علم الاجتماع النقدي وتصفية الواقع الاستعماري الإسرائيلي
كلمات مفتاحية: 
علم الاجتماع
إسرائيل
التأريخ
الاستعمار
السلام
نبذة مختصرة: 

تتناول الدراسة تطوراً برز خلال العقد الأخير في الأكاديميا الإسرائيلية متمثلاً في ظهور علم الاجتماع النقدي الذي يرى إلى الصهيونية وإسرائيل من منظور كونهما نمطاً من أنماط النظام الاستعماري. وترصد العلاقة بين علم الاجتماع هذا والتأريخ الجديد، اللذين بلغا سن الرشد في وقت واحد تقريباً، في النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين. وتتفحص العلاقة بين صنع السلام وتصفية الواقع الاستعماري الإسرائيلي، ومعضلة تصفية هذا الواقع.

النص الكامل: 

 

لأعوام كثيرة، كانت الروايات المتعلقة ببناء دولة إسرائيل، ولا سيما في الأعمال الأكاديمية الإسرائيلية، تدور في إطار واحدة من حبكتين. فالحبكة الأُولى، التي كتبها علماء العلوم الاجتماعية في الغالب، كانت تروي قصة المهاجرين الصهيونيين الذين بنوا مؤسساتهم وفقاً لمُثُلهم العليا وأيديولوجياتهم - وهي غالباً أفكار اشتراكية مستوردة من "منطقة الاستيطان" [في روسيا القيصرية] (Pale Settlement) - والذين اختلفوا أحياناً مع غيرهم من المهاجرين ممن كان لهم تصورات عامة مغايرة فيما يتعلق بالدولة العتيدة. أمّا الحبكة الأُخرى، التي كتبها على الأغلب دارسو علاقات إسرائيل الخارجية، فكانت تروي قصة التفاعل بين عرب فلسطين الذين عادَوْا قيام دولة يهودية في فلسطين معاداة تامة وبين المهاجرين اليهود الذين كانوا مصممين على الدفاع عن وطنهم القومي المتنامي. وظلّت هاتان الحبكتان منفصلتين في الأعمال الأكاديمية الإسرائيلية، حيث تدرس العلوم على اختلافها الموضوعات اليهودية والعربية وكأنها نسخة مطابقة لتشعّب المجتمع الإسرائيلي إلى قطاعين، يهودي وعربي.[1] من هنا، فإن التأثير التأسيسي العميق للصراع بالنسبة إلى المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني أضحى غير مرئي، ومعه أيضاً الأسباب التي أدت إلى التصلب المقترن بالصراع.

لكن بما أن بناء الدولة والمجتمع في إسرائيل لم يكن شأناً يهودياً فحسب، فإنه ينبغي أن نمزج هاتين الحبكتين إحداهما بالأُخرى، وأن ندمج الصراع العربي - الإسرائيلي في الفكر الاجتماعي الإسرائيلي. وكان باروخ كيمرلينغ هو رائد علم اجتماع نقدي نهجَ هذا السبيل في الثمانينات.[2]   أمّا دراستي أنا،[3] فقد شرعت فيها للهدف ذاته، أي إعادة النظر وعرض إطار مفاهيمي لتحليل ما أعتبره أهم فترة في تاريخ إسرائيل: جيل المؤسسين. وعلى الرغم من أن تركيزي كان على المؤسسين، فإن تعاملهم مع العرب الفلسطينيين هو الموضوع الذي أردت أن أُبرزه. وقد خلصت إلى النتيجة التالية: إن للمُثُل الاشتراكية، وغيرها من المُثُل العالمية والتصورات العامة المستوردة، دوراً في إنشاء دولة إسرائيل أقل أهمية مما كان للأوضاع الفعلية التي واجهها المهاجرون اليهود في فلسطين، الذين هاجر كثير منهم إلى فلسطين بحثاً عن نهضة قومية. أمّا الأوضاع الأكثر أهمية، فكانت سوق الأرض وسوق العمل، حيث اتخذ المهاجرون خيارات صعبة حددت طبيعة الييشوف، والدولة والمجتمع الإسرائيليين لاحقاً، وذلك عبر فترة طويلة من التجربة والخطأ. وهذه الأوضاع هي التي حددت أيضاً طبيعة صراع المهاجرين مع الفلسطينيين العرب.

وحتى في فترة المؤسسين، كانت العلاقات اليهودية - العربية في طريقها إلى اكتساب طابع استعماري واضح. لكن الاستعمار ليس كله محوكاً من قماش واحد، والمجابهة بين موجتي الهجرة الأُولى والثانية بشأن مقاربتيهما المختلفتين للسكان العرب يمكن تحليلها بوصفها صراعاً بين نموذجين بديلين من الاستعمار.

أوجدتْ موجة الهجرة الأُولى من المهاجرين - المستوطنين بين سنتي 1882 و1903 مستعمرة زراعية إثنية تستند إلى شراء اليهود الأرض واستخدام اليد العاملة العربية الفلسطينية في كروم العنب. وملاّك الكروم هؤلاء، على الرغم من تفضيلهم اليد العاملة المحلية، سعوا كذلك، وإن بطريقة غير منتظمة آلت بهم في نهاية المطاف إلى الفشل، لهجرة يهودية كثيفة. وكانت الجزائر مثالاً آخر لهذا النوع الهجين من الاستعمار.

أمّا خلال موجة الهجرة الثانية (1903 - 1914)، فقد بُذلت جهود لإقامة نمط من المستعمرة الاستيطانية الصافية، وصفه د. ك. فيلدهاوس (D.K. Fieldhouse) وجورج فريدريكسون (George Fredrickson) بأنه "اقتصاد مبني على اليد العاملة البيضاء" يتيح للمهاجرين، بمواكبة الطرد القسري أو إبادة السكان الأصليين، "أن يستعيدوا الشعور بالتجانس الثقافي والإثني الذي يتماثل مع المفهوم الأوروبي للقومية." ومن بين المجتمعات الاستعمارية، كانت المستعمرة الاستيطانية الصافية، أو المتجانسة، هي تلك التي سعت الجماعة السكانية الأكبر بين المستوطنين فيها لأن تصبح الأغلبية في وطنها المختار. وبالتالي، فإن المستعمرات أعادت، بدرجات متفاوتة، إنتاج الاقتصادات المعقدة والبنى الاجتماعية للمجتمعات الأم. وأوستراليا والولايات الشمالية في الولايات المتحدة هي مثال لهذا النمط.[4]

كانت المعضلة التي واجهت المهاجرين الصهيونيين الأولين في فلسطين هي تحديد الهدف: هل هو مستعمرة زراعية إثنية أم مستعمرة استيطانية صافية؟ هل يتم السعي لجعل الفلسطينيين طبقة اقتصادية أدنى أم لاستثنائهم من مجتمع المستوطنين؟ كان استعمار موجة الهجرة الأُولى يستند إلى استيطان خفيف واستخدام عمال فلسطينيين بأجور زهيدة للعمل في مزارع يملكها يهود. أمّا موجة الهجرة الثانية، فقد أسست لاستعمار يقوم على الاستيطان الكثيف في مستعمرات يهودية حصراً، ويتضمن تهجيراً للسكان العرب. وهذا النمط من الاستعمار الصافي، أو المتجانس، هو الذي انتصر في نهاية الأمر. والباحثون الإسرائيليون الذين يزعمون أن الصهيونية تختلف عن الاستعمار الأوروبي النموذجي اختلافاً جذرياً لأنها لم تُبنَ على استغلال اليد العاملة المحلية الرخيصة، إنما يتجاهلون حقيقة أن المؤسسات التي حلّت محل المشروع الاستعماري للهجرة الأُولى كانت هي ذاتها نمطاً آخر من أنماط النظام الاستعماري. وفي أية حال، فإن الاستراتيجيا الاستعمارية للهجرة الثانية أتاحت بناء الدولة الإسرائيلية، غير أنها سعّرت، في سياق ذلك، الصراع القومي في فلسطين. من هنا، فإن الانفصال القومي كان النتيجة، لا السبب، للاستيطان الاستعماري الإسرائيلي، وكذلك كان الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.

إن الصراع في سوقي العمل والأرض بين المهاجرين - المستوطنين اليهود والسكان العرب أدّى أيضاً إلى بعض السمات والمؤسسات الفريدة في نوعها في المجتمع الإسرائيلي، منها سيطرة "حركة العمل" فترة أطول مما يجب، والمكانة المحورية للهستدروت، وحتى للكيبوتس. وهذه السمات للاستعمار الصهيوني التي تطورت في المستعمرات الزراعية المختلطة للهجرة الثانية لم تكن نابعة، كما يقال، من الطابع غير الاستعماري للصهيونية، بل كان الغرض منها بالتحديد توفير الدعم المالي للمهاجرين - المستوطنين لضمان استعمار ناجح لفلسطين ولإنشاء استيطان يهودي صاف أو متجانس فيها. ومما يلفت الانتباه أن المقاربات الصهيونية كافة لم تنجح، حتى أواخر الثمانينات، في حل المشكلات التي كان من المفترض أن تحلّها.

خلال العقد الأخير، تراجع الاعتراض على هذا المنظور الأكثر تعقيداً للفترة الصهيونية المبكرة، وذلك بفعل تطورين، أحدهما فكري والآخر سياسي. وفيما يتعلق بالأول، اندلع في أواخر الثمانينات سجال مديد مداره "التأريخ الجديد"، وهو مصطلح ابتكره المؤرخ بِنِي موريس في مقالة مكتوبة بأسلوب بيان رسمي (مانيفستو) للإشارة إلى أعمال رائدة بأقلام جيل جديد من المؤرخين الإسرائيليين نضجت مداركهم في الفترة التي تلت حرب الأيام الستة.[5] ويركز هذا التأريخ الجديد، كما يقول الكاتب أهارون هيغد، وبحق، على الطابع الاستعماري للصهيونية، وقد بدأ بتقويض الآراء السائدة والمقبولة في كتابات المؤرخين التقليديين للحركة الصهيونية.[6] وفي عدد خاص صدر سنة 1995 من مجلة History and Memory، مخصص للتأريخ الإسرائيلي، اعترفت الكاتبة أنيتا شابيرا بأن استخدام النموذج الاستعماري في درس إسرائيل "شرعي ومرغوب فيه في آن واحد"، وذلك لأن "تعريف حركة ما بأنها استعمارية - استيطانية يساهم ربما في توضيح العلاقات بين الأمة المستوطِنة والأمة الأصلية."[7] وكما تشير هذه الكاتبة، فإن مثل هذا الاعتراف ما كان له أن يرى النور في الماضي.

أمّا التطور الآخر، أي التطور السياسي، الذي سرّع دمج هذه الآراء الجديدة في التأريخ وعلم الاجتماع الإسرائيليين، فهو يتصل بعملية السلام. إن الاتفاقات الإسرائيلية - الفلسطينية تمثل خطوات في عملية لصنع السلام بين عدوين طالما نزعا أحدهما عن الآخر وعن تأريخ أحدهما للآخر صفة الشرعية. إن الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني والاستعداد للوصول إلى تسوية تاريخية معه، كما ورد في كلام شابيرا، قد عززا "الاستعداد لقبول فكرة أن تأسيس إسرائيل جلب كارثة على الشعب الفلسطيني."[8] كما أن المصالحة السياسية تعزِّز الشجاعة الأدبية والفكرية اللازمة لمجابهة الدينامية الاستعمارية للصراع، التي كُشف النقاب عنها في الأعمال التأريخية والاجتماعية الجديدة، ولمواجهة حل هذا الصراع من خلال تصفية الواقع الاستعماري.

علم الاجتماع النقدي والتأريخ الجديد

يشترك التأريخ الجديد وعلم الاجتماع النقدي في كثير من الاهتمامات ذاتها، وقد بلغا سن الرشد في وقت واحد تقريباً.[9] ومع ذلك، ثمة اختلاف كبير بينهما في المقاربة يمكن الإشارة إليه: ففي حين يهتم المؤرخون الجدد بما يسمونه، وبوعي عام، أساطير "المجتمع الإسرائيلي"،[10] فإن علم الاجتماع النقدي يركز على البنية التحتية الأيديولوجية للمجتمع.

فالأساطير عرضة بسهولة لتأويلات تختفي فيها أطياف اللون الرمادي. إنها منظومات رمزية لا يُستخرج المغزى فيها من المحتوى، بل من ترتيب العناصر التي تتكوّن الأسطورة منها على شكل أزواج من المتناقضات القطبية - على سبيل المثال، النماذج الطرازية البدائية كالرجل والمرأة والخير والشر. والعلاقة بين هذه الأزواج ثابتة عادة، وهي تعيد تأدية دورها باستمرار من دون تأثير السياق التاريخي. والأسطورة الرئيسية التي عارضها "المؤرخون الجدد"، وخصوصاً بِنِي موريس وآفي شلايم وإيلان بابِه، هي أن حرب الاستقلال الإسرائيلية وما تبعها من محادثات سلام شهدا مجابهة بين قوى السلام والحلول الوسط وبين قوى اللاعقلانية والعدوانية. وهكذا، فإن أعمال إسرائيل كانت مبررة تماماً ومن دون أي التباس.

لكن كيف حدث أن هذه الروايات الأسطورية لِتكوُّنِ دولة إسرائيل لم تتطور إلا في المراحل المتأخرة من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، أي بعد أن تضخم النزاع ليصبح نزاعاً إسرائيلياً - عربياً أدى إلى دورة من الحروب التي تتكرر مرة كل عقد من السنين؟ كيف كانت العلاقات اليهودية - العربية تُفهم من قبل؟

خلال الأعوام الثلاثين الأُولى من الهجرة والاستيطان الصهيونيين، وهي ما أركز أنا عليه في أعمالي، لم تطوِّر موجة الهجرة الأُولى ولا موجة الهجرة الثانية أية أسطورة متماسكة عن العربي؛ بل ما حدث هو أنه تم وضع الأسس لأدلجة الصهيونية، وخصوصاً الصهيونية العمالية، وبعد الحرب العالمية الأُولى كان القالب الذهني الأيديولوجي قد تكوّن. ما هي العلاقة بين الأساطير والأيديولوجيات؟

في حين أن الأساطير تضخم النزاع وتنقله إلى مستوى كوني، حيث يكتسب سمات نزاع لا يمكن حله، فإن ثمة مكوّناً مهماً من التفكير الأيديولوجي هو أنه يخفي التناقضات الاجتماعية خلف واجهة من العلاقات الاجتماعية المتجانسة. وتحاول الأيديولوجيات عامة أن تنفي أو أن تخفي التناقضات التي تظل بلا حل. ويتم هذا الأمر من خلال إظهار المصالح الخاصة لطبقة أو لحزب أو لأمة ما أنها تقدمية مستقبلية، بل حتى ثورية، وبالتالي تمثل مصالح المجتمع الأوسع ككل. والهيبة التي تعطى لمثل هذه المجموعة الثورية [الممثلة للمصالح المعنية] تتيح لها أن تفرض سلطتها المعنوية وزعامتها السياسية على المجموعات الأُخرى. والتفكير الأيديولوجي هو أيضاً الرواية الغائبة النموذجية بالنسبة إلى القومية الحديثة. وفي هذا القالب جرى النظر، في معرض استعادة أحداث الماضي، إلى "حركة العمل" ومؤسسيها من موجة الهجرة الثانية كأنهم كانوا عازمين منذ البداية على تشكيل التاريخ على غرارهم.

لقد حاولت "حركة العمل" أن تقلل من شأن النزاعات مع السكان الفلسطينيين وأن تخفيها من خلال استخدام أيديولوجيتين مترابطتين هما، لسخرية الأقدار، متناقضتان: الأُولى أكدت أن الصهيونية العمالية كان لها تأثير نافع في المجتمع الفلسطيني، والأُخرى أكدت أنه لم يكن لها أي تأثير.

وبموجب الرأي الأول، "بدت المنافع الاقتصادية للاستيطان اليهودي بالنسبة إلى الصهيونيين العمال أنها الرد الحاسم على القومية العربية."[11] وكان من المنتظر أن تستفيد الجماهير العربية من التحديث الذي جلبته الهجرة والاستيطان اليهوديان. لذا، كانت الحجة تقول إن الدوائر الضيقة فقط من النخبة - أي طبقة الأفندية مُلاّك الأرض، والطبقة الوسطى المسيحية، ومن ثم الزعامات الرجعية للدول العربية - هي عدو الصهيونية.

غير أن التحديث الذي مارسته الحركة الصهيونية في فلسطين كان جزءاً لا يتجزأ من علاقة استعمارية؛ فأهداف الاستيطان اليهودي، أي "احتلال العمل" - بمعنى استبدال العمال العرب بعمال يهود في مزارع يملكها اليهود - و"احتلال الأرض" - بمعنى شراء الأرض من مُلاّك غير يهود، معظمهم من العرب، من قبل هيئات يهودية ومؤسسات استعمارية تساندها كالهستدروت والصندوق القومي اليهودي - هذه الأهداف جميعها كانت قومية وتستثني الآخر.[12] لقد كان "احتلال العمل" يهدف إلى استبدال العمال العرب بعمال يهود في جميع الميادين وعلى مستويات المهارة كافة. أمّا الأرض العربية، فإذا ما اشتراها الصندوق القومي اليهودي، فإنه لا يمكن بيعها للعرب مجدداً،[13] ولم تكن أراضي الصندوق متاحة لتشغيل العمال العرب. وأمّا الكيبوتسات، التي كانت تُبنى عادة على أراض للصندوق وكان أعضاؤها من اليهود فحسب، فكانت أكثر مبتكرات الهجرة الثانية حصرية، كما كانت قومية بالكامل. والواقع أن مؤسسات الحركة العمالية كانت هي الأقل قدرة على العودة بالنفع على عرب فلسطين.

وطرح المهاجرون اليهود، ومن ثم المؤرخون وعلماء الاجتماع، أيديولوجيا أُخرى مفادها أن المهاجرين اليهود لم يكن في استطاعتهم استغلال الفلسطينيين لأن المجتمعين ظلاّ منفصلين. وفي رأي غورني، كان من المنتظر أن

يتم التوازن بين المجتمعين اليهودي والعربي، ومن ثم العلاقات السلمية وعلاقات حسن الجوار بينهما، لا من خلال الدمج، بل من خلال الانفصال فحسب.[14]

واستخدم هوروفيتس وليساك مصطلحي "المجتمع المزدوج" و"الاقتصاد المزدوج" لافتراض وجود "نظامين متميّزين للاقتصاد... مع وجود علاقات سوق محدودة فحسب."[15] ولا ريب في أن المجتمعين كانا على درجات مختلفة من النمو، وكذا الاقتصادين، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما قُيّض للاستيطان اليهودي الاستعماري النجاح. غير أن هوروفيتس وليساك لم يدركا أن المجتمع اليهودي ما كان له أن يبقى مكتفياً بذاته ما دام عازماً على التوسع. فقد كان الييشوف يتفاعل مباشرة مع المجتمع الفلسطيني، ومن خلال شراء أرضه حدَّ من مصادر رزقه التقليدية، وفي وقت لاحق اقتلع من الجذور جزءاً كبيراً من سكانه من خلال الغلبة.

وقد سعى بعض المؤرخين والجغرافيين التاريخيين في إسرائيل مؤخراً لمنح منظور الانفصال فرصة ثانية للعيش؛ إذ يزعم أرونسون وتساحور، مثلاً، أن الاستيطان الصهيوني في فلسطين كان استيطاناً استعمارياً لكن من دون المضمون الاستعماري.[16] لكن هذا الأمر لا يصح إلا إذا كان التدخل قد تم في بلد خال من السكان. فالعداوة الجوهرية بين السكان الأصليين والمهاجرين كانت تنبع أساساً من إصرار المهاجرين على أن الأرض التي اختاروها أرض "خالية" من قوميات أُخرى. وعملياً، كان هذا يعني أن القادمين الجدد نظروا إلى السكان الأصليين أنهم جزء لا يتجزأ من البيئة الواجب إخضاعها وترويضها وجعلها قابلة للعيش بالنسبة إليهم. أمّا السكان الأصليون، الذين تعرضوا لفقدان أملاكهم الموروثة وانتابهم الفزع من أن أرضهم ستصبح مع مرور الزمن خالية منهم حقاً، فقد عزموا على الدفاع بالقوة عما بقي لهم.[17] وخلاصة الأمر أن الاستيطان الاستعماري لا بد له من فرضية تبرر المشروع الاستعماري وممارساته.

إنه لصحيحٌ أن الاختلافات عن مشاريع استعمارية أُخرى، كالحاجة مثلاً إلى الاعتماد على الدول الكبرى لمنح الحماية في غياب وطن أُم ووضع الأهداف القومية فوق الحسابات الرأسمالية، قد منحت مشروع الاستيطان الصهيوني سمة خاصة به، غير أن هذه الاختلافات لم تلغ التشابه الجذري بين أهداف الهجرة الثانية وأهداف غيرها من مستعمرات "الاستيطان الصافي"، أي المستعمرات التي سعت لإنشاء مجتمعات سكانية من المهاجرين - المستوطنين المتجانسين. وكما أشرنا أعلاه، فإن الكثير من السمات المميزة للاستيطان الصهيوني العمالي لم يكن نتيجة طبيعته غير الاستعمارية المزعومة، بل فقط نتيجة سياسات ترمي إلى تعويض المهاجرين العمال - المستوطنين عن الظروف المعاكسة التي كانت سائدة في سوقي الأرض والعمل في فلسطين. غير أن هدف جميع هذه السياسات كان استيطان فلسطين بصورة ناجحة، وتبرير إنشاء استيطان يهودي متجانس من خلال رفض مستمر ومتنام في حدته لآمال الوطنية الفلسطينية. وكان هذا أحد أهم أسباب الطبيعة المستعصية للصراع. وتجدر الإشارة إلى أن أية مقاربة من المقاربات الصهيونية، قبل اتفاق أوسلو، لم تستطع أن تقضي على المقاومة الفلسطينية.

وعلى الرغم من أن الأساطير ترتبط عادة بالبدايات، فإننا نجد هنا أن التفكير الأيديولوجي سبق خلق الأساطير لكنه يرتبط بها ارتباطاً وثيقاً. إن النفي الأيديولوجي لوجود صراع بين المهاجرين - المستوطنين اليهود وبين عرب فلسطين أعاق، على أقل تقدير، حل الصراع، والأرجح أنه ساهم في تصعيده وإيصاله إلى مجابهة عسكرية شاملة. وهذا بدوره أصبح يشكل أرضية صالحة لخلق الأساطير بشأن الصراع العربي - الإسرائيلي. لذا، فإن الأعمال التي وضعها المؤرخون الجدد وعلماء الاجتماع النقديون، ومن بينها أعمالي وأعمال كيمرلينغ، تقدم جزأين مترابطين من القصة ذاتها.

لا تزال إعادة النظر في الصراع تثير التوتر في كثير من الدوائر، كما اتضح من مقالة أهارون ميغد النارية على صفحات جريدة "هآرتس". ومما يلفت الانتباه أن ميغد لم يعارض قط صحة أعمال أو نظريات المؤرخين الجدد أو علماء الاجتماع النقديين، بل إنه ينتقد فقدان القناعة التامة، وفقدان الحس الأمني الذي ينتج من الإيمان بعدالة القضية الإسرائيلية والتي يرى أن أعمال هؤلاء تقوضها.[18] وقد أصيب ميغد بالرعب حيال الثمن الذي ينبغي أن يُدفع للتخلي عن القناعات، لكن يبدو أنه غافل عن الثمن الذي يُدفع نتيجة التمسك بقناعات مزيفة. غير أن من شأن كل من القناعات الأيديولوجية والأسطورية أن تخلّف ميراثاً حافلاً بالإشكالات.

لقد وفّرت الأيديولوجيات على صنّاع التاريخ بعضاً من الكرب الناجم عن عدم القدرة على التوفيق بين تصرفاتهم ومعتقداتهم، غير أنها في نهاية الأمر أبقت المصالح الفلسطينية التي لم تتحقق مخفية، وجعلت التعبير عنها أمراً غير مشروع. ومن هنا، أطالت المعتقدات الأيديولوجية أمد الصراع، وإن كانت تركت الباب مفتوحاً أمام حله لاحقاً. أمّا الأساطير، فقد وفّرت شعوراً بالرضا الخُلُقي إذ جعلت صورة العالم على شكل مكان حافل بالوضعيات التي لا حل لها وبالمصائر المرسومة سلفاً، في الوقت الذي دافعت فيه عن نمط من السلوك أدى إلى صراع متكرر، ولم تقدم، من خلال تبرير انعدام الثقة بالسلام، أي مخرج من المأزق. ومع أن المعتقدات الأيديولوجية كانت تتضمن مقاربة أكثر تفاؤلاً، فإن الغِمامات التي كانت تحتاج إليها أدت إلى آراء أسطورية أشد فساداً إلى حد بعيد.

لقد تخلت النظريات المعاصرة عن الاعتقاد بأن الأسطورة والأيديولوجيا أسلوبان في التفكير بدائيان أو غير صائبين ينبغي استبدالهما بالبحث العلمي؛ إذ لا ريب في أنهما يؤديان أدواراً ثقافية مهمة. لكنني أرى أن قيام تأريخ مستقل أمر مرحَّب به، ولا سيما في ثقافة سادتْها الأسطورة والأيديولوجيا زمناً طويلاً. فمن خلال تقديم المسارات التاريخية بجميع تعقيداتها المختلفة، ومن خلال إعادة نسيجها إليها، وهو نسيج غني وإن كان مأساوياً في كثير من الأحيان، وكذلك إعادة سماتها المتناقضة والجدلية، فإن التأريخ الجديد وعلم الاجتماع النقدي يسهّلان، على أقل تقدير، طرح القناعات الأسطورية والأيديولوجية جانباً. ولعل هذا دفاع ضعيف عنهما، غير أنني أرى أنه حتى لو كان ذلك كل ما يمكن أن ينجزه التأريخ الجديد وعلم الاجتماع الجديد، فهو شأن قد يمضي بنا بعيداً في اتجاه إعادة النظر والتفكير فيما نعرفه عن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وفي آرائنا حياله في هذه الفترة العصيبة.

غير أن ثمة دوراً آخر ممكناً وآخر طموحاً قد تؤديه إعادة النظر هذه في الوعي التاريخي. فالتأريخ النقدي يستطيع، في أحسن حالاته، أن يمضي بنا إلى أبعد من مجرد الوظيفة السلبية الكامنة في اطّراح ما هو معلوم، فيمنح معنى جديداً للبحث كوسيلة لاكتشاف ما كان ممكناً، وما هو ممكن الآن. فمن خلال المساهمة في طرح الأساطير والأيديولوجيات جانباً، ولربما أيضاً في إعادة معرفة الماضي، ساهمت هذه الآراء الجديدة بشأن التاريخ والمجتمع في إسرائيل في نشوء مناخ سهّل، بل ربما روّج، المساعي الراهنة لصنع السلام.

صنع السلام وتصفية الواقع الاستعماري

إن اتفاق أوسلو في أيلول/سبتمبر 1993 والاتفاقات اللاحقة بين حكومة رابين - بيرس ومنظمة التحرير قد بدأت بتخفيض حدة الصراع المستمر منذ أكثر من قرن من خلال عكس مسار حركته السائرة قبلاً في اتجاه المجابهة. إن اعتدال المنظمة، الذي تطور بتردد وتأرجح، أدى إلى اعترافها رسمياً بإسرائيل في تشرين الثاني/نوفمبر 1988. وعلى الرغم من أن التغيير الذي طرأ على حكومة رابين - بيرس كان جذرياً بمقدار ما كان مفاجئاً، ولذا بهر معظم المراقبين، فإن أسبابه كانت تتفاعل منذ أعوام عدة. وقبل النظر في هذه الأسباب، ينبغي أن نفحص ما يعنيه صنع السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير.

في رأيي، إن إعادة الانتشار الإسرائيلية من قطاع غزة وأريحا، ولاحقاً من المراكز المدينية في الضفة الغربية، بدأت عمليةً جزئيةً من تصفية الواقع الاستعماري، سحب أدوات سيطرته السياسية والعسكرية، الذي يُتَوقع أن تتبعه إزالة المستوطنات. والعلاقة الجديدة بين إسرائيل، في ظل حكومة العمل، وبين المنظمة (كما وشبيهاتها في جنوب إفريقيا، ولربما في إيرلندا الشمالية) تعني تصفية الواقع الاستعماري في "مستعمرة استيطانية صافية" ناجحة جزئياً. وصنع السلام بين إسرائيل والمنظمة يمثل موجة جديدة متأخرة في عملية تصفية الواقع الاستعماري في المجتمعات الأوروبية المستوطنة في ما وراء البحار. كما أنه يقبر الرأي المتطرف، الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، والقائل إن الصراع الاستعماري صراع شامل؛ وهو لذلك غير قابل للحل.

إن الاستعمار الاستيطاني، أو تأسيس "مجتمعات جديدة"، كانت له، كما أشار فيلدهاوس وفريدريكسون، أشكال شتى.[19] وفي المقابل، فإن عمليات تصفية اتخذت هي الأُخرى أشكالاً متنوعة. ففي حين أن المهاجرين - المستوطنين وأحفادهم في المستوطنات الأوروبية الأُخرى اختلطوا مع السكان الأصليين أو همّشوهم أو دمروهم أو طردوهم بدرجات متفاوتة، فإن الفلسطينيين لا يزالون يمثلون تحدياً أساسياً لعزم الإسرائيليين اليهود وهويتهم. وفي الوقت ذاته، وعلى الرغم من أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين كانت صغيرة الحجم مقارنةً بالجماهير الغفيرة من اليهود التي هاجرت إلى أميركا وغيرها من الأماكن، فإن المهاجرين - المستوطنين في إسرائيل لم يكن لهم وطن أُم مستعمِر يعودون إليه، ومع مرور الزمن تطوروا ليصبحوا هم أنفسهم سكاناً أصليين.[20] وهذا الاختلاف أمر تجاهلته منظمة التحرير التي أمِلت حتى أوائل السبعينات بأن تحاكي جبهة التحرير الجزائرية في طرد المستوطنين الفرنسيين من الجزائر، من خلال تحرير فلسطين من مستوطنيها اليهود. إن التحقيق الجزئي لأهداف المستوطنين المهاجرين الذين تجذّروا في العمق وأسسوا مجتمعاً ذا سمات ثقافية وإثنية ودينية مميزة يعني أن تصفية الواقع الاستعماري المطلوبة لصنع السلام في إسرائيل، كما أدركت منظمة التحرير ذلك، ستكون جزئية أيضاً وستتم في الغالب في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفلسطينيين الذين أصبحوا مواطنين إسرائيليين ويملكون حقوقاً مدنية وسياسية، بما في ذلك حق التصويت، برهنوا عن اندماجهم الجزئي داخل إسرائيل، وذلك بعدم مشاركتهم في انتفاضة الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال العسكري، والذين عانوا ممارسات استعمارية صارخة ومتكررة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل سنة 1967. لكن في كثير من الحقول الأُخرى، كالتوظيف والحقوق الاجتماعية والتربوية، بقي هؤلاء الفلسطينيون [الموجودون في إسرائيل] مواطنين من الدرجة الثانية. إن معضلة العلاقات بين الأكثرية اليهودية والأقلية العربية تكمن في ما إذا كان سيتم الاعتراف بالأقلية العربية أقلية قومية لها حقوق ناجمة عن ذلك، أو ما إذا كان سيتم منحها خيار الاندماج كأفراد في كثير من المؤسسات التي يحظر على هذه الأقلية دخولها عرفاً وقانوناً. ومن شأن أية مقاربة من هاتين المقاربتين أن تضيف قدراً من تصفية الوضع الاستعماري الداخلي إلى عملية تصفية الواقع الاستعماري في الضفة والقطاع.

إن منبع الرغبة الإسرائيلية الراهنة في الشروع في تصفية جزئية للواقع الاستعماري هو مزيج من مجموعتين من العوامل: الأُولى هي إدراك متراكم من جانب النخبة الأمنية أن أجهزة الأمن الإسرائيلية عجزت عن قمع الانتفاضة أو عن سحق الآمال الوطنية التي أدت إلى اندلاعها. غير أن المقاومة الفلسطينية الشاملة في حد ذاتها لم تهزم قوة إسرائيل العسكرية ولم تشل اقتصادها، بل شجعت فقط زعماء إسرائيل على المضي في اتجاهات جديدة كانت قد أصبحت جذابة من جراء تغيرات جارية أثرت سياسياً واقتصادياً في مجموعات قوية داخل المجتمع.

أمّا المجموعة الأُخرى من العوامل فتتصل بتغيرات داخلية حفّزتها تطورات عالمية. فمع مرور الأعوام، أدى نمو إسرائيل الاقتصادي، الذي تموله إلى حد بعيد موارد تأتي من الخارج، إلى إضعاف سيطرة الدولة والهستدروت على الاقتصاد لحساب المصالح التجارية الخاصة. وهذا التغير القطاعي برز بوضوح في التغيرات التي طرأت على السياسة [الاقتصادية] منذ أواخر الستينات، وتعاظمت بالتدريج منذ خطة إعادة الاستقرار إلى الاقتصاد الإسرائيلي التي وضعت سنة 1985. ومن هذه التغيرات الدور الأكبر الذي باتت قوى السوق تؤديه في سوق العمل، وانفتاح الأسواق المالية. ومن العوامل الأُخرى عملية الخصخصة الكبيرة، واعتماد معدل ثابت للصرف، وتخفيض الدعم المالي، وازدياد معارضة الحكومة لـ "إنقاذ المشاريع الفاشلة من الإفلاس"، وتخفيض موازنة الدفاع، وتقليص العجز في الميزانية.[21] وعلى نحو متواز، نما قطاع التكنولوجيا الرفيعة الموجّه إلى التصدير نمواً كبيراً، وأدى إلى توسع الطبقات الوسطى والمهنية في إسرائيل. وتملك هذه الشرائح الاجتماعية ثقة بالنفس كافية للمنافسة في السوق الحرة داخلياً وخارجياً، وينصبّ اهتمامها - وهو اهتمام يتعارض في كثير من النواحي مع اهتمامات "حركة العمل" اليهودية التي أُسست في عقود الصهيونية الأُولى - لا على الدفاع عن نفسها في هذه السوق، بل على تطوير السوق إلى أبعد مدى ممكن. وهذه النخب الاقتصادية الجديدة هي التي طالبت أكثر من غيرها بالليبرالية الاقتصادية، وكذلك بدمج اقتصاد إسرائيل في الاقتصاد العالمي والأسواق الإقليمية إذا أمكن. لقد أدى الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني والصراع الإسرائيلي - العربي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، وبقيت إسرائيل خلال ذلك مقاطعة من جانب الشركات المتعددة الجنسيات وخارج دائرة الاستثمار العالمي. وكان صنع السلام الطريقة التي اتبعتها إسرائيل لضمان أمنها وللوصول أيضاً إلى اقتصاد أكثر عالمية.[22]

وكان مما عجّل بروز هذه الشرائح الجديدة انهيار وتعثر المؤسسات العملاقة، والمكلفة، والعديمة الكفاءة في كثير من الأحيان، وغير الخاضعة لقوانين السوق. وقد نشأت تلك المؤسسات على يد "حركة العمل" الصهيونية، وارتبطت في الذهن بمؤسسات الهستدروت. ففي الماضي، وفّرت هذه المؤسسات للمهاجرين - المستوطنين ولأحفادهم الأوضاع الملائمة للاستيطان والازدهار. وفي السياق الإسرائيلي، يعطي الترابط التاريخي بين الدولة والاستيطان الاستعماري والحقوق الاجتماعية بعداً إضافياً للضعف الذي اعترى نطاق مؤسسات الدولة والمؤسسات شبه العامة. إن الدعوة إلى تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد، وقد أصبحت دعوة مسموعة في إسرائيل في التسعينات بقدر ما كانت مسموعة في أميركا وبريطانيا في أوائل الثمانينات، كانت تنطوي أيضاً على تفكيك إطار وميراث الأنشطة الاستعمارية في الضفة والقطاع، الممولة من الدولة، والتي كان ينظر إليها بوصفها استمراراً لاستيطان ما قبل سنة 1948.

إن الصرح المؤسساتي الذي أوجدته "حركة العمل" حول الهستدروت، ودولة الرفاه عامة التي انجرّت عنه، بات ينظر إليهما من جانب الشرائح الاقتصادية والمهنية الجديدة بوصفهما عائقاً أمام رفاهها وازدهارها. وعلى نحو مماثل، فإن الروح الاستيطانية والمؤسسات الاجتماعية المنبثقة منها - التي كانت أمراً حيوياً لدولة إسرائيل ولبناء الأمة ومدّت "حركة العمل" بالكثير من هويتها ومميزاتها وسيطرتها - أضحت شيئاً من مخلفات الماضي وعائقاً أمام المصالح الاقتصادية والسياسية لتلك الشرائح. لكن أيديولوجيا الاستيطان هي التي بررت في الماضي نزع الشرعية عن حقوق الفلسطينيين الوطنية. لذا، فإن تدهور هذه الأيديولوجيات بالتدريج، والقلق حيال الأساطير التي حلت محلها، والتوسع البطيء لكن المستمر لخطاب أكثر ليبرالية نجم عنه التأريخ الجديد ذاته، كل ذلك كان له أثر في حمل الدولة الإسرائيلية على الاعتدال في معارضتها للوطنية الفلسطينية، وعلى وضع علامة استفهام فوق الحكمة الكامنة في التوسع الجغرافي. وتحت تأثير هذه النخب، انتهت مرحلة بناء الدولة بالنسبة إلى معظم الإسرائيليين. وهكذا، دخلت إسرائيل، في واقع الأمر، مرحلة ما بعد الصهيونية، حيث من الأرجح أن يُنظر إلى جميع القيم التقليدية للمجتمع الاستعماري - ولا سيما الاستيطان والخدمة العسكرية الطويلة الأمد ولربما الهجرة أيضاً - بوصفها عوائق لا ضرورة لها بالنسبة إلى أفراد في مجتمع لم يعد يحيا تحت خطر الحرب.

معضلات تصفية الواقع الاستعماري

إن عملية تصفية الواقع الاستعماري في يومنا هذا لا تزال في مراحلها الأُولى، على الرغم من كونها تبدو أنها تخطت نقطة اللارجوع. فالاعتراف بمنظمة التحرير وعملية المفاوضات ألحقا الضرر بجاذبية أسطورة الخلافات المستعصية على الحل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. غير أن نبذ أساطير الصراع الحتمي جعل من الممكن، بل من المرجح، عودة الروح إلى نمطين من التفكير الأيديولوجي مرتبطين بـ "حركة العمل": الأول هو توهُّم أن فك الارتباط يمكن أن يؤدي إلى الانفصال التام، بل من المحتم أن يؤدي إليه؛ والآخر هو توهُّم أن ما يفيد الإسرائيليين يفيد الفلسطينيين أيضاً. وهذا أمر من شأنه أن يؤدي إلى إعادة تأسيس علاقات التعالي السابقة من خلال ممارسات استعمارية جديدة.

إن لتصفية الواقع الاستعماري ما يبررها من العقلانية، وهو أن الانفصال جغرافياً بين الإسرائيليين والفلسطينيين سيمنح الأمن للأولين والسيادة للآخرين. وعلى الرغم من أن هذين الهدفين سيتعززان قطعاً من خلال الانسحاب الإسرائيلي، فقد اكتشف المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون الآن مقدار الصعوبة الناجمة عن فصل مجموعتين من الناس تعيشان على بقعة صغيرة جداً من الأرض وتشتركان في كثير من مواردها، وأهمها المياه والبيئة. ومن الأحوال التي تستدعي التحجج ضد الانفصال حالة القدس الشرقية، حيث مجموعتا السكان متساويتان في الحجم تقريباً، وواقع أن قطاع غزة والضفة الغربية منفصلان مادياً بفعل إسرائيل ويحتاجان إلى جسر بري؛ وثمة طبعاً رغبة زهاء سدس مواطني إسرائيل، الذين هم أنفسهم عرب فلسطينيون، في الحصول على قدر أكبر من الاندماج في المجتمع الإسرائيلي. أمّا ميراث الانفصال لـ "حركة العمل"، الذي بدأ في التكوّن داخل القطاع اليهودي للاقتصاد قبل الحرب العالمية الأُولى، فمحدوديته واضحة. وربما يكون الانفصال في الحقول المذكورة أعلاه جزئياً ليس إلاّ، ومن المرجح أن تؤدي المحاولات القائمة لتوسيع مداه إلى نتائج سلبية. وهذه الحالات جميعها تستدعي من الإسرائيليين والفلسطينيين تعلُّم العيش المشترك، بالإضافة إلى العيش جنباً إلى جنب.

إن الأيديولوجيا القائلة إن التطور الصهيوني الاقتصادي نافع ضمناً لسكان فلسطين العرب، والتي أخفت انتقال الموارد إلى أيد يهودية ورسخت التفوق الإسرائيلي، عادت إلى الظهور في زي جديد. فالمحاولات المستمرة لربط اليد العاملة الفلسطينية الرخيصة برأس المال الإسرائيلي تنذر على نحو واضح بإعادة إقامة علاقات استعمارية جديدة في المجال الاقتصادي. ومثل هذا التطور لا يؤدي إلاّ إلى استبدال ممارسات "حركة العمل" [في فترة الانتداب، القائمة على حصر العمل في المشاريع اليهودية في العمال اليهود] باستغلال تمارسه مشاريع الأعمال الإسرائيلية. وفي المقابل، ليس من شأن الاستغناء عن العمال الفلسطينيين، الذين كانت أعمالهم مفيدة للاقتصاد الإسرائيلي عبر ربع قرن من الزمن، إلاّ أن يحافظ على الهوة السحيقة في معدلات المعيشة في المجتمعين. ويستدعي إمكان إيجاد علاقات اقتصادية نافعة للجانبين ألاّ تكون الميزات الأحادية الجانب المكتسبة خلال أعوام السيطرة الإسرائيلية هي التي تؤسس لبناء الروابط في المستقبل. وفوق هذا وذاك، فإن تجربة الماضي تدل على أن إهمال المصالح لاعتبارات أيديولوجية يمكن أن يجلب معتقدات أسطورية ويؤجج الصراع.

عندما يكون القديم ميتاً والجديد لم يخلق بعد، يمكن أن تظهر في هذه الفترة التي هي ما بين بين أعراض مرضيّة كثيرة، كما أنذرنا أنطونيو غرامشي. فالنيات الشريرة، والأعمال التخريبية للمتعصبين الدينيين - من فلسطينيين ويهود - ممن يرغبون في إغراق عملية السلام تبرهن عن صحة مقولة غرامشي هذه. ومن خلال تقديم منظور بديل، فإن الثورة التأريخية تساهم، كما هو مرجح، في تفادي الهلع وردّة الفعل الغاضبة اللذين تفشيا بسهولة بعد أعمال الإرهاب والاغتيالات السياسية. والتزامن بين عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية وبين نضج منظور تأريخي واجتماعي جديد حيال المجتمع الإسرائيلي يسمح بقيام قدر من الانفتاح المترابط سياسياً وفكرياً. ويؤمل بأن يمنع الاعتراف بمصالح منفصلة ومتكاملة ومشروعة انتشار المظاهر المرضيّة وأعراضها. وما دامت التصنيفات التي يستخدمها الفلسطينيون والإسرائيليون للتفكير بعضهم في بعض لا تتحجر داخل تصنيفات لاتاريخية، فإن للعلاقات فيما بينهم حظاً أكبر في أن تبقى متحركة وقابلة للتكيف بدلاً من العودة إلى تطرفها الأيديولوجي أو الأسطوري.

 

[1] Avishai Ehrlich, “Israel: Conflict, War and Social Change,” in Colin Creighton & Martin Shaw (eds.), The Sociology of War and Peace (London: Macmillan, 1987), p. 130.

[2] Baruch Kimmerling, Zionism and Territory (Berkeley: Institute of International Studies, 1983); Baruch Kimmerling in collaboration with Irit Backer, The Interrupted System: Israeli Civilians in War and Routine Times (New Brunswick, NJ: Transaction Books, 1985).

[3] Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, 1882-1914 (Cambridge: Cambridge University Press, 1989).

[4] D.K. Fieldhouse, The Colonial Empires from the Eighteenth Century (New York: Weidenfeld and Nicolson, 1966), pp. 11-22, 372; George Fredrickson, “Colonialism and Racism: The United States and South Africa in Comparative Perspective,” in his The Arrogance of Race (Middletown, CT: Wesleyan University Press, 1988), pp. 218-221.

[5] Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, 1947-1949 (Cambridge: Cambridge University Press, 1987); Avi Shlaim, Collusion Across the Jordan: King Abdullah, the Zionist Movement, and the Partition of Palestine (Oxford: Oxford University Press, 1988); Ilan Pappé, Britain and the Israeli-Arab Conflict, 1948-1951 (New York: Macmillan, 1988).

[6] أهارون ميغد، "غريزة الانتحار الإسرائيلية"، "هآرتس"، 10/6/1994.

[7] Anita Shapira, “Politics and Collective Memory: The Debate over the (New Historians) in Israel,” History and Memory 7, No. 1 (Spring/Summer 1995), p. 30.

[8] Ibid., p. 32.

[9] صدر كتاب موريس، The Birth…، سنة 1987، وكتاب شليم Collusion…، وكتاب بابه، Britain…، سنة 1988، وصدر كتابي، Land, Labor and the Origins…، سنة 1989.

[10] من الأعمال الأُولى التي استخدمت لفظة "أسطورة" بمعنى اللعنة، كان بقلم سِمْحا فلابان، الذي أعطى عمله الصادر سنة 1987

The Birth of Israel (New York: Pantheon, 1987)

عنواناً فرعياً يباين بين الأساطير والحقائق" لكن هذه لفظة يستخدمها أيضاً غيره من "المؤرخين الجدد". أنظر، مثلاً:

Ilan Pappé, “Critique and Agenda: The Post-Zionist Scholars in Israel,” History and Memory 7, No. 1 (Spring/Summer 1995), pp. 77-78; Avi Shlaim, “The Debate About 1948” (Paper presented at the Association for Israel Studies Conference, Gratz College, Melrose Park, June 12-13, 1994).

[11] أنظر، مثلاً:

Howard Morley Sachar, A History of Israel: From the Rise of Zionism to Our Time (New York: Knopf, 1979), p. 172.

[12] جاء في خلاصة دراسة حديثة تتعلق بالزراعة في فلسطين خلال الانتداب بقلم تشارلز كامن (Charles Kamen) بعنوان:

Little Common Ground: Arab Agriculture and Jewish Settlement in Palestine 1920-1948 (Pittsburgh: University of Pittsburgh Press, 1991).

[13] حين حاولت سلطات الانتداب اقتراح أراض بديلة للفلاحين المقتلعين من أرضهم، عارضت الأمر المنظمات الصهيونية التي كانت تشتري الأراضي، وذلك على أساس أنها كانت تأمل بأن تحصل في المستقبل على تلك الأراضي أيضاً.

 [14] يوسف غورني، "أيديولوجيا غزو العمل"، "كيشيت"، العدد 38 (شتاء 1968)، ص 77 - 78.

[15] Dan Horowitz & Moshe Lissak, The Origins of the Israeli Polity: Palestine under the Mandate (Chicago: University of Chicago Press, 1978), pp. 16-17.

[16] أنظر، مثلاً:

Ran Aaronsohn, “Baron Rothschild and the Initial Stage of Jewish settlement in Palestine (1882-1890),” Journal of Historical Geography 19, No. 2 (1993).

وانظر أيضاً: زئيف تساحور، "استعماري أو مستعمِر"، "هآرتس"، 22/12/1994؛ غِرشون شافير، "المسألة الاستعمارية"، "هآرتس"، 5/1/1995.

[17] أنظر:

Gershon Shafir, “Changing Nationalism and Israel’s (Open Frontier) on the West Bank,” Theory and Society 13, No. 6 (November 1984), p. 803.

[18] ميغد، مصدر سبق ذكره.

 [19] فيما يتعلق بأنماطهم، انظرShafir, Land, Labor…, op. cit., pp. 8-9

[20] كذلك، فإن الاستيطان الأبيض في جنوب إفريقيا اعترف به المجلس الوطني الإفريقي والحزب الشيوعي الجنوب الإفريقي بوصفه "استيطاناً من نوع خاص".

[21] Michael Shalev, Labour and the Political Economy in Israel (Oxford: Oxford University Press, 1992 and 1993); Michael Shalev, “The Death of the (Bureaucratic) Labor Market? Structural Change in the Israeli Political Economy” (Unpublished paper, 1994).

[22] Yoav Peled and Gershon Shafir, “The Roots of Peacemaking: The Dynamics of Citizenship in Israel, 1948-1993,” International Journal of Middle East Studies (August 1996), pp. 391-413.

السيرة الشخصية: 

غِرشون شافير: أستاذ علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو.