القضية الفلسطينية بين "الحل العسكري" و "الحل السياسي"
كلمات مفتاحية: 
الكفاح المسلح
السياسة العسكرية
الدبلوماسية
المقاومة الفلسطينية
الدين والسياسة
منظمة التحرير الفلسطينية
نبذة مختصرة: 

يتناول المقال الأسس التي قام عليها تسويغ فصائل م.ت.ف. للكفاح المسلح، والتطور التاريخي للأخذ بأحد خياريْ "العمل السياسي" و "العمل المسلح" وموقف الإسلاميين من الخيارين؛ والشرط العربي للعمل المسلح؛ والعمل العسكري وتحرير فلسطين؛ وإشكالية الدولة الفلسطينية. ويحاول الإجابة عن السؤال: هل يُسمح من وجهة نظر إسلامية، بالتفاوض مع العدو، وتحت أية ظروف؟

النص الكامل: 

 إذا راجعنا الأسس التي قام عليها تسويغ فصائل م.ت.ف. للكفاح المسلح الفلسطيني، نجدها نابعة من تجربة الصراع نفسه في فلسطين، بمعنى أن الكيان الصهيوني الذي اغتصب فلسطين قام على العنف، وحقق هدفه بالعنف، وهو يربض على الصدور من خلال العنف مكرساً الاغتصاب، وما زال يتحفز للتوسع في التهويد واغتصاب المزيد من الأرض عن طريق العنف، وبالتالي لا مجال لحل الصراع معه بالطرق السياسية والسلمية، أو باتباع الطرق البرلمانية. فالمعادلة في فلسطين، التي تتسم بقيام الدولة العبرية وما تملكه من دعم دولي، لا تسمح بأن يكون العمل السياسي مجدياً في استعادة الأرض والحقوق، بل إن جميع تجارب العمل السياسي، سواء أكانت على المستوى الدولي ـ من خلال هيئة الأمم المتحدة ـ أم على مستوى التوجه إلى الدول الكبرى والرأي العام العالمي، لم تزحزح الدولة العبرية كي تقبل بحل يقوم على أساس قرارات الأمم المتحدة لسنوات 1947 و 1948 و 1949. وعلى الرغم من الإجماع الدولي على تلك القرارات، وأشهرها قرار التقسيم، فإن قادة الكيان الصهيوني لم يستمعوا إليه، ولم يقبلوا به، علماً بأن الموقف العربي الرسمي عمل على الوصول إلى حل من خلال هيئة الأمم المتحدة منذ سنة 1949 حتى سنة 1967. والخلاصة هي أن الآفاق كانت مغلقة أمام العمل السياسي، لا على مستوى استعادة الحقوق الكاملة لشعب فلسطين وتصفية الدولة العبرية باعتبارها كياناً عنصرياً قام على الاغتصاب فحسب، بل أيضاً على مستوى التنازل الإسرائيلي بالقبول بقرار تقسيم فلسطين وبالحل على أساس ذلك.

من هنا، فإن لا مجال لاستعادة ما أُخذ بالقوة والسيف، وخصوصاً من يد قوة عنصرية توسعية طامعة لا قيم عندها غير قيمة القوة والعنف، إلا بالقوة والسيف. كان هذا هو المرتكز الأول لانطلاقة العمل المسلح بالنسبة إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي الإمكان رؤية ذلك من خلال قراءة البيان الأول الذي صدر عن "قوات العاصفة" التابعة لحركة "فتح" في 1 كانون الثاني/يناير 1965. فالبيان يعلن أن اللجوء إلى السلاح جاء نتيجة فشل جميع الجهود السياسية والدبلوماسية من أجل إيجاد حل للقضية الفلسطينية، أو من أجل استرداد ما اغتُصب من حقوق.

أحسب أن هذا التشخيص للواقع يشترك فيه المفهوم الإسلامي من جهة انسداد الطرق كلها ما عدا طريق العمل المسلح. فكل تحليل يتعلق بتشخيص الواقع المحدد يجب أن يكون مشتركاً بين الاتجاهات الإسلامية والعروبية والوطنية واليسارية، إذا كان صحيحاً ويصور الواقع بدقة. وإذا حدث في التشخيص اختلاف، فمثله يمكن أن يحدث بين مختلف أطراف الاتجاه الواحد نفسه، وإذ ذاك تتفرق السبل. أمّا النقطة الثانية التي استند الكفاح المسلح إليها ـ بالنسبة إلى "فتح" وبقية فصائل م.ت.ف. ـ حتى أوائل السبعينات، فقد قامت على أساس أن قضية فلسطين قضية فلسطينية وعربية، وأن فلسطين جزء من الوطن العربي، وشعبها جزء من الأمة العربية. وهو ما تُرجم باعتبار الثورة الفلسطينية جزءاً من الثورة العربية، كما اعتُبر الكفاح المسلح لتحرير فلسطين طريقاً لوحدة الأمة العربية وتحررها. وقد وصلت المفاهيم بشأن هذه النقطة إلى اعتبار مهمة الفلسطينيين، أو العمل المسلح الفلسطيني، مهمة الصاعق الذي يفجر الوضع العربي، أو هي بمثابة العامل الذي يساعد في فتح آفاق التحرر والوحدة العربية، ومن ثم الحشد العربي العسكري لتحرير فلسطين. وبهذا، سُلِّم منذ البداية بأن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتم على يد الفلسطينيين وحدهم، وإنما هو بحاجة إلى تدخل مباشر من خلال الجيوش العربية الموحدة.

فإذا كان الجزء الأول من هذه النقطة يتعلق باعتبار قضية فلسطين قضية عربية، بل قضية العرب الأُولى، فإن رأي أغلب الإسلاميين يتفق مع ذلك ويشدد على أن قضية فلسطين هي قضية الأمة الإسلامية كذلك. وإذا كان الجزء الثاني من هذه النقطة ينظر إلى العمل المسلح في فلسطين باعتباره وسيلة، أو أداة، أو صاعقاً، لإحداث التغيير العربي المتمثل في التحرر والوحدة والحشد لتحرير فلسطين، فإن بعض أدبيات الإسلاميين في فلسطين قال بمثل هذا منذ أواخر السبعينات، وتوسع فيه ليجعله جزءاً من التغيير الإسلامي أيضاً، وإنْ شدد أكثر على العلاقة الموازية أو المتبادلة بين التغيير والتحرير. هذا في مناخ عَرَفت الساحة الإسلامية فيه طوال الخمسينات والستينات ما عرفته الساحة القومية، من غلبة الاتجاه القائل بأولوية التغيير والوحدة باعتبارها الطريق إلى تحرير فلسطين.

وفي المناسبة، يمكن أن يُلحظ أن كل ما يُفرز من اتجاهات في الساحتين الوطنية والقومية يجد له، بصورة عامة، موازيات داخل الساحة الإسلامية، طبعاً مع فارق في الأهمية والقوة والحجم. كما يجب أن يُلحظ خطأ الذين يعاملون الجهاد المسلح الإسلامي في فلسطين كما لو أنه نبت غريب بلا جذور، ناسين ظاهرة الكفاح المسلح الفلسطيني وما حفّ بها من مقولات نظرية، وناسين في الوقت نفسه توازي الكفاح المسلح مع المقولات النظرية ردحاً من الزمن، فضلاً عن الانتفاضة وتداعياتها.

أصبح من الضروري هنا إبداء التحفظ تجاه استخدام عبارة "العمل العسكري" بدلاً من "الكفاح المسلح" أو "المقاومة الفلسطينية" أو "الثورة الفلسطينية" أو "حرب الشعب"، وذلك خشية أن يبيت وراء هذا الاستخدام إسقاط مشروعية الحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال. أمّا إذا حملت عبارة "العمل العسكري" هذه المشروعية واستُخدمت من أجل التخيير أو التفضيل بين العمل العسكري والعمل السياسي، فإن تجاوز التحفظ يصبح ممكناً لأغراض البحث فحسب؛ لأن من المهم ألا يكون استخدام عبارة حمالة أوجه عدة تخلياً عن فهم جوهر القضية، التي قامت على أساس عدوان خارجي بدأ بزحف المهاجرين اليهود وإقامة المستوطنات تحت حراب الاحتلال البريطاني، ثم بإعطاء هؤلاء المهاجرين حق إقامة دولة يهودية لهم تنتزع 54% من أرض فلسطين، ثم تتوسع في فترة 1948 ـ 1949، ومن خلال القوة المسلحة، لتشمل 76.67% من أرض فلسطين، وتشرد الفلسطينيين من مدنهم وقراهم العامرة، وتلقي بهم خارج حدودها، وتمنع عليهم العودة والعويض.

إن قيام البعض بإسقاط المرتكزات التي قام الموقف الفلسطيني والعربي والإسلامي عليها بعد نشوء الدولة العبرية، وتناسي كل ما كتب بشأن الموضوع وبأية روحية، يحتمان سقوط الأسس التي أقامت "فتح" وفصائل المقاومة الفلسطينية الأُخرى عليها مفهومها للثورة الفلسطينية المسلحة والكفاح المسلح وحرب الشعب؛ وهي أسس مشتركة بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الوطني أو القومي العربي للموضوع، ولا سيما فيما يتعلق بالاغتصاب وبالدولة العبرية، وبقصة القضية الفلسطينية، وبما للصهيونية من طبيعة عدوانية وتوسعية.

تبقى نقطة ثالثة تحف بمفهوم "العمل العسكري" بحسب النظرة الإسلامية والنظرة الوطنية والقومية، وتمس المرجعية والإطار اللذين يُدعم بهما موضوع العمل العسكري، وتبرز الفارق بين مرجعية الإسلاميين المتمثلة في نصوص من القرآن والسُّنة وفي المقدسات والتاريخ الإسلامي لفلسطين، وبين مرجعية الاتجاهات القومية والوطنية الأُخرى المتوزعة في مرجعيات متعددة؛ فهنالك من جعل مرجعيته النظرية الماركسية والموقف الماركسي ـ اللينيني من المسألة اليهودية، أو الموقف السوفياتي، أو الصيني لاحقاً، وتجارب الثورات المسلحة والحروب الشعبية. وهنالك من اعتمد المرجعية الوطنية الفلسطينية أساساً. وهنالك من اعتمد المرجعية القومية أو العروبية، والتاريخ العربي، وتجارب الحركات التحررية، وهكذا. المهم أن تلك المرجعيات جميعاً تدعم، من خلال منطلقاتها الأساسية، ما يذهب إليه التشخيص الواقعي للقضية الفلسطينية الذي يقضي بعدم أحقية قيام الدولة العبرية، ويقر بحق الكفاح ضدها وتصفيتها ككيان سياسي وعسكري وعنصري، من دون أن يحمل ذلك أية نظرة عنصرية ضد اليهودي كإنسان، وبعيداً عن التوجهات غير الإنسانية التي عرفتها أوروبا وأميركا. بل إنه يتضمن إنقاذاً لليهودي في الدولة العبرية من أن يكون صهيونياً عنصرياً ومغتصباً لأرض غيره.

المهم أن ما ينشأ من أمور خلافية بين الاتجاهات السياسية الموزعة في أساس مرجعيتها، بين الإسلام والوطنية والعروبة والماركسية والاتجاهات التي قد تؤلف بين هذه جميعاً، لا يمس موضوع الحق في فلسطين، ولا سيما فيما يتعلق بعدم الأحقية الصهيونية، ولا يمس حق استخدام أسلوب العمل المسلح في مقاومة الاحتلال من أجل رفع الظلم القائم على العنف، ومن ثم إعادة الحق إلى أصحابه، والوصول إلى سلم وحل عادلين.

كان هذا هو الوضع، على الأقل، عندما استهلت حركة "فتح" الكفاح المسلح الفلسطيني. ولم يشذ عن الموقف العام إلا الأحزاب الشيوعية التي انسجمت مع الموقف السوفياتي الذي وافق على تقسيم فلسطين، ثم وافق على القرار رقم 242، وكان متحفظاً تجاه شعار تحرير كل فلسطين. لكن بعض تلك الأحزاب اعتبر المقاومة المسلحة عملاً مشروعاً ضد الاحتلال الذي حدث في حزيران/يونيو 1967.

أمّا الموقف الإسلامي الذي شارك بنشاط في حرب 1948 ـ 1949، وكان شارك قبل ذلك في الكفاح المسلح الفلسطيني ضد الاحتلال البريطاني ومشروع وعد بلفور، فقد انسحب من النشاط العملي من أجل القضية الفلسطينية، شأنه في ذلك شأن الاتجاهات الوطنية والقومية واليسارية طوال الخمسينات والنصف الأول من الستينات، بدعوى أن الحل يبدأ بإحداث التغيير في الوضع العربي ليكون في الإمكان مواجهة الجيش الإسرائيلي، وأن أوضاع الشعب الفلسطينيـ الموزع على مخيمات اللاجئين والمحكوم من الدول العربية والقرار العربي ـ لا تسمح له بأي تحرك. وكانت الأنظمة العربية مجمعة بعد اتفاقات الهدنة على ضبط الفلسطينيين، وإبقاء الحدود مع الدولة العبرية هادئة بصورة أساسية، ما عدا بعض الاستثناءات التي حركتها الاستخبارات المصرية سنة 1954 لأغراض جزئية وليس كنهج يطلق العمل المسلح الفلسطيني، أو تلك التي حركها العدوان الثلاثي على مصر واحتلال قطاع غزة سنة 1956.

بين "العمل السياسي" و "العمل العسكري"

يمكن أن يلاحَظ هنا ما يلي:

1 ـ إن الخيار بين العمل السياسي والعمل المسلح في فلسطين لم يكن مطروحاً طوال الخمسينات والنصف الأول من الستينات، وإنما طُرح آنذاك التحريض المبدئي والسياسي والدبلوماسي من أجل فلسطين، واختيار العمل في الداخل العربي من أجل التحرر والوحدة ومن أجل تحرير فلسطين.

2 ـ إن التناقضات العربية سمحت منذ سنة 1956 بتشجيع اتجاهات العمل المسلح الفلسطيني؛ إذ كان الوضع العربي الرسمي مقسماً بين أقلية تحتضنه أو تدعمه معنوياً (سورية والجزائر أساساً)، وبين أغلبية (مصر أساساً) تعارضه وتحاربه وتعتبره مؤامرة عليها. أمّا الأردن ولبنان، فكان كل منهما يعتبره تهديداً لأمنه وحدوده.

وكان الخيار في حينه (حتى سنة 1968) يتراوح بين العمل المسلح لتحريك القضية الفلسطينية وبين استمرار الالتزام إزاء التغيير العربي، لا بين العمل السياسي والعمل العسكري بالنسبة إلى قضية فلسطين. وقد تبنَّت "فتح" في هذه المرحلة "نظرية التوريط الواعي"، أي شن عمليات عسكرية من الحدود العربية لدفع الدولة العبرية إلى الرد بقوة، فيصبح النظام العربي متورطاً في رد ما، فإنْ هو رد بقوة واتخذ موقف المواجهة يكون المطلوب قد تحقق، وإنْ تراجع وتخاذل فإنه يبدو جاهزاً للتغيير المنشود.

أمّا الكفاح المسلح، من جهة أُخرى، فإنه كان يحمل هنا، بالإضافة إلى مراميه العملية المرتبطة بالوضع العربي والصراع العربي ـ العربي، شعاراً يطالب بتحرير فلسطين، كل فلسطين؛ وهو ما تضمنه ميثاق م.ت.ف. ومنطلقات "فتح"، وكذلك سائر المنظمات الفلسطينية.

وأمّا الموقف الإسلامي من العمل المسلح في هذه المرحلة، فقد اتسم بمعارضته له أو بعدم الموافقة على الانخراط فيه، على الرغم من اندفاع الكثيرين من صفوف "الإخوان المسلمين" في فلسطين للمشاركة فيه، بل حتى لتأسيسه. وليس لهذا الموقف علاقة بنص مرجعي، ولا بما وُجِّه إلى العمل المسلح من انتقادات تتعلق باعتماده المرجعية الوطنية أو العلمانية. بل كانت المسألة متعلقة بالأوضاع السياسية التي جعلت الحركة الإسلامية في فلسطين وخارجها ترى أن لا مكان لها في العمل المسلح كفصيل مستقل؛ فهنالك حرب عليها من كل جانب، وإذا ما حاولت الانخراط في العمل المسلح فستوجَّه إليها الضربات حتى من الأنظمة التي كانت تحتضن المنظمات الفلسطينية.

العمل المسلح والشرط العربي

يمكن أن نلحظ هنا أن الموقف من استخدام الكفاح المسلح، أو من عدم استخدامه، لا يرتبط بالمرجعية أو النظرية أو المفاهيم أو المواقف المبدئية أو الإرادة الذاتية، بقدر ما يرتبط بتوفر الشرط العربي أو بعدم توفره؛ فإن هو توفر فإنه يجعل الكفاح المسلح ينطلق، وإلا يبقى ما في القلب في القلب، أو يبقى الكفاح شعاراً في العمل السياسي التحريضي فحسب.

ولقد حكمت هذه السمة مختلف الاتجاهات الإسلامية والقومية والوطنية الفلسطينية طوال الخمسينات ومنتصف الستينات. ولهذا، فإن بعضها لم ينتقل إلى التطبيق العملي إلا بعد توفر وضع عربي محدد، علماً بأنه بقي حتى حرب حزيران/يونيو 1967 مختنقاً محاصَراً لا مستقبل له، أو قُل بقي ضمن حدود إمكانات الشرط العربي المتوفر له. لكن حرب 1967 ونتائجها المعروفة جعلت الوضع العربي كله، أي مجموع الأنظمة العربية، يطالب بمقاومة مسلحة فلسطينية تخفف من وطأة الهزيمة العسكرية والنكسة السياسية، وتساعد الوضع العربي في التقاط أنفاسه واستعادة توازنه. وهذا ما سمح للعمل المسلح الفلسطيني، الذي كان محاصَراً ومضروباً ومشهَّراً به، بأن يتحول إلى تظاهرة كبيرة. وقد فُتحت أمامه الحدود العربية، ولا سيما الأردنية واللبنانية، وامتلأت ساحاته بالمنظمات المسلحة التي تحمل مختلف المرجعيات والنظريات والاتجاهات الوطنية واليسارية والعروبية. وبقي الإسلاميون بعيدين، وأيضاً بسبب الوضع العربي القائم وقتذاك. وقد سمحت "فتح" بأن يشكل بعض المتطوعين منهم قاعدة تابعة لـ "قوات العاصفة"، من دون أن يكون لهم في حينه أي وضع أو مشروع مستقل. وراح كثيرون من خارج الساحة الإسلامية، ولا سيما من "فتح"، ينتقدون الحركة الإسلامية بشدة لعدم دخولها ساحة العمل العسكري، علماً بأن ذلك الانتقاد لم يكن بقصد حثهم على الدخول، بل لكسب بعض الأفراد منهم؛ ذلك بأن عدداً من قادة "فتح" قاموا، بعد أن تركوا مواقعهم في صفوف "الإخوان المسلمين" وشكلوا حركة "فتح" على أسس الوطنية الفلسطينية، بالإقدام على ذلك بعد أن توصلوا إلى نتيجة فحواها أن الوضع العربي والعالمي لا يسمح بإقامة حركة مقاومة إسلامية، وأنهم سيُسحقون إذا أقاموها، ولن يلقوا تأييداً. أمّا القاعدة من المتطوعين الإسلاميين، وكانوا من "الإخوان المسلمين" أساساً، فقد قبلوا بإقامتها في أثناء الوجود في الأردن، وكانت محاصرة ومضيَّقاً عليها، ولم يكن مطلوباً منها سوى القيام بعمل عسكري وبذل دماء تحت راية "قوات العاصفة".

وعند انتهاء الوجود المسلح الفلسطيني في الأردن وانتقاله إلى لبنان، وما تشكَّل حينذاك من معادلة عربية ودولية، فإنه لم يكن ليُسمح بأية مشاركة إسلامية، حتى ضمن الحالة التي تشكلت في الأردن. ولذلك، وجد أفراد تلك القاعدة أنفسهم في بيوتهم مرة أُخرى.

وبسبب عدم مشاركة "الإخوان المسلمين" في العمل المسلح الفلسطيني، جدد إسلاميون، من اتجاهات وأفراد كان أكثرهم من "الإخوان"، الانتقادات إلى "الإخوان المسلمين" منذ أواخر السبعينات حتى أواخر الثمانينات. وراح المنتقدون يتحدثون عن أهمية الجهاد الإسلامي في إنهاض الأمة وإشاعة الصحوة الإسلامية، من دون أن يأخذوا في الاعتبار إشكال المعادلة العربية في الستينات حتى أواخر السبعينات، وتأثير ذلك في مشاركة المقاومة الإسلامية في العمل المسلح أو الإحجام عنها.

ويمكن القول إن الأوضاع العربية التي تشكلت بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، واندلاع المقاومة المسلحة ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان، شجعت على بروز إرهاصات إسلامية فلسطينية في اتجاه إطلاق الجهاد المسلح في فلسطين، والدعوة إليه.

إن خروج م.ت.ف. من لبنان، وتحول مركز الثقل في العمل الفلسطيني إلى داخل فلسطين، عملياً، إلى جانب ما حدث لمصر من عزلة عن الوضع العربي بعد قرار القمة العربية في بغداد بسبب اتفاق كامب ديفيد، ثم ما حدث من اختلال داخل المعادلة العربية بعد الغزو العراقي لإيران واندلاع حرب الخليج الأُولى، كل هذا يعني أن المعادلة العربية، التي كانت تمنع أي تحرك إسلامي طوال الخمسينات والستينات والسبعينات، تفككت ولم تعد هي نفسها. كما أن قبضة الثورة الفلسطينية على الوضع الفلسطيني تزعزعت في إثر الخروج من لبنان، وحدوث الانشقاق في "فتح"، وانتقال قيادة م.ت.ف. إلى تونس. هذا من جهة المتغيرات في غير مصلحة العوامل التي كانت تحول دون اقتحام الإسلاميين للعمل المسلح في الساحة الفلسطينية. أمّا من جهة توفر الأوضاع المساعدة أو المحفزة، فقد كان هناك الثورة الإسلامية في إيران، والمقاومة الإسلامية في أفغانستان، والمقاومة الإسلامية في لبنان. وقد صحب ذلك كله صحوة إسلامية عامة أخرجت المرجعية الإسلامية من منطقة الحظْر، وخلخلت مواقع الاتجاهات العلمانية نسبياً، الأمر الذي سمح بالانطلاقة الإسلامية في فلسطين، التي بدأت بعمليات عسكرية نفذتها "سرايا الجهاد الإسلامي" المؤلفة من عدة جماعات وأفراد إسلاميين، ووصلت قمتها بانطلاقة الانتفاضة في أواخر سنة 1987، وبروز حركة "حماس"، وتعاظم دورها فيها، ثم استقرار قيادتها في العمل السياسي الإسلامي في فلسطين. وقد برزت كذلك حركة "الجهاد الإسلامي"، في حين انتهت أغلبية الجماعات الإسلامية التي تشكلت في الثمانينات تحت راية الجهاد، وسادت ساحةَ العمل المسلح الجهادي خلايا عزالدين القسّام التابعة لحركة "حماس"، وخلايا عسكرية تابعة لحركة "الجهاد الإسلامي" في فلسطين.

المهم أن العمل المسلح في فلسطين، سواء أقام على أساس المرجعية الإسلامية أم على أسس المرجعية الوطنية الفلسطينية أو القومية العربية أو اليسارية الثورية، كان موجهاً نحو الهدف نفسه، وقائماً في مسوّغاته الأساسية على تحليل وتشخيص متقاربين للقضية الفلسطينية، أو الأصح على تحليل وتشخيص متقاربين للصراع مع الدولة العبرية، مع اختلاف في التشديد على هذا الوجه أو ذاك. وكان خاضعاً في انطلاقته وتطوره، أو في تراجعه، للمعادلة العربية أولاً والإسلامية ثانياً، وإنْ اختلفت المرجعية والأهداف النهائية المأمول تحقيقها بعد التحرير.

يجب أن يشار هنا، كذلك، إلى أن النمو الذي تحقق لحركة "حماس" ولحركة "الجهاد الإسلامي"، وكذلك لحزب الله في لبنان، منذ عقد مؤتمر مدريد حتى الآن، لم يأت نتيجة الجهد الذاتي فقط، وبعيداً عن معادلة عربية وإسلامية كانت، وما زالت مؤاتية له، هذا على الرغم من تخلي حركة "فتح" وعدد من فصائل م.ت.ف. عن نهج الكفاح المسلح منذ مدريد، ورسمياً منذ اتفاق أوسلو ـ 1. وما بدا على السطح هو أن الوضعين الدولي والعربي لم يعودا يسمحان بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ انتهاء الحرب الباردة وانطلاق عملية التسوية، وهي نظرة لا تستطيع أن تفسر ما شهدته حركة "حماس" في الأعوام الخمسة الأخيرة من نمو داخل صفوف الشعب الفلسطيني، ومن تطور في مكانتها عربياً وإسلامياً، ولا تستطيع أن تفسر أيضاً التطور الموازي الذي تمتع حزب الله به في لبنان خلال الفترة نفسها. وسينكشف خطأ هذه النظرة في قراءتها للوضع العربي إذا وضعنا في الحسبان عضوية العلاقة المباشرة بين الوضع الداخلي في كل من فلسطين ولبنان وبين الوضع العربي، وما يحف بذلك من معادلة عربية ـ إسرائيلية ـ دولية بصورة عامة.

ومن ثم، فإن من لا يرى أن كلاً من المقاومة في لبنان والمقاومة في فلسطين عملت، خلال الأعوام الستة الماضية، ضمن ظروف عربية مؤاتية يخطئ في إدراك علاقة كل من فلسطين ولبنان بالوضع العربي أولاً، وبالمعادلة العربية ـ الإسرائيلية ـ الدولية ثانياً، ثم يخطئ في إدراك العلاقة بين الفعل الإرادي والقرار الذاتي، ولا سيما بالنسبة إلى العمل المسلح من جهة، وبالنسبة إلى الأوضاع العربية المؤاتية وغير المؤاتية من جهة أُخرى.

ويكفي أن نلاحظ هنا الموقف السوري من المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وأن نلاحظ الموقف العربي، وخصوصاً الموقف المصري ـ السعودي الداعم للموقف السوري عامة، ولا سيما في الصراع ضد الموقف الإسرائيلي (ويمكن أن نظيف إلى هذه الملاحظة المواقف الدولية الداعمة للموقف السوري كذلك)، كي نرى معادلة مركبة ـ معقدة يهب من داخلها ما يمكن أن يسمى في المحصلة "الرياح المؤاتية"، التي سمحت للمقاومتين في فلسطين ولبنان بأن تعملا وتكبرا وتزدهرا في ظرف زمني ظن البعض أن أعلام المقاومة المسلحة طُويت ليحل محلها طريق المفاوضات وحدها.

في أية حال، أثبت الواقع العملي حتى الآن أن ذلك الظن بعيد عن الحقيقة، على الرغم من السلبية الخطرة التي مثّلها اتفاق أوسلو ـ 1 وتداعياته بالنسبة إلى الأردن والمعادلة العربية، وحتى الدولية، ومن ثم بالنسبة إلى سورية والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية.

من هنا، فإن كل بحث، أو كل تقدير موقف يتعلق بالعمل المسلح ومستقبله في فلسطين أو لبنان ضد الاحتلال الإسرائيلي، سواء أكان ذا مرجعية إسلامية (سنية أو شيعية) أم ذا مرجعية وطنية أو عروبية، يجب ألا يُقرأ من خلال المفاهيم ولا من خلال النصوص والإرادة الذاتية، وإنما من خلال الوضع العربي أولاً، ومن ثم من خلال معادلة ميزان القوى عربياً وإسرائيلياً ودولياً. هذا على الأقل ما تُعلِّمه دروس السبعين عاماً الماضية في فلسطين، ودروس العشرين عاماً الأخيرة في لبنان، وفي فلسطين أيضاً.

لعل التحليل السابق يضع الأسئلة المتعلقة بالعمل العسكري الفلسطيني ضمن إطار آخر، ويتطلب إمّا تناولاً نظرياً بحتاً وإمّا تناولاً محدداً بالنسبة إلى الساحة الفلسطينية. أمّا إذا أُريد الإجابة نظرياً عن سؤال مقدم بصورة نظرية بشأن العلاقة بين العمل السياسي والعمل العسكري من وجهة نظر إسلامية، فإن هذا السؤال الذي اشتهر تناوله عند الماركسيين لم يُطرح بهذه الصورة في مجال الفقه الإسلامي، أو حتى في مجال الفكر السياسي الإسلامي. إذ إن الإسلام يرتكز على عقيدة يراد تثبيتها ونشرها، وهو من ثم يرتكز على الدعوة التي أساسها تقديم القدوة والنموذج (تربية إسلامية، وخُلُق عظيم، ومسلك قويم، وعمل صالح، وعقل راشد، ونظام أو موقف عادل)، كما يرتكز على المحاججة بقوة الإقناع والأسلوب الحسن، بعيداً عن الإكراه واستخدام القوة. أمّا العمل السياسي، بمختلف أشكاله، فيتعلق بالدفاع عن عزة الإسلام والأمة، والذود عن الاستقلال والهوية، ونصرة المظلومين والمستضعفين وجميع القضايا العادلة، والحض على ذلك جماهيرياً لتكوين رأي عام شامل، وتبنّي الشورى، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في اختيار الحاكم ونوع النظام، وتداول السلطة، وما إلى هنالك. وأمّا العمل العسكري، فهو في الإسلام عمل دفاعي أساساً لرد العدوان العسكري والأذى المادي، وصون الحقوق والأعراض والمال والأوطان، ولا يُلجأ إليه إلا في موضعه وضرورته وظروفه، وباعتباره الخيار الأخير. وهذا الموقف يختلف عن الموقف الإسرائيلي، مثلاً، الذي اعتمد في غزوه فلسطين واستيطانها أساساً على الحراب الإنكليزية وعلى السلاح المتفوق في يده أولاً وأخيراً؛ فهو لا يستطيع أن يحقق مشروعه إلا بالعنف والقوة العسكرية، بينما يستطيع المشروع الإسلامي أن يحقق أهدافه عامة من دون اللجوء إلى القوة العسكرية التي لا يحتاج إليها إلا مضطراً لرد العدوان ودفع السيف عن رقاب المستضعفين.

إن هذا الرأي عام، لكن يجب أن يؤخذ في الاعتبار. إنك حين تتناول وجهة نظر الإسلام إزاء أية قضية، ولا سيما القضايا المستجدة بالنسبة إلى العمل السياسي والعمل العسكري، فإن الفسحة واسعة للاجتهاد. وعلى كل مجتهد يقول رأياً فيها أن يترك الباب مفتوحاً لاجتهادات أُخرى، بمعنى ألا يقول هذا هو رأي الإسلام، ورأي الإسلام فقط، بل أن يقول هذا هو رأيي المعتمد على المرجعية الإسلامية، أو على قراءتي للواقع وفهمي للمرجعية الإسلامية.

أمّا إذا تناولنا العلاقة بين العمل السياسي والعمل العسكري بالنسبة إلى قضية فلسطين، فالجواب يتوقف على الهدف الذي تريد تحقيقه، أو على فهمك لطبيعة الصراع. وفي المناسبة، إن العمل السياسي والعمل العسكري بالنسبة إلى كل طرف يسيران معاً نحو الهدف المنشود. فحتى عندما تقول أنك تريد تحرير فلسطين باستخدام الجهاد المسلح أو حرب الشعب أو الكفاح المسلح أو الحشد العربي العسكري، فهذا أمر سيصحبه، ويجب أن يصحبه، عمل سياسي على مختلف الصعد وفي مختلف المواقع على جبهتك وعلى جبهة عدوك، وعلى مستوى عربي وإسلامي ودولي رسمي وشعبي. فليس هناك عمل عسكري بلا هدف سياسي وبلا تعبئة سياسية إلا عند قطّاع الطرق والقراصنة. أمّا عند مختلف الأطراف الأُخرى، فهناك دائماً علاقة عضوية بين عملها السياسي وعملها العسكري؛ إذ لا عمل عسكرياً بلا عمل سياسي.

وإذا استُبعد العمل العسكري ورُكز على العمل السياسي، كحالة الدول مثلاً، فسنجد أن الاستعداد العسكري والتعبئة العسكرية يظلان على قدم وساق في ظل الدبلوماسية والعمل السياسي. وهذا ظاهر بالنسبة إلى أميركا والدول الكبرى الأُخرى، وظاهر أكثر بالنسبة إلى الدولة العبرية، ولا يُطلب التخلي عنه إلا من السلطة الفلسطينية والدول العربية حتى تبقى معراة أمام العدوان والتوسع، والإملاء عليها في ظل التسوية و "السلام".

ولا يشذ عن هذا القانون غير الحالات الشعبية، التي تعتمد في تحقيق أهدافها على الديمقراطية وصناديق الاقتراع، وتستبعد العمل العسكري تماماً، وتركز على العمل السياسي والدعوة الهادفين إلى تعبئة أكبر قطاع من الرأي العام لتحقيق هدف تداول السلطة، وهو ما ليس بقائم في الحالة الفلسطينية.

أمّا إذا كان ما وراء السؤال في الساحة الفلسطينية هو القول باعتماد العمل الدبلوماسي والسياسي من خلال المفاوضات المباشرة بشأن النهج الذي اتبع بعد أوسلو، ومن ثم استبعاد العمل العسكري، فإن الخيار هنا هو خيار التفاوض، وهو ما يجب أن يناقش بداية.

لقد تشكل هذا الخيار في الساحة الفلسطينية بالخضوع خطوة خطوة لاتّباعه، كما عبّر عن ذلك كل من سار على هذا النهج بما مفاده: نحن مضطرون إلى قبول ذلك. وبكلمة أُخرى، إنه لم يتشكل عبر استراتيجيا وتكتيك متماسكين من أجل اتّباع هذا الخيار، ولذلك فإن أحداً لا يستطيع أن يدعي أن ثمة عملاً سياسياً جاداً حتى في هذا السبيل. فما هو قائم يتشكل من الشعارات والتسويغات النظرية والتبرير للمواقف، وليس هنالك رؤية محددة تمتلك زمام المبادرة في الوصول إلى أهدافها؛ وربما تكون هذه الرؤية آخذة في التشكل الآن.

لقد بدأت هذه المسيرة بالذهاب إلى مدريد تحت شعار أننا إذا لم نذهب ننتهي، لا تحت شعار أن هذا هو طريق تحقيق الهدف. ثم وُقِّع اتفاق أوسلو، الذي مثَّل خروجاً على التنسيق العربي بين المتفاوضين في واشنطن، وشق طريق الحلول المنفردة، ولم يكن له علاقة بأي من القرارات الفلسطينية السابقة. ولا يغير من هذه الحقيقة كل ما يقال عن ضعف التنسيق، أو عن أن الآخرين اتفقوا مع الإسرائيليين من وراء ظهر الفلسطينيين؛ فهو قول غير صحيح كما أثبتت الوقائع. ولا يغير منها شيئاً التأكيدُ أنها ليست حلاً منفرداً، وفقاً للنيات والقلوب. والأخطر من ذلك أن هنالك من فتح النار على العرب، وفتح سجلات ما عاناه الفلسطينيون هنا وهناك وما تعرضت المخيمات له من قصف وتدمير، ليقال إننا يجب أن نتفاهم مع إسرائيل وأميركا، وإن أميركا كفيلة بأن تجعل العرب يأتون ليقبّلوا أيدينا بدلاً من أن نقبّل نحن أيديهم ومع ذلك يركلوننا.

ثم وجد أصحاب هذا الطريق أنفسهم أمام مأزق العزلة عربياً، فسارعوا إلى تصحيح العلاقة بمصر. وهنا بدأت مرحلة جديدة في العمل السياسي، حين سلمت إلى حد ملحوظ أوراق التفاوض للإشراف المصري، الأمر الذي يدل على أن العمل السياسي حتى هذه اللحظة لا يملك استراتيجيا، بمعنى تحديد الهدف عدا هدف الوصول إلى حالة تسمى دولة، ولو تجاوزاً لفهم شروط الدولة، ومن دون أن تحدَّد القوى الحليفة التي يمكن تعبئتها، والقوى الصديقة التي يمكن الإفادة منها، والقوى المعادية المطلوب شلها أو عزلها أو تحييدها، وماذا يجب أن يفعل الشعب الفلسطيني على مختلف المستويات، وأية ثقافة وأية تعبئة وأية شعارات، وكيف تنظم الجبهة الداخلية، والأمر ذاته بالنسبة إلى العلاقة بالشعوب العربية ـ الإسلامية أو بالرأي العام العالمي، ثم كيف التعامل مع جبهة العدو، أو يحدَّد هل هو عدو، بعد اتفاق أوسلو، أم خصم؟ هل هو شريك أم صديق؟ أم أنه كل ذلك؟ إنه مشي نحو مجهول يجب أن يُقبَل ما يفرزه من اتفاقات بلا أية مرجعية أو حسابات أو استراتيجيا.

بكلمة، إن السؤال الذي يطرح على الإسلاميين يجب أن يطرح على الذين قبلوا طريق أوسلو، وهو ما يصعب وصفه بالعمل السياسي بالمعنى المتعارف عليه في الأدبيات كافة، بما فيها أدبيات م.ت.ف.، على اختلافها، حتى أوسلو. وبمعنى أدق، يجب أن تعرَّف كلمة العمل السياسي في واقع حالها المترجم فلسطينياً الآن، وهذا ما كان يجب أن يحدده السؤال وإلاّ أجيب عنه بما هو متعارف عليه.

أمّا إذا سئلت حركتا "حماس" و "الجهاد الإسلامي" في فلسطين عن العلاقة بين العمل العسكري والعمل السياسي، فأحسب أن جوابيهما سيكونان واضحين؛ فهما تعملان عملاً سياسياً واسعاً وفقاً لبرنامج سياسي، ويأتي العمل العسكري ليخدمه. فحركة "حماس"، على سبيل المثال، حركة سياسية قبل أن تكون ذات جناح عسكري، وكانت قبل ذلك جزءاً من حركة دعوية واجتماعية وتربوية وإصلاحية.

ولهذا، ينبغي أن يتعلق السؤال بالموقف السياسي نفسه، أي ما هي الأهداف التي يراد تحقيقها؟ وما هو الدور الفلسطيني في الصراع العربي والإسلامي ـ الإسرائيلي العام؟ ما هي طبيعة الدولة العبرية؟ وما هي طبيعة المشروع الإسرائيلي المطروح قبوله فلسطينياً وعربياً وشرق أوسطياً؟ ووفق أية شروط؟ وما إلى هنالك من أسئلة تتعلق بأوسلو وخياراته وبالوضع الفلسطيني الراهن.

نعم، ما من اتجاه إسلامي في الساحة الفلسطينية يُسأل: هل ترفض العمل السياسي، إلاّ ويقول لك صادقاً: بل أثمّنه وأعطيه درجة أو درجات زيادة على العمل العسكري. فهكذا كانت "فتح" تجيب، في عز شعارات حرب الشعب والقوة المسلحة، لكن السؤال هو: أي عمل سياسي؟ هنا مربط الفرس، كما يقولون.

العمل العسكري وتحرير فلسطين

نأتي إلى سؤال آخر يبدو محدداً أكثر، وهو: هل يمكن للعمل العسكري أن يحرر فلسطين؟ المقصود طبعاً العمل العسكري الفلسطيني. لكن قبل الإجابة، ثمة سؤال: هل تحرير فلسطين هو الهدف المتفق عليه، ومن ثم الخلاف بشأن ما إذا كان العمل العسكري يستطيع تحقيق هذا الهدف أم لا؟ إذا كان هناك اتفاق على أن تحرير فلسطين هو الهدف، فالسؤال نفسه يمكن أن يطرح بشأن العمل السياسي أو بشأن التفاوض: هل العمل السياسي المعني يحررها، أم أن التفاوض هو الذي سيحرر فلسطين؟ وإذا كانت الإجابة عن السؤال فيما عنى العمل المسلح الفلسطيني بالنفي، لأن المطلوب هو الوصول إلى حشد عسكري عربي وإسلامي، فإن السؤال نفسه فيما خصّ التفاوض والعمل السياسي يدخل حيّز اللامعقول. أمّا إذا كان الهدف أقل من ذلك، لنقُل تحرير قطاع غزة مثلاً، فقد كادت المقاومة المسلحة والانتفاضة تتوصلا إلى ذلك حتى بلا مفاوضات، كما هو حادث بالنسبة إلى الجنوب اللبناني، بل جاءت مفاوضات أوسلو بنتائج أقل حين قُبِل ببقاء المستوطنات، ورُضي بالسيطرة الإسرائيلية على الحدود مع مصر، وما إلى هنالك من ألوان السيطرة الأُخرى على القطاع.

وفي أية حال، ليس هنالك مفاوضات تعلو ميزان القوى، أو تأتي بما لا يستطيع أن يأتي به النضال الشعبي والمقاومة المسلحة والحشد العربي والإسلامي والتأييد الدولي. إن المفاوضات من دون ذلك كله هي قبول ما يقبل العدو إعطاءه، وهذا لا يحتاج إلى مفاوضات ولا إلى كل ما جرى خلال عشرات الأعوام الماضية من كفاح وتضحيات؛ فقد كان في وسع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال أن يحصل على أكثر مما أتى به اتفاق أوسلو وما تلاه لو أنه قبِل ما يقبل العدو إعطاءه، أي لو أنه قبِل وقف المقاومة، والتعايش، وحكم ذاته بذاته، ومنع أية مقاومة ضد قوات الاحتلال. أو قُل كان يمكن للشعب الفلسطيني أن يحصل على جميع ما جاء اتفاق أوسلو به من دون ما قُدم من تضحيات وتنازلات مبدئية تمس القضية والحقوق والثوابت، ما دام الحل محصوراً في من هم تحت الاحتلال.

العمل العسكري من الداخل أو من الخارج

يُطرح سؤال فحواه ما إذا كان هنالك فارق، من وجهة نظر إسلامية، بين العمل العسكري انطلاقاً من داخل فلسطين وبين العمل العسكري انطلاقاً من خارج حدود فلسطين، أي من دول التماس.

ربما استفاد العمل الإسلامي كثيراً من وجوده داخل فلسطين ومن عدم استخدامه حدود التماس، خلافاً لما حدث بالنسبة إلى تجربة الثورة الفلسطينية. فلهذا الجانب الداخلي مزاياه الكثيرة إزاء العمل من الخارج. لكن ليس هنالك من اعتراض مبدئي عربي قومي، ولا فلسطيني عروبي، ولا إسلامي، على المواجهة عبر خطوط التماس إذا قبلت الدول العربية ذلك. فالاعتراض حين يقوم يرتكز على اعتبارات عربية، وموازين القوى، والوضع السياسي، والمخاطر التي يمكن أن تواجهها دول التماس، بما في ذلك إمكان تعرض أجزاء من أراضيها للاحتلال أو لضربات انتقامية توجَّه إلى قراها ومدنها. وما لم يتوفر الشرط العربي، الذي يحتمل القتال على خطوط التماس، فإن القتال يصبح غير ذي جدوى وفي غير مكانه. لكن يجب أن نلحظ أنه خدم التجربة الفلسطينية بعض الوقت، وإلى مستوى معين، وإن لم يخلُ الأمر في حينه من تجاوز م.ت.ف. للحسابات الدقيقة في كثير من الأحيان أيضاً.

طبعاً، تظل مقاومة الاحتلال من الداخل، في كل الأحوال، أفضل وأشد فعالية وأضمن من حيث الاستمرارية. والأهم من هذا وذاك هو الوصول إلى الانتفاضة الشعبية. فالانتفاضة الشعبية الشاملة مستوى من النضال أو الجهاد أرقى وأفضل من جميع المستويات الأُخرى، لما تتركه من نتائج سياسية لدى الرأي العام، ولما تحدثه من وضع يكشف الوجه البشع للاحتلال وللدولة العبرية، حتى في أعين أقرب الناس إليهما، ويصبح الدفاع عنهما دفاعاً عن فضيحة لا يقنع أحداً.

إن نقطة الضعف الأساسية في العمل المسلح هي أنه عمل فردي، وضمن تنظيم نخبوي ضيق، وهو قابل للضرب والتدمير، ويمكن أن يستغله العدو إعلامياً حين يوجَّه ضد المدنيين، في حين أن الانتفاضة الشعبية والمقاومة الشعبية السياسية الواسعة (إضرابات، اعتصامات، احتجاجات، تظاهرات، وبمشاركة من الشيوخ والكهول والشباب والأطفال) وبأقل ما يمكن، حتى من الحجارة، هما أشد فعالية لأن قوتهما لا تنضب، ولا يمكن ضربهما إلا من داخلهما، أي من خلال حرف قياداتهما، كما أنهما لا تتركان للعدو ما يتذرع به.

لكن التجربة الفلسطينية أثبتت أن مقاومة الاحتلال يمكن أن تأخذ (وقد أخذت) ألواناً كثيرة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، والنضالات السياسية والطلابية، وصولاً إلى الانتفاضة والمواجهة بكل الشعب. وقد يفرز الصراع في المستقبل ألواناً جديدة من المقاومة، كما حدث في المواجهات احتجاجاً على فتح النفق تحت المسجد الأقصى.

حول نجاعة العمل العسكري والعمل السياسي

أمّا السؤال عما إذا كان العمل العسكري هو الأنجع لتحقيق الأهداف، فالإجابة النظرية عنه تقول إن هنالك أهدافاً لا يحققها العمل العسكري، بل يضرُّ بها، وأهدافاً لا يحققها إلا العمل العسكري وما سواه يضر بها، وأهدافاً لا تحقَّق إلا بالجمع أو بالتتابع بين الأمرين. فالسؤال الذي يقرر الجواب: ما هو الهدف، أو ما هي الأهداف، وما هي الحالة التي يراد معالجتها؟ فلو سئلت القيادة الإسرائيلية لأجابت بأن هدف إقامة دولة إسرائيل لا يتحقق إلا بالعنف والتفوق العسكري والدعم الدولي والتمزيق العربي، وبأن هدف تحقيق السلام في المنطقة تحت الهيمنة الإسرائيلية، وفقاً لمشروع رابين ـ بيرس، لا يتم إلا بالتفوق النووي والعسكري، وبتحديد تسلح العرب، والاستفراد بهم دولة دولة، بدءاً بالشعب الفلسطيني.

فتحديد الهدف هو الذي يسمح بالإجابة الدقيقة، وإن كانت الإجابة عن هذا السؤال، من وجهة نظر إسلامية، قد استفيض بها سابقاً؛ وذلك باعتبار آخر الدواء (العمل العسكري) الكي، وباعتبار اللجوء إلى العمل العسكري دفاعاً أساسياً للرد على عدوان عسكري أو درء احتلال خارجي.

حول التفاوض مع العدو

تبقى نقطة أخيرة يراد لهذه المساهمة أن تعالجها، هي النقطة المتعلقة بالسؤال التالي: متى يُسمح، من وجهة نظر إسلامية، بالتفاوض مع العدو، وتحت أية ظروف؟

هنا أيضاً أمامنا سؤال نظري تجريدي يجب أن يجاب عنه نظرياً وتجريدياً أولاً. فمن وجهة نظر إسلامية، لم يقل أحد من الفقهاء بتحريم التفاوض مع الأعداء تحريماً مطلقاً؛ فالله سبحانه وتعالى أذِن للشيطان في أن "يفاوضه"، إذا جاز التعبير، حين سمح له بالإدلاء بحجته، وردّ عليها، ثم قبِل منه أن يمهله في أن يفعل أفاعيله في غواية البشر إلى يوم الدين. وتضمنت قصص الأنبياء جميعاً محاججة مباشرة مع ألد الأعداء، وعرض في أغلبها الاتفاق قبل المفاصلة. وقد زادت تجربة الرسول، صلى الله عليه وسلم، على ذلك بالتفاوض، حتى بالمعنى الأدق للكلمة، وبعقد صلح الحديبية.

وفي المناسبة، فإن حتى القضايا التي صدر بشأنها تحريم بنص قاطع، تُرك للمسلم رخصة في تعاطيها حين يكون مضطراً غير باغ ولا عاد، وهو الأمر الذي يفترض فهماً أعمق للإسلام عند السؤال عن وجهة نظر إسلامية في أية قضية من القضايا، لأن في استطاعة الإسلام أن يعطي الإجابة الصحيحة عن كل قضية يُستفتى بها، لما يتسم به من شمول واتساع ومرونة ودقة.

بيد أن هذه العمومية في الموقف من التفاوض لا تعني أن التفاوض مجاز في كل الحالات، ولا تعني أن التفاوض مع الدولة العبرية، بصورة خاصة، مجاز من وجهة نظر إسلامية، أو أنه لا يدخل في نطاق المحرم عند بعض الاجتهادات؛ إذ إن تطبيق العام على الخاص ليس واحداً في جميع الحالات؛ فلكل حالة ظروفها وشروطها، وقد يختلف الاجتهاد فيها. أمّا ما صدر بشأن عدم إجازة المفاوضات مع الدولة العبرية، فقد وصل لدى البعض إلى حد تحريم التفاوض الذي يقبل سلفاً التنازل عن أجزاء كبيرة من الأراضي المباركة في فلسطين، ولا سيما الموضوع الأخطر الذي يتعلق بالقدس وقبولها عاصمة موحدة للدولة العبرية. ولا يتغير في الأمر شيء لو أخذت الأماكن المقدسة وضعاً خاصاً ضمن السيادة السياسية الإسرائيلية على القدس كلها؛ فالسؤال كان يجب أن يتجه إلى جوهر الإشكالية المتعلقة بالقدس والأرض. ولهذا، ما كان ينبغي للسؤال أن يحصر نفسه في الموقف من مفاوضة العدو من حيث المبدأ أو مفاوضته نظرياً وتجريدياً، بل كان ينبغي له أن يحدد العدو والقضية والمحتوى، فلا يسأل عن التفاوض من حيث أتى، إلا إذا أريد من الجواب عن السؤال نظرياً أن ينسحب على الخصوصية الفلسطينية تلقائياً، ثم يجير إليه ما ينجم عنه من اتفاقات، وهذا منهج غير مستقيم.

إن رفض التفاوض مع الدولة العبرية، بل إعلان المقاطعة في جميع المجالات، كان قراراً عربياً وفلسطينياً، رسمياً وشعبياً، قومياً ووطنياً وإسلامياً، وذلك في إثر إعلان قيام الدولة العبرية، واغتصابها المزيد من الأرض الفلسطينية، وضربها عُرض الحائط بجميع القرارات المتعلقة باللاجئين وعودتهم وتطبيق قرار التقسيم لسنة 1947. ويضاف إلى ذلك أن الضفة الغربية وقطاع غزة لم يكونا تحت الاحتلال، ولم تكن القدس الشرقية محتلة أو عرضة للضم والتهويد واعتبار القدس كلها عاصمة للدولة العبرية. واستمر هذا الموقف مع لاءات القمة العربية في الخرطوم في إثر العدوان الإسرائيلي سنة 1967.

غير أن هذه اللاءات أسقطها السادات أولاً، ثم تبعته م.ت.ف. وأغلب الدول العربية بالموافقة على مؤتمر مدريد، أو بالموافقة ـ على الأقل ـ على التفاوض المباشر وبالموافقة، من حيث المبدأ، على الصلح والاعتراف في حالة تطبيق قراري مجلس الأمن 242 و338، أو وفقاً لاصطلاح مدريد: "السلام في مقابل الأرض"، أو "الأرض في مقابل السلام".

كانت "فتح" منذ انطلاقتها الثانية سنة 1968 أول من بادر إلى استصدار فتاوى إسلامية تحرم التفاوض والصلح والاعتراف والتنازل عن أي جزء من فلسطين. وكان القوميون العرب هم الأشد تمسكاً بهذا المبدأ، حتى أنهم طعنوا في شعار "فتح" الهادف إلى إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين على كل فلسطين، حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون واليهود فيها وبحقوق متساوية، لأنهم كانوا في المقابل يرفعون شعار فلسطين عربية. ورفعت الجبهة الديمقراطية، لبعض الوقت، شعار فلسطين الاشتراكية بقيادة البروليتاريا. أمّا الشيوعيون، فقد طالبوا عامة بتطبيق القرار 242، وكانوا قبل ذلك قد طالبوا بتطبيق قرار التقسيم لسنة 1947.

ولهذا، كان على الذين استصدروا الفتاوى ضد التفاوض والصلح والاعتراف، ثم غيروا مواقفهم، أن يكونوا هم، لا الذين حافظوا على الأصل وما أُجمع حوله، موضع السؤال، وأن تحاصرهم الأسئلة الخاصة بالتفاوض. وعندما يسوغون تغييرهم للموقف، تصبح أسبابهم التي تقدموا بها هي الجديرة بالنقاش وبوضع النقاط على الحروف، لا المناقشة النظرية التي كانت أسئلتها مطروحة عليهم عندما كانوا على الضفة الأُخرى. ويمكن الإفادة كثيراً من العودة إلى إجاباتهم عنها.

فالتفاوض هنا، حتى بالنسبة إليهم، شذوذ وخروج على القاعدة. فهل تناقش القاعدة، أم يناقش الشذوذ؟ لعل أخطر ما يحدث في الساحة الفلسطينية هو نسف ما هو أصل وقاعدة، ووضع ما هو شاذ وطارئ مكانها؛ وهو ما حدا البعض على التجرؤ على القول "إن الصهيونية ليست عنصرية، وليست حركة رجعية، وإنما هي حركة تحرر وطني."

قد يتفهم المرء حالة خروج على القاعدة، أو حالة شذوذ، شريطة أن تعامَل على أنها الشذوذ لا الأصل. ولا تختلط الأمور في هذا إلا عندما يصبح الخطو خبط عشواء.

إشكال الدولة الفلسطينية

إلاّ إن التغير الأساسي في الساحة الفلسطينية بدأ مع قرار المجلس الوطني الفلسطيني بتبني برنامج النقاط العشر سنة 1974، الذي لُخص بالسعي لإقامة سلطة وطنية مقاتلة على أي جزء يتحرر من فلسطين.

لقد بدأ التغير مع تبنّي هدف إقامة دولة فلسطينية على أي جزء من فلسطين، والمقصود ـ من دون أن يصرح بذلك ـ على أراضي الضفة والقطاع.

هذا الهدف اقتضى أن يُسلَك من أجله كل ما سلكته م.ت.ف. حتى الآن، بل أصبح فوق الأهداف التي حملها القراران 242 و 338 ورسائل الدعوة إلى مؤتمر مدريد. لكنه قبل ذلك جعل من موضوع المفاوضات والصلح والاعتراف أموراً يمكن تجاوزها أو تسويغها، وخصوصاً بعد أن وجدت م.ت.ف. نفسها في تونس، وأصبح حتى وجودها هناك مهدداً؛ إذ أشيع أن مدة الاتفاق على بقائها في تونس عشرة أعوام.

هذه المسألة تُطرح الآن على الإسلاميين كما طُرحت من قبل على "فتح" وسائر منظمات المقاومة. وهي تتلخص في تحديد الهدف، وتحديد الدور الذي يمكن أن تؤديه الحركة الوطنية الفلسطينية أو الحركة الإسلامية في فلسطين، بل تحديد دور الشعب الفلسطيني نفسه؟

لو أن م.ت.ف. لم تطرح شعار إقامة دولة فلسطينية، وحافظت على دورها الأساسي الذي انطلقت منه، وهو التحرير، أو على الأقل حافظت على دور مقاومة الاحتلال إذا أريد التقاطع مع الموقف العربي لأمد طويل، لما تورطت في دخول لعبة المفاوضات، ولما عرّضت القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 للمساومة في مقابل الحصول على حكم ذاتي، وفي أحسن الحالات، على دولة بلا حدود وبلا وحدة أراض وبلا سيادة حقيقية، والعدو يسيطر على حدودها ومياهها وسمائها. أي لو أن م.ت.ف. أبقت الأولوية لإزالة الاحتلال عما احتُل سنة 1967، وتركت مسؤولية ذلك ـ على مستوى المفاوضات والعمل السياسي الدولي ـ على عاتق مصر (قطاع غزة) والأردن (الضفة الغربية)، فضلاً عن مسؤولية سورية وسائر الدول العربية والإسلامية، لما استطاع السادات أن يغسل يديه من غزة في اتفاق كامب ديفيد، ويحيل الشأن الفلسطيني على الفلسطينيين، ولما استطاع الموقف العربي، في مدريد وفي مفاوضات واشنطن، أن يهرب من اعتبار القرارين 242 و 338 ينطبقان على القدس الشرقية وسائر الضفة الغربية وقطاع غزة. وحتى لو أُعطي الأردن هامشاً لإحداث بعض التنازلات، فإنه ما كان في وسعه أن يتنازل عما تم التنازل عنه في أوسلو ـ 1 وأوسلو ـ 2، أو لحصل، على الأقل، في نهاية المطاف بالتأكيد، على ما هو أكثر كثيراً فيما يتعلق بالقدس والأرض والحدود والاستيطان، وإلا تعطلت عملية التسوية. أمّا الذين يرون أن الحصول على "سلطة وطنية فلسطينية"، أو على جواز سفر يحمل اسم دولة فلسطين، بغض النظر عن المحتوى، ويقبلون أن يسموا أبو ديس القدس بديلاً من القدس كلها، فإنهم لا يقبلون مثل هذه الفرضية.

لو خرجت م.ت.ف. من اللعبة السياسية أصلاً، وحافظت على دورها كمقاومة، وتركت أمور التسوية والمفاوضات للدول العربية من دون أن تصطدم بالموقف العربي الإجماعي، وتركت لنفسها دور الحكم النهائي على ما يمكن أن تخرج التسوية به، والأهم لو أنها أبقت باقي أوراق القضية الفلسطينية في يدها، عدا تلك المتعلقة بإزالة آثار عدوان حزيران/يونيو 1967، لتجنبت الكثير من الصدامات الفلسطينية ـ العربية منذ أواخر الستينات، ولتجنبت المساومة بشأن القدس والأرض والحقوق الأساسية، ولما احتاجت إلى الاشتراك في مفاوضات، بل لغلا ثمنها حين تصل الأمور إلى نقطة لا يحلها أحد سواها، ولغلا ثمنها لو تحقق اتفاق عربي ـ دولي ـ إسرائيلي للحل؛ أي لكان في إمكانها بعد ذلك أن تطرح أشكال الهوية الفلسطينية وما قد تقتضيه من سلطة أو دولة أو دولة ضمن فدرالية. لكن ذلك كان يجب أن يكون بعد الانسحاب الإسرائيلي من القدس والأرض، لا قبله.

إن هذه الفرضيات تسمح، إذا صحت، بإجابة دقيقة وواقعية وملموسة عن سؤال بشأن التفاوض في الحالة الفلسطينية كما حدثت في مدريد وأوسلو، أي عدم إجازته. وهي تجعلنا نرى الفخ، أو الحفرة التي وقع الفلسطينيون فيها حين شجعهم السادات والسوفيات على المطالبة بالسلطة، ثم بالدولة، وبالتحول إلى الممثل الشرعي والوحيد، علماً بأن قيادة "فتح" وقطاعاً من القيادات الأُخرى والنخبة الفلسطينية ما كانت بحاجة إلى التشجيع لأنها كانت شديدة التلهف على هذا الدور وهذا الموقع. إنه حلم السلطة، وجاء التشجيع فقط لإعطاء الحماية والغطاء المطلوبين.

لقد تحول هذا الفخ، أو هذه الحفرة إلى قرار عربي إجماعي في مؤتمر قمة الرباط وفي مؤتمرات القمة العربية اللاحقة، "بإعطاء م.ت.ف. صفة الممثل الشرعي والوحيد." إنه قرار غسل اليد العربية من المسؤولية المباشرة عن استرداد القدس والأرض الفلسطينية التي كانت في العهدة العربية، ولو في حدود القرارين 242 و 338. ولهذا، لا عجب من أن يصحب ذلك شعارٌ يردده بعض الدول العربية: "ترضى بما يرضى به الفلسطينيون"، أي تصبح مسؤولية قبول التنازل عن القدس، وما سيحدث من اجتزاءات للضفة والقطاع ـ إضافة إلى قضية اللاجئين وسائر الحقوق في فلسطين ـ مسؤولية فلسطينية. أمّا الآخرون، فهم أبرياء لا يستطيعون أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك.

ومن هنا، ينبغي ألاّ يقع كل الشعب الفلسطيني أو كل الموقف الفلسطيني في هذه الحفرة، وألاّ يبارك هذا الخلل الخطِر الذي يمكن أن يتحول لاحقاً إلى ما هو أسوأ مما رأينا حتى الآن. أي لا بد من أن تبقى رايات أُخرى، بما فيها الراية الإسلامية، مرفوعة وبقوة، تعارض هذا النهج من حيث الأساس لكنها تدفع في الوقت نفسه نحو إبقاء القضية الفلسطينية قضية عربية وقضية إسلامية من الدرجة الأُولى، والتشديد على أن الشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية والأمة الإسلامية، وإبقاء الحالة السياسية الفلسطينية ذات ولاء عربي، بعيداً عما يراد لها أميركياً وإسرائيلياً من أن تصبح جسراً يعبره المشروع الصهيوني للهيمنة على الوضع العربي، أو عما يراد لها من أن تصبح جيباً مثل نموذج الجيب الحدودي في الجنوب اللبناني، أو عما يراد لها من أن تصفي بقية أجزاء القضية الفلسطينية، أي تلك الأجزاء التي كانت مسوّغ تأسيس حركة "فتح" وإقامة م.ت.ف. واندلاع الثورة الفلسطينية. 

السيرة الشخصية: 

منير شفيق: كاتب فلسطيني.