين القدامى والمهاجرين الجدد من الإثيوبيين، إلى "أن علاقة القربى والجوار الجغرافي في بلد المنشأ أوثق من علاقة التشابه في التعبير الديني."[3] أمّا التمثيل السياسي للأحزاب الدينية في الكنيست، فإنه يتوزع حالياً على المفدال (الصهيوني الديني)، وشاس (الحريدي الشرقي اللاصهيوني)، ويهدوت هتوراه (الحريدي الأشكنازي اللاصهيوني).
وهكذا، فبدلاً من الصورة التبسيطية للنزاع الديني ـ العلماني، نجد صورة بالغة التعقيد والتداخل. كما نجد، حقاً، أن ثمة "على القوس الممتد بين الحريدية الخالصة والعلمانية الخالصة، ألواناً وتداخلات ألوان لا حصر لها."[4] لكننا وقد أوضحنا هذا الأمر، يمكننا العودة إلى تركيز الضوء على اللونين الرئيسيين من ألوان الطيف الديني ـ العلماني.
يدور الخلاف بين المتدينين والعلمانيين اليهود، في جوهره، بشأن طابع الدولة: أتكون دولة قوانين وضعية أم دولة الشريعة اليهودية ("الهالاخاه")؟ ويتناول هذا الخلاف، فيما يتناول: قانون العودة/من هو اليهودي؛ قوانين الأحوال الشخصية (الزواج، الدفن، الإجهاض، التهوّد...)؛ قانون الآثار؛ صلاحيات محكمة العدل العليا: "الكشيروت" (الأطعمة المحللة دينياً)؛ إعفاء الفتيات وخريجي "الييشِفوت" من الخدمة العسكرية؛ حرمة أيام السبت والأعياد الدينية؛ نوعية التعليم (ديني أم علماني)، وما إلى ذلك.
وتتجلى القطيعة بين الطرفين على مستوى مختلف القطاعات السكانية، كما يتضح من مجموعة أبحاث نشرتها جامعة بار ـ إيلان منذ سنة 1990،[5] أي قبل احتدام الصراع في الآونة الأخيرة:
ـ على مستوى الضاحية المختلطة: "يرافق السكن معاً مادياً حياة اجتماعية تكاد تكون منفصلة. ويلتقي المتدينون والعلمانيون بعضهم بعضاً في العمل وخدمة الاحتياط والمجمّع التجاري، لكن قليلاً ما يلتقون في المنزل."[6]
ـ على مستوى الشبيبة: توصل أحد الأبحاث إلى "نتيجة بارزة جداً هي عدم رغبة... الشباب العلماني والشباب المتدين في التزاوج فيما بينهما." فقد تراوحت نسبة الذين يريدون هذه العلاقات بين 1% (لدى الشباب الكيبوتسي المتدين) و5% (لدى الشباب المديني العلماني).[7]
ـ على مستوى الجيش: لا مشكلة تعترض خدمة الجندي المتدين. والجيش يوفر "فرصة ممتازة، تكاد تكون وحيدة، للقاء بين المتدينين والعلمانيين"، "ومع ذلك... لا ننفي حقيقة أن الأمر يتعلق بمجموعتين، تختلف إحداهما عن الأُخرى."[8]
ـ على المستوى العام: يختار المرء الصداقات، أساساً، من بين مجموعة المتدينين أو العلمانيين التي ينتمي إليها، في حين يكاد يكون الاختيار من خارجها معدوماً. وهذا الأمر يبرز في أوساط العلمانيين بصورة خاصة.[9]
وإلى هذه القطيعة، يحتدم الجدل بين الطرفين في مناسبة أو أُخرى، بشأن جانب أو آخر من موضوعات الخلاف المذكورة أعلاه، ثم تخف حدته في انتظار مناسبة جديدة. فقد تكرر الخلاف فيما يتعلق بقانون العودة، مثلاً، أكثر من مرة، كان من أبرزها عرض هذا القانون على الكنيست في الثمانينات. أمّا مؤخراً، فقد انفجرت قضية شارع بار ـ إيلان التي لمحنا إليها. كما أن عرض مشروع الميزانية الجديدة على الكنيست كان مناسبة لاحتدام الجدل في شأن مخصصات المدارس الدينية، ومسألة إعفاء طلبة هذه المدارس من الخدمة العسكرية.
في هذه المناسبة الأخيرة، كشفت حمأة النقاش العلني أمرين مترابطين: تصاعد قوة الأقلية الدينية/الحريدية وازدياد مخاوف الأكثرية العلمانية. فقد ارتفع عدد طلبة المدارس الحريدية من نحو 21.700 طالب في أيار/مايو 1992 إلى 37.200 طالب في أواخر سنة 1996، أي بزيادة 71% في أقل من خمسة أعوام. وارتفع هذا العدد في النصف الثاني فقط من السنة الأخيرة بنحو 5 آلاف طالب، أي ما نسبته 16%. كما ازداد عدد الطلبة في مؤسسات "التائبين" بنسبة 56.5% في الأعوام الخمسة الأخيرة (بلغت الزيادة في عدد البنات 103%)، وبنسبة 28% خلال الشهور الستة الأخيرة من سنة 1996.[10] وبحسب وثيقة أعدها "مركز التعددية اليهودية"، التابع لـ "حركة اليهودية التقدمية" الإصلاحية، فإن مخصصات الميزانية المرصودة للشؤون الدينية ارتفعت من 1.7 مليار شيكل سنة 1991 إلى 5.25 مليارات شيكل لسنة 1997، أي بزيادة نسبتها 71% خلال ستة أعوام.[11]
وفي المناسبة ذاتها، خصصت الصحافة العبرية، ولا سيما "هآرتس" الليبرالية المستقلة، حيزاً واسعاً من صفحاتها لكشف مدى النفوذ الذي بلغه الحريديون في أكثر من مجال: المؤسسات الموازية البديلة التي أقاموها في تجمعاتهم السكنية في بِنِي براك والقدس ومستوطنتي كريات سيفر وبيتار، من "ميليشيات" و "محاكم" و "عشرات المنظمات الخيرية" ومستشفيات ومؤسسات تمريض "على مستوى خمسة نجوم" ... إلخ؛[12] الصحف الحريدية المتعددة بفعل رواجها من دون سواها بين الحريديين؛[13] وصول الحريديين، في سياق مواجهتهم الثقافية مع العلمانيين، إلى محاولة كتابة تاريخ خاص بهم يسبقون فيه الحركة الصهيونية في كل شيء (من محاولة استيطان فلسطين، حتى "مؤتمر" عقدوه سنة 1806، أي قبل مؤتمر بازل بنحو 90 عاماً!).[14]
ومع ذلك كله، يظل الصراع من أجل السيطرة على القدس المظهر الأبرز بين مظاهر المواجهة بين العلمانيين والمتدينين في "إسرائيل".
المعركة بشأن القدس وبدء التربص بتل أبيب
تدور في القدس الغربية منذ صيف سنة 1996 "معركة" بين المتدينين والعلمانيين، يمكن اعتبار اسمها الرمزي شارع بار ـ إيلان، في حين أن هدفها الفعلي حسم السيطرة على المدينة لمصلحة أحد الطرفين. ولئن كان الحريديون هم الذين شنوا معركة مبادأة، فإن تطورات المواجهة اللاحقة أدت إلى استنفار قطاعات سكانية مختلفة، متدينة وعلمانية، من داخل المدينة وخارجها، وزجها طاقاتها في الصراع المكشوف والمفتوح حتى الآن.
كان من تجسيدات هذا الصراع المواجهة التي حدثت في 12 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بين الحريديين و77 امرأة ينتمين إلى مجموعة "نَشوت هكوتِل" ("نساء الحائط")، وحولت باحة حائط المبكى إلى "ساحة حرب". وقد نشبت المواجهة في إثر وصول النساء إلى المكان وتأدية الصلاة بصوت مرتفع، وهو ما أثار غضب المصلين الحريديين بحجة أن "صوت المرأة عورة"، فراحوا يشتمونهن ويرمونهن بالكراسي. ومن الجدير ذكره أن النزاع بين الطرفين، الذي رُفع إلى المحكمة العليا، تعود جذوره إلى اشتباك حدث بينهما سنة 1988. وقد تم عقب ذلك الاشتباك تأليف المجموعة النسوية (المعروفة أيضاً باسم "نساء أول الشهر")، التي ضمت 110 من النساء، 108 منهن أميركيات الأصل. وأثارت المواجهة الأخيرة ردات فعل متناقضة لدى بعض الوزراء وأعضاء الكنيست.[15]
وفي تطور آخر، رفع خريجو المدرسة الثانوية العبرية في القدس عريضة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، يناشدونه فيها "إنقاذ القدس من تحولها إلى حريدية." وقد رفع هذه العريضة اليساريون واليمينيون من رفاق يوني نتنياهو (شقيق رئيس الحكومة، وكان قد قُتل في عملية عِنتيبي سنة 1976) بعد أن اتضح أن 89 خريجاً فقط، من مجموع الخريجين البالغ عددهم 210، لا يزالون يعيشون في القدس، وأن الآخرين غادروها إلى أماكن أُخرى.[16]
لكن التجسيد الأهم للصراع الدائر بين المتدينين والعلمانيين منذ عدة شهور هو، ربما، المواجهة التي لمّا تكتمل فصولاً بشأن إغلاق/فتح شارع بار ـ إيلان في القدس. فبعد أن تكررت محاولات الحريديين إغلاق الشارع بأنفسهم في أيام السبت والأعياد الدينية، تم، بطلب من المحكمة العليا، تأليف لجنة لفض النزاع بين الطرفين عُرفت باسم "لجنة تسميرت"، نسبة إلى رئيسها تسفي تسميرت. وعين وزير المواصلات الإسرائيلي يتسحاق ليفي أعضاء اللجنة، التي ضمت، بالإضافة إلى رئيسها العلماني، كلاً من: البروفيسورة غاليا غولان والبروفيسور أليعيزر شفايد وإلياهو حسون (من العلمانيين)، والبروفيسور دانئيل شفربر والحاخامين تسفي فينمان وشموئيل يعقوبوفيتش وشآر ـ يشوف هكوهين (من المتدينين). وقد حددت المحكمة المذكورة مهمة اللجنة بـ "الاستناد إلى نظرة بعيدة المدى فيما يتعلق بالتركيب السكاني للقدس وخارجها وسبل تطوره"، و "عدم التركيز فقط على ما إذا كان ينبغي إغلاق شارع بار ـ إيلان أيام السبت، وإنما أيضاً تناول الدينامية الاجتماعية المتوقعة من زاوية تأثيرها في العلاقات بين العلمانيين والمتدينين في القدس خلال الأعوام القليلة المقبلة.[17]
وضعت اللجنة تقريرها المكوّن من مئات الصفحات، بعد أن أقرت توصياته بأكثرية خمسة أعضاء، أربعة منهم علمانيون، ورفعته إلى الوزير ليفي في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وجاء في توصيات اللجنة:
ـ إغلاق شارع بار ـ إيلان أمام حركة المرور أيام السبت والأعياد الدينية في أثناء ساعات الصلاة، "شريطة تأمين ترتيبات تنقل للجمهور العلماني بما يتلاءم مع حاجاته في إطار الستاتيكو القائم."
ـ تقليص البناء السكني المدعوم مالياً في القدس (وهو البناء الذي يستفيد الحريديون منه أساساً)، وإجراءات أُخرى فُسرت، فيما بعد، بأنها تهدف إلى الحيلولة دون تحويل المدينة إلى مدينة حريدية.
ـ إقامة مجلس للعلاقات بين المتدينين والعلمانيين، مهمته إدارة الحوار بين الطرفين "ومحاولة بلورة ميثاق اجتماعي جديد."[18]
لقد صيغت التوصيات بأسلوب غامض من أجل التوصل إلى اتفاق واسع بشأنها، فأعطاها كل من العلمانيين والمتدينين تفسيراً يتضارب مع تفسير الطرف الآخر. ومما زاد طين الغموض بلة التفسيرات، الرسالة الشخصية التي أرفقها رئيس اللجنة بالتقرير، والتصريحات التي أدلى بها فيما بعد. إذ جاء في الرسالة المذكورة:
إذا لم يطرأ تغير جوهري على سياسات الاستثمار والتخطيط والبناء في القدس، وإذا لم تتغير سياسة التطوير الشامل لمحيط القدس المتروبولي ... فإن مستقبل مدينة العاصمة الصهيونية ـ اليهودية سيكون موضع خطر عظيم ... وإذا تواصلت المسارات الجارية في القدس منذ الأعوام الأخيرة، حيث سكان علمانيون راسخون وسكان متدينون قوميون ميسورون يهجرون القدس ... فإن من شأن المدينة، حاشا وكلاّ، أن تضمحل، وربما أن تندثر أيضاً.[19]
علاوة على ذلك، أطلق رئيس اللجنة تصريحات جاء فيها أنه إذا لم تغير الحكومة سياستها حيال القدس، فسيكون بين سكان المدينة الثمانمئة ألف نسمة سنة 2010 خمسمئة ألف من غير الصهيونيين، نصفهم من العرب ونصفهم الآخر من الحريديين. وجاء في التصريحات أيضاً أنه ينبغي تجديد نقاش الاتفاقات التي أُبرمت في الأيام الأُولى لقيام الدولة، حين كان عدد الحريديين نحو 30 ألفاً، وكان عدد المعفين من الخدمة العسكرية 400 فقط من طلبة المدارس الدينية، في حين أن هذا العدد الأخير سيبلغ 50 ألفاً بحلول سنة 2010.[20] ولخص تسميرت نتائج أعمال اللجنة التي رأسها بـ "أننا لم ننجح في تربيع الدائرة."[21]
بعد إعلان توصيات "لجنة تسميرت"، وتصريحات رئيسها التي أشرنا إلى أبرزها، انطلقت ردات الفعل من شتى الاتجاهات. فوزير المواصلات أعرب عن اعتقاده أن تقرير اللجنة هو تقرير "لا غالب ولا مغلوب"، ودعا الحريديين إلى وقف تظاهرات أيام السبت في شارع بار ـ إيلان. وهاجم الوزير "رجال اليسار الذين بدأوا حتى قبل تقديم التقرير شحذ سيوفهم والتهديد بالتظاهر والتوجه إلى محكمة العدل العليا." وأعلن العلمانيون الثلاثة الذين كانوا رفعوا قضية الشارع إلى المحكمة العليا (وهم: عضوا الكنيست يوسي سريد وأوفير بينْس، ورئيس كتلة ميرتس في بلدية القدس) أنهم سيستأنفون القضية أمام المحكمة ذاتها لنضمنوا تطبيق التوصيات الخاصة بتنقل العلمانيين والنشاط الثقافي أيام السبت. وفي المقابل، صرح النشيط الحريدي يهودا زهاف أن الحريديين سيحاولون إغلاق الشارع موضع الخلاف طوال أيام السبت بإقامة الحواجز أو بإطالة ساعات الصلاة. واعتبر الناطق باسم "حسيدوت بعلز" التقرير "عنصرياً"، في إشارة منه إلى التوصية بالحؤول دون تحويل القدس إلى مدينة حريدية. أمّا رئيس بلدية القدس الليكودي إيهود أولمرت، فعلّق بأن اللجنة استغرقت في عملها شهوراً وعادت بالقرار نفسه الذي كانت "لجنة شطورم" اتخذته، والقاضي بإغلاق شارع بار ـ إيلان. وأضاف: "لقد عدنا إلى النقطة التي كنا فيها."[22] وفي الوقت الذي تتواصل "المعركة" بشأن القدس، "عيرْ هكودِش" (مدينة القداسة)، بدأت أنظار الأصوليين اليهود تتجه نحو تل أبيب، "عيرْ هحوفِشْ" (مدينة الحرية). ففي تحرك لم يسبق له مثيل، تدفق نحو عشرة آلاف حريدي على مدينة تل أبيب في 4 كانون الأول/ديسمبر الماضي، وأقاموا مهرجاناً حاشداً من أجل الحفاظ على حرمة أيام السبت فيها وفي غيرها، وإخراج كل من ينتهك هذه الحرمة من "إسرائيل جمعاء". وتحدث في المهرجان، الذي نظمه حزب أغودات يسرائيل، كل من رئيس حركة شاس الحاخام عوفاديا يوسف، ورئيس مجلس حكماء التوراة الحاخام موشيه يهوشواع هغر، والحاخام الرئيسي يسرائيل لاو، وغيرهم. وعلّق منظمو المهرجان على عقده في تل أبيب بالقول: "لقد نقلنا الحرب إلى أرض العدو." وفي المقابل، طمأن رئيس بلدية تل أبيب روني ميلو سكان المدينة، ووعد بالوقوف "كجدار منيع أمام هذا الضغط، ولن نتنازل ـ وسنحافظ على تل أبيب مدينة حرة."[23] كما تظاهر المئات من نشيطي ميرتس وسكان تل أبيب أمام مكان انعقاد المهرجان ضد "محاولة تحويل المدينة إلى بِنِي براك" حريدية، هاتفين: "جئنا لنطرد الظلام". وقد قام عشرات من رجال الشرطة بالفصل بين الطرفين.[24]
هذا ما جاء في نبأ الصحف العبرية. لكن أغلب الظن أن رجال الشرطة أولئك كانوا أنفسهم يتوزعون على "القوس الممتد بين الحريدية الخالصة والعلمانية الخالصة"، شأنهم شأن اليهود أجمعين، الذين تواجهوا، في القدس وتل أبيب، على جانبي المتراس ـ على نحو ما كانوا يتواجهون دائماً منذ مئات الأعوام حتى مشارف القرن الحادي والعشرين.
الخلاصة
خلافاً لتجربة مجتمعات المهاجرين الاستيطانية الأُخرى (في أميركا وأوستراليا، مثلاً) التي نجحت، إلى حد ما، في دمج الوافدين إليها، بعد نجاحها في إبادة السكان الأصليين أو احتوائهم في معازل بشرية، فإن التجربة الاستيطانية الصهيونية في فلسطين فشلت حتى الآن في أن تكون "بوتقة الصهر" للمهاجرين اليهود القادمين من كل حدب وصوب. لكن هذه التجربة أفلحت، حتى الآن أيضاً، في إنتاج تجمع استيطاني فسيفسائي الأصول العرقية والمنابت الأيديولوجية. وإذا وضعنا جانباً المبالغات الصحافية المعتادة بشأن "حرب أهلية" وشيكة بين المتدينين والعلمانيين، فإن لا شيء يبرهن في هذه التجربة عن أن المستقبل سيكون مغايراً، بصورة جوهرية، لما كان عليه الماضي في أمر العلاقة بين الطرفين: انقسام في إطار "الهوية المشتركة". ولا تزال "الديمقراطية" الخاصة التي ينطوي النظام السياسي الإسرائيلي عليها قادرة على ضبط إيقاع التيارات المتعددة في إطار الثكنة الصهيونية ودورها الإمبريالي. ومما يؤكد ذلك، النزوع المتعاظم في صفوف العلمانيين والمتدينين نحو خيارات "التعددية" وفصل الدين عن الدولة والتوصل إلى "ميثاق اجتماعي"، وغير ذلك مما يرد في آراء الطرفين (أنظر أدناه عينة من الآراء في هذا الصدد). ويؤكد ذلك أيضاً وجود العنصر الديني اليهودي في الأيديولوجيا الصهيونية، التي تدعي العلمانية، وفي المقابل، التصهين المتزايد لبعض التيارات الدينية في "إسرائيل".
ومع ذلك كله، فإن الاتجاه نحو اتساع مساحة البقعة الدينية/الحريدية في الجغرافيا السياسية الإسرائيلية، وإمكان تغير شروط الصراع العربي ـ الصهيوني، قد يؤديان على هذا الصعيد إلى نتائج شتى لا يمكننا التكهن بها الآن. لكن أغلب الظن أن جدل الوحدة والصراع سيظل يحكم العلاقات بين المتدينين والعلمانيين.
l l l
وفيما يلي ثلاثة نصوص مختارة منقولة عن العبرية، تضيء جوانب مختلفة مما تناولناه أعلاه. وتشتمل هذه النصوص على: آراء في الانقسام الديني ـ العلماني لعدد من أساتذة الجامعات والكتّاب والحاخامين والشخصيات؛ مقال عن "ثقافة التقاطب" ممثَّلة في المدينتين ـ القطبين: القدس وتل أبيب؛ استطلاع للرأي فيما يتعلق بإمكان نشوب حرب أهلية على أرضية الشقاق الديني.
المتدينون والعلمانيون على الخط الفاصل[25]
[آراء في المسألة لأكاديميين وحاخامِين وكتّاب]
إعداد: عيريت هميئيري
هل يؤدي التقاطب المحتدم بين المتدينين والعلمانيين إلى نشوء شعبين وثقافتين؟ [....]
الدكتور دافيد أوحنا، مؤرخ، زميل كبير في معهد فان لير ـ علماني
لا يمكن حلّ التوتر بين المتدينين والعلمانيين، ويجب ألاّ يُحَلّ. بالعكس، ينبغي تشجيع ثقافة الاختلاف مع قبول قواعد لعبة متفق عليها، تكون الديمقراطية في رأسها. فجميع المساهمات اليهودية التي قدمها أفراد أو مجموعات للتاريخ العالمي نبعت من أنواع شتى من الاختلاف [....]. لذلك، فإن أي حديث عن إجماع فيما يتصل بالقيم اليهودية هو، في نظري، "غير يهودي" بجلاء. لكن يجب ألاّ يقدَّم أي تنازل بشأن الأعراف الديمقراطية. وعندما ننظر إلى المتدينين نجد أن عدم اطمئنانهم إلى لقاء العالم الحديث يخلق اتجاهات أصولية، مخافة فقدان الهوية الذاتية. وردة فعلهم على غياب الحدود في القرية التكنولوجية والإعلامية مزدوجة: نزوع إلى حياة الغيتو من جهة، ومحاولة فرض أنماط حياتهم على جمهور علماني كامل من جهة أُخرى. وبدلاً من أن يؤدي اللقاء مع العالم الحديث إلى مبارزة فكرية تثمر نتاجاً ثقافياً، يتحول اللقاء إلى فرض التحريمات [....]. والعلمانيون، من جانبهم، تنازلوا عن القيم اليهودية منذ زمن. فالقيم اليهودية، من مثل منح المتهود حقوق المواطن ومساعدة اليتيم والأرملة، يجري اختبارها اليوم إزاء العاطلين عن العمل بيننا، وإزاء العمال الأجانب الذين يبنون بيوتنا [....]. وفي الانتقال من إسرائيل "مجنّدة" و "أيديولوجية" إلى مجتمع ذي اتجاهات فكرية أُخرى، برز منذ سنة 1967 الخط الفاصل بين الحمائم والصقور. والآن، وفي المستقبل القريب، يبرز الخط الفاصل بين المتدينين والعلمانيين. وأحد الإمكانات هو أن ينشأ على جانبي هذا الخط ثقافتان متعاديتان ومشبعتان بخطر العداء وشل الإبداع. والإمكان الآخر هو أن ينشأ إغناء متبادل وجدلي. ويصعب عليّ أن أحدد أيهما أكثر واقعية من الآخر، وكل ما أعرفه هو أي واحد منهما أريد.
الحاخام يسرائيل آيخلر،
رئيس تحرير المجلة الأسبوعية "همحانيه هحريدي"
نظرياً، نحن شعب واحد. وعملياً، نحن لسنا شعباً عامةً؛ إذ ليس ثمة أساس شامل للشعب اليهودي كشعب. ليس لدينا لغة واحدة ولا عقلية واحدة ولا منشأ واحد. والأساس الوحيد الذي أبقى الشعب اليهودي لآلاف الأعوام هو الإيمان بتوراة سيناء بوصفه دستوراً ملزماً. ومنذ اللحظة التي بدأ التشكيك بدستورية التوراة، باعتبارها الدستور الوحيد الملزم، بدأ الشعب ينشطر إلى شعوب عديدة ومتعددة. الصهيونية هي حركة واحدة في صفوف شعب إسرائيل، مثلما كان الشيوعيون حركة واحدة في روسيا. واليوم، فإن الصهيونية أيضاً لا توحد الشعب كله. وهكذا بقينا من دون دين ومن دون قومية كعنصر توحيد. وطريقة العيش المشترك الوحيدة هي طريق السلام بين خليط الشعوب الذي يقطن هذه الأرض، حيث تعيش [الشعوب] بسلام أحدها إلى جانب الآخر لا أحدها مع الآخر، في ظل علاقات من الاحترام المتبادل والإرادة الطيبة.
الطريق البديل الذي نعرضه هو العودة إلى دستور التوراة، الذي سيجعل منا مجدداً شعباً واحداً موحَّداً ومتكتلاً. وأنا أرى أن ليس للدولة، كجسم مستقل، أي معنى. وللشعب معنى كبير في نظري، وأريد أن يعود الشعب ويصبح يهودياً. إن وجود جزء من الشعب الذي يعيش هنا هو غير محدد، إذ ليس لليهودية أي معنى من دون التوراة والإيمان. كما أن السلطة هنا غير محددة. إنها سلطة تتحدث باسم اليهودية، لكنها ليست سلطة يهودية، لأنها لا تتصرف وفقاً لدستور التوراة. إن دولة دستورها بريطاني وتركي ليست دولة يهودية. إنها في أحسن الأحوال دولة يهود. وحتى هذا الأمر ليس واضحاً، إذ يعيش هنا أكثر من مليون عربي ومئات الآلاف من المهاجرين الأغيار والعمال الأجانب.... كيف ستتطور الأمور، هذه مسألة سياسية. وأنا أصلي من أجل ألا تنشب هنا حرب إخوة، إذ إن المنتصرين لن يكونوا المتدينين ولا العلمانيين وإنما العرب. في نهاية المطاف، سيكون هنا، كما أعتقد، فصل بين الدولة والدين، وكذلك بين الدولة والقومية.
[.......]
الأستاذ يورام بيلو، عالم نفس وأنثروبولوجيا، الجامعة العبرية. علماني
إن واقع العلاقات بين المتدينين والعلمانيين معقد ومتعدد الأصوات وجدلي. فمن جهة، يتعلق الأمر بمجموعتين تقدمان تعبيراً رمزياً عن تجاربهما من خلال أنساق دلالات ثقافية يختلف بعضها عن بعض بشدة، ويفصل بينها شبكة متفرعة من المحظورات. وإن الفجوة القائمة بينهما، من الناحية الأيديولوجية والشعورية والقيمية، أعمق من الفجوة الطائفية ومن الفجوة بين القدماء والمهاجرين، مثلاً. ومن جهة أُخرى، فإن حقيقة أن الحريديين يواصلون واقع عيش خرج معظم العلمانيين منه حتى منذ بضعة أجيال، ويبدو ـ بحق أو بغير حق ـ كـ "نموذج نقي" لليهودية، هي عنصر اعتدال، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حقيقة أن الحريدية المتطرفة والعلمانية غير القابلة للتنازل هما قطبان يشغل المسافة الفاصلة بينهما تدرج أقل حدة في المواقف من هذا القطب أو ذاك؛ إذ إن معظم الجمهور اليهودي يحافظ على درجات مختلفة من الارتباط بالدين، وإن كان ارتباطاً رمزياً أيضاً.
إن تعاظم قوة المعسكر الحريدي لا يقود بالضرورة إلى مسار من التصادم مع المجتمع العلماني. فمن جهة، فإن هذا المجتمع كبير ونشيط، وقوي بثقته بنفسه، ومنظم بصورة نموذجية في أطر مؤسسية، وهو يوسع بالتدريج تخوم الإدارة الذاتية وإمكانات التقوقع الخاصة به، ويتمتع بازدهار تعليمي لم يسبق له مثيل في التاريخ التوراتي. ومن جهة أُخرى، فإن الإدارة الذاتية والإنجازات ليست ناجمة عن اقتصاد إنتاجي، بل عن تبعية متزايدة للميزانيات الحكومية وعن انخراط متعاظم في المؤسسات وفي قواعد اللعبة السياسية. وإن تضافر التبعية والانخراط من ناحية، والانعزال والاغتراب من ناحية أُخرى، كل هذا يؤدي إلى نشوء وضع مائع ومفتوح. إذ كلما قوي الحريديون أصبحوا ـ رغماً عنهم ـ جزءاً من الواقع الإسرائيلي. ولهذه "الأسرلة" المتوترة تعبيرات كثيرة [....]، وسيكون من المبالغ فيه أن نرى في هذه المسارات "صهينة" للحريديين، لكن ينبغي عدم إغفال "النتائج غير المقصودة" لهذا المسار [....]
الأستاذ شلومو بن ـ عامي، مؤرخ وعضو كنيست. علماني
ثمة تفتت في المجتمع الإسرائيلي يبعث على القلق؛ إذ ينمو هنا مجتمع مجزأ يتكون من أقليات كثيرة، ليس الجمهور الحريدي إلاّ إحداها. وخلافاً لما يجري في المجتمع الأميركي، فإننا لم نجد روح الشعب التي تضم الجميع، وهذه مأساتنا. إن صورة الدولة التي نريد تختلف من شطر في الشعب إلى شطر آخر. فالحريديون يرون إلى الدولة أن لا لزوم لها. وبما أنها قائمة، فإنهم يقاتلون من أجل طابعها اليهودي، ويستخدمونها أداة لتعزيز قوتهم [....]. ويمكن للدين أن يجزئ المجتمع ويؤدي إلى نشوب حرب إخوة. ومن جهة أُخرى، فإن تعمق الهوة بين المتدينين والعلمانيين قد يكون أمراً جيداً، بمعنى أنه يشحذ الحاجة الفورية إلى العمل والتوصل إلى تسوية. وينبغي الحذر من وقوع تفجرات. وفي اعتقادي أن الطريق الصحيح إلى ذلك يكون عبر ميثاق اجتماعي وشبكة اتفاقات بين سكان المدن والمناطق، لا عبر سن القوانين. وهذا النوع من الحل سيؤدي إلى نشوء غيتوات متعددة، لكنه سيمكّن من العيش معاً في وضع لا يمكّن من إقامة جسور حقيقية.
الأستاذ موشيه بار ـ آشر، الجامعة العبرية، رئيس أكاديمية اللغة العبرية. متدين
إن الخلافات الثقافية بين العلمانيين والمحافظين بشأن الفرائض تنظِّم الانقسام بين الجمهورين بطرق متنوعة وفقاً لموضوع الخلاف. ففي موضوع الإعفاء الواسع لأبناء الييشِفوت من الخدمة العسكرية، فإن خط الفصل لا يمر بين المتدينين والعلمانيين، بل بين العلمانيين ومعظم المتدينين وبين الحريديين (قلة من العلمانيين تنتبه لهذا الإعفاء). وفي المقابل، فإن الاعتراف بزيجات المتماثلين جنسياً، باعتبارها عملاً شرعياً تعترف الدولة به، يجعل خط الفصل يمر بين أقلية ضئيلة من الجمهور العلماني [....] وبين الأكثرية الساحقة من الجمهور العلماني وجميع المحافظين على التقاليد الدينية (ولا حاجة إلى القول: والمتدينين والحريديين). وعندما يتعلق الأمر بالحفاظ على حرمة أيام السبت جهاراً، وبحرية الحركة للجميع، فإنه لا يمكن لامرئ أن يقول أين تقع نقطة الفصل بدقة.
وبناء عليه، فإن السؤال بشأن وجود شعبين هنا يبدو لي سطحياً. وحتى عندما يدور الحديث عن خلافات شديدة وهُوى شاسعة، فإن معظم الجمهور العلماني والمتدين لا يزال يبحث عما يوحِّد. ومجموعات صغيرة فقط من هنا وهناك تبحث عما يفرِّق [....]. ومنذ ظهور الحداثة والعلمانية، تتربص بنا مشكلة صعبة احتدمت في الفترة الأخيرة: غياب القدرة على الإصغاء، وعدم الرغبة في الاعتراف بشرعية المفاهيم المختلفة. إن ليبراليين منفلتي العقال، ومَنْ ينشرون مقولات حمقاء وأقوالاً كاذبة مثل: "الحريديون بدائيون"، أو "العلمانيون لا قيم لهم"، يؤججون نار الخلاف مجدداً. والقضية المعقدة الأُخرى هي إيجاد التوازن بين دولة قانون ديمقراطية، هي روح كل مجتمع سوي، وبين دولة يهودية؛ ذلك بأنها إذا لم تكن كذلك، فماذا نفعل نحن هنا؟ وبأي حق نقيم هنا عامةً [....]. إن الهوة شاسعة، لكنني مقتنع بأن القوى اللازمة لزيادة ما يوحِّد ستنوجد. وسيكون مدّ الجسور ممكناً، إذا عرفت الأقلية الحريدية والأقلية التي تسمي نفسها "مستنيرة" حدود قوتيهما، وتذكرتا أن للأكثرية حقوقاً هي الأُخرى.
[.......]
الأستاذة حافا عتسيوني ـ هليفي، عالمة اجتماع، جامعة بار ـ إيلان. متدينة
لا نزال غير منقسمين إلى شعبين، لكن تتطور هنا أكثر فأكثر هويتان قوميتان منفصلتان، دينية وعلمانية، وذلك لأن العوامل التي أدت إلى إنتاج هوية قومية مشتركة آخذة في الضعف أكثر فأكثر. أولاً، إن الذكريات التاريخية المشتركة، ولا سيما ذكرى المحرقة النازية، تتبدد أكثر فأكثر من جيل إلى جيل [....]. ثانياً، إن أية علاقة بالدين اليهودي، كانت مشتركة بين الجمهور المتدين ومعظم الجمهور العلماني، آخذة في الوهن المتزايد [....]. اليوم ثمة أعداد متزايدة من الذين هم جيل ثالث أو جيل رابع من العلمانيين ليس لديها مثل هذه الذكريات [من بيت الأب أو الجد]، وتتعزز رؤيتها للدين على أنه سلسلة من القوانين وقواعد السلوك الغامضة. وفي المقابل، هناك ازدياد في التطرف الديني في أوساط واسعة من الجمهور المتدين، سواء المتدين ـ القومي أو المتدين ـ الحريدي. والقاسم المشترك بين العلمانيين والمتدينين يزداد ضموراً، والفجوة بينهم تزداد اتساعاً. ثالثاً، إن التضامن المشترك مع المشروع الصهيوني ينهار باطراد. ففي أوساط المتدينين القوميين يتعزز الالتزام الديني تجاه أرض إسرائيل، وهو التزام غير مقبول لدى الجمهور العلماني، في حين تتعزز في أوساط الجمهور العلماني مقاربة "ما بعد الصهيونية"، التي تشدد على الحياة الطبيعية للفرد وعلى إنجازاته الشخصية. وهنا أيضاً تتقلص بصورة متزايدة التخوم التي عليها إجماع قومي. وفي وضع يتميز بوجود تجزئة وفجوات كبيرة بين الهويات القومية والدينية وبين الهويات القومية والعلمانية، تزداد التوترات، لكن "الحرب" كلمة قاسية جداً. نحن الآن بحاجة إلى منعطف. ويجب العمل من أجل توسيع القاعدة المشتركة. ويمثل المتدينون المعتدلون، والمحافظون على التقاليد الدينية من غير المتدينين، أحد عناصر الاعتدال، ولا سيما الذين هم من منشأ شرقي وقد تبنوا لأنفسهم التزاماً دينياً أو تقليدياً معتدلاً ومتسامحاً أكثر مما لدى جزء كبير من الجمهور المتدين أو العلماني ذي المنشأ الأشكنازي.
الحاخام مناحم فرومان، حاخام [مستوطنة] تِكُّوّاع
ما نراه الآن هو أن الجمهور المتدين يتعمق أكثر فأكثر في مصادره (منذ أعوام طويلة يجري المسار الأساسي لِـ "التوبة" في أوساط الجمهور المتدين الصهيوني والحريدي)، وأن الجمهور العلماني يحقق باطراد فكرة التحرر الشخصي، خيراً أو شراً. وتتمثل الانعكاسات الاجتماعية لهذا المسار في أن كل جمهور يتخندق في مواقعه أكثر فأكثر، وأن جزأي الشعب يبتعد أحدهما عن الآخر. لكن الواقع التاريخي والمشكلات القائمة (الأمنية والاجتماعية والاقتصادية) تدفع كلاً من الجزأين إلى الآخر، وربما سيكشف ذلك منطقاً روحانياً أيضاً.
إذا أخذنا بالصيغ التي تصل إلينا من ثقافة الشرق الأقصى، يمكننا القول إن جزأي الجمهور يعبران عن مبدأين متكاملين للحياة الإنسانية (كما الشهيق والزفير هما جزآ التنفس، أو كما الجذور والإغصان التي تمتد في جميع الاتجاهات المحيطة بشجرة حية). ولئن كان الإحساس بالحرية والشعور بالإيمان هما الوجهان الضروريان لعملة المحبة الواحدة، فإنه سيكون من الممكن أن يثبت تطور الثقافة الإسرائيلية مرة أُخرى أن التباعد كان مباركاً [....]. وأنا آمل ألاّ ينتصر أي من الطرفين، وأن تكون ثمرة النزاع بين الجمهورين المتدين والعلماني كمثل ثمرة النزاعات بين زوجين: أطفال جميلون.
الأستاذة أليس شليفي، رئيسة لوبي النساء في إسرائيل. متدينة
يتكون المجتمع الإسرائيلي من شطور متعددة؛ إذ يوجد بيننا يهود وعرب، وثمة بين اليهود متدينون وأشخاص لا يؤدون الفرائض، أشكنازيون وشرقيون، مهاجرون جدد ومهاجرون قدامى، أغنياء وفقراء، حمائم وصقور، يساريون ويمينيون. وكان يمكن للآراء المتنوعة، الشديدة التناقض غالباً، أن تتفاعل إيجابياً لو كنا في دولة تعددية. الآن نحن لسنا في مثل هذه الدولة. وأقصد بالتعددية وضعاً تُمنح شرعية متساوية فيه لكل رأي ولكل نمط من أنماط الحياة، شريطة ألاّ يُلحِق العيش بحسب وجهة نظر ما الضررَ بالعيش بحسب وجهة نظر أُخرى، وألاّ يحول دون الحرية التي يطلبها الآخرون لأنفسهم، وأن يتم كل شيء في نطاق القانون والقضاء. لمثل هذه التعددية، علينا أن نسعى [....]
إن مصدر جميع المشكلات القائمة بين المتدينين والعلمانيين هو تسييس الدين. إن هذا التسييس، الذي مغزاه الفعلي عدم إمكان تأليف حكومة من دون الأحزاب الحريدية، يؤدي إلى تمكين مجموعة من السكان، هي بمثابة أقلية بين الشعب، من تحسين شؤونها بوسائل ابتزازية. وكي نحول دون ذلك، علينا أن نتوصل إلى فصل كامل بين الدين والدولة، ولا سيما في المجال السياسي، بحيث لا يكون هناك أحزاب دينية. ويجب أن توجد التعددية على الصعيد الديني أيضاً، وأن يُمنع قيام مؤسسة دينية وحيدة، وأن تُمنح الشرعية للحركات المحافظة على التقاليد الدينية والإصلاحية.
الأستاذة أنيتا شابيرا، مؤرخة للصهيونية، جامعة تل أبيب. علمانية
إن التيارات الحريدية، التي ترفض التسليم بالمبادئ الأساسية للعالم الحديث، مثل حرية الفرد ومبادئ الديمقراطية والمساواة أمام القانون، كشفت إمكان استخدام الدولة أداة في خدمة أهدافها. حقاً، إن موقف الحريديين من دولة إسرائيل لا يختلف في جوهره عن موقفهم من الـ "مستبد" غير اليهودي: يجوز خداعه، ومرغوب في استغلاله، ويكون أيضاً موضع سخرية من وراء الستار بسبب سذاجته وغبائه [....]. لقد تعلموا استغلال نقاط القوة ونقاط الضعف الموجودة في بنية الديمقراطية، على نحو ما تعلموا استخدام التكنولوجيا الحديثة. إن تضافر السيطرة على التكنولوجيا ودقائق النظام، إلى جانب الإنكار المطلق لعالم القيم الحديث ورفض التسامح بوصفه قيمة رئيسية تمكّن من العيش المشترك في إطار دولة واحدة، هو ما يحوّل الحرب الثقافية إلى موضوع حقيقي.
في مقابل جمهور حريدي لم يعد يكتفي بالسماح له بممارسة نمط حياته، وإنما هو يطمح إلى الحصول على حصة متزايدة من الدولة، توجد أكثرية علمانية كبيرة تعاني فقدان ثقتها بنفسها وغياب الأيديولوجيات التي شكلت في الماضي بؤر الهوية الفكرية والخلُقُية. والشعور بالإحباط في تزايد مستمر لدى هذه الأكثرية، لأنها تشعر بأن الحريديين ينقضون القواعد الأساسية للعبة الديمقراطية، وينظرون إليها (إلى الأكثرية) على أنها جماعة حطّابين وسقّائين [....]. وما دام الحريديون يحتكرون اليهودية لأنفسهم، فإنهم بذلك يسببون تمزيق النسيج الثقافي المشترك، المكوَّن من إدراك أهمية الصلة بالماضي اليهودي، ومن الرغبة في الحفاظ على التراث. إن المستقبل رهن بحكمة قيادات الأقلية والأغلبية، والسؤال هو: هل تنتصر الحكمة، أم تنتصر غريزة فرض المواقف بالقوة؟ [.......].
[1] للاطلاع على تفصيلات هذه الخلفية، أنظر: أليعيزر شفايد، "العلاقات بين المتدينين والعلمانيين في دولة إسرائيل"، "سكيراه حودشيت"، المجلد 33، العدد 2 ـ 3.
[2] أُجري الاستطلاع لحساب صحيفة "يديعوت أحرونوت"، التي نشرته ضمن مقال: عنات ميدن، "علمانيون، لكن"، ملحق عيد الغفران، 22/9/1996، ص 14.
[3] Linda Begley Sorrof, The Maintenance and Transmission of Ethnic Identity: A Study of Four Groups of Religious Jews in Israel (Lanham, Md.: University Press of America, 1995), pp. 1 & 3.
[4] ميدن، مصدر سبق ذكره.
[5] مردخاي بار ـ ليف (محرر)، "المتدينون والعلمانيون في المجتمع الإسرائيلي" (بالعبرية)، ([رامات غان]: جامعة بار ـ إيلان، 1990).
[6] أفرايم تفوري، المصدر نفسه، ص 7.
[7] بار ـ ليف، المصدر نفسه، ص 40.
[8] أنظر: إيهود غروس، المصدر نفسه، ص 9 ـ 13.
[9] بيري كيدم، المصدر نفسه، ص 14 ـ 15.
[10] شاحر إيلان، "هآرتس"، 19/12/1996.
[11] المصدر نفسه.
[12] أفيرما غولان، "لا إحساناً ولا رحمة"، "هآرتس"، 2/12/1996.
[13] أمنون أريئيلي، "نقطة دم واحدة"، "هآرتس"، الملحق الأسبوعي، 6/9/1996، ص 35 ـ 36، 38.
[14] أنظر: رمي روزن، "نحن الأوائل دائماً"، "هآرتس"، الملحق الأسبوعي، 6/12/1996، ص 42 ـ 44.
[15] إيتمار آيخنر ورمي حزوت، "نساء الحائط: المعركة التي بدأت بصلاة"، "يديعوت أحرونوت"، ملحق 24 ساعة، 13/11/1996، ص 15.
[16] إيتمار آيخنر، "يديعوت أحرونوت"، 17/11/1996. أنظر أيضاً: "يديعوت أرونوت"، 20/11/1996.
[17] أنظر: تسفي تسميرت، "لماذا أنا قلق"، "يديعوت أحرونوت"، ملحق 24 ساعة، 7/11/1996، ص 5.
[18] شاحر إيلان، "هآرتس"، 5/11/1996.
[19] تسميرت، مصدر سبق ذكره.
[20] "هآرتس"، 5/11/1996.
[21] أنظر: إيتمار آيخنر، "المعركة بشأن القدس"، "يديعوت أحرونوت"، ملحق 24 ساعة، 5/11/1996، ص 1 ـ 2.
[22] التفصيلات المتعلقة بردات الفعل هذه وغيرها في: "هآرتس"، 5/11/1996. أنظر أيضاً: رمي حزوت، "يديعوت أحرونوت"، ملحق 24 ساعة، 5/11/1996، ص 2.
[23]أنظر: دوف ألبويم، "التربص بتل أبيب"، "يديعوت أحرونوت"، 5/12/1996.
[24] "يديعوت أحرونوت"، 5/12/1996.
[25] "يديعوت أحرونوت"، ملحق عشية رأس السنة العبرية، 13/9/1996، ص 26 ـ 28.