يتناول المقال معاناة جالية فلسطينية صغيرة بلا أي ذنب لعقاب شديد على يد نظام عربي يعرّف نفسه كنظام قومي وثوري. وكان الكاتب أحد أفراد هذه الجالية لثلاثة أعوام، وعاصر المحنة من تكوّنها حتى تفجرها، وإن لم يكن قد عاش العام الأخير منها الذي بدأ بقيام "مخيم العودة" على الحدود الليبية المصرية.
نتناول في مقالنا هذا محنة ومعاناة جالية فلسطينية صغيرة الحجم تعرضت وما زالت تتعرض، بلا أي ذنب، لعقاب شديد على يد نظام عربي يعرف نفسه كنظام قومي وثوري. هذه الجالية المعذبة والمنسية لم تجد من يدافع عنها قانوناً أو سياسة أو صحافة أو إعلاماً، على الصعيدين العربي والفلسطيني. ولقد كنت شخصياً أحد أفراد هذه الجالية لفترة قصيرة (ثلاثة أعوام)، وعاصرت الأزمة من لحظة تكونها إلى لحظة تفجيرها، وإن كنت لم أعش العام الأخير منها، الذي بدأ بقيام "مخيم العودة" على الحدود الليبية - المصرية.
تشكُّل الأزمة - المحنة
ذكر العقيد معمر القذافي في خطابه في احتفالات "ثورة الفاتح" في الأول من أيلول/سبتمبر 1994 أنه سيُخرج الفلسطينيين المقيمين في بلده كي يثبت للعالم أن عرفات لم يحصل على "دولة" ولم يتمكن من حل القضية الفلسطينية. وجاء كلامه هذا في معرض انتقاده اتفاق أوسلو. وقد اعتقد الفلسطينيون المقيمون في ليبيا أن كلام العقيد عبارة عن مناورة للهجوم السياسي على ما توصل عرفات إليه من اتفاق هزيل مع إسرائيل. وسارت الأمور بصورة اعتيادية وطبيعية خلال أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 1994 لناحية دخول الفلسطينيين ليبيا وخروجهم منها، ولناحية حصولهم على عقود عمل جديدة أو تجديد عقودهم القديمة مع أمانات (وزارات) الدولة ومع الشركات العامة والمشتركة.
لكن سرعان ما أصيب الفلسطينيون بالذهول التام، واعتراهم شك عميق عندما نطق العقيد القذافي بحكم العقاب عليهم في 9 كانون الأول/ديسمبر 1994؛ إذ إنه أمر إدارة القوى العاملة في طرابلس الغرب، وبواسطة الهاتف، بعدم تجديد عقد عمل أي فلسطيني، وبعدم التصديق على عقود العمل الجديدة للفلسطينيين، ولو كانت حائزة موافقة مسبقة من الأمانات (الوزارات). كما تلقت إدارة الجوازات والهجرة اتصالاً مماثلاً يمنعها من منح أو تجديد الإقامة لأي فلسطيني أيّاً تكن مهنته وجهة عمله، بدءاً بأساتذة كليات الطب وانتهاء بصغار الفنيين.
وترجع حالة الذهول والشك التي خيمت على الفلسطينيين إلى عدة أسباب وجيهة، في مقدمها أن العقيد القذافي كان طوال مدة حكمه من أكثر الزعماء العرب تأييداً ومناصرة لقضية فلسطين، ومن أشدهم تبنّياً لحركة المقاومة الفلسطينية. كما أن النظام الليبي هو أحد الأنظمة العربية القليلة جداً التي لم يحدث أي نزاع بينها وبين فصائل المقاومة أو بينها وبين الفلسطينيين عامة. وعلاوة على ذلك، كان الفلسطينيون العاملون في ليبيا يلقون منذ وصول القذافي إلى السلطة معاملة كريمة ومميزة تساويهم بالليبيين تماماً من نواحٍ عديدة، مثل عدم الفصل من العمل، وعدم الإبعاد من البلد، وحق شراء تذاكر السفر عبر الخطوط الجوية والبحرية الليبية بالعملة المحلية. والفلسطينيون، مقاومة وشعباً، كانوا من جهتهم الحليف العربي الرئيسي والثابت لنظام القذافي. وقد تجسد هذا التحالف في أكثر من مناسبة وفي أكثر من أزمة، بدءاً بإرسال قوات ليبية إلى سهل البقاع اللبناني للوقوف في وجه إسرائيل، وانتهاء بتسليح فصائل المقاومة بسخاء.
ولقد حكَّ فلسطينيو ليبيا ذهنهم طويلاً بحثاً عن سبب أو حجة يقنعون بها أنفسهم بأنهم يستحقون ذلك العقاب القاسي، فلم يجدوا. فهم لم يرتكبوا أي "ذنب" سياسي تجاه النظام الليبي، ولم يتخذوا أي موقف يسيء إلى البلد، ولو من بعيد؛ فلم يؤيدوا - على سبيل المثال - خطوات عرفات أو اتفاق أوسلو، سواء بالتظاهر أو بالكتابة. والعكس هو الصحيح، فما لمستُه هو أن فلسطينيي ليبيا كانوا في معظمهم ضد اتفاق أوسلو. كما أن النخبة السياسية الفلسطينية المثقفة المقيمة في ليبيا كانت معارضة لمشروع عرفات السياسي، بل إن معظم أفراد هذه النخبة قصد ليبيا لأنه أصلاً معارض لنهج التسوية، وقصدها لتحصيل رزقه ورزق عياله تجنباً لتقديم تنازلات سياسية لذلك النهج.
خصائص الجالية الفلسطينية
في ليبيا
ليست ليبيا دولة مضيفة للفلسطينيين (أي أنها ليست دولة لجوء)، كما هي حال لبنان وسورية والأردن، بل هي بلد مستورد للعمالة الماهرة في المجالات الفنية والعلمية والمهنية بمختلف مستوياتها؛ وبالتالي، فإن إقامة كل فلسطيني في ليبيا قائمة هناك على أساس تعاقد شخصي أو فردي مع الدولة ومؤسساتها، أو مع الشركات الليبية أو الأجنبية العاملة في هذا البلد. كما أن ليبيا، التي تسمي نفسها "أرض العرب"، والتي يحمل زعيمها لقب "الأمين على القومية العربية" - وهو لقب منحه إياه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر - لا تطلب من أي عربي تأشيرة دخول ولا تفرض عليه تأشيرة إقامة للبقاء فيها، وذلك أيّاً يكن نوع عمله أو هدف زيارته، ومهما تطل مدة إقامته. أمّا تأشيرة الإقامة فوظيفتها تمكين صاحب عقد العمل "المغترب" من فتح حساب في المصرف يتيح له تحويل نصف صافي مرتبه بالعملة الصعبة إلى بلده الأصلي.
إن حجم الجالية الفلسطينية في ليبيا صغير جداً، مقارنة بالجوالي الفلسطينية المقيمة في الدول العربية المضيفة أو في الدول العربية المستوردة للعمالة، ربما باستثناء الجالية الفلسطينية الموجودة في قطر. وتؤكد التقديرات الليبية، المستندة إلى إحصاء خاص للفلسطينيين بعد وقوع الأزمة تولاه جهاز الأمن الخارجي الليبي سنة 1995، أن عدد الفلسطينيين في ليبيا 30 ألف نسمة، وهو عدد قليل جداً قياساً بحجوم الجوالي العربية الأُخرى المقيمة في ليبيا، كالجالية المصرية (مليون نسمة)، والسودانية (نصف مليون)، والسورية (ربع مليون)، والعراقية (ربع مليون). ونستخلص من هذه الأرقام أن الجالية الفلسطينية في ليبيا لا تشكل أي عبء اقتصادي على ليبيا، بل هي عالية الكفاءة ومنتجة ومخلصة في عملها، كما يشهد المسؤولون الليبيون أنفسهم على ذلك. ويمكنني القول بثقة، ونتيجة المعايشة والمعاينة الشخصية طوال ثلاثة أعوام أمضيتها في ليبيا، إن موقع عمل كل فلسطيني كان (ولا يزال) بحاجة ماسة إليه، وإنه لم يكن بين الفلسطينيين في ليبيا عمالة زائدة تمَّ تعيينها بدافع العطف والشفقة من دون حاجة فعلية إليها. وأضيف أن كل دينار أخذه الفلسطيني من ليبيا إنما أخذه باستحقاق في مقابل تعب وجهد وعرق. وإذا كان للدولة الليبية فضل على بعض فصائل المقاومة الفلسطينية أو على معظمها، فإن ذلك لا يصح على الفلسطينيين العاملين لديها، لأنهم لم يأخذوا طوال ربع قرن ديناراً ليبياً واحداً هبة أو منحة أو من دون مقابل. وربما يكون بعضهم أعطى أكثر مما أخذ، إذا قسنا الجهد المبذول بقيمته المالية.
وكمثال، أو كنموذج فقط، أُورد حالة الفلسطينيين المقيمين في مدن الجبل الغربي (حيث كنت أقيم)، وهي غريان ويفرن وجادو ونالوت. فقد كان معظم هؤلاء من المدرسين وأساتذة الجامعات، يليهم الأطباء والصيادلة وفنّيو المختبرات والممرضون، ثم المهندسون وأساتذة التعليم المهني والصناعي. وكان ما يزيد على 75٪ منهم قد أمضوا في ليبيا فترة لا تقل عن 20 عاماً. وكان هؤلاء يتصفون بدرجة عالية من التكيف الاجتماعي والنفسي مع المجتمع الليبي ومع البيئة المحلية التي يقيمون فيها. ومن الجدير بالذكر أنني عندما أخذت طلابي في زيارات ميدانية إلى سجون الجبل الغربي ضمن مادة "علم الإجرام والانحراف الاجتماعي"، لم أجد بين السجناء، ذكوراً وإناثاً، أي فلسطيني أو أية فلسطينية. كما أن علاقات هؤلاء الفلسطينيين كأفراد بالليبيين على الأصعدة الشخصية والاجتماعية كانت تتصف بدرجة عالية جداً من الوفاق والانسجام.
أمّا من حيث الأقطار والمناطق التي جاء الفلسطينيون منها، فإن ما يزيد على ثلثيهم هم من أهالي قطاع غزة الذين وفدوا إلى ليبيا في بداية السبعينات، والباقون هم من فلسطينيي لبنان وسورية الذين وفدوا على دفعتين كبيرتين، الأُولى في السبعينات، والأُخرى بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف سنة 1982. وعلاوة على ذلك، وفد عدد محدود (بضع مئات) من الذين طُردوا من الكويت خلال عام 1990/1991.
تفاقم الأزمة
اتضحت معالم الأزمة وتبلور التوجه الرسمي الليبي في الفترة الواقعة بين منتصف كانون الأول/ديسمبر 1994 ومنتصف شباط/فبراير 1995. فقد اتخذت الإدارة الليبية العليا الإجراءات التالية: أولاً، شطب أسماء الفلسطينيين كافة من كشوفات تجديد عقود العمل التي أرسلتها الأمانات (الوزارات) إلى إدارة القوى العاملة (وزارة العمل). ثانياً، رد جميع عقود العمل الجديدة التي كانت تلك الأمانات أرسلتها إلى إدارة القوى العاملة للمصادقة. ثالثاً، امتناع إدارة الجوازات والهجرة من وضع ختم الإقامة لأي فلسطيني يطلب إقامة جديدة أو انتهت مدة إقامته القديمة. رابعاً، بدأت ترد أنباء مؤكدة بشأن منع سلطات الحدود الليبية دخول أي فلسطيني يصل إلى الحدود برّاً أو بحراً. خامساً، منع كل فلسطيني غادر الجماهيرية، لزيارة أهله أو في رحلة عمل، من العودة إلى بيته وعمله، على الرغم من أن إقامته كانت لا تزال سارية المفعول، وعلى الرغم مما له في ذمة الدولة الليبية من مستحقات وتعويضات نهاية الخدمة. وأذكر في هذا المجال حادثة واحدة أعرفها شخصياً لمدرس فلسطيني من قطاع غزة أمضى في ليبيا 20 عاماً: في أثناء إجازة نصف العام الدراسي، قام ذلك المدرس بزيارة أهله في غزة، وعندما عاد إلى بلدة مساعد الحدودية الليبية رده رجال الأمن الليبي على أعقابه. وقد بذل أقرباؤه وأصدقاؤه أقصى جهودهم للحصول على تصريح دخول له لإكمال العام الدراسي فقط ولتسوية مستحقاته، لكن جهودهم باءت بالفشل، وجاءهم الجواب: "دعوه يرسل إلى قريبه توكيلاً كي يتم معاملة تسوية مستحقاته." وهناك حادثة أُخرى كنت شاهداً عليها: طبيب فلسطيني من لبنان سافر قبل المنع (غير المعلَن رسمياً) إلى لبنان وعقد قرانه على فتاة فلسطينية، ثم عاد إلى ليبيا لترتيب "بيت الزوجية". وعندما وصلت "العروس" إلى مالطا، في طريقها إلى ليبيا بحراً، منعها رجال الأمن الليبي الموجودون على ظهر السفينة المتوجهة إلى ليبيا من الصعود إلى السفينة للالتحاق بزوجها، على الرغم من حيازتها جميع الأوراق الثبوتية. ويبدو أن مضمون القرار الرسمي كان: "الفلسطيني لا يدخل ليبيا لأي سبب، وإذا خرج لا يُسمح له بالعودة." وعلمتُ أيضاً بقصة فلسطيني خطب فتاة ليبية وسافر لزيارة أهله، وعندما حاول العودة، منعته السلطات الليبية. وسمعت لاحقاً أن الأمر انتهى بقيام أهل الفتاة بفسخ الخطوبة؛ إذ كيف يزوجونها رجلاً لا يسمح له بدخول البلد!!
وجاء التصعيد الثالث والأهم في وتيرة الأزمة من خلال مقابلة مطولة وشاملة أجراها أحمد الهوني، رئيس تحرير صحيفة "العرب" الدولية التي تصدر في لندن، مع العقيد القذافي في منتصف شباط/فبراير 1995 الذي وافق منتصف شهر رمضان تقريباً. وأثار الهوني موضوع فلسطينيي ليبيا بقوله للعقيد: "لقد تلقيت عدة رسائل من فلسطينيي ليبيا يطلبون مني أن أنقل إليك رجاءهم بعدم اتخاذ أي إجراء ضدهم من حيث العمل والإقامة." وأجابه العقيد بـ "أن عرفت وأميركا وإسرائيل وغيرهم يقولون إن قضية فلسطين قد حُلّت أو سوّيت نهائياً. وهذا كلام غير صحيح. فهناك ملايين اللاجئين الفلسطينيين ما يزالون خارج وطنهم. وحرصاً مني على قضية فلسطين ومن أجل مصلحة الفلسطينيين سأقوم بإخراج الثلاثين ألف فلسطيني المقيمين عندي وأحاول إعادتهم إلى غزة وأريحا. وإذا لم تسمح إسرائيل بعودتهم ولم تسمح مصر بمرورهم سأقيم لهم مخيماً كبيراً على الحدود المصرية - الليبية. وهذا كله من أجل قضيتهم الكبرى. ومهما عانوا، وحتى لو ظلوا سنوات في ذلك المخيم فهذا في مصلحتهم الوطنية. وسيعرف العالم كله أن التسوية كاذبة وأنه ما يزال هناك لاجئون. وأنا أدعو كافة الدول العربية التي تستضيف اللاجئين لأن تحذو حذوي."
وبما أن كلام العقيد يعتبر، عادة، قراراً في ليبيا، دبَّ الرعب في قلوب الفلسطينيين جراء فكرة المخيم على الحدود الجرداء والمعاناة المتوقعة والمدة التي قد يمضونها في ذلك المخيم قبل أن يلتفت العالم إلى مأساتهم، وكذلك جراء حرمان أولادهم التعليم، وباختصار، جراء الرحلة المشؤومة إلى المجهول. وظهر الرعب على أشده في أوساط فلسطينيي غزة بسبب تعذّر توجههم إلى أي مكان في العالم، بينما كانت مخاوف فلسطينيي سورية ولبنان أقل حدة لاطمئنانهم إلى إمكان عودتهم إلى هاتين الدولتين؛ وفي حال ألقى القذافي بهم على الحدود، فلا مناص أمام مصر سوى السماح لهم بعبور أراضيها للعودة إلى سورية ولبنان، لأن من مصلحتها تصغير حجم المخيم في حال قيامه.
وعاشت الجالية الفلسطينية بعد ذلك حالة رعب وهلع يصعب وصفها. وكان مصدر هذه الحالة سببان: الخوف من الترحيل وما يتبعه من مصير مجهول، والخوف من تجميد الحكومة الليبية مستحقاتهم وتعويضاتهم ريثما تُحل الأزمة التي قد تطول أعواماً. فقد كان الفلسطينيون على يقين بأن طردهم من ليبيا إلى مخيم على الحدود لن يؤدي إلى إعادتهم إلى وطنهم؛ فهم يعرفون إسرائيل جيداً، ويعلمون بأنها لن تلين إزاء أي ضغط دولي أو أية حالة إنسانية مأساوية. وكانوا يعلمون أيضاً بأن عرفات غير قادر على انتزاع أي قرار منها بشأن إعادتهم إلى قطاع غزة.
في جو الرعب والهلع هذا، الذي ساد طوال سنة 1995، انتشرت الشائعات والشائعات المضادة في أوساط الفلسطينيين؛ فكان هناك شائعات تزيد الأعصاب إرهاقاً، مثل شائعة أن السلطات الليبية بدأت تجميع الناس للترحيل، أو أن الموعد السري للترحيل تقرر تنفيذه بعد شهر، أو أن الفلسطينيين الذين أمضوا زهرة شبابهم وافنوا عمرهم في ليبيا خسروا مستحقاتهم لأن الدولة قررت أن تدفع لهم تعويضات نهاية الخدمة بالعملة المحلية، الأمر الذي يفقدهم 90٪ من القيمة الفعلية لمستحقاتهم. وكان هناك في المقابل شائعات تريح الأعصاب وتبعث على الطمأنينة، كالقول إن الدولة تدرس حالياً مسألة إلغاء قرار الترحيل، أو إن فلاناً حصل على مستحقاته بالعملة الصعبة كما ينص عقد عمله، أو إن فلاناً من حملة الوثيقة تمَّ تجديد عقد عمله، أو إن إدارة الجوازات منحته تأشيرة إقامة. وهكذا، أمضى الفلسطينيون العاطلون عن العمل أياماً وليالي طويلة شديدة السواد، يتراكضون هنا وهناك ليتحرّوا أي خبر أو أية "رائحة" خبر مفرح بانفراج أزمتهم. والمرهق في تلك الشائعات "ذات الهبّة الساخنة والهبّة الباردة" أنها كانت تأتي متلاحقة خلال بضع ساعات. فما أن يسمع فلسطيني ما شائعة تريحه حتى تأتيه بعدها بساعة أو ساعتين على الأكثر شائعة تصيبه بالقنوط والإحباط. ولم يكن مستغرباً، في ظل جو التعذيب النفسي هذا، حدوث حالات انهيار عصبي وظهور أمراض ضغط الدم والسكري لدى عدد من الفلسطينيين. أمّا الدولة الليبية، ممثلة بأجهزتها وإداراتها، فقد التزمت الصمت المطبق حيال ما يجري للفلسطينيين. وكان الجواب الذي يحصل عليه مراجعو إدارة القوى العاملة ووزارتي التعليم والصحة: "لا شيء جديداً، ولا معلومات أو تعليمات جديدة لدينا. ولكننا نأمل خيراً. ولا بد وأن تنتهي المسألة على خير. فنحن لن نستغني عنكم وغير راغبين بذلك. وما بين ليبيا وفلسطين أكبر من أن تدمره أزمة عابرة".
في منتصف نيسان/أبريل 1995، وصلت أخبار مطمئنة تفيد بتجميد قرار الترحيل. وشعر الفلسطينيون بارتياح إلى حد ما، واعتبروا التجميد مقدمة لإعادتهم إلى أعمالهم ووظائفهم. وتقدم وزيرا التعليم والصحة بمذكرة إلى اللجنة الشعبية العامة (مجلس الوزراء) يطلبان فيها منحهما صلاحية تجديد عقود الكفاءات الطبية والتدريسية، نظراً إلى حاجة البلد إليها. لكن اللجنة الشعبية العامة لم تستطع التصرف أو أخذ الأمر على عاتقها. وأفاد بعض الوزراء ومسؤولون آخرون بالقول: "إن قضيتكم عند العقيد، ومشكلتكم معه، ولا يقدر أحد على التدخل." وظل الفلسطينيون في حالة إرباك تام، متأرجحين بين التفاؤل والتشاؤم حتى آب/أغسطس، عندما ورد من مقر القيادة الليبية في سرت نبأ أحدث انفراجاً، بل ابتهاجاً واسعاً بانتهاء الأزمة. وكان مفاد النبأ أن اللجنة الشعبية العامة اجتمعت بحضور العقيد القذافي، وأن أعضاءها سألوا العقيد عما يفعلونه بالفلسطينيين، فقال لهم: "ليس لدي شيء ضدهم. أعيدوهم إلى أشغالهم ووظائفهم، ونفّذوا عقودهم كمغتربين مثل بقية العرب." وقام بنقل هذا الخبر وزير غادر الاجتماع ليتصل هاتفياً في هذا الشأن بصديق فلسطيني. وما لبثت الجامعات والمؤسسات الأُخرى أن عرضت على الفلسطينيين تجديد عقودهم، وقام الفلسطينيون بتوزيع الحلوى فرحاً. لكن سرعان ما خبت الفرحة؛ إذ مر شهر آب/أغسطس بكامله من دون تنفيذ القرار الشفهي للعقيد. وأفادت إدارة القوى العاملة وإدارة الجوازات بأنهما لم تُبَلَّغا شيئاً بشأن تصديق عقود أو منح تأشيرات إقامة للفلسطينيين. وأدرك الفلسطينيون أن رواية القرار الشفهي إمّا غير صحيحة وإمّا أن العقيد قام بتعطيل القرار بعد الاجتماع الوزاري الموسَّع. ومع نهاية آب/أغسطس، أرسلت الجامعات إلى وزارة التربية عقودها الجديدة في وقت مبكر، فعادت الكشوفات وقد شُطبت أسماء الفلسطينيين منها.
ولم تمض أيام قليلة حتى قام العقيد القذافي بتفجير الأزمة علناً خلال إلقاء كلمته في ذكرى "ثورة الفاتح" في أيلول/سبتمبر 1995؛ إذ أصر على ترحيل الفلسطينيين من ليبيا، داعياً جميع الدول العربية إلى الاقتداء به، ومزيّناً قراره التعسفي واللامعقول بكلام ثوري وقومي ووطني.
وبعد ذلك، جُمع نحو ألف فلسطيني وأُبعدوا إلى "مخيم العودة" على الحدود الليبية - المصرية. ويبدو أن الضغوط المصرية المكثفة لم تسمح للقذافي بإخراج الثلاثين ألفاً، فاكتفى بتظاهرة سياسية. لكن ما نود أن نؤكده هو أن إبقاء الفلسطينيين في ليبيا بلا عمل أو دخل طوال عامين كاملين لا يقل خطورة عن إبعادهم إلى خارج الحدود.
ويجدر بنا أن نتوقف أمام محطتين رئيسيتين في سياق الأزمة - المحنة التي نعرضها: المحطة الأُولى تتمثل في تعاطف مختلف فئات الشعب الليبي مع الفلسطينيين في محنتهم؛ إذ إن الليبيين، كما الفلسطينيين، لم يفهموا الأسباب الحقيقية لما يجري. وكان الفلسطينيون يرددون على مسامع الليبيين القول: "إننا نعاقَب على جرم لم نرتكبه"، وكان الليبيون يطأطئون رؤوسهم خجلاً. فعلى الرغم من إعلان العقيد أن هذا هو قرار الشعب الليبي، فالواقع يؤكد أن 99٪ من الليبيين لم يكونوا راضين عما يجري للفلسطينيين، وذلك لسبب بسيط هو أن قيادتهم لم تتمكن من إقناعهم بأن ما يجري أمر سليم. وكذلك أبدى الكثيرون من العرب العاملين في ليبيا تعاطفهم مع الفلسطينيين، وعبّروا عن استهجانهم واستنكارهم لما يجري.
وأمّا المحطة الأُخرى، فتتمثل في المحاولات الكثيرة التي بذلها قادة فصائل المقاومة المعارضون اتفاق أوسلو ونهج عرفات لإقناع حليفهم العقيد القذافي بالتراجع عن قراره. وقد دخل هؤلاء في حوارات لا نهاية لها لإقناعه بأن فكرته "الثورية" غير واقعية وغير قابلة للتطبيق. وظل القذافي على عناده وإصراره، وطالبهم في المقابل بتوفير غطاء لقراره، وبمساندة فكرته وترويجها. ولم يرض أي زعيم فلسطيني، سواء من المعارضين أو من الموالين (مثل فاروق القدومي الذي زار العقيد مرتين لهذا الغرض)، بتأييد مثل هذه الفكرة العبثية التي يقع ضحيتها في نهاية المطاف ثلاثون ألف فلسطيني لا أمل لهم بالعودة إلى وطنهم بهذه الطريقة المسرحية - الدرامية. كما أن الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد عصمت عبد المجيد، والرئيس المصري، حسني مبارك، لم يدخرا جهداً لإقناع القذافي بأن فكرته بشأن العودة غير واقعية ولن ينتج منها سوى المزيد من المصائب. وطبعاً، لم تستجب حكومات سورية ولبنان والأردن لدعوة القذافي المطالبة بطرد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين عندها إلى حدود فلسطين.
التفسيرات الشعبية لخطوة القذافي
لقد تخلل عامي الرعب والقلق والتوتر والإحباط اللذين عاشهما الفلسطينيون المقيمون في ليبيا، بلا أدنى داعٍ، موجات من التحليلات والاجتهادات السياسية على المستوى الشعبي الفلسطيني، كان هدفها محاولة معرفة السبب الحقيقي لقرار العقيد بطردهم من بلده، وهو يعلم تمام العلم باستحالة عودتهم إلى وطنهم في ظل الأوضاع الراهنة؛ فمن حق المحكوم عليه بالإعدام أن يعرف لماذا سيُعدم. وتحوّل كل فلسطيني، من المراهق إلى الشيخ ومن الأُمي إلى الجامعي، إلى محلل سياسي. وكان نطاق التحليلات الشعبية يمتد من أقصى حُسن الظن بخطوة القذافي إلى أقصى سوء الظن بها. واستطعنا رصد التحليلات التالية:
1) إن العقيد مخلص في طرحه، وهو حريص على عدم دفن القضية الفلسطينية في الوقت الذي لا يزال ثلثا الشعب الفلسطيني لاجئين مشردين. لكن حتى أصحاب هذا التحليل كانوا يقولون أنهم مع العقيد في طرحه هذا شرط أن يبقى عند حدود الإثارة السياسية ولا يتحول إلى طرد فعلي لفلسطينيين لا مكان لهم يذهبون إليه.
2) إن هدف العقيد من مبادرته هذه الضغط على عملية السلام، وخصوصاً على عرفات، وبالتالي إحداث إرباك في مسيرة التسوية بما يؤازر القوى المعارضة للاستسلام.
3) إن دعوة العقيد إلى إرسال جميع فلسطينيي الخارج إلى الداخل صادرة عن قناعة فعلية، وهي طرح للمسألة من منظور ثوري. لكن أصحاب هذا التحليل يضيفون أنه طرح ثوري على الصعيد النظري فقط، وغير قابل للتطبيق عملياً، وهو بالتالي طرح عديم الجدوى سياسياً؛ إذ مَنْ يتخيل أن الجيش الإسرائيلي سيسمح بأن يعبر مليونان أو ثلاثة ملايين فلسطيني نهر الأردن إلى فلسطين؟!!
4) رأى أحد التحليلات أن العقيد، كرجل دولة، يدرك تماماً استحالة تنفيذ طرحه، وأنه يغلف قراره بشعارات ثورية، لكنه على الصعيد العملي يلعب بالورقة الفلسطينية لحسابه الخاص؛ فهو يهدد الغرب وأركان عملية السلام بـ "أزمة" فلسطينية حقيقية إذا لم يُرفع الحصار المفروض على بلده ولم يتم إنهاء أزمة لوكربي.
5) رأى أصحاب "التفكير البوليسي" في تفسير الأحداث أن القذافي منسجم مع "لعبة" المنطقة، وأنه يؤدي دوراً لحساب أميركا ونهج التسوية الحالي من خلال زيادة الضغوط على الشعب الفلسطيني كي يرضخ أكثر فأكثر.
حساب الربح والخسارة
إن النظام الليبي هو، في تقديرنا، الخاسر الأكبر في نهاية المطاف من جراء السياسة التي يتبعها تجاه الفلسطينيين المقيمين في ليبيا ولا مكان لهم يعودون إليه. وقد تكبد النظام الليبي خسائر على عدة جبهات أهمها:
1) اهتزاز الصورة القومية للنظام اهتزازاً قوياً، علماً بأن هذه الصورة هي إحدى ركائز النظام وأحد مصادر قوته. فالنظام القومي الأول يوجه ضربة موجعة وشديدة إلى طرف عربي منكوب ومشرد ومطارَد يعيش في كنفه. وستُدخِل هذه الضربة وصمة عار إلى السجل القومي للنظام الليبي.
2) لقد اهتزت اهتزازاً شديداً صدقية العقيد القذافي لدى الجماهير العربية. فهو الزعيم القومي الذي ما فتئ ينادي بضرورة التمييز بين الحكام والحكومات من جهة والجماهير العربية من جهة أُخرى. وكان القذافي قد أكّد هذه النقطة مراراً، وهو الأمر الذي أكسبه شعبية كبيرة، وخصوصاً بعد قيام دولة الكويت بطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من دون تمييز، بحجة أن قيادتهم السياسية وقفت إلى جانب صدام حسين بعد اجتياحه الكويت. لكن الجماهير العربية ترى القذافي اليوم يتخذ الموقف الكويتي نفسه، بل يتخذ موقفاً أسوأ، فيطرد الفلسطينيين لأن قيادتهم السياسية لم تتمكن من تحقيق تسوية عادلة.
ملاحظات وتساؤلات ختامية
نورد هذه الملاحظات والتساؤلات وأهلنا في ليبيا لا يزالون قابعين كأسرى أو كرهائن في يد النظام الليبي. ومع أن هذا النظام لا يمنع أيّاً منهم من مغادرة ليبيا، فإن أركانه يعلمون تماماً بأن أهالي قطاع غزة غير قادرين على التوجه إلى أي مكان في العالم. والجانب المؤلم في وضعهم هو أنه غير مسموح لهم منذ عامين بالعمل في بلد "قومي" ومستورد للعمالة، وفي بلد قدموا له الكثير من العرق والجهد طوال ما يزيد عن ربع قرن. ويمكن لأي إنسان تصور الحالة النفسية والمادية لهؤلاء الآلاف، الذين فُرضت عليهم البطالة الإجبارية، وفرض على كثيرين منهم اللجوء إلى التسول. أبهذه الطريقة ينشئ العقيد القذافي الثوار والشعب الثائر؟ وهل هذه هي الطريقة العربية الثورية الجماهيرية في إفهام العالم أن قضية فلسطين لم تُحلّ، وأن هناك لاجئين لهم حقوق ثابتة في وطنهم؟ وكيف يتفق قرار التعذيب والإذلال هذا مع ادعاء النظام الليبي يومياً أنه يحترم حقوق الإنسان ويصون كرامته، تاركين جانباً ادعاءه التمسك بالقومية وبالعروبة؟
كيف ستنتهي المحنة؟
نظرياً، هناك احتمالان: الأول أن تقوم إسرائيل بالسماح لفلسطينيي ليبيا بالعودة إلى وطنهم في ظل سلطة الحكم الذاتي الإداري. وحظ هذا الاحتمال من التحقق ضئيل جداً جداً، كما أثبتت تجربة العامين الماضيين وتجربة "مخيم العودة"، الذي أصرَّ الفلسطينيون المئتان الذين أقاموا فيه على البقاء عند الحدود وتحمل أقسى الأوضاع المعيشية من أجل العودة إلى الوطن، ولم يفلحوا في فرض "حق العودة" على إسرائيل؛ والاحتمال الآخر هو قيام دول غربية باستقبال هؤلاء كمهاجرين إليها. وقد سقط هذا الاحتمال النظري تماماً بالتجربة (وإن كان الأمل به راود بعض الفلسطينيين في ليبيا في أثناء فترة المعاناة في ظل شائعات سرت بأن السفارة النرويجية أو السويدية أو الكندية فتحت باب التسجيل للهجرة). فدول هذه السفارات مجتمعة لم تعرض اللجوء حتى على أُسرة فلسطينية واحدة من أُسر المبعدين من ليبيا.
ولذلك، ومن منظور عملي وواقعي، لا بد من حل الأزمة في ليبيا على نحو يحفظ ما بقي من كرامة للجالية الفلسطينية المقيمة هناك من ناحية، ويضع حداً لمرحلة العذاب والتعذيب التي لا طائل فيها من ناحية أُخرى. ولا بد للنظام الليبي، ولقائده بالذات، من أن يكون توصل إلى قناعات كافية بشأن صحة أو عدم صحة نظريته "الثورية" بصدد كيفية إعادة الفلسطينيين إلى وطنهم. فقد جرّب العقيد نظريته "الثورية" على محك الواقع الإقليمي والدولي، وفشلت هذه النظرية فشلاً تاماً. كما أن أيّاً من القوى والأحزاب والشخصيات "الثورية" والقومية العربية والفلسطينية لم يوافق القذافي على نظريته هذه ولا على الإجراءات الناجمة عنها ضد الفلسطينيين منذ البداية. أمّا إذا كان العقيد القذافي يلعب بالورقة الفلسطينية لرفع الضغط عن نفسه ولتخفيف الحصار المفروض على ليبيا، فإن هذه الورقة سقطت أيضاً ولم تحقق أغراضها؛ إذ ثبت بالدليل القاطع أن 30 ألف فلسطيني لا يعنون شيئاً للعالم الغربي، وخصوصاً للولايات المتحدة.
وختاماً، إن الواجب القومي والإنساني يملي على النظام الليبي إعادة وضع الفلسطينيين المقيمين في ليبيا إلى سابق عهده، لناحية السماح لهم بالعمل وبتحصيل عيشهم لقاء الجهد الذي يبذلونه في خدمة المجتمع الليبي، إلى أن يفرجها الله عليهم بعد حين قد يطول أو يقصر، وعندها فقط يمكن للنظام الليبي أن يقول لهم "غادروا، والله معكم". هذا هو المخرج الواقعي الوحيد الممكن حالياً. ونحن، كقوميين عرب، لا نرضى للعقيد معمر القذافي، الذي قدَّم الكثير لفلسطين ولقضيتها، أن ينتهي في صفوف بعض الزعماء العرب الذين يقدسون القضية ويذبحون الشعب صاحب القضية!!