التجربة الدبلوماسية الفلسطينية: من حلم الدولة الديمقراطيةإلى مأزق الحكم الذاتي
كلمات مفتاحية: 
منظمة التحرير الفلسطينية
الدبلوماسية
تاريخ فلسطين
نبذة مختصرة: 

يرى الكاتب ـ وهو ممثل سابق لمنظمة التحرير الفلسطينية في جنوب شرق آسيا ـ أن الميدان الدبلوماسي لم يولَ اهتماماً كافياً، كالاهتمام الذي انصب على نقد الميادين السياسية والعسكرية والتنظيمية. ويعرض مرحلة "الدبلوماسية الثورية" (1964ـ1973)، ومرحلة "دبلوماسية الواقعية الثورية" (1974-1981)، ومرحلة دبلوماسية "الأمر الواقع" (1982ـ1989)، ومرحلة دبلوماسية "حافة الهاوية" (1990ـ1995). ويعرض في الخلاصة "ملاحظات بشأن الأداء والأداة".

النص الكامل: 

 

مقدمة

شهدت سنتا 1993 و1994 حركة نقد واسعة للتجربة النضالية الفلسطينية المعاصرة لم تعرف الساحة الفلسطينية مثيلاً لها من قبل. وإذا كان اتفاق أوسلو هو الذي أطلق حركة النقد الأقسى من عقالها سنة 1993، فإن حلول الذكرى الثلاثين لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1994 وفَّر مناسبة إضافية لتسعير الحملة النقدية لثلاثة عقود من النضال الوطني الشائك والمعقد والمتداخل. وإذا كانت خطورة التطور النوعي الدرامي الذي أحدثته صفقة أوسلو هي التي فجرت عند الوطنيين الفلسطينيين الرغبات المكبوتة في التقويم والمراجعة، فإن ضعف المركز السلطوي وتراجع هيبته السياسية وقصور ذراعه الأمنية، كل ذلك شجَّع المترددين والوجلين، وفتح الطريق واسعاً أمام موجة النقد العاتية، لتأخذ مداها من دون تهيب أو وجل.

وقد لاحظنا من خلال المشاهدة والمشاركة أن نقد المسيرة النضالية تناول على الأغلب، وبنسب متفاوتة، ثلاثة من ميادينها: الميدان السياسي والميدان العسكري والميدان التنظيمي، لكنه لم يول اهتماماً كافياً للميدان الدبلوماسي، الذي انحصر نقده في سلسلة من المقالات والتعليقات والبيانات التي ركزت على نقد المسيرة التفاوضية للعامين الأخيرين.

  •  التجربة الدبلوماسية، لماذا؟

في تقديرنا أن التجربة الدبلوماسية بكاملها، لا تجربة المفاوضات الأخيرة وحدها، بحاجة ماسة إلى دراسة متأنية ومراجعة نقدية وتقويم موضوعي واستخلاص النتائج والعبر، وذلك لثلاثة أسباب بارزة:

الأول: إن العملية التسووية الأميركية الجارية، التي بدأت بمؤتمر مدريد وتفعَّلت بصفقة أوسلو وتواصلت باتفاق وادي عربة والاتفاقات اللاحقة، لعبت فيها الدبلوماسية (العربية والفلسطينية)، العلنية والسرية، دورها الطاغي، بعد أن تراجع الفعل العسكري (والسياسي) إلى أدنى درجاته.

الثاني: إن العمل الدبلوماسي في الثورة الفلسطينية لم يستمر شكلاً هامشياً أو فرعياً كما كان في البدايات، بل احتل بالتدرج موقعاً مرموقاً في العملية النضالية، زاحم العمل المسلح والنضالين السياسي والتنظيمي في المرحلة الثانية، وتقدم عليها في المراحل الأخيرة.

الثالث: إن المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في محطاتها التسووية المرحلية المتتالية تكشف عن خلل فادح في الأداء والأداة، مع انتهاك صارخ للمرجعية السياسية والثوابت الوطنية، يبقى مرشحاً للتفاقم على نحو أخطر في مفاوضات الحل النهائي المقررة هذا العام، وهو ما يستدعي جهوداً تصحيحية وتصويبية مكثفة.

وبما أنه يتعذر القيام بعملية المراجعة المنشودة الشاملة في هذا الحيز المتاح، فإن مساهمتنا ستقتصر اليوم على القراءة النقدية العامة والسريعة، مع استخلاص مختصر للدروس، علَّها تفي ببعض الغرض من ناحية وتفتح الباب من ناحية أُخرى أمام تقويم موضوعي أوسع وأوفى للتجربة الدبلوماسية الفلسطينية.

  • ملاحظات بحثية أولية

الأُولى: ثمة طريقتان لقراءة التجربة الدبلوماسية الفلسطينية: الأُولى هي عرض التجربة ارتكازاً على الممارسة، بدءاً بنقطة الانطلاق الفلسطيني إلى مختلف المحطات والمراحل، وانتهاء بالمأزق الذي نعيشه اليوم وبالدروس المستفادة. والطريقة الأُخرى هي عرض التجربة ارتكازاً على النظرية الدبلوماسية، بدءاً بالاستراتيجيا الثورية العامة التكتيكات المتعدة، والأساليب والأداء والتدقيق في الوسائل والأدوات، وانتهاء بالخبرات والدروس. لكن ضيق المساحة المتاحة من ناحية، وافتقار الثورة إلى استراتيجيا ثورية متكاملة من ناحية أُخرى، وضعانا أمام خيار المزاوجة بين المنهجين، أي اعتماد أسلوب العرض النقدي الموجز للتجربة الدبلوماسية في مختلف مراحلها، ثم إخضاع مهماتها وأدائها وتكتيكاتها للتقويم، مع استخلاص النتائج.

الثانية: لقراءة التجربة الدبلوماسية، كان لا بد من الاستعانة بالتجربة السياسية الأم، باعتبارها المرجعية المفترضة للحركة الدبلوماسية من ناحية، وعلى أساس أن العمل الدبلوماسي يشكل الذراع الخارجية للعمل السياسي من ناحية أُخرى. كذلك كان لا بد بين حين وآخر من العودة إلى التجربة العسكرية، لأن العلاقة بين الأشكال النضالية الثلاثة في الحالة الفلسطينية كانت على درجة كبيرة من التداخل والتفاعل.

الثالثة: بما أن الدبلوماسية، في تعريفها العام، تعني إدارة العلاقات الدولية وتوجيهها بواسطة المفاوضات بين ممثلي الدول القائمة، بهدف تعزيز التعاون بينها وبين مصالحها المختلفة، فإن الشعب الفلسطيني الذي افتقد هذا الشرط السيادي فترة طويلة لم يمتلك دبلوماسيته الخاصة به لأن ليس له دولة، أي ليس له كيان سياسي معترف به. لذلك، فإنه عندما امتلك كيانه السياسي المعنوي (م.ت.ف.) في وقت متأخر، كان يفتقر إلى الخبرة والأداة والتقاليد الدبلوماسية اللازمة التي امتلكها أشقاؤه، وهذا ما على الباحث أن يأخذه في الاعتبار في عملية التقويم. ففي الوقت الذي توفر للفلسطينيين خبرات وأدوات معقولة في المجالات النضالية الأُخرى، كالمجال العسكري من خلال عمليات المقاومة والاشتباكات والحروب العديدة، والمجال السياسي من خلال الانخراط في التنظيمات السياسية الفلسطينية والقومية والأممية، والمجال التنظيمي من خلال تأسيس الاتحادات والخلايا السرية والعلنية، فإن الفلسطينيين لم يرثوا من المراحل النضالية السابقة دبلوماسياً سوى خبرات تفاوضية متواضعة من خلال المراسلات والوفود والبعثات المتفرقة، وأدوات دبلوماسية محدودة الكفاءة على شكل مندوبين ومحامين ونشطاء نقابيين، وإمكانات دبلوماسية متناثرة تمثلت في شخصيات فلسطينية أو عربية من أصل فلسطيني عملت في بعثات دبلوماسية شقيقة.

الدبلوماسية الثورية (1964 – 1973) ظروف الانطلاقة – عوامل التراجع

 في المرحلة الأُولى من الثورة الفلسطينية، لم يُعط الجانب الدبلوماسي اهتماماً يذكر؛ إذ طغى الفعلان العسكري والسياسي على سواهما لأسباب موضوعية، أبرزها جاذبية النموذج العسكري الجزائري الذي أعطى نتائج باهرة، وانتعاش حركات التحرر الوطني المسلحة في القارات الثلاث، وانعطاف النزعة الوطنية الفلسطينية نحو الكيانية السياسية. لكننا نستطيع التمييز بين نظرتين مختلفتين إلى العمل الدبلوماسي، برزتا في الساحة الفلسطينية في الأعوام الثلاثة الأُولى من هذه المرحلة (1964 – 1967).

  • النظرة النظامية الرسمية القائلةبالتعاطي مع العمل الدبلوماسي، وقد ارتبطت بتأسيس م.ت.ف. في أيار/ مايو 1964 من زاويتين: الأُولى، إن عملية تأسيس المنظمة ذاتها أُسندت إلى رائد الدبلوماسية الفلسطينية المرحوم أحمد الشقيري، الذي امتلك خبرات دبلوماسية وتفاوضية عالية خلال عمله في المحافل العربية والدولية والدبلوماسية والسياسية بعد نكبة سنة 1948. وقد استثمر تلك الخبرات بكثافة في عملية التحضير والتأسيس، وبالتالي فإن ميلاد المنظمة جاء نتيجة جهود سياسية ودبلوماسية لا نتيجة عملية نضالية ميدانية. الثانية، إن الجهد السياسي والدبلوماسي لم يتوقف عن احتلال الموقع المتقدم بعد ميلاد المنظمة، على الرغم من الاهتمام المتزايد بالجانبين العسكري والتنظيمي (وحدات جيش التحرير، والتدريب الشعبي، والتنظيم الشعبي). واكتسبت المنظمة تأييداً عربياً وصينياً أولياً نتيجة الحركة السياسية والدبلوماسية لا نتيجة الحركة العسكرية القتالية.
  • النظرة الفدائية (الشعبية) القائلة بالترفع عن العمل الدبلوماسي، وقد ارتبطت بانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني – "فتح" سنة 1965 من زاويتين: الأُولى، التركيز على العنف أساساً، واعتبار الكفاح المسلح الشكل الأنسب والأعظم في العملية النضالية الفطرية، واعتبار النضال السياسي شكلاً لاحقاً أو مكملاً لا شكلاً أساسياً. الثانية، ازدراء العمل الدبلوماسي التقليدي السائد، على اعتبار أنه مرادف للتنازل والتخاذل وطريق للمساومة ولتصفية القضية، واستبداله بنمط من العلاقات الخارجية الثورية تمتد من الجزائر حتى فيتنام. لكن بعد سيطرة الفصائل الفدائية على المنظمة في تموز/ يوليو 1968، لم يعد هناك ازدواجية في النظر الفلسطيني إلى العمل السياسي والدبلوماسي، فقد ساد منطق "فتح"، وتوحدت الرؤى إلى الكفاح المسلح الميداني باعتباره "الطريق الوحيد لتحرير فلسطين"، وظل النضال العسكري يتقدم الأشكال النضالية الأُخرى بمسافة واسعة حتى نهاية المرحلة الأُولى.

 

  • دبلوماسية وليدة على ضفاف العنف الثوري

احتل الكفاح المسلح في مرحلة "الحلم الثوري" بتحرير كامل فلسطين الأولوية، وجُندت الأشكال الأُخرى في خدمته، ووضعت الإمكانات التنظيمية والمالية والإعلامية لرفده وتصيعده باعتباره "خياراً استراتيجياً وليس تكتيكياً". أمّا الدبلوماسية التقليدية القائمة على حل المشكلات والنزاعات الدولية بالطرق السلمية، فإنها لم تجد لها مكاناً في الساحة الفلسطينية بعد هزيمة الأنظمة العربية وجيوشها ودبلوماسيتها في حزيران/ يونيو 1967. وفي المقابل، تولدت من رحم الكفاح المسلح دبلوماسية أُخرى من طراز جديد، هي أقرب إلى "الثورية" الهادفة إلى كسب الحلفاء والأصدقاء والمناصرين على الساحة الدولية. وكانت "الدبلوماسية الثورية" الوليدة ترى أن الفعل الثوري الميداني هو الذي يصنع دبلوماسية الناحجة، وأن الحل السياسي الصحيح هو الذي يخرج من فوهة البندقية لا من أفواه المتفاوضين الدبلوماسيين الأنيقين، أنصار القرارات الدولية الجائزة. وكانت تلك الدبلوماسية تستند مطمئنة إلى المقولة الثورية بأن "الاستعمار نمر من ورق". وبالتالي لا مفاوضات ولا تسوية مع العدو الصهيوني إلا عبر تدمير مؤسسته العسكرية وأركان كيانه ومجتمعه العنصريين. وعلى هذا، ليس هناك مكان لأنصاف الحلول المرحلية والجزئية ولا للمساومات والحل السياسي السلمي.

ولئن كان الهدف الوطني العام في تلك المرحلة المثالثة يرتكز على إحياء الشخصية الوطنية الفلسطينية وإعادة الاعتبار إلى دور العامل الذاتي الفلسطيني في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني والإمبريالي، فقد انصّب هدف الدبلوماسية الثورية في تلك "الحقبة الماوية" على خدمة الكفاح المسلح وتوفير الدعم العسكري والمادي والإعلامي له. وسنلاحظ في هذه المرحلة ما يلي:

  1. لقد عكس الهدف المذكور نفسه أولاً على طبيعة المهمات الدبلوماسية آنذاك، والتي كانت في الأغلب إعلامية – دعائية، وعكس نفسه ثانياً على طريقة الأداء الذي كان أقرب إلى الأسلوب التحريضي والخطابي، وعكس نفسه ثالثاً على نوعية الأداة التي كانت تضم دعاة ثوريين من الطلبة والعمال والمثقفين
  2. .كان للعامل الموضوعي (الأجواء الثورية العالمية، والهزيمة العربية الرسمية، والحقبة الماوية في عمر الثورة) دور كبير في إبراز العامل الذاتي الفلسطيني، والتأثير في توجهاته وصياغاته وخطابه السياسي، وطبيعة الدبلوماسية المطلوبة.
  3. ظلت المبادرة الدبلوماسية الرئيسية، التي أطلقتها القيادة الفلسطينية الثورية الجديدة في أواخر سنة 1968 وتضمنت حل مشكلة اليهود في فلسطين عن طريق إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية على كل فلسطين، مشروطة بتقديم الفعل العسكري أولاً، أي بتدمير المؤسسة العسكرية، ثم بتجريد الإسرائيليين من صهيونيتهم وإعادتهم يهوداً مسالمين. ومع ذلك فإنها لم تؤخذ على محمل الجد عند قطاع واسع من الفلسطينيين وسط أجواء الفتوة الثورية السائدة، وظل مجال المبادرة المذكورة يتراوح بين الندوات والمقابلات والتصريحات، إلى أن اعتُمدت رسمياً في الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة في أوائل آذار/ مارس 1971.
  4. لم تشكل الدبلوماسية الفلسطينية (إدارة العلاقات الخارجية في حينه)، وعلى الرغم من تواضع الخبرات الدبلوماسية والتفاوضية، عبئاً مالياً – مادياً كبيراً على العملية الثورية؛ إذ تميزت حركتها المركزية بالإبداعية والمبادرة والفاعلية، واتسمت أدواتها البشرية بإنكار الذات والتواضع الثوري وعمق الانتماء، واستطاعت أن تقيم شبكة علاقات واسعة، طابعها العام غير رسمي، مع تشكيلة متنوعة وغنية من القوى الثورية والأحزاب التقدمية والمنظمات السياسية عبر العالم.

لكن مرحلة الدبلوماسية الثورية لم تستمر طويلاً. ففي العامين الآخيرين من المرحلة الأُولى، اهتز مركز الكفاح المسلح في العملية النضالية بعد فقدان الشرط الأساسي المتعلق بالقاعدة الثورة الآمنة، وذلك نتيجة ثلاثة ضربات متلاحقة، الأمر الذي عكس نفسه على طبيعة العمل الدبلوماسي وتوجهاته وحركته.

 دبلوماسية الواقعية الثورية (1974 – 1981) من العصر الذهبي إلى عنق الزجاجة

انطلقت المرحلة الثانية من التجربة الدبلوماسية الفلسطينية من نهاية المرحلة الانتقالية (1971 – 1972)، التي كانت سمتها العامة انحساراً ثورياً على الساحة الفلسطينية أمكن وقفة وتجاوةه مع بداية سنة 1973:

  • بتحقيق الهدف العسكري، أي "إبقاء البندقية الفلسطينية مشرعة" عن طريق إعادة تجميع القوى المقاتلة وتنظيمها، وتوفير الدعم العسكري واللوجستي المطلوب، وإعادة بناء القاعدة الآمنة في الجنوب اللبناني، وتنفيذ عمليات عسكرية مثيرة داخلية وخارجية.
  • بتحقيق الهدف السياسي، أي "إبقاء م.ت.ف. حية سياسياً" عن طريق إعادة تأكيد وحدة الفصائل الفدائية في إطار المنظمة، وتعزيز وحدة الفصائل بوحدة شعبية أوسع، والتصدي للقوى والبرامج البديلة، مع التهيئة لتقديم برنامج سياسي أكثر ملاءمة وأقل تطرفاً.

وفي الحالتين، قامت الدبلوماسية الفلسطينية بدور نشيط في خدمة الهدفين العسكري والسياسي؛ ففي خدمة الهدف العسكري، تحركت الدبلوماسية نحو بكين لتعويض الخسائر وتعزيز القوى، وفي خدمة الهدف السياسي، تحركت نحو موسكو لتحقيق الاعتراف بالمنظمة وتعزيز مركزها. وسنلاحظ هنا أن تجاوز مرحلة الانحسار الثوري لم يكن من دون ثمن سياسي. فالدولة الديمقراطية الفلسطينية (العلمانية) التي طُرحت في المرحلة السابقة من موقع الاقتدار والفتوة الثورية، لم تعد تحظى بالأولوية إلا باعتبارها مرتبطة بالهدف الاستراتيجي. وعلى الرغم من إقرارها رسمياً سنة 1971، فإنها لم تعمر أكثر من عامين، وحل محلها بالتدريج مشروع السلطة الوطنية ًذو السمتين التكتية والواقعية. وسنلاحظ أيضاً أن نتائج حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 سرَّعت عملية الانتقال من مرحلة "الثورية المثالية" في الفكر السياسي الفلسطيني إلى مرحلة "الواقعية الثورية". ونتيجة لهذا التحول، لم يعد منطقياً الإبقاء على الكفاح المسلح في سدته العالية "وحيداً" متميزاً من سائر الأشكال النضالية، فهبط من منزلة "الوحيد" إلى منزلة "الرئيسي"، ومن منزلة "الرئيسي" إلى منزلة "رئيسي" بحيث يترابط مع النضال السياسي ويتوازى مع باقي الأشكال النضالية. وقد جرى هذا التحول المتدرج بين دورتي المجلس الوطني الفلسطيني الثامنة والحادية عشرة.

 

  • المؤسسة الدبلوماسية: عوامل النجاح

كان من الطبيعي أن تعكس تلك التطورات العسكرية والسياسية نفسها على العمل الدبلوماسي في المرحلة الثانية، على الشكل التالي:

  1. تطلّب التحول في التركيز من العمل العسكري إلى العمل السياسي استعدادات فلسطينية جديدة وواسعة في مجال تكتيكات وأدوات العمل السياسي المتعدد الوجوه والميادين. ومن أبرز تلك الاستعدادات تزايد الاعتماد على العمل الدبلوماسي ليكون الأداة الرئيسية المباشرة للنضال السياسي وذراعه الخارجية.
  2. استدعى التركيز على الهدف المرحلى (السلطة الوطنية) تغييراً في الخطاب السياسي والشعارات المرفوعة، الأمر الذي عكس نفسه على وظيفة ومهمات م.ت.ف.، التي تحولت من منظمة سياسية وطنية مقاتلة إلى كيان وطني سياسي (له ذراعه العسكرية) للشعب الفلسطيني معترف به عربياً ودولياً، ولا بد له من مؤسسة دبلوماسية خاصة به.
  3. من الناحية العملية، استدعت إقامة المؤسسة الدبلوماسية الجديدة برعاية "الدائرة السياسية" للمنظمة، وبدعم عربي رسمي واسع مالياً وسياسياً (زمن الطفرة المالية)، التوسع في إقامة الممثليات وفتح المكاتب الخارجية على أوسع نطاق. واستدعت من الناحية النظرية التراجع عن الخطاب السياسي الثوري السابق لمصلحة الخطاب السياسي المعتدل والمسؤول أمام القوى الداعمة العربية والدولية.
  4. أدى التحول في المرجعية السياسية من الميثاق الوطني وبرنامج "فتح" الثوري إلى البرنامج المحلي وقرارات دورتي المجلس الوطني الثانية عشرة والثالثة ، عشرة إلى: 1) تغير في مهمات الدبلوماسية الفلسطينية، إذ أصبحت كسب الاعتراف العربي والدولي وإقامة العلاقات الرسمية والحصول على العضوية في المنظمات الإقليمية؛ 2) تغير في طريقة الأداء الدبلوماسي، إذ أصبحت أكثر مرونه في التعامل مع القوى وإجراء المفاوضات والاتصالات والمشاركة البروتوكولية في المؤتمرات والاجتماعات الرسمية؛ 3) تغير في نوعية الأدوات الدبلوماسية التي جرى تطعيمها بدبلوماسيين بورجوازيين، ومفاوضين معتدلين، ومبعوثين رسميين أكثر أناقة وأقل تطرفاً.
  5. لقد كانت موسكو، لا بكين، هي التي قامت بالدور الأهم في المرحلة الجديدة،وفي دعم الدبلوماسية الفلسطينية والتأثير في تكتيكاتها. ولا شك في أن الاتحاد السوفياتي السابق ساهم، إلى جانب الدول العربية والإسلامية والدول غير المنحازة المتنفذة، في تعزيز مكانة م.ت.ف. الدولية، وتوسيع الاعتراف الخارجي بها على المستويات الدولية والإقليمية والثنائية.

 

  • استثمار العسكري لمصلحة الدبلوماسي

سنلاحظ هنا أن الإنجازات السياسية والدبلوماسية المذكورة تزامنت مع تراجع المشروع الثوري الفلسطيني الأصلي لمصلحة المشروع الوطني، ومع تحول مفهوم "القاعدة الثورية الآمنة" واختلافه في الفكر السياسي والعسكري الفلسطيني. فقد وصلت طموحات الفلسطينيين (وطموحات حلفائهم اللبنانيين) الثورية العسكرية في العام الثاني للحرب الأهلية إلى طريقها المسدود، عندما اصطدمت بالحاجز الرسمي العربي والإقليمي، ولم تستطع تجاوزه.

صحيح أن فكرة "القاعدة الآمنة" لم يجر التخلي عنها، ولم تسقط كلياً في الفكر الفلسطيني، لكن الصحيح أيضاً أنه منذ ذلك التاريخ (1967) أصبح للقاعدة الآمنة في العقل القيادي الفلسطيني مفهوم مختلف؛ فهي لم تعد مرتبطة بالاستراتيجيا الثورية الأصلية (المتعمدة نظرياً) بقدر ما أصبحت مرتبطة بالوجود المادي للكيان السياسي (م.ت.ف.)، وبالتالي بقيمتها الاستعمالية السياسية والدبلوماسية. وقد عكس هذا المفهوم نفسه على بنية القوات المسلحة، وقواعد تنظيمها وانتشارها، وطريقة تسليحها وتجهيزها، وطبيعة اشتباكها مع العدو. وقد تجلت سياسة استثمار العمل العسكري في خدمة السياسي والدبلوماسي في معركة الليطاني (آذار/مارس 1978) ومعركة تموز/ يوليو 1981، عبر إجراء الاتصالات الأولية غير المباشرة بين قيادة المنظمة والطرفين الإسرائيلي والأميركي لتأمين ترتيبات وقف إطلاق النار، والانسحابات، ونشر قوات الطوارئ الدولية، وتطوير الاتصالات بالدول الأوروبية الغربية. ثم استُثمرت المعركتان المذكورتان لاستدراج الاعتراف الأميركي والإسرائيلي والأوروبي بالمنظمة طرفاً محلياً من الأطراف المقررين في شؤون المنطقة بحيث يصعب تجاهله أو القفز فوق دوره آنذاك. وسنلاحظ أيضاً أن ذلك الإنجاز (الاستثماري) لم يكن يتيماً أو معزولاً عن المحيط؛ فقد جاء في ظل أوضاع سياسية ودبلوماسية مواتية ساعدت في تحققه، وأبرزها اعتراف الدول العربية مجتمعة بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وقبول المنظمة عضواً متساوياً في النادي العربي الرسمي، وحصولها على اعتراف الدول الإسلامية والإفريقية والدول غير المنحازة بها كياناً سياسياً للفلسطينيين.

 

  • ازدهار دبلوماسي مشروط!

تشير المراجعة الموضوعية للمرحلة الثانية إلى أن هذه المرحلة شهدت، اعتباراً من سنة 1974، حركة فلسطينية واسعة ونشيطة ومثمرة، حيث تفجرت طاقات فلسطينية هائلة (ثورية وأكاديمية) في المجالات التفاوضية والسياسية والقانونية، وأنجزت الحركة الدبلوماسية الفلسطينية المدعومة عربياً ودولياً نجاحات متتالية على مستوى الأمم المتحدة ومنظماتها الإقليمية المتخصصة، والمنظمات السياسية الدولية والقارية والإقليمية. وقد تجلت المحصلة الدبلوماسية العامة في احتلال القضية الفلسطينية بإطارها السياسي الجديد (لا كقضية لاجئين) النبد الأول في جدول أعمال العالم، وفي تكريس م.ت.ف. كياناً سياسياً معترفاً به على نحو أوسع مما هو معترف بإسرائيل، مع مؤسسة دبلوماسية مترامية الأطراف، تفوق في حجمها وإمكاناتها المؤسسات الدبلوماسية لكثير من دول العالم الثالث المستقلة.

لكن علينا أن نتذكر أن هذا الإنجاز الوطني الفلسطيني ظل محكوماً بثلاثة شروط: الثمن السياسي المدفوع فلسطينياً بالتراجع عن الاستراتيجي لمصلحة التكتي؛ الاحتضان العربي الرسمي (المشروط) والدعم الدولي – السوفياتي (غير الملتزم) للمشروع الفلسطيني؛ استمرار قوة العامل الذاتي وحيوية عناصره العسكرية والسياسية والتعبوية. لذلك، وجدنا أنه تأثر سلباُ عندما خرجت مصر من ساحة الصراع في المرحلة الأُولى، وعندما نشبت الحرب بين العراق وإيران في أواخر المرحلة الثانية ، وعندما فقدت الثورة الفلسطينية ساحتها الرئيسية الخارجية (لبنان) ووحدتها الوطنية في المرحلة الثالثة، وعندما اندثر الاتحاد السوفياتي وتغيرت السياسة الخارجية الروسية، كما سنرى، في المرحلة الرابعة

 دبلوماسية "الأمر الواقع" (1982 – 1989) من أجل مقعد في قاطرة التسوية

إذا كانت هزيمة الثورة في الأردن قد انتقلت بالحركة الوطنية من المرحلة الثورية المثالية إلى مرحلة الواقعية الثورية، فإن هزيمتها في لبنان انتقلت بها إلى واقعية بلاثورية، أي إلى التعاطي والتعامل مع الأمر الواقع لا بغرض التأثير فيه وتغييره بقدر ما هو التكيف مع شروطه والحصول على مكان على أرضيته، بعد أن فقدت المنظمة ركيزتها العسكرية الأهم، فافتقدت قيادتها القدرة على توسيع هامش حركتها وتفعيل أوراقها التفاوضية. ولاحظنا أنه بعد سنة 1982 جرى الاعتماد على العمل الدبلوماسي أكثر من الاعتماد على غيره، فتحول إلى الشكل الغالب للنضال السياسي من ناحية، وتجاوز النضال العسكري الذي تراجع إلى حدوده الدنيا من ناحية أُخرى. ولم يقتصر التغيير على درجة الأهمية وترتيب الأولويات، بل إنه طال بالأساس الأهداف المباشرة للحركة الوطنية وللحركة الدبلوماسية معاً.

وأصبح هدف القيادة الفلسطينية الحفاظ على الإنجاز الوطني السياسي السابق بشروطه الدنيا، والحفاظ على م.ت.ف. بما يؤهلها للمشاركة في التسوية السياسية الأميركية التي أثارتها مبادرة ريغان (أيلول/سبتمبر 1982).

  •  دبلوماسية من دون ركائرها

يمكن القول إن دبلوماسية "التكيف مع الأمر الواقع" الفلسطينية ولدت في أتون المواجهة القاسية في صيف 1982، بغرض الحفاظ على الذات أولاً، فعلى أهمية الإبداعات العسكرية التكتية والصمود الرائع في بيروت، فإن الوقائع الحربية القاسية وثقل الآلة العسكرية الإسرائيلية والاختلال الفادح في ميزان القوى العسكرية، كل ذلك حوّل المواجهة على الجانب الفلسطيني من مواجهة عسكرية سياسية إلى مواجهة سياسية إعلامية، ثم إلى مواجهة إعلامية دبلوماسية، حيث برزت براعة القيادة في مجالات المناورة والمساومة والمفاوضة بما يطيل عمر المنظمة سياسياً، على الرغم من هزيمتها العسكرية، ويحفظ أطرها القيادية حية على الرغم من تعرض بناها التحتية الميدانية للتدمير.

سنلاحظ أن دبلوماسية التكيف مع الأمر الواقع، التي وُلدت تحت القصب وفي ملاجئ بيروت، وجدت رافعتها الذاتية النفسية والسياسية في مقولة "يا وحدنا". وفي ظل تخاذل العرب والسوفيات الذين عوّل الفلسطينيون عليهم كثيراً، تهاوت الركيزة العربية الرسمية والركيزة الدولية السوفياتية أمام الهجمة الإسرائيلية المدعومة أميركياً، فجنح الفلسطينيون للبحث عن طوق نجاة، ولو كان على الضفة الأُخرى. وفي ظل القصف والحصار دُشنت القنوات التفاوضية الأُولى مع الإسرائيليين، ووسٍّعت القنوات المفتوحة أصلاً على الأميركيين، والتي ستتحول إلى معالم رئيسية في حركة الدبلوماسية في المرحلة الثالثة.

وسنلاحظ أن الدبلوماسية الفلسطينية افتقدت في المرحلة الجديدة الكثير من تحفظاتها السابقة، وأحلّت نفسها من كثير من الشروط والمحددات والضوابط المعمول بها في المرحلة السابقة، فتحولت مبادرة "الأمير فهد" المرفوضة سنة 1981 إلى "خطة فاس" العربية المقبولة سنة 1982، وتحول المجلس الوطني السادس عشر في الجزائر إلى مهرجان فلسطيني لاعتماد الخطة، وتحول الموقف المتحفظ من مبادرة ريغان سنة 1982 إلى التعاطي الإيجابي معها سنة 1983.

 

  • من العجز العسكري إلى الجنوح السياسي

لقد عكست التطورات الفلسطينية والإقليمية الخطرة، التي مرت القضية بها، نفسها على الدبلوماسية الفلسطينية على النحو التالي:

  • من حيث الهدف، تم التحول، كما ذكرنا، إلى "الحفاظ على الذات"، وتركزت المهمات على إبقاء الطرف الفلسطيني حياً ومتحركاً ومعترفاً به ومطلوباً عربياً ودولياً.
  • من حيث التكتيك المعتمد، جرى استثمار الدبلوماسية الفلسطينية المتحققة لإحراز مكاسب تعويضية أمام العجز العسكري وضيق هامش المناورة السياسية وتراجع نقاط القوة.
  • من حيث الأسلوب، أصبح الاعتماد أكثر على المناورات والمبادرات التي تحمل المزيد من التنازل والتراجع عن الثوابت الوطنية والحدود السابقة، والبحث عن اشتقاق قنوات دبلوماسية سرية تساعد في إبقاء المنظمة حالة مطلوبة.
  • من حيث الأدوات، جرى التغيير والتبديل بما يسمح بتمرير التحولات الجديدة. وقد قام السيد ياسر عرفات بالإشراف المباشر على الشبكة الدبلوماسية، معتمداً أدوات إضافية أو بديلة أكثر مرونة وطواعية، ومتنوعة المشارب ومتعددة المواهب.
  • من حيث المرجعية السياسية، كانت هذه المرجعية مزاوجة متحركة بين البرنامج المرحلي الفلسطيني وبرنامج التسوية العربي في "خطة فاس" ومبادرة ريغان الأميركية.

 

  • الانتفاضة والاستثمار الدبلوماسي

لكن الدبلوماسية الفلسطينية لم تستطع، بما قدمته من تنازلات، إنقاذ المنظمة وقيادتها من المصير المرسوم لها في مرحلة ما بعد بيروت، ولا سيما أن وحدتها الوطنية تهتكت بالانشقاقات المتتابعة، ومكانتها العريبة تراجعت بتجميد بعض الدول اتصالاتها ومساعداتها، وأهلية قيادتها السياسية تدنت بقبول المشاركة الأردنية في التمثيل.

وحدها الانتفاضة الشعبية الفلسطينية في الداخل هي التي أنقذت الموقف في اللحظات الأخيرة؛ أنقذت المنظمة والقيادة معاً. وإذا كانت الانتفاضة قد أُدخلت على هذه المرحلة عامل قوة ذاتية أنقذت م.ت.ف. عندما بلغت [المنظمة] ذروة ضعفها (قمة عمان العربية في تشرين الثاني/نوفمبر 1987)، إذ عوَّضتها كثيراً من فقدان مناعتها العسكرية والسياسية، فإن تلك الورقة النوعية الاستثنائية لم تستثمر في الميدان الدبلوماسي لإعادة صوغ تكتيكات التحرك وتطوير وسائله وتفعيل أدواته كما كان مرجواً، بل للجوء إلى تسريع الحركة برعونة في اتجاه واحد. إذ قامت القيادة بهجومها الدبلوماسي الواسع لفتح الحوار الأميركي – الفلسطيني، وإطلاق المبادرة الفلسطينية، وتقديم التنازلات الجوهرية على الهوية مباشرة لا في قاعة المفاوضات.

لقد استندت الدبلوماسية المذكورة في مرجعيتها السياسية إلى مقررات المجلس الوطني التاسع عشر، صاحب "إعلان الاستقلال" في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 1988 من ناحية، وكرست من ناحية أُخرى دبلوماسية الرجل الواحد، الذي تحول مع نهاية المرحلة الثالثة من القائد العام للقوات الفلسطينيةمن دون منافس إلى المفاوض العام الدبلوماسية الفلسطينية من دون منازع!

  • حوار باهظ الثمن ومنقوص

ارتكزت القيادة الفلسطينية في هجومها الدبلوماسي المذكور، الذي أثمر انطلاقة الحوار الأميركي – الفلسطيني في أواسط كانون الأول/ ديمسبر 1988، على ثلاثة عوامل جرى استثمارها في الاتجاه التسووي:

  • الركيزة الذاتية: تمثلت في الانتفاضة الشعبية وما أحدثته من آثار سياسية ودبلوماسية إيجابية، وفي تعاطف دولي وشعبي ورسمي واسع، الأمر الذي أدى إلى تحريك الجهود الدبلوماسية الأوروبية والأميركية.
  • الركيزة الدولية: وتمثلت في انتقال العلاقة الأميركية – السوفياتية من حالة "الوفاق" إلى حالة "التعاون" على مستوى العلاقات الثنائية، وكذلك في مجال تهدئة النزاعات الإقليمية وتسويتها، والآمال التي أطلقتها مبادرات "التفكير السياسي الجديد" في موسكو في الوصول إلى تسويات إقليمية متوازنة.
  • الركيزة المصرية: تمثلت في الدور النشيط الذي أدته الدبلوماسية المصرية على الجبهتين الإسرائيلية والأميركية، بالتنسيق مع القيادة الفلسطينية على أبواب عودة مصر إلى جامعة الدول العربية، وفي إطار العلاقة الخاصة القائمة بين الطرفين الفلسطيني والمصري من دون انقطاع، حتى في أحلك الأوقات.

لكن ذلك الحوار المنشود لم يكن لينطلق، حتى في مستواه المتواضع ومضمونه الهزيل، إلا بعد استجابة قيادة المنظمة، وعلى نحو محدد وصريح، للاشتراطات الأميركية (الإسرائيلية) المزمنة: الاعتراف بدولة إسرائيل وبالقرارين 242 و338، ونبذ العنف (الكفاح المسلح). ومن الطريف أن الحوار الأميركي – الفلسطيني ظل مرهوناً بشرطه التعجيزي الثالث، أي قدرة الطرف الفلسطيني على منع العمليات العسكرية ضد الإسرائيليين، فكانت النتيجة إنجازاً دبلوماسياًباهظ الثمن، لكنه أيضاً منقوص ومشروط، وقابل للتعليق والتوقيف والإلغاء، كما حدث أكثر من مرة.

دبلوماسية "حافة الهاوية" (1990 – 1995) من المغامرة السياسية إلى المقامرة الوطنية

في المرحلة الرابعةـ دخلت المنطقة كلها في دائرة التسوية الأميركية، في ظل شروط جائرة، من انهيار التوازن الدولي بفعل اندثار المعسكر الاشتراكي، إلى تدجين القوة الإقليمية بفعل العدوان على العراق، إلى بسط النفوذ الأميركي المباشر على نحو غير مسبوق بفعل إحجام القوى القطبية المنافسة، الامر الذي عكس نفسه على الوضع الفلسطيني بصورة حادة؛ فتراجعت قوته العسكرية المتواضعة أصلاً، وضاقت قدرته على المناورة السياسية المحدودة أصلاً، وتقلص إمكان الاستثمار الدبلوماسي للأوراق المتوفرة بصعوبة. ولم تجد القيادة أمامها إلا دبلوماسية التنازلات أو دبلوماسية الحاجز الأخير، لتعتمد عليها وحدها من دون إسناد عسكري أو سياسي، بعد أن افتقدت قواعد ارتكازها ميدانياً وعربياً ودولياً.

في هذه المرحلة، يمكن التمييز بين تجربتين تفاوضيتين خاضتهما الدبلوماسية الفلسطينية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة:

  • الالتحاق بالقاطرة الأميركية
  • في الطور العلني (1991 – 1992) أقدم الأميركيون على ابتزاز قيادة المنظمة باستخدام سيف الاستيطان المتسارع، والقيادة البديلة في الداخل، والخيار الأردني في الخارج، وتخفيف الموارد المالية العربية، فاستجابت القيادة بعد تردد وتمنع، ووافقت على دخول نادي مدريد بالشروط المهينة والوضعية غير المتساوية، متجاوزة برنامج الحد الأدني تحت هاجس "الحفاظ على الرأس" بعد التهديدات الأميركية.

وهنا قامت الدبلوماسية الفلسطينية (المدعومة بالدبلوماسية المصرية) بدورها في محاولة الجَسْر بين الموقف الفلسطيني والشروط الأميركية من ناحية، ثم العمل من ناحية أُخرى على تحسين وضعية "التشكيل والتمثيل والمشاركة" الفلسطينية في العملية التسووية العلنية، بصرف النظر عن الثمن الباهظ المطلوب دفعه في مفاوضات واشنطن العلنية.

ولا شك في أن الأوضاع التي عملت الدبلوماسية الفلسطينية في ظلها خلال تجربتها العلنية كانت في غاية الصعوبة والتعقيد. عالمياً: نظام عالمي جديد تقيمه أميركا على مقاس مصالحها، وهيمنة أميركية مباشرة على المسرح الإقليمي؛ عربياً: نظام عربي رسمي متهاو، وأنظمة وطنية مذعورة، وحالة يأس وإحباط على مستوى الشعوب والقوى السياسية؛ فلسطينياً: حصار سياسي ومالي، وانتفاضة مستنزفة ومرهقة ومتراجعة الفاعلية.

  • الدبلوماسية الرئاسية والمغامرة السياسية

أثر ذلك في طريقة القيادة وإدارة العملية الدبلوماسية، فاتسمت تكتيكات القيادة بالرعونة والخوف والارتباك، وأصيبت حركتها بالذعر وانعدام الثقة، وباتت فاعليتها محدودة ويداها مغلولتين، الأمر الذي جعلها تستسلم للشروط الأميركية على أبواب مؤتمر مدريد بأقل قدر من المقاومة والاحتجاج، من دون أن تكترث لحجم المعارضة الوطنية التي اتسع معسكرها بانضمام الكثير من القوى والشخصيات والفعاليات المحسوبة أصلاً على معسكر التسوية.

وهكذا، انحصر الهدف الوطني الرئيسي للحركة الدبلوماسية في الحفاظ على الذات و"الرأس" والموقع، بينما تركزت مهمات العلمية الدبلوماسية على إبقاء الجسور مفتوحة مع الأطراف الفاعلة، وإقناع الأميركيين بقيمة الحضور الفلسطيني، وتقديم العروض والمقترحات الأكثر إغراء. أمّا المرجعية السياسية، فقد أصابها التهتك إلى حد كبير، إذ جرى تهميش معظم المرجعيات السابقة، من الميثاق الوطني إلى البرنامج المرحلي إلى قرارات دورات المجلس الوطني، واعتُمدت الشرعية الدولية (المنقوصة) مرجعية رئيسية للمبادرات والتحركات الدبلوماسية الفلسطينية. وفي هذا السياق، افتقدت الدائرة السياسية للمنظمة دورها كمرجعية وظيفية وسياسية ومركزية، إلا في أضيق الحدود الروتينية والمهنية والرسمية. وتمركز العمل الدبلوماسي في مقر الرئاسة، وارتبط بالرئيس شخصياً، وظهر نوع جديد من الدبلوماسية أقرب إلى الدبلوماسية الرئاسية، بأدوات جديدة، وشخصيات وطنية عامة، وقنوات جديدة. وتم، على الأغلب، تهميش الأدوات والشخصيات السابقة.

 

  • القفز إلى العربة الإسرائيلية 
  • في الطور السري (1992 – 1993) استطاع النجاح النسبي الذي حققته الدبلوماسية الفلسطينية في الطور العلني، بتأكيد الحضور والمشاركة الفلسطينية المستقلة واستعادة بعض التوازن السياسي للمنظمة وتراجع خطر البدائل الفلسطينية والعربية، أن يغري قيادة المنظمة بإمكان عقد صفقة ثنائية مع الإسرائيليين مباشرة من دون انتظار نتائج المسارات الأُخرى. وقد حفزها على ذلك نجاح حزب العمل الإسرائيلي في الانتخابات البرلمانية (تموز/ يوليو 1992) واستعداد حكومة رابين – بيرس للتعاطي مع الموضوع الفلسطيني والأراضي المحتلة بطريقة مختلفة عن حكومة الليكود. وهنا أيضاً، وبصرف النظر عن الثمن المطلوب، دخل الفلسطينيون تجربة المفاوضات السرية التي فاجأت بنتائجها الهزيلة مختلف الفرقاء الآخرين. وإذا كانت المستجدات الدولية والإقليمية في أوائل التسعينات، وانعكاسها على الوضع الفلسطيني، هي التي دفعت القيادة إلى دخول تجربة مدريد المنقوصة، فما الذي دفعها إلى خرق المرحلة العلنية ودخول تجربة أوسلو السرية بعد أن أعيد الاعتبار إلى المشاركة الفلسطينية في مسارات واشنطن؟

من المعروف أن الأطراف المتصارعة تلجأ إلى تكتيك المفاوضات السرية، على الأغلب، عندما تتعذر المفاوضات العلنية أو عندما تصل إلى طريق مسدود، أو عندما يصعب على المفاوضين تقديم تنازلات علنية. ففي المفاوضات السرية يصبح المفاوضون أكثرتحرراً من القيود السياسية والنفسية، ويتمتعون بالمزيد من الحرية والمرونة في تبادل التنازلات بعيداً عن الأضواء والتأثيرات المحلية والإقليمية. وهذا حدث بالضبط في مفاوضات أوسلو، التي أنتجت اتفاقاً لم يكن ممكناً الوصول إليه والقبول به فلسطينياً بالوسائل العلنية وعبر الأطر الشرعية وعلى مرأى من الشركاء العرب.

  • تكتيك المقامرة: "الثمرة المحرمة"

كان للجانب الفلسطيني أسبابه الواضحة؛ فهو يعيش حالة من الهواجس الدائمة، والخوف المزمن من التجاوز العربي والبدائل الفلسطينية، وقلة الثقة بالنفس وبالغير، فأقدم على مغامرة فريدة في نوعها تحت شعار "الحفاظ على الذات": تأمين مكان ما في قاطرة التسوية الفعلية. وقد كانت هذه المغامرة مبادرة في غير السياق الدبلوماسي، بل كانت أقرب إلى المقامرة بآخر الأوراق وأخطرها، أي الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، تلك "الثمرة" التي ظلت "محرمة" على العبث والتلاعب بها.

لكن الجانب الإسرائيلي لم يكن مطارداً بأية هواجس، ولم تكن أوضاعه صعبة، بل لعله كان في أفضل حالاته قوة ومنعة؛ يتميز بتفوق إقليمي غير مسبوق. لذا جاءت موافقته على جبهة المفاوضات السرية، في سياق سيطرته على الموقف لتخدم بالضبط موقفه على جبهة المفاوضات العلنية وتفتح أمامه سائر القنوات المستعصية والمشروطة. فمن الواضح أن غرض الإسرائيليين تلخص في استدراج قيادة المنظمة واصطيادها واستخدام اتفاقهم معها لقصم ظهر المشروع التحرري الفلسطيني العربي بعزل جوهر الصراع عن عمقه العربي، واستقدام الأطراف العربية لفك ارتباطها بالقضية الفلسطينية، وإقامة علاقات مباشرة بدول المنطقة تنهي حالة العزلة والمقاطعة التي عاشتها إسرائيل منذ التأسيس. وفي حسابات الربح والخسارة، بيدو أن الدبلوماسية الإسرائيلية أنجزت الكثير من المكاسب السياسية والأمنية والدبلوماسية بأقل الخسائر الممكنة، بينما لم تنجز الدبلوماسية الفلسطينية، التي قبلت ما كان مرفوضاً، سوى القليل من المكاسب في مقابل الكثير من الخسائر.

وإذا كان الهدف الوطني العام قد تراجع إلى حدود الحكم الذاتي المرفوض تاريخياً، فإن المهمات التي نيطت بالعمل الدبلوماسي انحصرت في إعادة تقديم العامل الذاتي الفلسطيني إلى الإسرائيليين بطريقة جديدة، والحصول على اعترافهم المنقوص بالمنظمة، وإنجاز اتفاق تعاقدي يؤمن الانسحاب العسكري النظامي من المناطق الآهلة.

  • دبلوماسية فلسطينية من طراز آخر!

أمام مثل هذه والمهمات، لم تكن الدبلوماسية الفلسطينية بحاجة إلى مرجعية سياسية تسترشد بها أو تحتكم إلى ضوابطها ومحدداتها، فهي لن تجدها؛ فالميثاق نفسه صار مطلوباً تعديله، وقرارات دورات المجلس الوطني لم تعد ملزمة والمجلس الوطني نفسه أصبح مستقبله أمام علامة استفهام بعد انتخابات مجلس الحكم الذاتي، والمبادرات الفلسطينية والعربية والشرعية الدولية أصبحت في خبر كان!

أمّا المرجعية الوظيفية، فاقتصرت على الرئيس وحده، تعاونه حلقة ضيقة من الأشخاص المقربين الطيّعين. وجرى تهميش الدائرة السياسية للمنظمة ورئيسها ومؤسساتها بطريقة محزنة، وأقفل كثير من سفارات المنظمة ومكاتبها تحت وطأة الأزمة المالية الموجَّهة، وتراجع النفوذ الدبلوماسي الفلسطيني عن الخريطة الدولية كماً ونوعاً.

وفي مجال الأسلوب الدبلوماسي، تكرست طوال أعوام الفردية والاستعراضية والتجريبية، وجرى التركيز على الرموز والأشكال للتعويض من الخلل في الموضوع والمحتوى، وجرى الاتكاء على التنازلات بصورة فادحة بسبب فقدان الأوراق التفاوضية، وغلب على الأداء الرئاسي المبالغة في المناورات والحركات المسرحية التي امتدت من مسرح واشنطن الأول إلى مسارح القاهرة وطابا، وأخيراً إلى مسرح واشنطن مرة أُخرى.

وفي مجال الأدوات، تم الاستغناء عن أدوات المرحلة العلنية، وأحيل الوفد المفاوض ومعظم مستشارية على الاستيداع، وتم استحضار أدوات جديدة كلياً قامت بمهمات التفاوض السرى، وتم الاعتماد على شخصيات مغمورة إلى حد ما للقيام بما كان يسمى سابقاً "المهمات القذرة"، ثم الاستعانة في فترة متقدمة بكبار الضباط الذين يدينون لعرفات بالولاء الشخصي الذي عاد عليهم بالترقيات المتسارعة من دون أن يخوضوا معارك في معظم الحالات.

الخلاصة

  • دبلوماسية سابقة على الدولة

إذا كانت ممارسة العمل الدبلوماسي عملاً من أعمال السيادة تمارسه الدول والكيانات السياسة المستقلة المعترف بها، أي باعتبارها نشاطاً مؤسساتياً يمارس بعد قيام الدولة لا قبله، وركناً يلي توفر أركان الأرض والشعب والسيادة، فإن الدبلوماسية في حالتنا الفلسطينيةشكلت سابقة – استثناء للقاعدة، إذ إن المؤسسة الدبلوماسية الفلسطينية نشأت وتطورت وتوسعت قبل إقامة الكيان الفلسطيني، أي الدولة المستقلة، على الأرض.

صحيح أن حركات كثيرة من حركات التحرر الوطني العالمية مارست خلال مسيرتها النضالية شكلاً من أشكال الدبلوماسية صراحة أو تحت عنوان العلاقات الخارجية، وهو ما نعتبره أقرب إلى "الدبلوماسية الثورية" التي مارستاها في المرحلة الأُولى في النصف الثاني من الستينات، لكن هذا النشاط ارتبط في أغلب الحالات بوجود مناطق محررة يسيطر الثوار عليها ويقيمون فوقها حكومتهم الثورية الموقتة أو سلطتهم الثورية. أمّا في حالتنا الفلسطينية، فإننا ابتداء من المرحلة الثانية مارسنا عملاً دبلوماسياً تجاوز حدود الدبلوماسية الثورية المعروفة إلى حدود الدبلوماسية التقليدية التي تشكل مظهراً سيادياً في العلاقات بين الدول المستقلة ذات السيادة. وتضخّم الجسم الدبلوماسي في الحالة الفلسطينية إلى الحد الذي تجاوز فيه الحالات المماثلة، حتى أصبح إعلان "دولة فلسطين" في المرحلة الثالثة مجرد حالة عابرة في مسيرة فلسطينية فريدة في نوعها، كما سنرى.

  • ضبابية الحركة السياسية الأُم

لاحظنا ان الثورة تبنت في استراتيجيتها الثورية "المعلنة" حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد، المرتكزة على الكفاح المسلح، الذي كان له بدوره أهدافه ومهماته ووسائلة وأدواته. وأمّا النضال السياسي فكان أدنى مرتبة، وحظي باهتمام أقل على الرغم من أن هدفه كان مزدوجاً: التنظير والتهيئة للكفاح المسلح من ناحية، واستثمار نتائجه لإبراز الشخصية الوطنية وتعزيز دور العامل الذاتي الفلسطيني، من ناحية أُخرى.

لم يكن للعمل السياسي في تلك الفترة المبكرة استراتيجية المحددة الخاصة به، وبالتالي لم يكن العمل الدبلوماسي قد تبلور في الذهن القيادي او في الممارسة باعتباره نشاطاً ثورياً مستقلاً أو عملاً سياسياً محدد المعالم وذا خصوصية، وبالتالي لا يجوز محاكمة التجربة في بدايتها كدبلوماسية مستقلة بل باعتبارها نشاطاً ثورياً في العلاقات الخارجية، له وسائله وأدواته ومهماته التي غلبت عليها السمة الثورية السائدة واتصفت بالمسلكية الثورية الغالبة آنذاك. أمّا تجربة المفاوضات التي جرت في المرحلة الأُولى، وخصوصاً في فترة 1969 – 1970، فلم تكن وليدة حركة دبلوماسية، بل فرضتها الحاجة الماسة إلى التهدئة العسكرية والضرورة الملحة لالتقاط الأنفاس، إلا أنها، من جانب آخر، فتحت العيون على المفاوضات الدبلوماسية باعتبارها نشاطاً مهماً لتعزيز الشخصية الوطنية إلى جانب الحفاظ على الذات.

  • دبلوماسية من دون دبلوماسيين

في المرحلة الأُولى، مارسنا النشاط الخارجي عبر إدارة العلاقات الخارجية الخاصة بكل فصيل أو بكل حركة فدائية، واتُخذ في منظمة التحرير الفلسطينية اسم الدائرة السياسية. لكن بعد توحيد إدارة العمل الوطني الرئيسية في م.ت.ف. سنة 1968، أصبحت الدائرة السياسية هي الإدارة المركزية لعملنا الخارجي (السياسي والدبلوماسي) من دون أن تسمح الأوضاع الطاغية آنذاك باستخدام تعابير، مثل الدبلوماسية والدبلوماسيين والنضال الدبلوماسي. ولم تستند دبلوماسيتنا الثورة في تلك الفترة المبكرة إلى حكومة ثورية موقتة أو إلى حكومة في المنفى أو في مناطق محررة، بل استندت إلى جبهة وطنية مقاتلة (م.ت.ف.) كانت مهمتها خدمة الكفاح المسلح أولاً، والنضال السياسي لإحياء الشخصية الوطنية وإبرازها ثانياً. ولأنها كذلك، فقد كانت أقرب إلى الدعاية الثورية منها إلى الدبلوماسية بحرفيتها التقليدية المعروفة.

لذلك يصعب القول إنه كان لدينا آنذاك دبلوماسية أو جهاز دبلوماسي بالمعنى الحرفي، لأن النظرية الدبلوماسية لم تكن متبلورة ولا شغلت مكانها المفترض في إطار النظرية الثورية العامة. ولم يكن الدبلوماسيين قد ألّفوا فريقاً خاصاً متميزاً داخل الحركة الوطنية الفلسطينية.

  • الدبلوماسية الفلسطينية والبحث عن كيان

كان لخصوصية القضية الفلسطينية دور مهم في تحديد الهدف الدائم والمهمات الرئيسية للدبلوماسية الفلسطينية، الأمر الذي جعلها متميزة بخصوصيتها عن باقي الدبلوماسيات الثورية التقليدية لمختلف البلاد. فاحتلال الأرض الفلسطينية وتغييب الشعب الفلسطيني وطمس الهوية الفلسطينية، كل ذلك فرض على الدبلوماسية التركيز على الكيانية الفلسطينية عبر إبراز الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني، وتكريس الهوية النضالية، وإظهار العامل الذاتي في الصراع.

وعلى الرغم من الصعوبات والعراقيل وقلة التجربة والخبرة، فقد أحرزت الدبلوماسية الفلسطينية سلسلة من الإنجازات في الميادين المذكورة ساعدت في تعزيز مركز م.ت.ف. والاعتراف العربي بها ممثلاً شرعياً وحيداً، وأعادت الاعتبار إلى العامل الذاتي الوطني، وساعدت في إعادة تثبيته وتطويره، وكرست المنظمة كياناً سياسياً معنوياً على المستوى الدولي عبر توالي الاعتراف بها من قبل الدول الإسلامية والإفريقية والاشتراكية والأوروبية الغربية ودول عدم الانحياز. ولا يستطيع باحث محايد أو مراقب منصف أن يتجاهل النكسات التي ألحقتها الدبلوماسية الفلسطينية بجبهة العدو الدبلوماسية وعلاقاته الخارجية. ولعل تركيز الهجوم الدبلوماسي الإسرائيلي – الأميركي المضاد على محاصرة الكثير من الإنجازات وتصفيته بعد انهيار التوازن الدولي دليل على أهمية تلك الإنجازات (على سبيل المثال النجاح سنة 1991 في إلغاء قرار الأمم المتحدة رقم 3379 لسنة 1975 المتعلق بالصهيونية).

وسنلاحظ هنا أن خصوصية القضية الفلسطينية استدعت تجاوز بعض الأعراف الدولية ومحدٍّدات العلاقات الدولية:

  • كان العمل الدبلوماسي سابقاً لنشوء الكيان السياسي والأرض المحرَّرة لا لاحقاً لهما، كما ذكرنا.
  • كان العمل الدبلوماسي مدخلاً إلى إظهار الكيان السياسي وسبباً فيه بدلاً من أن يكون مظهراً من مظاهر استقلال الكيان وسيادته.
  • جرى تسويغ ذلك باعتبار م.ت.ف. في هذه الحالة كياناً سياسياً للفلسطينيين، وباعتبارها في الوقت نفسه بمثابة حكومة موقتة بالممارسة الواقعية، من دون أن تعلن ذلك.

 

  • الركائز العسكرية والسياسية للدبلوماسية

كشفت العلاقة بين الدبلوماسية والأشكال النضالية الأُخرى عن فرادة فلسطينية. فالدبلوماسية الثورية تقوم عادة على خدمة النضالين الرئيسيين العسكري والسياسي (التجربة الفيتنامية مثالنا المفضل)، لكنها تتقدم عليهما في حالتين: إمّا لتثبيت انتصارات أو مكاسب مرحلية (مفاوضات واتفاقات جنيف سنة 1954)، وإمّا لإنجاز اتفاق التسوية السياسية النهائية وترسيمه استثماراً للإنجازات العسكرية والسياسية الميدانية الكبرى (مفاوضات واتفاقات باريس سنة 1973).

فبعد أن ولدت الدبلوماسية الثورية الفلسطينية على ضفاف العملية الثورية، وكانت نشاطاً متواضعاً تابعاً للنضال العسكري في المرحلة الأُولى ونشاطاً تابعاً للنضال السياسي في المرحلة الثانية، وجدناها تحتل موقعها المتقدم بالتدريج على حساب الشكلين الرئيسيين الآخرين، اللذين تراجعا حتى أصبحا عبثاً على العمل الدبلوماسي، وخصوصاًعلى النضال العسكري، الذي أصبح موضع تنديد وإدانة فلسطينيين رسميين. وللأسف، لم يتوقف التدهور عند حدود الإدانة والاستنكار الفلسطينيين الرسميين للعنف، بل أصبح العمل الفلسطيني الرسمي ضد العنف الفلسطني الجهادي شرطاً لتقدم المفاوضات – الإسرائيلية على الجبهة الدبلوماسية. وبلغ التدهور ذروته العجائبية عندما تبنى الفلسطينيون (ضحية الإرهاب التاريخية) المفهوم الأميركي – الإسرائيلي للإرهاب (مفهوم الجناة الحقيقيين) خلال الشهور القليلة الماضية.

  • مرجعية سياسية غير ثابتة

في المرجعية السياسية لم تحتفظ الدبلوماسية الفلسطينية بعلاقة ثابتة أو منسجمة مع منظومة سياسية قانونية شرعية تستمد منها تكتيكاتها ومهماتها العملية. ففي حالة الدولة المستقلة يكون دستور هذه الدولة الأعلى وبرنامج حكومتها هما المرجع الذي تستند وزارة الخارجية إليه في سياستها العامة وفي تطبيقاتها الدبلوماسية الخارجية (عمل سفاراتها وبعثاتها الدولية والإقليمية)، أمّا في الحالة الفلسطينية، فإن المرجعية – المحدَّدة أصلاً بالميثاق القومي للمنظمة وبأهداف حركة المقاومة ("فتح" بصورة رئيسية) والمتوحدة لاحقاً في الميثاق الوطني وقرارات المجلس الوطني الرابع 1968 المنسجمة مع الميثاق – تعرضت أكثر من مرة للتعديل والانتهاك والتغيير، ولا سيما في دورة المجلس في الجزائر سنة 1988. ومنذ ذلك الحين، عاشت دبلوماسيتنا حالة فريدة في نوعها؛ فلا مرجعية سياسية أو طنية أو قانونية تستند إليها، ولا برامج أو مخططات أو مشاريع محددة ومعلنة ومشروعة تعمل في هديها وفي سبيل خدمتها.

ومن المفيد ان نتذكر هنا أنه ليست الدبلوماسية وحدها هي التي افتقدت استراتيجيا عليا خاصة بها، وافتقدت قوانين وقواعد وأسساً تضبط العمل الدبلوماسي وتكتيكاته التفاوضية المتفرعة عنه، بل العملية الثورية بأسرها، بفروعها العسكرية والسياسة والتنظيمية، التي ظلت في الأغلب أسيرة التكتيك والمتطلبات المرحلية، على الرغم من جميع الإمكانات والقدرات التي توفرت لها مادياً وبشرياً وسياسياً. لكن الدبلوماسية الفلسطينية أُخضعت للتكتيك السياسي ذي السمة التجريبية والفردية وغير المتقيد بالمحددات الوطنية، والذي تعامل مع الدبلوماسية لا كعلم له أصوله وقوانينه وقواعده، بل كسلسلة من المبادرات غير المتناسقةـ وغير المتوافقة في كثير من الأحيان، والمشوبة أيضاً بالتجريبية والارتجال، والمراوغة والمناورة المطعَّمة بالمجازفة والفلهوة الشخصية.

  • الركائر المادية والمعنوية

لئن كانت الدبلوماسيات العربية تعتمد على عناصر قوة ثابتة في تحركها وفي تعزيز مكانتها وتحقيق الإنجازات، كالثروة والنفط والسيادة والقوة العسكرية، فإن الدبلوماسية الفلسطينية اعتمدت في غالب الأحيان على عناصر غير ثابتة؛ فالأرض التي تحركت هذه الدبلوماسية فوقها ومارست بعض "السيادة" عليها كانت أرض "الغير" (في الأردن ولبنان)، والثروات التي استفادت منها كانت "أموال وبترول" الآخرين، والقوة العسكرية التي استندت إليها لم تكن قائمة على أرض ثابتة وآمنة، والنفوذ "السياسي والمعنوي" اعتمد في كثير من روافده ومقوماته على عوامل موسمية وظواهر متحركة. وقد لاحظنا في فترات الازدهار أن الدبلوماسية الفلسطينية اعتمدت على أسلحة ليست في أيديها، وكثيراً ما كانت تلعب بأوراق ليست معها بل يمسك الآخرون بها ويتحكون فيها.

وتعويضاً من هذا النقص، اعتمدت الدبلوماسية الفلسطينية على القيمة "الاستعمالية" للمنظمة، بمعنى استثمار الثورة الفلسطينية كقوة مادية متحركة وكقوة معنوية محرٍّكة، أي استغلال حاجة الآخرين إليها، وأحياناً ابتزاز الآخرين في عجزهم؛ عجز شعاراتهم المعلنة وإمكاناتهم الهائلة وحاجتهم إلى التغطية بـ "الشهادات" الوطنية أمام الجماهير الشعبية وقواها السياسية. لذلك، عندما كانت القيادة تفقد السيطرة على شبكة العناصر "الثابتة وغير الثابتة"، كما حدث بعد حرب لبنان سنة 1982، وعندما كانت قيمتها الاستعمالية تتدنى عربياً، كما حدث بعد حرب الخليج، كانت تلجأ إلى الأوراق الأخيرة، إلى الاحتياط الاستراتيجي، أي إلى الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، لاستخدامها في معركتها الدبلوماسية، وفي المفاوضات، وفي الدفاع عن النفس والحفاظ على الذات، كما جرى في مفاوضات الحكم الذاتي.

  • ملاحظات بشأن الأداء والأداة

لقد ترك افتقار الدبلوماسية الفلسطينية إلى استراتيجيا محددة، واعتمادها على مرجعيات سياسية غير ثابتة، وارتكازها على قواعد عسكرية وسياسية وغير صلبة، آثارها السلبية في فعالية أساليبها وأدائها وفي كفاءة وسائلها وأدواتها.

فالطفرة النفطية العربية، على سبيل المثال، وفَّرت للعمل الدبلوماسي الفلسطيني القاعدة المادية للتحرك والفاعلية، لكنها أغرت بالتوسع الكمي على حساب الكيفي؛ إذ أضافت على الكادرات الثورية الأساسية إضافات نوعية من الأكاديميين والمثقفين والبورجوازيين الوطنيين ومن نشطاء الحركة العسكرية والنقابية، لكنها فتحت آفاقاً للإفساد والثراء والمحسوبية، وكرست مبدأ "الولاء الشخصي أولاً"، فأسست لطابور كبير من العناصر غير الكفية وغير المؤهلة، فتراجع الالتزام والتطوع الثوريان لمصلحة الوظيفة والبيروقراطية والارتزاق.

وأسفر الاستثمار السياسي للعمل العسكري عن مكاسب دبلوماسية، وخصوصاً على جبهة الغرب، لكنه أدى إلى استغراق القيادة في لعبة الاستثمار السهل والسريع، وإخضاعها مختلف التطورات المحلية والإقليمية لتكتيك "الاستثمار" السريع بدلاً من أخضاعها لقانون "التثمير" الثوري، الأمر الذي أدى إلى ضرب الكثير من معايير الجدية والصرامة في الحقل الدبلوماسي (كما العسكري والسياسي والتنظيمي)، حيث ساد منطق الاستثمار والاستسهال، والميل نحو الجهد الاستعراضي والشكلي في كثير من الجبهات الدبلوماسية الخارجية.

وعزز توحُّد سلطة المال والقرار في أواخر المرحلة الثانية (المؤتمر العام الرابع لحركة "فتح" سنة 1980) نزعة التفرد والهيمنة لدى رئيس المنظمة، الذي استثمر إلى الحد الأقصى "الرمزية" الفلسطينية، شعبياً وسياسياً ودبلوماسياً، المتكرسة في شخصه ليوسع على نحو مفتوح صلاحياته الرئاسية الواسعة أصلاً منذ عهد الشقيري لتصبح أقرب إلى الصلاحيات المطلقة. ومن أجل تعزيز الرموز السيادية، غلبت على الأداء الدبلوماسي علائم الشكل والاستعراض والإخراج، وطبعاً على حساب المضمون والفعل في كثير من الحالات.

أمّا أدواتها الدبلوماسية، فقد أصابها ما أصاب السلك الدبلوماسي العربي التقليدي من لامبالاة وترهل واتكالية وبحث عن المصالح الخاصة، ولا سيما بعد أن رُدفت بعدد كبير من الكادر العسكري والسياسي، الذي أصبح بلا مهمات بعد الخروج من لبنان من ناحية، وبعد أن أحكم القائد العام سيطرته الشخصية التامة على الشبكة الدبلوماسية، من ناحية أُخرى. فسادت مقاييس الولاء والطاعة والتبعية كأساس للاختيار والترفيع، بصرف النظر عن الحد الأدنى من الشروط المهنية (الثقافية واللغوية والسياسية والحضارية).

وبحلول المرحلة الأخيرة، كانت كفاية الجهاز الدبلوماسي وفاعليته قد انحدرتا، وافتقد المنتسبون إليه حصانتهم الثورية والمسلكية والوظيفية إلى حد بعيد، بسبب غياب شروط الرقابة والمتابعة والمحاسبة ، وبسبب ازدواجية الولاء والتبعية الوظيفية، والميل الغريزي لدى شريحة واسعة إلى استثمار التناقض وجعل الأولوية للمكتسبات المادية والوجاهية على حساب معتقداتها السياسية الأصلية والتزامها الثوري السابق. وفي المقابل، كانت القيادة قد دخلت منعطفاً جديداً اقتضى الانقلاب على الأساليب والوسائل السابقة، واعتماد وسائل وتكتيكات جديدة (المشاركة المنقوصة، التمثيل المزدوج، الجنوح إلى التنازل)، وبالتالي استخدام أدوات تفاوضية مختلفة، وتهميش السلك الدبلوماسي. ومع الجنوح إلى أسلوب المفاوضات السرية، كان الأداء يتصف أكثر فأكثر بالرعونة والهواجس والمغامرة والمقامرة، فكانت الحصيلة دبلوماسية بلا ضوابط ولا مرجعية، ومفاوضات بلا حدود ولا معتقدات ثابتة.

السيرة الشخصية: 

على فياص: كاتب فلسطيني –ممثل سابق لمنظمة التحرير الفلسطينية في جنوب شرق آسيا.