حقائق المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية في حديث مطوَّل مع السفير وليد المعلِّم
كلمات مفتاحية: 
وليد المعلم
محادثات سلام بين سورية وإسرائيل
المفاوضات الإسرائيلية السورية
المسار الإسرائيلي السوري
حافظ الأسد
خط الرابع من حزيران/ يونيو 1967
السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
نبذة مختصرة: 

مقابلة أجريت في واشنطن في 15/10 و 12 و 25/11/1996، مع السفير السوري الذي كان عضواً في الفريق السوري المفاوض منذ مؤتمر مدريد سنة 1991. وتتناول المقابلة كيفية سير المفاوضات مع الإسرائيليين في حضور الأميركيين، في جولة المحادثات الأخيرة، وإعلان الرئيس الأسد موافقة الإسرائيليين على الانسحاب إلى خطوط 4/6/1967، والقضايا التي تناولتها المفاوضات (الترتيبات الأمنية، التطبيع... إلخ)، والدور الأميركي في المفاوضات، والوضع الذي وصلت إليه عملية التسوية بين الطرفين.

النص الكامل: 
  • يبدو أن إعلان الرئيس الأسد في مقابلته مع الـ "سي. أن. أن." في أيلول/سبتمبر الماضي أن الإسرائيليين وافقوا على الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، أعاد إحياء مسألة "الفرص الضائعة" بأكملها. فالكثيرون من الإسرائيليين يقولون إنه لو كانت سورية قد تقدمت على جبهة المفاوضات لما كانت حكومة بيرس دعت إلى انتخابات مبكرة
  • هذا ليس صحيحاً، بل كان هناك تقدم. ولقد أعلن دنيس روس في كانون الثاني/يناير 1996 أن ما تحقق في جولتين من المحادثات في ماريلاند يفوق ما تحقق في الأعوام الأربعة الماضية. وهذا مسجل رسمياً لدى وزارة الخارجية الأميركية. وبسبب هذا التقدم قررنا، أوري سافير ودنيس روس وأنا، بصفتنا رؤساء للوفود، أن نعقد محادثات متواصلة للتوصل إلى هيكلية لاتفاق يشتمل على القضايا المطروحة كافة، وحددنا موعداً نهائياً لإنهاء عملنا، واتفقنا على أن نسد كل الثغرات الباقية وننجز بصورة نهائية جميع عناصر الاتفاق مع حلول حزيران/يونيو 1996، ومن ثم نرسل ما اتفقنا عليه إلى لجنة خاصة تعدّ الصيغة النهائية للاتفاق. وكنا نتوقع أنه بحلول أيلول/سبتمبر 1996 سيكون الاتفاق النهائي جاهزاً.

لذلك، فوجئنا عندما دعا بيرس، بعد ذلك بقليل، إلى انتخابات مبكرة. كانت المحادثات لا تزال مستمرة عندما جاء الوزير كريستوفر في 25 كانون الثاني/يناير إلى واي بلانتيشن وأخبرني بقرار رئيس الحكومة بيرس. ولم تكن تلك أخباراً سارة، سواء بالنسبة إلينا أو بالنسبة إلى الأميركيين، لكننا قلنا: "إن هذا القرار يعود إليهم." ثم طلب الوزير كريستوفر إليّ أن أنقل إلى القيادة السورية رغبة كل من الرئيس كلينتون ورئيس الحكومة بيرس في استمرار المحادثات في ماريلاند، على الرغم من قرار الانتخابات المبكرة. ولهذا السبب عاودنا المفاوضات في شباط/فبراير، وعقدنا الجلسة الأُولى من المحادثات في نهاية الأسبوع الذي سبق تفجير القنابل في القدس وتل أبيب وقيام الإسرائيليين بإبلاغنا، من خلال الأميركيين، أنهم علّقوا المحادثات. طبعاً، منذ ذلك الحين بدأ كل شيء ينهار. وتحول التركيز الدولي والإسرائيلي إلى محاربة الإرهاب. ومع مؤتمر شرم الشيخ لـ "مكافحة الإرهاب" ومؤتمر المتابعة في واشنطن، لم يعد أحد يتحدث عن العملية السلمية. ثم جاءت الانتخابات وفاز السيد نتنياهو، ولا نزال حتى الآن نشعر بأن ليس لدى الحكومة الإسرائيلية استراتيجيا سلام حيال سورية.

  •  قال رئيس الحكومة السابق، بيرس، في مقابلة معه مؤخراً إنه حينما بلّغ السوريون الإسرائيليين - من خلال الأميركيين - أنهم يريدون التوصل إلى السلام بحلول سنة 1996، كان شرط إسرائيل الوحيد أن ترفع المفاوضات إلى مستوى رؤساء الدول، وأن الرئيس الأسد رفض تحديد موعد دقيق للاجتماع...
  • في واقع الأمر، لم يكن هناك من جديد في طلب الإسرائيليين عقد اجتماع على مستوى رؤساء الدول. فقد كان رابين أيضاً يريد دائماً أن يفاوض على مستوى القمة. لكننا قلنا مراراً إن مثل هذا النوع من الاجتماع يتطلب إعداداً دقيقاً؛ ذلك بأن فشل الاجتماع على مستوى القمة سيؤدي إلى القضاء على جميع الفرص الأُخرى. ينبغي أن تحدِّد مسبقاً النقاط التي يتعين على القمة أن تحلها - ينبغي أن تكون الفجوة بين الموقفين ضيقة، ويجب أن يكون هناك إدراك أن هذا الاجتماع سيشكل فعلاً المرحلة النهائية من التوصل إلى اتفاق. ولهذه الأسباب، قال الرئيس الأسد، عندما بُلِّغ رغبة رئيس الحكومة بيرس في الاجتماع إليه، إن هذا الأمر لا يزال سابقاً لأوانه.

وهكذا، فإن الإسرائيليين كانوا يعرفون مسبقاً موقف الرئيس الأسد من مثل هذا الطلب، لأن هذا كان من ناحيتهم طلباً قائماً بصورة مستمرة. ولا يمكن أن يكون ذلك هو ما حداهم على الدعوة إلى انتخابات مبكرة - وهم لم يشيروا إلى ذلك في حينه بوصفه أحد الأسباب. إن قرار بيرس الدعوة إلى انتخابات مبكرة لا بد من أن يكون نجم عن الضغوط التي جاءت من داخل حزبه بسبب بدء تقلص الفارق بين الليكود والعمل في استفتاءات الرأي العام الإسرائيلي.

وفي رأيي، إن ما قاله بيرس في المقابلة كان مجرد تبرير، أو وسيلة لتحميل السوريين تبعة عدم التوصل إلى اتفاق بدلاً من إلقاء اللوم على نفسه لدعوته إلى انتخابات مبكرة. فعندما تعيِّن موعداً للانتخابات لا يعود في وسعك أن تتوصل إلى اتفاق لأنك لست متأكداً من النتائج. وهم، على أية حال، علّقوا المفاوضات برمتها في شباط/فبراير - وكان ذلك قراراً اتخذته الحكومة الإسرائيلية من جانب واحد، لأنهم اعتبروا أن الرأي العام الإسرائيلي لن يقبل باستمرار المحادثات مع سورية بعد عمليات التفجير الفلسطينية الانتحارية. وكما قلت، فإنهم أعطوا الأولوية لمحاربة ما يسمى الإرهاب بدلاً من إعطائها للعملية السلمية.

  •  بالعودة إلى إعلان الرئيس الأسد أن الإسرائيليين وافقوا على الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، هل كان ذلك تعهداً رسمياً؟
  • أجل، فعندما نكون في محادثات رسمية، تكون التعهدات التي تعطى خلالها تعهدات رسمية. وعندما تعهد رئيس الحكومة رابين بالانسحاب، فإنه فعل ذلك بصفته ممثلاً لإسرائيل، لا ممثلاً لنفسه. وبعد اغتيال رابين بلَّغَنا بيرس عبر الأميركيين، في تشرين الثاني/نوفمبر، أنه يود معاودة المفاوضات، وكرر التزامه التعهد نفسه.
  •  وجد الكثيرون أنه لأمر محير أن السوريين لم يشيروا مطلقاً إلى موافقة الإسرائيليين على المطلب السوري الأساسي المتمثل في الانسحاب الكامل، إن كانوا وافقوا عليه.
  • طبعاً، لم يكن في وسعنا أن نشير إلى ذلك. فقد اتفقنا مع الإسرائيليين على عدم إعلان تفصيلات المحادثات قبل أن نتوصل إلى اتفاق نهائي. ولم يكن من الصواب أن نعلن عنصراً واحداً من الاتفاق، وهو العنصر الذي يلائم سورية، من دون العناصر الأُخرى التي تساعد في القبول بالاتفاق كصفقة متكاملة.

ويتعين عليّ أن أشدد على أن الرئيس الأسد لم يكن هو الذي تحدث أولاً عن الاتفاق على الانسحاب التام؛ فهذا لم يُذكر من جانبنا إلاّ لأن الجانب الإسرائيلي خرج به إلى العلن، بعد نشر كتاب بالعبرية في أيلول/سبتمبر يقدم وصفاً دقيقاً لما حدث، استناداً إلى مصادر إسرائيلية. وقبل ذلك، كان الرئيس مبارك قد قال في مقابلة مع صحيفة "الحياة" إن رابين بلّغه استعداده للانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967.

  • كيف بلّغكم رابين عرضه للانسحاب؟ عبر أي وسيط؟
  • أفضِّل ألاّ أقول...
  •  هل تكرَّر عرض الانسحاب في غرفة المفاوضات؟
  • أجل، لقد تكرر هذا العرض في ماريلاند. وأنا قلت لدنيس روس: "أرجو أن تسجل ما قاله الجانب الإسرائيلي." وفي الحقيقة، فإن كل ما قيل إنما قيل في حضور الأميركيين. ولقد أُودع في عهدتهم نقاط مهمة تم التوصل إلى اتفاق في شأنها. وكانوا دائماً حاضرين في الغرفة منذ تموز/يوليو 1994 - السيد دنيس روس ومعه السيد مارك باريس، وقبل السيد باريس كان هناك مارتن إنديك.
  • هل يمكن أن تخبرنا شيئاً عن كيفية سير المفاوضات في حضور الأميركيين؟ ما هو الدور الذي اضطلعوا به؟
  • لقد كانوا مُسهِّلين وشهوداً. ويمكن أن تعتبرهم وسطاء، بل حتى شركاء أيضاً، لأنهم تقدموا بعروض لردم الهوة [بين المواقف]. وعلى سبيل المثال، عندما قطع رئيسا الأركان السوري والإسرائيلي مفاوضاتهما في كانون الأول/ديسمبر 1994 لأننا لم نكن راضين عن مقترحات بَرَاك، كان الأميركيون هم الذين تقدموا بورقة عنوانها "أهداف ومبادئ الترتيبات الأمنية". وكانت هذه الورقة، التي اعتبرناها إطاراً على الطرفين أن يوافقا عليه فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية، هي التي مكنتنا من معاودة المفاوضات في حزيران/يونيو 1995.
  •  ربما كان من المفيد أن نأخذ فكرة عن كيفية سير المفاوضات. تحدثتم مثلاً عن "تسجيل" أو "إيداع" بعض النقاط لدى الأميركيين. هل كان الأميركيون يسجلون محاضر الاجتماعات؟ أو كيف كانت تجري المباحثات؟
  •  كان كل من الوفود الثلاثة يسجل محاضره الخاصة. هذا إضافة إلى أن كل ما كنا - الإسرائيليون والسوريون - نتفق عليه كنا نودعه على نحو رسمي لدى الأميركيين. فقد كنا نهدف منذ البداية إلى التوصل إلى اتفاق نهائي، لا إلى اتفاق على كل نقطة. ولم نكن نوقّع هذه النقاط المنفصلة. لكننا كنا نودعها لدى الأميركيين إلى حين التوصل إلى اتفاق على النقاط كلها. ومن ثم كانت هذه النقاط - وهذا ما كنا ندعوه هيكلية الاتفاق - تحول إلى لجنة مختصة لتقوم بصوغها. وهذه هي الإجراءات الاعتيادية المتبعة في أية مفاوضات...

لكن الأهم من ذلك كله أن السيد روس كان يقوم في ختام كل جلسة بتلخيص ما تم التوصل إليه. ومن ثم كان الوفدان يناقشان هذا التلخيص، ويجريان أحياناً بعض التعديلات عليه؛ وبعد ذلك، كانت تتم الموافقة على الصيغة النهائية من قبلهما. وكان الوزير كريستوفر يحمل هذا التلخيص في رحلاته في المنطقة، وعندما توافق قيادتا البلدين على التلخيص المقترح يصبح رسمياً.

  • عندما سئل نتنياهو في مقابلة أُجريت معه أخيراً بشأن مسألة الانسحاب قال إنه لم يكن هناك أية تعهدات بل مجرد "تصريحات افتراضية، تم الإدلاء بها في سياق المفاوضات"؛ وتعتبر حكومته أنها لن تعترف بشيء غير مكتوب وغير موقَّع.

ÿ هذا تفسير جديد للقانون الدولي. عندما يجري التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق، لا يمكنك أن تكتب كل نقطة وتوقعها قبل كتابة الوثيقة النهائية. وكما قلت قبل قليل، فإن العملية التفاوضية الاعتيادية تقوم على مناقشة موضوع ما والانتهاء منه ووضعه جانباً، ومن ثم الانتقال إلى مناقشة موضوع آخر، وهكذا دواليك. وعندما نتفق على أحد العناصر نودعه لدى الأميركيين، ثم ننطلق إلى مناقشة نقطة أُخرى. أمّا إذا اعتمدنا الطريقة التي يلمّح نتنياهو إليها، فلن يكون هناك أية مفاوضات في العالم؛ إذ سيكون على كل طرف أن يعبِّر عن موقفه خطياً ويقدمه إلى الطرف الآخر، وينتظر جواباً خطياً عليه. وهذا أسلوب غير ملائم للمفاوضات.

  • لنعد مرة أُخرى إلى موضوع الانسحاب. هل يمكنك أن تخبرنا شيئاً عن التوقيت. متى تم التعهد بالانسحاب أول مرة؟

ÿ إن تعهد إسرائيل بالانسحاب لم يأت إلاّ بعد بذل جهود هائلة. فمنذ مدريد كان الموضوع الوحيد الذي كنا نقبل بمناقشته هو الانسحاب الكامل. وطبعاً عندما كان الليكود حاكماً كان الأمر أشبه بحوار الطرشان. وأظن أن بن أهارون، رئيس الوفد الإسرائيلي، كان يتبع حرفياً تعليمات شمير القاضية باستمرار المفاوضات عشرة أعوام من دون التوصل إلى نتيجة. وبعدما أصبح رابين رئيساً للحكومة في حزيران/يونيو 1992، استمرينا في إصرارنا على مناقشة موضوع الانسحاب من دون غيره. وعندما أدرك رابين أخيراً أن السوريين لن يتقدموا خطوة واحدة في مناقشة أي من العناصر الأُخرى للتسوية السلمية قبل أن يقتنعوا بنية إسرائيل الانسحاب الكامل، أقدم على كسر الطوق.

لقد حدث ذلك في آب/أغسطس 1993، وناقشنا تفصيلات عنصر الانسحاب مدة عام تقريباً، أي حتى تموز/يوليو 1994، حين توصلنا إلى اتفاق بشأن الانسحاب الكامل إلى خطوط 4 حزيران/يونيو 1967. وهذا ما فتح الطريق أمام مناقشة العناصر الأُخرى للاتفاق السلمي، والتي كان رئيس الحكومة، رابين، يسميها "الأرجل الأربع للطاولة"، وهي، إضافة إلى الانسحاب، التطبيع والترتيبات الأمنية والجدول الزمني للتنفيذ. وهكذا، بدأتُ في أيلول/سبتمبر 1994 مناقشات مع السيد رابينوفيتش بشأن العناصر الثلاثة الأُخرى، وقدمنا رؤيتنا حيال كل منها.

  •  لماذا خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، في مقابل الحدود الدولية، مهمة إلى هذا الحد بالنسبة إلى سورية؟
  • في الحقيقة، إن الفارق بين الحدود الدولية وحدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 ضئيل جداً. لا توجد لهذه الأرض أية أهمية استراتيجية. وعلى أية حال، فإن المسألة هي مسألة السيادة لأن كل بوصة من أرضنا مقدسة لدى شعبنا.
  •  لكن يبقى السؤال: إذا كانت إسرائيل وافقت على الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، وهذا هو المطلب السوري الرئيسي، فما الذي حال دون تقدم المفاوضات بصورة أسرع؟
  • أود أن أشير أولاً إلى أن معظم الناس يعتقد أن السوريين لا يتحركون. هذا غير صحيح. إسرائيل كانت تتحرك ببطء شديد، وبحذر شديد، واستمر ذلك حتى توقيع اتفاق أوسلو، وبصورة خاصة حتى تولي بيرس رئاسة الحكومة.

كانت استراتيجيا رابين تتمثل في الفصل بين المسارات الفلسطينية والسورية والأردنية واللبنانية، وكان يتحكم في وتيرة المفاوضات في ضوء ما كان يحدث على المسارات الأُخرى. فعندما تقدم، مثلاً، على المسار الفلسطيني في أيلول/سبتمبر 1993، بلَّغَنا عبر الأميركيين أنه لن يستطيع استكمال المحادثات على المسار السوري لأن الجمهور الإسرائيلي يحتاج إلى وقت ليهضم اتفاق أوسلو، ومن ثم علّق المفاوضات. وبعد ذلك، أحرز تقدماً على المسار الأردني سنة 1994، وبلَّغَنا أن الجمهور الإسرائيلي يحتاج إلى وقت ليهضم الاتفاق الأردني - الإسرائيلي، وعُلّقت المفاوضات معنا مرة أُخرى. ولم يتوجهوا إلينا طالبين التحرك بصورة سريعة جداً إلاّ بعد أن عقدوا اتفاق أوسلو - 2 مع الفلسطينيين في أيلول/سبتمبر 1995.

وكان هناك أيضاً عامل آخر تمثل في الاختلافات الشخصية بين رابين وبيرس؛ كلاهما كان يريد التوصل إلى تسوية مع سورية، لكن كان لكل واحد منهما سرعته وشروطه. كان رابين متردداً ومتشككاً وحذراً جداً. وكان يتحرك ببطء شديد، خطوة خطوة. أمّا بيرس فكان، عندما أصبح رئيساً للحكومة، في عجلة من أمره؛ إذ كان يريد أن يدخل الانتخابات وهو يحمل الاتفاق السوري - الإسرائيلي. وكان يريد أن "يطير عالياً وسريعاً"، كما كان يردد. وكنت أقول لنظيري الإسرائيلي إن من المهم أن تطير، لكن من المهم جداً أيضاً أن تعرف أين ومتى تهبط؛ فمن غير الممكن الاستمرار في الطيران عالياً وسريعاً. فنحن لدينا رأي عام، ولا بد من أن نقنع الشعب بالاتفاق ليوافق عليه. لكنه لم يستطع الانتظار، ودعا إلى إجراء الانتخابات العامة بعد أقل من ثلاثة أشهر من توليه رئاسة الحكومة.

لكن، كما قلت سابقاً، كنا ماضين قدماً، وكنا اتفقنا على وجوب التوصل إلى اتفاق بشأن العناصر كافة مع حلول منتصف سنة 1996. لكن إسرائيل علّقت المفاوضات بعد شهر.

  •  ما هي العراقيل الأساسية التي حالت دون التوصل إلى الاتفاق؟
  •  لقد تمثلت هذه العراقيل بصورة رئيسية في المبالغة والتضخيم الإسرائيليين في حقلين: الترتيبات الأمنية والتطبيع. أولاً: الأمن. إن الإسرائيليين يتمتعون بتفوق عسكري على أية مجموعة من الدول العربية؛ فلديهم قنابل نووية، وأكثر الأسلحة والتكنولوجيا تقدماً. كما أن الأسلحة والإمدادات الأميركية مفتوحة تماماً أمامهم، وإسرائيل تصنع 60% من حاجاتها من المعدات العسكرية، وهي خامس أكبر مصدِّر للأسلحة في العالم. لكن على الرغم من ذلك كله، فقد كانوا يقولون لنا دائماً أنهم يخافون من سورية. لم نكن نصدق ذلك، وكنا نسأل أنفسنا دائماً عما يدفعهم إلى مثل هذا التضخيم.
  •  ما هي، بصورة محددة، بعض الأشياء التي كان الإسرائيليون يطالبون بها فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية؟
  • كانوا يطالبون، على سبيل المثال، بمحطة إنذار مبكر في الجولان بعد انسحابهم، الأمر الذي نعتبره انتهاكاً لسيادتنا، كما لو أنهم يريدون التجسس علينا انطلاقاً من أرضنا - وهذا في حال السلام لا في حال الحرب. إن لديهم من المعدات التكنولوجية - بما في ذلك الأقمار الاصطناعية الإسرائيلية والأميركية - ما يمكنهم من القيام بهذا العمل على نحو أكثر فاعلية بكثير من اللجوء إلى محطات الإنذار المبكر. وقد أثار إصرارهم على المحطات الأرضية علامة استفهام في أذهاننا.

تحدثوا أيضاً عن حجم الجيش السوري، كما لو كان المهم هو العدد لا نوعية التجهيزات العسكرية والأسلحة وأشياء أُخرى، مثل امتلاك ترسانة نووية. وأصروا كذلك على أن تصل حدود المنطقة المنزوعة السلاح حتى جنوبي دمشق، وهذا يعني أن يكون الطريق إلى العاصمة مفتوحاً أمامهم. هذه المطالب مرفوضة من جانبنا.

  •  وماذا عن التطبيع؟
  •  تعتقد إسرائيل أنه يمكن أن تضغط على الزر فتحصل على سلام دافئ، وتحول الموقف الشعبي السوري من حال الحرب إلى حال السلام. إن هذا ليس منطقياً، وخصوصاً أن من النادر أن نجد عائلة واحدة في سورية لم تفقد أحداً في ميدان المعركة. إن هناك حاجة دائمة إلى تعليم الناس وإخبارهم. فهم بحاجة إلى أن يقرأوا الاتفاق ليروا ما إذا كان يتفق مع مصالحهم. وهم بحاجة إلى أن يؤمنوا بالاتفاق. لن تستطيع أن ترغمهم على شراء السلع الإسرائيلية أو زيارة إسرائيل إذا لم يكونوا مقتنعين بأن إسرائيل تحولت من عدو إلى جار. إن اتفاقاً توقّعه القيادة يحدد ما هو مطلوب منا نحن، إلاّ إنه لا يمكن أن نُلزَم بجعل السلام دافئاً.
  •  ماذا كانت المطالبة الإسرائيلية بالتطبيع تعني عملياً؟
  • كانوا يريدون حدوداً مفتوحة وأسواقاً مفتوحة لسلعهم، إلخ؛ الأمر الذي سيكون له تأثيره البديهي في صناعاتنا. إن تشريعاتنا [الاقتصادية] لا تستهدفهم وحدهم - فنحن لا نفتح أسواقنا أمام الدول الأُخرى. إلى ذلك، كيف يمكن أن يُفتح اقتصادا بلدين إذا كان معدل دخل الفرد في أحدهما 900 دولار في السنة بينما يصل دخل الفرد في الآخر إلى 15 ألف دولار سنوياً؟ إن مثل هذا الطلب غير ممكن. لذلك بحثنا في مرحلة انتقالية؛ فترة من الزمن يمكن خلالها رفع مستوى اقتصادنا إلى مستوى يمكّن من وجود منافسة من دون أن نعرض مجتمعنا لضيق لا قبل له به.
  •  رأى بعض الناس أنه ربما كان من الأفضل لسورية، في ضوء فوز نتنياهو، أن تستعيد الجولان حتى لو كان ذلك يعني وجود محطة إنذار في الجولان. فلعل ذلك لم يكن ثمناً باهظاً إلى هذا الحد...
  • إننا الطرف الوحيد الذي يستطيع أن يقرر ما إذا كان الثمن باهظاً أم لا. ليس هذا مسألة نظرية؛ فالناس يجب أن يقرأوا الاتفاق النهائي ويجدوا فيه [ما يؤمن] سلامتهم وحاجاتهم وحقوقهم ليتمكنوا من تأييده. إننا لا نتحدث هنا عن كاليفورنيا، بل عن أرضنا. وهذه أمور تعنينا لأنها تتصل بقضية سيادتنا. إننا لن نسمح، في أي ظرف من الظروف، بمحطة أرضية على أراضينا يديرها الإسرائيليون. وسنرفض ذلك حتى لو كان الأميركيون هم الذين سيديرونها. لقد عرضوا علينا محطة أرضية في صفد، لكننا رفضنا لأننا لن نسمح بمحطة على ترابنا [الوطني]. ذلك بأنه في ضوء توفر الوسائل التكنولوجية المتقدمة، فإن السبب الوحيد للإصرار من ناحيتهم يكمن في إظهار أن الإسرائيليين موجودون في الجولان خلافاً لسيادتنا.

وعلى أية حال، وكما سبق أن قلتُ، فقد تحقق تقدم كبير في هذه المجالات. وكان هناك فريق إسرائيلي جديد في ماريلاند، وكنا قد بدأنا التوصل إلى حلول، وتوصلنا إلى تفاهم بشأن بعض النقاط. ثم جاء قرار الانتخابات المبكرة وتعليق المفاوضات.

  •  في الإطار نفسه، ما هو ردك على التعليق القائل إنه كان من مصلحة سورية أن تقوم بمبادرة صغيرة تساعد بيرس كي يفوز في الانتخابات؟
  •  كيف يمكن لسورية أن تقوم بمبادرة نحوه بعدما بدأ بقصف لبنان خلال عملية "عناقيد الغضب"، وبعد مجزرة قانا.

لكن ما هو أكثر أهمية هو أن سورية لا تتدخل في الشؤون الإسرائيلية. وينبغي أن ينتخب الإسرائيليون وفقاً لإرادتهم. ولا يمكن لأحد أن يفرض السلام على الآخر - يجب أن يمثل السلام مصالح الطرفين. فإذا لم يجد الإسرائيليون أن السلام في مصلحتهم، فإن القرار في ذلك يعود إليهم.

لقد شكل ذلك، في الحقيقة، مشكلة طوال المفاوضات. فقد شعرنا دائماً بأن الإسرائيليين يريدون من سورية أن تقوم بعملهم نيابة عنهم. فهم يريدون منا أن نقنع الجمهور الإسرائيلي بأن السلام يخدم مصالحهم. لقد هيأنا جمهورنا للسلام مع إسرائيل، وتغيرت أشياء كثيرة في وسائل إعلامنا. لكنهم أرادوا منا أن نتحدث في وسائل الإعلام الإسرائيلية لنهيئ الرأي العام الإسرائيلي. كما أرادوا أن نسمح للإسرائيليين بزيارة سورية. ولقد اعتبرنا مثل هذا الإصرار مؤشراً سلبياً؛ فعندما لا تعدّ جمهورك للسلام مع جيرانك، فهذا يعني أن ليس لديك النية الحقيقية في صنع السلام.

  •  هل نوقش موضوع المستوطنات في الجولان خلال المفاوضات؟
  • ليس على نحو محدد؛ إذ كان مفهوماً أن مطالبة الرئيس الأسد بـ "الانسحاب الكامل" إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967 تشمل الانسحابين المدني والعسكري في آن واحد.
  •  يقول بعض الناس إن تغيراً حدث، على ما يظهر، في الموقف الإسرائيلي حتى قبل تعليق المفاوضات في شباط/فبراير. فهناك، على سبيل المثال، الاتفاق التركي - الإسرائيلي. هل تعتقد أن ثمة قدراً من الصحة في هذا القول؟
  •  تم التوصل إلى الاتفاق الذي يحدد العلاقات العسكرية بين إسرائيل وتركيا في شباط/فبراير. وكان أن بدأ الإسرائيليون بمحاولة عزل سورية عندما علقوا المفاوضات. وكان أحد مظاهر ذلك توسيع علاقاتهم بتركيا. ومن المظاهر الأُخرى، طبعاً، عمليتهم في لبنان. ولقد كان هناك أيضاً ضغط تمثل في عدم تحسن علاقاتنا بالولايات المتحدة خلال الأعوام الأربعة أو الخمسة من هذه العملية. بل على العكس؛ إذ أُبقينا على "اللائحة السوداء" الأميركية، وحاول الكونغرس هذا الصيف أن يتبنى إجراءات إضافية ضد سورية.
  •  لكن عملية لبنان، على سبيل المثال، إنما جرت بعد تعليق المفاوضات. فماذا كان يبغي الإسرائيليون من الضغط على سورية؟
  •  القبول بشروطهم في حال معاودة المفاوضات. طبعاً، لا يمكن للمرء أن يتخيل وجود مفاوضات من دون ضغوط، لكن ذلك لا يغير الموقف السوري. فقد ثابرنا على القول إن السلام هو خيارنا الاستراتيجي. وسعينا لتحقيق السلام. وبقينا نجري المفاوضات، ولم نقطعها، ونحن مستعدون لاستئنافها من حيث انتهينا - على أساس أن يعترف الإسرائيليون بالالتزامات التي تعهدت الحكومات السابقة بها.
  •  خلال هذه الأعوام الأربعة من المحادثات، التي كانت مكثفة أحياناً، هل نشأت أية علاقة شخصية، أو صداقة حميمة بين المفاوضين السوريين والمفاوضين الإسرائيليين؟
  •  هناك احترام للنظير، لكن ليس هناك أي تفاعل على المستوى الشخصي.
  •  لقد استشف بعض المعلقين من التصريحات السورية أن الرؤية السورية للسلام الشامل باتت تشمل الآن سورية ولبنان بصورة رئيسية، فهل تعتبر أن هذا التحديد صحيح؟
  • قلنا إن السلام الشامل يشمل، من وجهة نظرنا، سورية ولبنان معاً وفي الوقت نفسه. فنحن نوقّع معاً، وإسرائيل تنسحب من الجنوب اللبناني ومن مرتفعات الجولان على حد سواء.
  •  كيف توفقون بين ذلك وبين إصراركم الطويل على سلام يشمل المنطقة بأكملها؟
  •  لا نزال نريد هذه الشمولية التي هي إحدى قواعد عملية مدريد. ولقد جال وزير خارجيتنا بين مختلف الوفود العربية في مدريد، ليصر على مكان واحد وتوقيت واحد للمفاوضات. وهنا في واشنطن، كنا نعقد اجتماعات للتنسيق بين رؤساء الوفود العربية. أمّا في المنطقة، فقد كان وزير خارجيتنا يقوم، في إطار هذه الشمولية، بمناقشة التطورات مع الأطراف العرب الآخرين. لكننا فوجئنا بأوسلو؛ فنحن لم نعرف بأمر المحادثات السرية إلاّ حين تم إعلان الاتفاق. وفوجئنا أيضاً بالاتفاق الأردني - الإسرائيلي؛ إذ لم نكن نبلَّغ ما يحدث على ذلك المسار إلى أن التقى الملك حسين ورابين في لندن واتفقا على التوقيع. وبالتالي، فنحن لم نتخل عن الفلسطينيين أو الأردنيين، بل هم الذين تخلوا عنا. ونحن لا نشكو، لكن هذا هو ما حدث. ولعل الأمور تتغير في المستقبل.

ينبغي أن أشدد على أننا لم نعقد أية مفاوضات سرية مع الإسرائيليين. ولم نعقد أية مفاوضات عبر قنوات خلفية أو اجتماعات "اختبارية". كان كل شيء يحدث في غرفة المفاوضات. ولقد كانت هذه هي سياستنا منذ اليوم الأول، وليس هناك من حاجة إلى قناة خلفية؛ إذ يمكن للطرفين أن يتناقلا أية أفكار عبر الوسيط الأميركي. وفي رأينا أن المحادثات السرية لا بد من أن تؤدي في النهاية إلى انعدام الثقة وإلى سوء التفاهم. لعلنا لم نكشف التفصيلات، لكنا كنا دائماً نطلع شعبنا على الاتجاه العام للمحادثات، ونحدد مكان الاجتماع ومتى يبدأ ومتى ينتهي. ولذلك تجد أن هناك، في النهاية، تأييداً للموقف السوري في العالم العربي.

يجب أن أذكر أيضاً أننا كنا نصر دائماً على أنه ينبغي لأي اتفاق يتم التوصل إليه أن يكون واضحاً جداً، من دون أي غموض أو لبس. فالغموض لا يمكن أن يصنع سلاماً دائماً.

  •  عندما تولى نتنياهو الحكم، كان هناك حديث كثير عن سياسة "لبنان أولاً". ماذا ستكون ردة فعل سورية في حال قامت إسرائيل بالانسحاب من الجنوب اللبناني من جانب واحد؟
  •  سنستحسن ذلك. إذا نفذت إسرائيل قرار مجلس الأمن رقم 425، الذي يدعوها إلى الانسحاب إلى الحدود الدولية من دون شروط مسبقة، سنكون مسرورين جداً.
  •  إن الخطوط الأساسية التي تقدمت حكومة نتنياهو بها إلى الكنيست في حزيران/يونيو واضحة جداً. وهم يقولون تحديداً: "تعتبر الحكومة هضبة الجولان منطقة حيوية لأمن الدولة. وستشكل المحافظة على السيادة الإسرائيلية في الجولان أساساً لأية تسوية مع سورية." ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى مستقبل المفاوضات؟
  • ببساطة متناهية، إن هذا هو سبب عدم وجود محادثات بين سورية وإسرائيل. لكن حتى قبل الخطوط الأساسية، كان نتنياهو قد تحدث خلال حملته الانتخابية عن "اللاءات الثلاث": "لا" للانسحاب من الجولان، و"لا" لدولة فلسطينية مستقلة، و"لا" للمساومة بشأن القدس. فإذا كان جاداً في هذه اللاءات فماذا يبقى للتفاوض بشأنه؟ أنا أتحدث باسم سورية. إن لم نكن متأكدين من أن النتيجة النهائية للمفاوضات ستكون استعادة الجولان حتى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، فليس هناك من سبب للمشاركة في المحادثات. وما دام [نتنياهو] يريد التفاوض على قاعدة "السلام في مقابل السلام"، فلن يجد سورياً واحداً راغباً في التحدث إليه.
  • لكن نتنياهو يقول إن الجولان ليس في الحقيقة من الأولويات لدى السوريين. ففي مقابلة له قبل الانتخابات أشار إلى أربع أولويات تأتي قبل الجولان: الاستقرار الداخلي، والدور الإقليمي لسورية، ودورها في لبنان، وعلاقاتها بالولايات المتحدة.
  • إن جميع هذه الحقول الأربعة التي يذكرها هي نتائج لمعاهدة سلام لا عناصر من معاهدة السلام نفسها. لا شيء يمكن أن يعوض الشعب السوري من خسارة بوصة واحدة من الجولان. ولا حتى القمر. الجولان أرضنا، وهو قضية مقدسة لدى الشعب السوري. وسنستمر في النضال إلى أن نستعيد هذه الأرض حتى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967.
  • عاد الإسرائيليون مؤخراً إلى الحديث مجدداً عن أنهم لا يستطيعون الانسحاب من الجولان لأن السوريين كانوا يقصفونهم من هذه المرتفعات طوال تسعة عشر عاماً. هل لديك تعليق على ذلك؟
  •  لديّ تعليق مقتضب: إن سجلات هيئة رقابة الهدنة، التابعة للأمم المتحدة، تثبت أن ذلك يشكل كذبة كبيرة. إذا أخذنا خطوط الهدنة لسنة 1949 بين سورية وإسرائيل، ونظرنا إلى المناطق المنزوعة السلاح، لرأينا أن هذه المناطق جميعاً احتلها الإسرائيليون بين سنتي 1949 و1967، وذلك باستثناء جزء صغير جداً هو الحمة - وهو الجزء الذي كان جنودنا فيه في 4 حزيران/يونيو 1967. وإذا كان السوريون يقصفون الإسرائيليين، فإن السؤال هو: لماذا؟ لأنهم [أي الإسرائيليين] هاجموا وتقدموا لاحتلال أراض، منتهكين اتفاق الهدنة الذي وقّعناه معاً.
  • ماذا عن الوضع الحالي؟ هل فاتحكم الأميركيون رسمياً، حاملين معهم عروضاً إسرائيلية رسمية؟
  • في تموز/يوليو 1996، وبعد زيارة نتنياهو الأُولى للولايات المتحدة، زار دنيس روس الرئيس الأسد في اللاذقية ليطمئنه إلى الموقف الأميركي، وكان معه رسالة خطية من الرئيس كلينتون تحمل تطمينات تتعلق بالتزام أميركا مبادئ مؤتمر مدريد وأُسسه: قراري مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338، ومبدأ الأرض في مقابل السلام. وقام الرئيس الأسد بإبلاغ دنيس روس أن سورية مستعدة لاستئناف المفاوضات على هذا الأساس، وعلى أن يلتزم نتنياهو التعهدات والمنجزات التي تم التوصل إليها على المسار السوري، وأنه سينطلق من النقطة التي كنا وصلنا إليها في ماريلاند بمشاركة الأميركيين. ولا يزال هذا هو موقفنا.
  • وهل حدثت أية اتصالات منذ ذلك الحين؟
  •  ذهب دنيس روس إلى إسرائيل ليحيط رئيس الحكومة نتنياهو [بمحادثاته مع الرئيس الأسد]، فأرسل نتنياهو [مستشاره] دوري غولد إلى واشنطن ليبلِّغ الأميركيين أن إسرائيل مستعدة لاستئناف المفاوضات في ماريلاند، ولمناقشة الأمن على قاعدة رسائل الدعوة إلى مؤتمر مدريد. إلاّ إن هذه الرسائل لا تتضمن الأطر المرجعية لمؤتمر مدريد - مبدأ الأرض في مقابل السلام - المحددة في رسائل التطمينات التي أرسلها الوزير [وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس] بيكر إلى المشاركين في المؤتمر.

إننا نعتقد أن هذه المبادرة تشير إلى أن الإسرائيليين يريدون إيجاد قاعدة جديدة للمفاوضات وأطر مرجعية جديدة. وبكلام آخر: إنهم مستعدون لصنع السلام معنا إذا ما تخلينا لهم عن أرضنا. فنتنياهو يريد أن نتغاضى عما أُنجز من عمل في الأعوام الأربعة الأخيرة. وإذا قبلنا بسابقة العودة إلى البداية كلما حدث تغيير في الحكومة، فلن نصل أبداً إلى اتفاق. إن وجود حكومة إسرائيلية جديدة لا يعني وجود إسرائيل جديدة، وكل حكومة ملزمة بالاتفاقات التي توصلت الحكومة السابقة إليها.

هذا هو موقفنا، ولم يحدث شيء منذ ذلك الوقت. وتتركز الجهود الأميركية حالياً على المسار الفلسطيني، إلاّ إننا لا نمانع في ذلك؛ فلسنا في عجلة من أمرنا. وإذا كان الإسرائيليون غير مستعجلين فنحن غير مستعجلين أيضاً.

  • هل اتخذ الأميركيون موقفاً من كون الحكومة الإسرائيلية الحالية ملزمة بما تعهد حزب العمل به أم غير ملزمة بذلك؟
  • على حدّ علمي، لا. فهم يقولون أنهم لا يستطيعون اتخاذ موقف، لأن ذلك يتعارض مع دورهم كراعٍ ووسيطٍ نزيه. إلاّ إنهم كانوا شهوداً، ولا يستطيعون إنكار ما تم التوصل إليه.
  • هل كان الأميركيون، على المسار السوري، أمينين لدورهم، كوسيط نزيه؟
  •  تصعب الإجابة عن هذا السؤال. ولا يمكن طبعاً المقارنة بين علاقة الأميركيين بسورية وعلاقتهم بإسرائيل. لكننا على الأقل راضون عن دورهم.
  • ذكرت التلفزة الإسرائيلية أخيراً أنكم بلَّغْتم مسؤولاً أميركياً كبيراً أن المفاوضات قد تُستأنف إذا ما أصدرت إسرائيل إعلان مبادئ تعترف فيه بصيغة الأرض في مقابل السلام.
  •  هذا ليس دقيقاً. فنحن لدينا موقف واحد ولم يتغير قط. إن مبدأ الأرض في مقابل السلام وحده لا يكفي. فكما قلت، إننا بحاجة إلى الموافقة الإسرائيلية على ما ألزم رابين إسرائيل به من انسحاب كامل إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، وإلى التزام إسرائيلي بورقة أهداف ومبادئ الترتيبات الأمنية التي تم التوصل إليها في أيار/مايو 1995 بعد زيارة رابين لواشنطن. وعليهم أيضاً أن يوافقوا على استئناف المفاوضات من حيث انتهت في شباط/فبراير 1996؛ وهي جميعاً أمور تمت الموافقة عليها في حضور الراعي الأميركي.

إن هذه النقاط ذات أهمية حاسمة بالنسبة إلى سورية. فإذا وافقنا على العودة إلى طاولة المفاوضات من دون التزام نتنياهو الانسحاب الكامل واحترام الورقة التي صاغها الأميركيون بشأن الترتيبات الأمنية، فسنفقد كل ما أنجزناه خلال المفاوضات. وسيكون الأمر كما لو أننا نطرح جانباً جميع التعهدات الإسرائيلية السابقة ونعود إلى نقطة البداية.

  • هذه ثاني مرة تذكر فيها ورقة أهداف ومبادئ الترتيبات الأمنية. ما هي أهمية هذه الورقة؟
  • ينبغي، أولاً، أن أتحدث عن خلفية هذه الورقة التي جاءت بعد فشل اجتماع رئيسي الأركان [السوري والإسرائيلي] في كانون الأول/ديسمبر 1994. في كانون الثاني/يناير، استُدعيت إلى دمشق وبقيت هناك شهرين. ولقد بعث الرئيس كلينتون برسالتين إلى الرئيس الأسد لتجديد المحادثات بين رئيسي الأركان. إلا إن الرئيس الأسد اقترح بدلاً من ذلك أن يتوصل الطرفان، بعد تحليل سبب فشل المحادثات بين رئيسي الأركان، إلى اتفاق بشأن مبادئ وأهداف الترتيبات الأمنية، بحيث يشكل إطاراً عاماً. وبذلك، لا يعود العسكريون إلى المبالغة في مطالبهم في المجال الأمني. وبعد أن ناقش الرئيس كلينتون هذا الاقتراح مع رابين، أعطى موافقته على مناقشة السفراء لمثل هذا الاتفاق. وعدت إلى واشنطن. وفي آذار/مارس بدأنا، إيتمار رابينوفيتش ودنيس روس وأنا، مناقشة ما سيصبح لاحقاً الورقة التي عرفت باسم ورقة "أهداف ومبادئ الترتيبات الأمنية". وزار الوزير كريستوفر المنطقة مرتين لمناقشة الورقة مع الرئيس الأسد ورئيس الحكومة رابين، والاتفاق على بعض النقاط فيها. ثم قامت الإدارة الأميركية، في 7 أيار/مايو 1995، بدعوة رابين إلى واشنطن لمناقشة الورقة التي أعدّتها استناداً إلى محادثاتنا، ودعت بعده وزير الخارجية الشرع إلى المجيء إلى واشنطن في 15 أيار/مايو. وأخيراً، وافقت سورية وإسرائيل، مع الولايات المتحدة، في 22 أيار/مايو 1995، على الصيغة النهائية لورقة "أهداف ومبادئ الترتيبات الأمنية"، وتم إيداعها لدى الأميركيين. وتشكل هذه الورقة إطاراً عاماً لمناقشة الخبراء الأمنيين من الجانبين للترتيبات الأمنية. ولقد مهدت الطريق أمام رئيسي الأركان لمعاودة الاجتماع في حزيران/يونيو 1995.

وتكمن أهمية هذه الورقة في أنها أقرت مبدأ أن أمن أحد الطرفين يجب ألاّ يكون على حساب أمن الطرف الآخر - مبدأ المساواة، والتبادلية، وكون أية ترتيبات تقام على أحد الجانبين يجب أن تكون مساوية للترتيبات على الجانب الآخر.

  • بالعودة إلى المأزق الراهن، هل تعتبر أن لمطالبة الجيش الإسرائيلي بزيادة مليار دولار على ميزانية الدفاع أي تأثير في المسار السوري - الإسرائيلي؟
  •  من دون شك؛ فزيادة ميزانيتهم العسكرية، إضافة إلى إصرارهم على المفاوضة على قاعدة "السلام في مقابل السلام"، وتوسيع المستوطنات في الجولان، تظهر أنهم لا ينوون صنع السلام مع سورية، وإنما إثارة النزاع معها.
  • الإسرائيليون يقولون إن الحاجة إلى زيادة الميزانية العسكرية تعود إلى ما قام به السوريون من إعادة الانتشار في لبنان، الأمر الذي يشير إلى استعدادات سورية للحرب مع إسرائيل...
  •  الإسرائيليون يحاولون دائماً إلقاء اللوم على الجانب الآخر. فالحقيقة هي أن إعادة الانتشار جاءت في إثر زيارة رئيس الحكومة نتنياهو للجنوب اللبناني، وتهديداته بمهاجمة حزب الله والقوات السورية في لبنان. وبما أنه لم تكن لدينا أية خبرة بالرجل في ذلك الوقت، فإننا أخذنا تلك التهديدات على محمل الجد. وبالتالي، فإن إعادة الانتشار هي خطوة دفاعية حذرة جداً من جانبنا.
  •  ما الذي يمكنك قوله بشأن الدور الفرنسي والأوروبي؟
  • يجب الإقرار بمصالح أوروبا الحيوية - التاريخية والجغرافية والثقافية - في المنطقة. ولا يمكن المرء أن يتوقع من الأوروبيين أن يؤدوا دور أمين الصندوق الذي يدفع للاتفاقات التي يتم التوصل إليها. الكل متفق على أن الدور الأميركي أساسي، لكننا نعتقد أن الدور الأوروبي دور مكمل، لا مناقض، وهو في رأينا دور مهم جداً.
  •  في الخلاصة، أين وصلت الآن عملية السلام؟
  • سورية ملتزمة التسوية الشاملة المرتكزة على الأسس المرجعية لمدريد: قرارات مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338 ورقم 425، ومبدأ الأرض في مقابل السلام. وهذه المبادئ وافق الأطراف جميعاً عليها، بمن فيهم حكومة شمير. ومن دونها ما كان لمؤتمر مدريد أن يخرج إلى حيز الوجود. إلى ذلك، فقد راكمنا منذ ذلك الحين سجلاً من الإنجازات مع رابين، عادت حكومة بيرس فأكدتها. وهذه الإنجازات تتكون بصورة أساسية من أمرين: التعهد الإسرائيلي بالانسحاب الكامل إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، والتزام ورقة "أهداف ومبادئ الترتيبات الأمنية". وينبغي أن يلزم نتنياهو نفسه بهذه العناصر كي نتمكن من البناء على ما أُنجز خلال أربعة أعوام من المفاوضات، ولا نسمح للجهود التي بذلت خلال هذه الأعوام بأن تذهب هباء.
  •  وماذا إذا لم يلزم نتنياهو نفسه، وإذا بدا أن انهيار العملية السلمية انهيار نهائي؟
  •  إذا فشل السلام تغدو جميع الخيارات واردة. بالنسبة إلى سورية، لا يزال السلام خيارنا الاستراتيجي. ولقد كان الأمر على هذا النحو منذ أن أعلن الرئيس الأسد ذلك في كانون الثاني/يناير 1994 خلال القمة الأُولى التي عقدها مع الرئيس كلينتون في جنيف. لكن لا يمكنك أن تحقق السلام وحدك، فأنت بحاجة إلى شريك لتحقيق السلام. ولا نرى حتى الآن ما يدل على أن حكومة نتنياهو شريك في السلام، أو أن لدى نتنياهو استراتيجيا سلام، بل لديه استراتيجيا لتوسيع المستوطنات التي تشكل رصاصات تصيب قلب العملية السلمية. ولهذا السبب فإن جميع الخيارات مفتوحة.
  •  هل لك أن تفصل ذلك؟
  •  كلا، لا أريد. لنكتفِ بالقول إن جميع الخيارات مفتوحة.
  •  ما هي، في رأيك، إمكانات أن تبدأ إسرائيل عمليات عسكرية ضد القوات السورية في لبنان، أو حتى في سورية نفسها؟
  •  إن إمكان أن تبدأ إسرائيل صراعاً ضد سورية إمكان حقيقي، وخصوصاً في ظل غياب استراتيجيا إسرائيلية للسلام في المنطقة، وبالنظر إلى أن برنامج إسرائيل السياسي ليس مخفياً بل معلن. ما هي فعلاً الخيارات الحالية؟ يمكن، أولاً، أن يستأنف السوريون والإسرائيليون المحادثات الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق نهائي على الأسس التي أشرت إليها. ويمكن، ثانياً، أن تعود المنطقة إلى حال اللاحرب واللاسلم. ويمكن، ثالثاً، أن تعود المنطقة إلى أجواء الصراع.

واستناداً إلى تاريخ المنطقة، منذ سنة 1948 حتى وقتنا الحاضر، فإني أعتقد أن حال اللاحرب واللاسلم لا يمكن أن تدوم. وهذا يبقي الإمكانين الآخرين. ونأمل بأن تختار إسرائيل العودة إلى المفاوضات على الأسس التي أشرت إليها.

السيرة الشخصية: 

وليد المعلِّم: سفير الجمهورية العربية السورية في واشنطن منذ سنة 1990، ورئيس الوفد السوري إلى مفاوضات السلام منذ تموز/يوليو 1994. وكان عضواً في الفريق السوري المفاوض منذ مؤتمر مدريد في تشرين الأول/أكتوبر 1991. وقد أجرت ليندا بتلر، مديرة تحرير Journal of Palestine Studies هذه المقابلة معه في 15 تشرين الأول/أكتوبر و12 و25 تشرين الثاني/نوفمبر 1996. وتُنشر هذه المقابلة في المجلات التي تصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بالإنكليزية في واشنطن، وبالفرنسية في باريس، وبالعربية في بيروت.