فلسطين الذاكرة، فلسطين المكان... سنة من الاكتشاف
كلمات مفتاحية: 
الذاكرة الجماعية
جامعة بيرزيت
الضفة الغربية
بيرزيت
القومية والذاكرة الجماعية
نبذة مختصرة: 

كُتبت المقالة بعد أن أمضى مغربي سنة جامعية (1995 ـ 1996) في جامعة بيرزيت بالضفة الغربية، ودرّس خلالها في هذه الجامعة، بعد أكثر من ثلاثة عقود من مغادرة فلسطين. ويعرض الكاتب ملاحظاته الشخصية خلال تلك السنة، بعضها إخباري، وبعضها الآخر مبني على مقابلات مع أناس عاديين. فقد كانت السنة بالنسبة إليه شخصياً سنة اكتشافات: اكتشاف فلسطين والفلسطينيين مجدداً، واكتشاف نفسه مجدّداً من خلال ذلك، ومعنى أن يكون فلسطينياً.

النص الكامل: 

 

من مخاطر المنفى أن الواقع الحقيقي الطبيعي لمكان ما يأخذ مع الأعوام في التقلص إلى أن يدخل مملكة الخيال بالتدريج. وفلسطين في خيال المنفيين الفلسطينيين هي مكان حالم عامر ببساتين البرتقال والزيتون والتين، وجوانب التلال المكسوة بأنواع كروم العنب. وقد كانت الفاكهة والخضر، طبعاً، أكبر ما في العالم كله، وأطيبها على الإطلاق. إننا نذكر طعم زيت الزيتون الصافي، والصعتر، وخبز الطابون. كما لا يزال بعض أصوات البلد وروائحه منقوشاً لا يُمحى في نفوسنا، حتى أن خطوات معدودة في مدينة القدس القديمة كافية لإثارة فيض من الذكريات. إننا نذكر الفلسطينيين شعباً رائعاً حريصاً، عانى الكثير من الظلم على أيدي الغزاة والمحتلين الأجانب. ونذكر أماسي أمضيناها مع العائلة والأصدقاء، وزيارات قمنا بها لجدّاتنا وللأقارب الآخرين. إننا نذكر الساعات الطويلة التي كنا نمضيها في الدرس في الحقول، مدفوعين بحماسة هائلة لتحقيق النجاح، للانتقال إلى جامعة ما عظيمة، كي نعود في النهاية للقيام بعمل ما ذي قيمة.

إن الأحلام الأُولى تبقى حية في الخيال. كنا، على سبيل المثال، نحلم ببناء منزل كبير حيث يعيش جميع الأشقاء.. حيث تكون العائلة مجتمعة.. حيث يكون الوالدان قادرين في النهاية على التمتع بحياتهما، محاطين بأبنائهما وأحفادهما. كنا نحلم ببناء مجتمع حر وديمقراطي حقاً في فلسطين المحررة، لا كما في البلاد العربية الأُخرى التي كنا لا نحترم قادتها كثيراً. كثيرون منا لم يسبق قط أن عاشوا تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولم يكونوا يعلمون عن المجتمع الإسرائيلي أي شيء تقريباً. وفي أوائل الخمسينات من القرن الحالي كنا، تحت الإدارة الأردنية، نحرص على عدم الاستماع إلى الإذاعة الإسرائيلية، حتى أن المرء كان حريصاً على ألاّ يقرأ أدب الفلسطينيين الذين ظلوا في فلسطين تحت السيطرة الإسرائيلية. لكن، سراً، كنا نقرأ الأشعار المهربة لمحمود درويش وسميح القاسم.

كنا، ونحن نكبر، واثقين بأن إسرائيل، هذا الجسم الغريب الذي حل محلنا، لن تبقى إلا فترة قصيرة من الزمن. كنا نفكر في أننا نستطيع في النهاية أن نمحوها من وجودنا ومن ذاكرتنا. لكن هذا الكيان أخذ، في وقت لاحق، يغزو خيالنا كشيء حافل بالتهديد والخطر. أعمال مقاومته كانت تمجَّد. والشعور بالتفاؤل الكاذب قاد الكثيرين إلى الاعتقاد أن يوم التحرير قريب المنال. وفي كل مرة كانت تحدث لنا خيبة أمل كبرى، كان الحلم يبتعد، لكنه لم يكن ليخرج من خيالنا قط.

بعد أكثر من ثلاثة عقود من مغادرة فلسطين، عدت إليها باحثاً بمنحة من مؤسسة فولبرايت للسنة الدراسية 199 ـ1996، أدرّس في جامعة بيرزيت، وأقوم بالبحث في المجتمع الفلسطيني. كانت غايتي الرئيسية أن أتفحص القيم وأنظمة الاعتقاد، ومواقف الفلسطينيين، لأرى أي نوع من الثقافة السياسية هو الذي نشأ، وأي أنواع من القلق والمشاغل تشغل الفلسطينيين بينما هم يقبلون على عملية بناء الوطن في هذه الفترة الانتقالية المهمة.

حقاً، كنت كتبت وحاضرت بصورة موسعة في المسألة الفلسطينية، لكن لم يكن في خبرتي السابقة ما يجعلني مهيَّأً للصدمات التي واجهتها عند عودتي. وسرعان ما اكتشفت كم كنت، خلال أعوام كثيرة من حياتي، بعيداً عن الواقع. كذلك اكتشفت مدى الخلل الذي طرأ على بنيتي المعرفية بفعل تغطية وسائل الإعلام الأميركية للأحداث في المنطقة.

وفيما يلي بعض الملاحظات الشخصية خلال تلك السنة، بعضها إخباري، وبعضها الآخر مبني على مقابلات مع أناس عاديين. أمّا على المستوى السياسي، فقد تميزت هذه السنة بأحداث كبرى هي: انسحاب القوات الإسرائيلية من عدة مدن رئيسية؛ مجيء السلطة الفلسطينية؛ اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين؛ الانتخابات الفلسطينية في 20 كانون الثاني/يناير 1996؛ فرض الإقفال شبه التام على المناطق الفلسطينية؛ ثم الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. وأمّا على المستوى الشخصي، فقد كانت هذه السنة بالنسبة إليّ سنة اكتشافات. لقد اكتشفت فلسطين والفلسطينيين مجدداً؛ وفي هذه العملية اكتشفت نفسي مجدداً، كما اكتشفت مجدداً معنى أن أكون فلسطينياً.

إن جمال هذا البلد القديم يستحوذ عليّ. أسوق السيارة ساعات، ناظراً بذهول إلى الملامح الطبيعية اللافتة في منطقة الريف التي لم أر مثلها في أي مكان آخر في العالم. في الربيع تتفتق الطبيعة عن عدد كبير من الألوان لا يصدَّق. إلا إنني، على الرغم من ذلك، لم ألتق إلا قلة من الناس الذين عبّروا لي عن أي تقدير لهذا الجمال؛ بينهم رجا شحاده وزوجته بِيني اللذان يحبان التنزه في الريف؛ وصالح عبد الجواد الذي يسير ساعات في الحقول ويعرف، على ما يبدو، كل صخرة، ويتحمس للنباتات النادرة وللزهور البرية. غير أن أكثرية الفلسطينيين تنظر إلى الريف باعتباره واقعاً قائماً قلما يتنبهون له. لست أعلم هل تعد المدارس لتلامذتها نزهات في الريف لتعليمهم كيف يقدّرون جمال المكان والحاجة إلى المحافظة عليه؛ غير أنني أعتقد أن القيام بمثل هذه الأنشطة أمر ضروري، ويجب أن يصبح جزءاً من المنهج الجديد للتعليم الفلسطيني الابتدائي والثانوي.

في المجتمع الفلسطيني، كما في المجتمعات الأُخرى في الشرق الأوسط، هنالك تمييز واضح بين المكان الخاص والمكان العام. ربات البيوت والتجار ينظفون بدقة وإتقان بيوتهم ودكاكينهم من الداخل، ثم يرمون الأقذار في الشارع؛ المكان العام هو مسؤولية شخص آخر، وينظر إليه ـتاريخياًـ باعتباره مسؤولية الحكومة. وبما أن الفلسطينيين ما عرفوا حكومة لينظروا إليها باعتبارها حكومة لهم، فإن الأمكنة العامة تُركت مهملة غير منظمة. ثم إن أعوام الاحتلال الإسرائيلي وجهت ضربة قاسية إلى الأمكنة العامة: الطرقات الحالية التي تعود إلى أيام الانتداب البريطاني أو إلى ما قبله، لم ترمَّم. النفايات في كل مكان. وعلى الفور يلحظ المرء عدداً كبيراً من أكياس النفايات البلاستيكية السود يتطاير في كل مكان. المباني العامة خربة. لقد جمع الإسرائيليون الضرائب من الفلسطينيين، لكنهم لم يوظفوا أي مال في البنى التحتية في هذه المناطق.

وما أعلمه هو أن الفلسطينيين لم يحاولوا تنظيم مشاريع جماعية للمساعدة الذاتية بقصد صيانة الأمكنة العامة، أو تنظيفها، أو تحسينها. وفي الحقيقة، كانت مشاريع المساعدة الذاتية أوفر حظاً في عهد الانتداب البريطاني منها الآن. ففي تلك الأعوام، وظفت السلطات الانتدابية، على سبيل المثال، القليل جداً من المال في التعليم، لكن الفلسطينيين كانوا يجمعون الأموال لإنشاء المدارس في قراهم وبلداتهم. وفي النهاية، كان ما أنفقوه على التعليم أكثر مما أنفقته الحكومة في هذا المجال.

أمّا الآن، وقد قامت سلطة فلسطينية مركزية أول مرة في التاريخ، فإن الأمور آخذة في التغير. وفي ظل السلطة الفلسطينية، في رام الله، على سبيل المثال، أصبحت الشوارع أنظف، وأخذت مستوعبات النفايات تظهر في الشوارع. هذه خطوة في الاتجاه الصحيح؛ غير أن المرء لا يزال يرى في أنحاء كثيرة من رام الله منازل فخمة مبنية بإتقان، ويسكنها أناس على مستوى عال من التعليم، وبجانبها أكوام الأقذار ومواد البناء المتبقية. إن أحياء من هذا القبيل يجب ألاّ تنتظر شاحنات البلدية لنقل النفايات، والسكان قادرون على تحمل تكلفة استخدام بعض العاطلين عن العمل، وهم كثر، لتنظيف شوارعهم وأحيائهم.

ولا بد من بذل جهد رئيسي لجعل الناس يعون أهمية العناية بالأمكنة العامة. وعلى المدارس القيام بدور مركزي في تشجيع ذلك، على خلفية الاهتمام بالبيئة بين الأولاد. كذلك على رجال الشرطة أن يكونوا صارمين في فرض الغرامات على الذين يرمون الأوساخ في الشوارع. صلاح التعمري، أحد المندوبين المنتخبين من بيت لحم، قال ذات مرة معلقاً: "كثيرون هم الذين على استعداد للموت في سبيل فلسطين، لكن كم واحداً منهم على استعداد لإبقائها نظيفة؟"

إن مدينة بيت لحم، حيث نشأت، جوهرة بالكُمون؛ فهي جذابة بغرابتها، وهادئة، وذات مشاهد طبيعية خلابة. ومكانتها المركزية في التاريخ تجعل منها ملاذاً سياحياً محتملاً. لكن شوارعها وسخة، والكثير من مبانيها القديمة الجميلة في حالة بائسة، والمدينة تبدو حزينة جداً. ويشعر المرء بانعدام القيادة في المدينة. ولا أعني بذلك أن القيّمين على السلطة الحالية في المدينة غير معنيين بها؛ إنني واثق بأنهم مهتمون بها. لكن ما أعنيه هو أن الذين يسكنون المدينة لا يتصرفون كأنهم فخورون بها. المقيمون فيها من المتعلمين والمختصين يعيرون القليل من الوقت أو الاهتمام للتفكير في خير المدينة ككل، أو في طرق تحسينها. ويشعر المرء بأن الإقامة في المدينة هي، بالنسبة إلى الكثيرين منهم، مجرد إقامة موقتة. ونادراً ما يسمع المرء بجهود لجمع الناس معاً من أجل مناقشة طرق تحسين المدينة والتأكد من أن الإنشاءات الجديدة لا تؤذي الناحية الجمالية في المشاهد الريفية. وكثيراً ما يسمع المرء حكايات عن اعتمادات اختفت، وعن وعود لم تنفذ. أعرف أن هنالك رابطة لبيت لحم، كبيرة وثرية، في أميركا الشمالية، تستضيف مؤتمراً سنوياً. وينبغي لهذه الرابطة أن تصبح أكثر اهتماماً بالسعي لجعل بيت لحم ذلك المكان الرائع الذي يمكن أن تكونه بسهولة. وفي وسع الرابطة أن تسعى لجمع الاعتمادات، وأن تستخدم الخبراء، وأن توفد المندوبين، وأن تعزز مكانة المدينة عالمياً.

على مدى أجيال من الفلسطينيين في هذا القرن، كانت السياسة تطغى على أي شيء آخر في الحياة. كل فلسطيني تقريباً يعتبر نفسه زعيماً سياسياً كبيراً يحمل على كتفيه العبء الثقيل لتحرير فلسطين. ولذلك، فإن الأطباء والمهندسين ورجال الأعمال والطلاب والمزارعين والأساتذة والمدرسين يشغلون أنفسهم بالسياسة. كل إنسان تقريباً نشأ وهو يعتقد أن مهمة تحرير فلسطين هي شاغله الوحيد والأهم في الحياة.

وباستثناء بعض اللحظات في أثناء فترة الاحتلال، ولا سيما في أثناء الانتفاضة، فإن السياسة الفلسطينية كانت دائماً سياسة القضايا الكبيرة؛ أي أنها كانت نوعاً من السياسة العليا التي تتناول الاستراتيجيا والحوار الوطني. ونادراً ما كانت على صلة بالملموس من حياة الناس. وبكلام آخر، إنها لم تكن سياسة الأمور التفصيلية. وعلى نحو ما، كان الشغل بالتفصيلات يُنظر إليه باعتباره أمراً مملاً ومتعباً. وكانت التفصيلات تُترَك للآخرين ليعتنوا بها، والأصح أنه كانت تؤجل إلى وقت لاحق. ولذلك، كانت السياسة الفلسطينية مشغولة دوماً بتحرير فلسطين، لا بالفلسطينيين.

ولعل غياب السياسة التفصيلية الصغيرة يفسر الفجوة الدائمة بين الشعب على مستوى القاعدة وبين الفئات السياسية المتعددة. فهذه الفئات السياسية، باستثناء بعض الجماعات الإسلامية، هيـ على ما يبدو ـمشغولة بالقضايا السياسية العامة أكثر منها بالحاجات الملموسة لأتباعها. ثم إن ذلك يمكنه أيضاً أن يفسر فشل الفلسطينيين، مع بعض الاستثناءات القليلة، في إيجاد ودعم مؤسسات عاملة قابلة للاستمرار. إن إغلبية المؤسسات التي أوجدوها داخل فلسطين وخارجها، على حد سواء، تدوم ما بقيت إدارتها تجري بطريقة أبوية سابقة للعصر الحديث.

هنالك مؤسسات كثيرة مثل هذه المؤسسات يشير الناس إليها، بصورة عامة،
بـ "الدكاكين". وهي تعتمد على التمويل الخارجي من أجل بقائها، وتقيم علاقات بالمتبرعين الأجانب، وتوفر العمالة وبعض المكانة لطبقة صغيرة من أصحاب الأعمال. والدراسات والتقارير تُكتب عادة باللغة الإنكليزية (لا بالعربية للأغراض المحلية) من أجل تأمين المزيد من التبرعات وإثبات الجدارة. ثم إن هؤلاء الذين يتلقون الأموال لا يميزون البتة بين أنواع المتبرعين، وهم يميلون إلى تنفيذ رغبات المتبرعين. وإذا حدث مصادفة أن كان المتبرع جماعة أميركية يمينية لها صلات وثيقة باللوبي المناصر لإسرائيل، وهي على استعداد لدفع المال شريطة دعوة مستشارين مناصرين لإسرائيل معروفين، فليكن ذلك. المال يؤخذ والمستشارون يُدعَون. وأي ضرر ينجم عن ذلك يُهمل أو يُطرح جانباً في الغالب. إن الأمر المهم حقاً هو أن يستمر دفق المال، وأن تبقى المؤسسة قائمة عاماً آخر.

ليس هناك فلسفة أو أيديولوجيا أو مجموعة قِيم توجه البحث عن الاعتمادات. هنالك نخبة متعلمة، غربية التوجهات، تستفيد من هذه "الدكاكين". فهي، بالإضافة إلى العمالة المربحة، تنتفع بالرحلات الخارجية وبازدياد الشهرة. وهكذا نشأ نوع من صناعة تدور حول المسألة الفلسطينية. إنه مشروع تجاري يعمل لاستمراريته بحاجاته ومقاييسه. وكأي مشروع تجاري، فإن أصحابه يحرصون على حماية مجالاتهم. وكل من يأتي من الخارج ينظر إليه دائماً تقريباً أنه منافس محتمل. والغريب في أمر هذه الطبقة من المقاولين هو أن عضويتها تعكس جميع الألوان السياسية، من محافظين ومعتدلين وتقدميين وراديكاليين. والرابط الذي يجمعهم معاً هو، على ما يبدو، الفكرة القائلة إن من "الشطارة" عند انفراط الأمور الاهتمام بالمصلحة الشخصية.

ومن شأن ذلك أن يطرح مشكلة جدية لأولئك المختصين المستعدين والقادرين على تقديم شيء ما لشعبهم في هذه الفترة من بناء الوطن. هل يمكن استيعابهم والانتفاع بهم؟ هل يمكنهم أن يجدوا جواً يقدرون على العمل فيه ويكونون فاعلين؟

لقد لاحظت أن القليل جداً من المؤسسات العاملة حالياً في فلسطين قادر على استيعاب أعداد كبيرة من المختصين ذوي الكفاءات العالية، ممن هم على استعداد لتقديم خدماتهم في المدى القصير أو في المدى الطويل. ومع ذلك، فإن الجهد جدير بأن يُبذل. هنالك عمل مختص رفيع المستوى ينفذ في بعض المجالات، ولو في ظل أوضاع هي دون المثلى. وعلى الرغم من التوجهات نحو البيروقراطية، فإن هنالك محاولات تجري ـكما في وزارات معينة كالتعليم والصحة، على سبيل المثال ـ لإنشاء مشاغل حديثة ومنتجة. وهنالك أيضاً مؤسسات مدنية مستقلة تستمر في العمل بصورة فعالة. وهكذا، وعلى الرغم من المضايقات، فإنني أعتقد أن على أولئك الذين يرغبون في المساهمة في عملية بناء الوطن أن يفعلوا ذلك. إن جهدهم سيكون مثمراً. وإذا ما عاد عدد كاف ونشأت كتلة ذات وزن حاسم، فإنه يمكن أن يتحسن الوضع، ويمكن أن تبدأ التغيرات المثيرة في التحقق. ومثل هذه الكتلة الحرجة يمكن، في مثل هذا المكان الصغير، استحداثه بسرعة، كما يمكن أن يكون له تأثير مهم في بقية جوانب المجتمع. إن إنشاء مؤسسة واحدة فقط تعمل على أسس عقلانية، حيث يصار إلى تطبيق معايير الكفاءة من دون سواها، وحيث يصار إلى مكافأة الإنتاجية، قد يكون نموذجاً لمؤسسات أُخرى، وسيؤثر ـبلا ريب ـفي الإجراءات في المؤسسات الأُخرى.

والمكان الواضح للشروع في ذلك هو الجامعة؛ هنا يلتقي "الأفضل والألمع" في الغالب. ولا مبرر منطقياً لإدارة الجامعات الفلسطينية بالطريقة الأبوية كجميع المؤسسات الأُخرى في المجتمع الفلسطيني. إن أولئك الذين يديرون الجامعات أصحاب درجات علمية من عدد من خيرة الجامعات في العالم. والفلسطينيون فخورون بأن لديهم العدد الأكبر من خريجي الجامعات بين جميع بلاد العالم الثالث. على أن هنالك أسئلة مهمة لا بد من أن تُطرح: لماذا يبدو التحصيل العلمي لأولئك المشرفين على إدارة المؤسسات مقطوع الصلة بالطريقة التي تدار بها هذه المؤسسات؟ لماذا يكون خريجو أفضل الجامعات في العالم عاجزين عن إنشاء مؤسسة حديثة قابلة للحياة؟ لماذا لا يوجد ترابط بين التحصيل العلمي والتصرف الشخصي؟ لماذا يكون الأفراد الذين يحملون درجات علمية متقدمة على استعداد للعودة والقبول بشروط تقارب شروط العصور الوسطى في مجتمع يضع قيوداً صارمة على التصرف الشخصي؟

يبدو أن هنالك نمطاً من الداروينية الاجتماعية يتحكم في المجتمع الفلسطيني، حيث تسود الفردية الفجة، وحيث البقاء للملائمين والماهرين وذوي الصلات الجيدة. أمّا الضعاف والفقراء، بالإضافة إلى الذين لا "واسطة" لهم، فهم الخاسرون. وفي أثناء الاحتلال، وكالسجناء الذين يقومون أحياناً بتقليد سجانيهم كوسيلة للبقاء، أصبح الكثيرون من الفلسطينيين مشبعين بثقافة المحتل؛ صاروا غلاظاً، عدوانيين، يعوزهم التهذيب في التعامل مع الآخرين، وغير معنيين إطلاقاً بأي شيء يتجاوز منفعتهم الشخصية. وصار الكذب والغش نمطاً شائعاً في تسيير الأمور لدى الكثيرين من الناس. إن هؤلاء ليسوا هم أنفسهم الذين تركتهم منذ أعوام بعيدة. إن شيئاً ما مخيفاً حدث لهم في أثناء أعوام الاحتلال الإسرائيلي.

منذ وقت وجيز قرأت مقالاً لحسن البطل، وهو صحافي فلسطيني بارز، في صحيفة "الأيام" اليومية، يشجب فيه بعنف العادات السيئة للناس الذين يتمشون على الطرقات العامة في المدن والبلدات في الضفة الغربية. الناس يسيرون ببطء، كل ثلاثة منهم في صف واحد، لا يفسحون لك في المجال، حتى لو طلبت ذلك منهم بلطف. ولا أستطيع أن أعد المرات التي صُدم فيها طفلي، وهو ابن سنتين، على رأسه من قِبل تلامذة المدارس الذين يمشون ثلاثة أو أربعة جنباً إلى جنب، وقد راحوا يطوحون حقائبهم المدرسية بقلة مبالاة. لا مجاملة ولا رحمة في وسائل النقل العامة أو في الشوارع حيال المسنين، والنساء اللواتي يصطحبن أطفالهن، والأشخاص ذوي العاهات الظاهرة. إن التصرف في أثناء سياقة السيارات يعكس أمرين في وقت واحد: غياب حسن السلوك في الأمكنة العامة، وعدم وجود سلطة تعاقب على مخالفات القواعد الأساسية.

إن المجتمع الفلسطيني مجتمع مغلق في عدة وجوه. العائلة هي عادة المجال الأول للحياة الاجتماعية. الناس يظلون لائذين بالبنية العائلية من أجل السلامة والتسلية معاً. هنالك، إذاً، وقت قليل أو اهتمام ضئيل بإقامة علاقات مع الآتين من الخارج. حتى المتعلمون أنفسهم يبدون القليل من الاهتمام بالترحيب بالآخرين. ولا يكاد يتوفر أي اهتمام أو أي حب استطلاع تجاه الثقافات الأُخرى، أو تجاه أقطار العالم الأُخرى. وفي اللقاءات الاجتماعية، لا يثار إلا موضوع واحد هو السياسات المتعلقة بالمسألة الفلسطينية. ولم يدعُني أحد، خلال هذه السنة كلها، لأحاضر بشأن السياسة الأميركية أو المجتمع الأميركي، مع أنني أخبرت الكثيرين باستعدادي للقيام بذلك. كل فرد يتكلم عن السياسة الأميركية ويتساءل عما يمكن أن يفعله الرئيس كلينتون. غير أن الجهل بأميركا متفشٍ حتى بين أولئك الذين تعلموا فيها. أعتقد أنني أستطيع القول بثقة إن كل واحد، من صانع القرار إلى الأقل تعلماً، يساهم في خرافة أساسها أن السياسة الأميركية تتقرر بواسطة لوبي يهودي كلي القدرة. ووفقاً لهذه الخرافة، فإن أميركا بريئة؛ إنها ببساطة مخدوعة من قِبل اللوبي. ولو أن الأميركيين رأوا النور، لنهجوا سياسة أكثر توازناً في المنطقة. إن أميركا تؤدي دوراً مباشراً، وحشياً في أحيان كثيرة، في سياسة المنطقة. وما يملي تصرفاتها هو مصالحها الاستراتيجية. ومع ذلك، فإن هنالك جهلاً متفشياً بحقيقة أميركا ومجتمعها وتاريخها وسياستها الخارجية وثقافتها. وبحسب ما أعلم، ليس هناك موضوع دراسة، ولا مركز بحث، ولا جامعة، في أي مكان في العالم العربي، لدراسة أميركا ودورها في المنطقة.

الفلسطينيون مأخوذون بالسياسة إلى درجة استبعاد أي اهتمام آخر. ولعل هذا المجتمع هو الأكثر تسيساً في العالم. الناس العاديون يصغون إلى عدة نشرات أخبار كل يوم. يشاهدون محطة التلفزة الإسرائيلية ومحطة التلفزة الأردنية، ثم محطة التلفزة الفلسطينية الناشئة حديثاً. ومثل هذا الانغماس في السياسة هو نتيجة طبيعية لظروف الحياة المادية، حيث السياسة تقرر كل شيء، وحيث الاستثنائي يطغى على ما هو عادي. الحياة ليست، بعبارة أُخرى، طبيعية. إن مجتمعاً تصبح الحياة فيه رتيبة يستطيع أن يتحمل ترف القراءة، ومناقشة المؤلفات المتخيلة، ومشاهدة الأفلام الجديدة، وحضور الحفلات الموسيقية والمسرحيات.

هنا يبدأ المرء رؤية إشارات إلى حياة ثقافية ناشئة بين الفلسطينيين. والحدث الثقافي الأهم خلال العام الماضي كان قراءة محمود درويش مختارات من شعره أمام جمهور حاشد في جامعة بيرزيت. يضاف إلى ذلك أن الفنانة الفلسطينية الكبيرة، سامية حلبي (التي تقيم وتعمل في مدينة نيويورك)، قدمت في رام الله والقدس الشرقية عدداً من الأحاديث عن فنها. وأُقيم في رام الله أيضاً مهرجان موسيقي مؤثر، حضره جمهور غفير، كما حدث ذلك في عدد من المدن الأُخرى. إن مثل هذه الأحداث مهم لأنه يوفر المناسبات لالتقاء الناس، وللاتصال فيما بينهم بطرق جديدة، وللمشاركة في الأمور المتشابهة، وللاحتفال.

إن الحاجة إلى التفكير في طرق جديدة وخلاقة للجمع بين الناس أمر بالغ الأهمية، لأن المجتمع الفلسطيني مقسم تقسيماً عميقاً، ومشوه إلى حد بعيد. فهو مقسم من وجوه متعددة: الجنس؛ الدين ومستويات التدين؛ المنشأ، أي اللاجئ في مقابل المقيم أو العائد؛ الموقع الجغرافي، أي ابن الضفة الغربية في مقابل ابن غزة، والقروي في مقابل ابن المدينة؛ الوضع الاقتصادي الاجتماعي، أي الانتساب إلى عائلة كبيرة معروفة، أو إلى عائلة عادية؛ أخيراً الصلة (إذا كانت موجودة) بما هو فلسطيني، وعلى أي مستوى.

والمثير للحيرة هنا هو أن هذه التقسيمات الصارمة لا تزال مقبولة، على الرغم من التقدم المهم في التعليم ومستويات معرفة القراءة والكتابة، وعلى الرغم من التاريخ الطويل للنضال المشترك في وجه الاحتلال الإسرائيلي. إن مجتمعاً في مرحلة انتقالية، يواجه تغيراً سريعاً ومثيراً، يتوقع له أن يتمسك بالروابط البدائية للمحافظة على نفسه.

ثم إن المجتمع الفلسطيني مشوه كذلك من ناحية نفسية. فالنخبة المتعلمة منقسمة إلى "شِلَل"؛ ليس لدى أي فرد فيها شيء لطيف يقوله عن أي فرد آخر في "الشلّة" الأُخرى، أو حتى في "شلّته". فجو السلبية هو السائد. "القيل والقال" بدلاً من العمل المنتج. ويضاف إلى ذلك أنه يندر أن تتوفر الاستمرارية بين شعور المرء تجاه قضية معينة وبين تحليله للأمور وتصرفاته. التصرف خاضع للحسابات الخفية التي تستند إلى المصلحة الشخصية والمحافظة على النفس. هنالك تمييز واضح بين الحوار العام والحوار الخاص.

إن الفصل بين اللغتين العامة والخاصة ضرورة فرضتها الأحوال السياسية الاستثنائية التي يعمل الناس في ظلها. وقد وصف ريزارد كابوشينسكي (Ryzard Kapuschinski)، في كتابيه عن شاه إيران وإمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي، مثل هذه الظاهرة ذاتها في المجتمعات الديكتاتورية والمقهورة. فالناس يتجولون بأكثر من شخصية: واحدة تألف التعامل مع الإسرائيليين، وواحدة تتعامل مع السلطة الفلسطينية، وأُخرى تتعامل مع آخرين مساوين لها إلى هذا الحد أو ذاك، ورابعة تتعامل مع آخرين دونها من حيث المكانة، وخامسة تتعامل مع العائلة والأصدقاء.

إن الفلسطينيين يعيشون تحت ضغط شديد جداً. الحياة اليومية صعبة للغاية. وهي الآن، في هذه الفترة الموسومة بالسلمية، أشد تعقيداً. وإغلاق الحدود يعني أن الناس لا يستطيعون الذهاب من مدينة إلى أُخرى، أو من قرية إلى أُخرى أحياناً. إن زيارة القدس، وهي المركز الروحي والاقتصادي والاجتماعي والفكري في حياة الفلسطيني، أقرب إلى المستحيل. ومحاولة الحصول على تصريح بالسفر إلى القدس، أو بالذهاب إلى مطار تل أبيب للسفر إلى الخارج، تتحول إلى عقبة رئيسية. لقد تحولت فلسطين إلى بلد تصاريح، وسياجات من الشريط الشائك، ونقاط تفتيش، وحدود دقيقة يستمر تنقلها على حساب الفلسطينيين.

إن الطلاب من قطاع غزة لا يستطيعون الحضور إلى جامعاتهم في الضفة الغربية. وأولئك الذين لا يزالون في رام الله يعيشون في خوف دائم من الاحتجاز على نقاط التفتيش وإعادتهم إلى غزة. بعضهم يمضي الليالي الباردة في التلال متخفياً عن الحرس الإسرائيلي.

والناس الذين يعيشون بالقرب من القدس، على بُعد أمتار قليلة من حدودها البلدية، لا يستطيعون الحصول على تصاريح بالعمل فيها. وأولئك الذين يعملون بصورة غير شرعية قد يُعتقلون ويغرَّمون ضعف ما يكسبونه في الشهر الواحد على الأغلب. والحياة أصبحت لأكثرية الناس مغامرة ضخمة. إن الذهاب إلى العمل، أو إلى المدرسة، نشاط بالغ الخطورة.

ونسبة البطالة في غزة تبلغ، على مايقال، نحو 60%، وهي نحو 50% في الضفة الغربية. ولقد كان لإغلاق الحدود تأثير مدمر في الاقتصاد الفلسطيني. والمرء يسمع أول مرة أن هناك جوعاً، وفي غزة ما يقارب المجاعة بين الفلسطينيين. وتحمل الصحف حكايات عن فلسطينيين يفتشون النفايات خارج العيزرية، حيث ترمي بلدية القدس نفاياتها؛ أو حكايات عن أطفال وراشدين يختصمون بشأن فتات الخبز في سوق نابلس. السلم لم يحقق تحسيناً في حياة الناس؛ على العكس من ذلك، لقد أصبحت الحياة أصعب بالنسبة إلى أغلبية الناس.

ولضغوط الحياة اليومية وطأتها الشديدة على الناس. وفي كثير من القرى، ربما تتفجر مشكلة ثانوية معركةً واسعة بين القرويين. وخلال أسبوع واحد، سمعت بوقوع ثلاث خصومات واسعة بين القرويين في ثلاثة مواقع على الأقل: اثنتان منها في جوار نابلس، وواحدة في جوار بيت لحم. العنف قائم تحت السطح، قريب منه، ينفجر بضراوة لأي سبب مهما يكن بسيطاً. والتاريخ يروي لنا أن الضعاف والعاجزين، إذا تُركوا للتنازع في شؤون المعيشة، كانوا باستمرار ينقلبون بعضهم على بعض.

إن ملاحظاتي الخاصة تترك فيّ انطباع أن الفلسطينيين الذين يقضون نحبهم بأمراض ذات صلة بالضغوط، يتزايدون. وينبغي لأحد ما أن يتقدم بطلب منحة للقيام بدراسة مجدية بشأن أنواع الأمراض المسجلة في التقارير الطبية، وأسباب الوفاة وحدوث الجلطات الدماغية بين الفلسطينيين. ومنذ فترة وجيزة، قرأت مراجعة قام بها طبيب إسرائيلي لعدد من الكتب التي تتناول الطب الصيني الذي يركز في الدرجة الأُولى على العلاقة بين الضغط والصحة. وقد ختم المراجع مقاله بالقول إن هذه الكتب تضم معلومات مفيدة بشأن تقنيات الاسترخاء التي تنفع الإسرائيليين الذين يعيشون تحت ضغط شديد. وتساءلتُ في نفسي: إذا كان الإسرائيليون يعتقدون أنهم يعيشون تحت الضغط، فعليهم أن يأتوا إلى هنا ليروا كيف يعيش الفلسطينيون.

قبل عودتي إلى فلسطين، كنت أعتقد أن الناس الذين قاموا بالانتفاضة سيؤكدون، حين تسنح الفرصة لهم، رغبتهم في أن يحيوا حياة ديمقراطية. إنني ما زلت مقتنعاً اقتناعاً راسخاً بأن النظام الديمقراطي هو حقاً نظام الحكم الأفضل والأجدى للفلسطينيين. المجتمع الفلسطيني تعددي، علماني في الغالب، مسيس إلى درجة بعيدة، ومعقد نوعاً ما. إلا إن المؤسسات التي تقام الآن والأساليب المستخدمة بعيدة عن الديمقراطية.

إنني أختلف كلياً مع أولئك الذين يعتقدون أن اليد الحازمة فقط هي التي تستطيع أن تحكم الفلسطينيين. مرة بعد مرة يسمع المرء أشكالاً متعددة من قول قديم هو أن العرب لا يفهمون إلاّ لغة القوة. على العكس من ذلك، إنني أعتقد أن الفلسطينيين يستطيعون، إذا سنحت الفرصة لهم، أن يصبحوا المجتمع الديمقراطي الوحيد حتى الآن في العالم العربي. إن انتخابات 20 كانون الثاني/يناير 1996 تعزز، على ما يبدو، هذا الاعتقاد.

لقد رصدتُ هذه الانتخابات عن كثب. رافقت عدداً من المرشحين، وقابلت الكثيرين منهم، وتحدثت إلى ناخبيهم، وحضرت اجتماعاتهم في الحملات الانتخابية. يضاف إلى ذلك أنني راقبت العملية الانتخابية يوم الانتخاب. من الصعب المبالغة في نوع الحماسة الذي ولَّدته الانتخابات، بما في ذلك رغبة الناس في اغتنام اللحظة للتعبير عن حريتهم، وعن حقهم في تقرير مصيرهم. وبوجه عام، وعلى الرغم من بعض الشواذ ومما حدث بعد الانتخابات، يمكن للمرء أن يقول بثقة إن تلك كانت لحظة عظيمة في تاريخ الشعب الفلسطيني.

إن نحو سبعمئة مرشح تقدموا للفوز بما مجموعه 88 مقعداً. وأغلبية الذين نحجوا أفراد أكفياء. إن حقيقة أن الأكثرية هي من حركة "فتح" فُسرت، خطأ، بأنها انتصار للحزب الحاكم. الواقع هو أن هؤلاء المسؤولين المنتخبين يمثلون عدداً كبيراً من الآراء بشأن كبير من القضايا. الإجماع القديم لم يعد قائماً بين الفلسطينيين؛ إن الفئات القديمة لم تعد تحتكر النقاش السياسي. الحقيقة هي أن الانتخابات يجب أن تُعتبر اللحظة التي حددت حالة فلسطينية جديدة، ثم، في النهاية، ثقافة سياسية فلسطينية جديدة، وربما ديمقراطية.

إن المقاييس الفعلية لهذه الثقافة السياسية الجديدة يجري وضعها في الوقت الحاضر. والنزاع الدائر حالياً بين الرئيس والمجلس التشريعي، المنتخب من الشعب، سيحدد نوع النظام السياسي الذي يتوقع نشوؤه. هل سيقيم الفلسطينيون حكومة مماثلة للحكومات العربية الأُخرى، حيث تتخذ المقررات بالأمر، وحيث يقوم جهاز أمن محكم بفرض الطاعة؟ أم أنهم سينشئون نظاماً أكثر ديمقراطية، قائماً على الرقابة والتوازن، وعلى حكم القانون، وعلى الحريات الأساسية؟

في إثر الانتخابات مباشرة، حاول الرئيس أن يهمّش دور المجلس. ولا تزال السلطة التنفيذية تهمل مقررات المجلس. ووسائل الإعلام يُطلب منها ألاّ تغطي جلسات المجلس. والظاهر أن الاتجاه الذي يسير نحو الديمقراطية بفعل الانتخابات تكبحه السلطة التنفيذية التي قررت أن تدَّعي لنفسها الصلاحيات في المجتمع الجديد. وبكلام آخر، إن النضال لم يعد بين فئات سياسية متعددة تتنافس في شكل السياسة الجديدة، بل إنه أصبح بين تصميم السلطة التنفيذية على السيطرة الكاملة وبين مجلس يمثل الشعب.

والنتيجة الطبيعية لهذا الصراع هي المسألة الحساسة المتعلقة بمن يسيطر على المؤسسات الأساسية في المجتمع المدني. السلطة التنفيذية تريد أن تسيطر على أوسع ما يمكن من النطاق السياسي، بما في ذلك الصحافة والجامعات والمنظمات غير الحكومية والنقابات، وما إلى ذلك. غير أن القوى الأُخرى في المجتمع تقاوم ذلك مقاومة شرسة. إن هذا الصراع الداخلي يلقي ظلاله على الصراع المستمر ضد الاحتلال، وقد تزايد حدة بعد وصول الليكود إلى السلطة.

وهنالك في أذهان الناس مسألة شديدة الأهمية هي: كيف يكون الناس الذين قاموا بالانتفاضة على استعداد للقبول بنظام رث كالذي يقام حالياً في فلسطين الجديدة؟ قليلون هم الناس الذين يدركون مدى الانحراف الذي نتج من الأحداث السريعة التي أدت إلى اتفاق أوسلو ـ1. بذاك قام واقع جديد مبني على إجماع دولي على وجوب تسوية القضية الفلسطينية. رجال الصحافة الأجنبية يعترفون، بحرية، بأن المقالات التي تنتقد هذا الواقع الجديد لم يكن مرغوباً فيها لدى مكاتب التحرير في نيويورك وباريس ولندن. إن نقد أوسلو كان مهمشاً، ثم سرعان ما طغت الأحداث عليه. ولفترة، انقاد الناس إلى الاعتقاد أن المعارضة لا تضم غير المجموعات الدينية الأصولية والمتطرفة. إن أولئك الذين كان لديهم مآخذ جدية لم يكونوا واثقين بكيفية الانتقاد، ولا على أي أساس ينتقدون، ولا أي بديل يقدمون.

من ناحية أُخرى، يجري حوار داخلي يدعو إلى إعادة تقويم رئيسية للمواقف السابقة، وإلى ضرورة تقديم بديل. ولا بد من أنني حضرت خلال سنة واحدة نحو 25 ندوة أو ورشة عمل أو تجمع لأناس متنوعين يمثلون توجهات سياسية متعددة يمكن اعتبارها معارضة. وحتى الآن، لم ينتج من هذه التجمعات أي شيء مهم. غير أن عملية صوغ استراتيجيا معارضة وواضحة بطيئة جداً بصورة عامة، ولا بد من فترة اختمار. وأنا واثق بأن أفكاراً جديدة ستنشأ، وبأن برامج جديدة ستأخذ في الظهور.

لأعوام كثيرة، التقيت أكاديميين وسياسيين إسرائيليين في مجموعات حوارية متعددة في الولايات المتحدة وأوروبا. وتوصلت إلى اعتقاد أن هؤلاء الناس، ومنهم كثيرون تركوا لديّ انطباعاً بأنهم معقولون، قادرون على التأثير في مجرى السياسة والمجتمع الإسرائيليين. غير أن العيش تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية حررني من كثير من الأفكار الساذجة التي كانت لديّ تجاه إسرائيل والإسرائيليين. لم أكن قد أدركت تماماً مدى قيام نظامهم المعقد على العرقية والاحتقار التام للعرب. إن الشر الذي يجري تنفيذه يومياً، بتفصيلاته البالغة البشاعة، يكاد يطغى كلياً على تعابير حسن النية التي يطلقها، بين الحين والآخر، إسرائيليون ذوو نيات حسنة؟

هل لا أزال أعتقد أن ثمة إمكاناً للتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ لست واثقاً بذلك كل الثقة. إسرائيل ليست دولة عادية، مستندة إلى مواطنيها فقط. إنها تطمح إلى أن تكون دولة اليهود في العالم كله. إنني الآن مقتنع بأن الفصل أفضل إلى حد بعيد للفلسطينيين الذين يودون أن يعيشوا في دولتهم المستقلة، وأن يكون لهم اتصال حر بالعالم العربي. إن التعايش لا يمكن أن يتحقق إلا إذا عومل الشعبان بالتساوي، لا على أساس سيطرة الواحد منهما على الآخر بحشره في كيان حكم ذاتي مخصي.

ثم إنني، في الوقت ذاته، مندهش لمستوى الجهل بالمجتمع الإسرائيلي، ولعدم المبالاة حياله بين الفلسطينيين المتعلمين. قليلون نسبياً هم الفلسطينيون المتعلمون الذين يعرفون العبرية. ولا وجود لمركز واحد للبحث أو التفكير في شأن المجتمع الإسرائيلي، على الرغم من وجود عدد لا بأس فيه من الفلسطينيين المدربين تدريباً رفيعاً ممن يجيدون العبرية ويستطيعون أن يقدموا مساهمة رئيسية. إن الحوار الأخير بين الفلسطينيين بشأن الانتخابات الإسرائيلية، وبالنسبة إلى المسار المحتمل في المستقبل لحكومة إسرائيل الجديدة، جدير بالملاحظة من حيث غياب الجوهر وغياب إدراك أجواء السياسة والمجتمع الإسرائيليين.

لا أحب أن أبدو ناقداً غير محق لشعبي ولكيفية حياته. لقد عشت أعواماً طويلة في رفاهية المنفى، ولم أشارك شعبي فيما تحمله من إساءة ومعاناة. إنني أنتقده حباً به، لأنني أتمنى أن أرى له مستقبلاً أفضل، ولأنني ملتزم تجاهه عاطفياً. وليس لديّ أي هدف شخصي أو سياسي غير هدف عام واحد، هو أن أرى فلسطين الديمقراطية الزاهرة تتحقق. 

السيرة الشخصية: 

فؤاد مغربي: أستاذ العلوم السياسية في جامعة تينيسي في الولايات المتحدة. وقد كتب هذه المقالة بعد أن أمضى سنة جامعية (1995 ـ 1996) في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية، ودرّس خلالها في هذه الجامعة.