إميل حبيبي ومعاناة المثقف السياسي
كلمات مفتاحية: 
إميل حبيبي
المؤلفون
الروائيون
الأدب العربي
النزاع العربي - الإسرائيلي
في ذكرى
1922 - 1996
نبذة مختصرة: 

كُتب المقال بمناسبة رحيل الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي في الثاني من أيار/ مايو 1996. ويسعى المقال لمقاربة الوجه السياسي لحبيبي من زاوية المواقف السياسية التي اتخذها في الأعوام الأخيرة من حياته، والتي أثارت سجالاً وردات فعل متناقضة في صفوف الكتّاب والمثقفين الفلسطينيين والعرب. فيعرض شيئاً من سيرة حياته السياسية ومواقف الراحل من اتفاق أوسلو و "استقلالية" القرار الفلسطيني، ومن "التطبيع الثقافي"، والبريسترويكا. كما يعرض الصراع بين الأدبي والسياسي في شخصيته.

النص الكامل: 

 عند الكتابةعن الوجه الآخر، السياسي، لصاحب "المتشائل"، وهو وجه من الصعب فصله– في شخصية إميل حبيبي تحديداً – عن الوجه الأدبي، لا يمكن للباحث أو الناقد أن يقفز عن حقيقتين – قفز عنهما، في اعتقادي، عدد من الكتّاب والمثقفين الذين انتقدوا إميل على موافقة السياسية: الأُولى هي أن سيرة حياة إميل السياسية ارتبطت ارتباطاً عضوياً بمسيرة الحركة الشيوعية في فلسطين وما طرأ عليها من تحولات؛ والثانية هي أن إميل، الذي أوصى بأن تُكتب على شاهدة قبره "بقي في حيفا" كان واحداً من أفراد أقلية عربية فلسطينية بقيت فوق أرض وطنها، بعد قيام دولة إسرائيل، وواجهت أوضاعاً تختلف اختلافاً جذرياً عن الأوضاع التي واجهها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة أو في بلاد الشتات. وهذه المساهمة تسعى، مع أخذها هاتين الحقيقتين في الاعتبار، لمقاربة الوجه السياسي لإميل حبيبي من زاوية المواقف السياسية التي اتخذها في الأعوام الأخيرة من عمره، والتي أثارت سجالاً وردات فعل متناقضة في صفوف الكتّاب والمثقفين الفلسطينيين والعرب.

 حياة سياسية وحزبية حافلة

ينتمي إميل حبيبي إلى جيل المثقفين والسياسيين الفلسطينيين الذين ولدوا في مطلع عشرينات هذا القرن، بعد أن كانت بريطانيا قد احتلت فلسطين وفرضت الانتداب عليها وشرعت في تسهيل مهمة الحركة الصهيونية الهادفة إلى إقامة "وطن قومي"، أو بالأحرى دولة، لليهود في فلسطين، بالاستناد إلى تصريح بلفور. وقد اكتشف أبناء هذا الجيل السياسة، وأخذ وعيهم السياسي يتبلور بتأثير احداث ثورة 1936 – 1939، التي تميزت بكونها من أكثر الثورات والهبّات الفلسطينية وضوحاً في عدائها للاستعمار البريطاني ويشير إميل، في حديث مطول أدلى به إلى مجلة "الكرمل" سنة 1981، إلى أن هذه الثورة تركت فيه أثراً كبيراً، وساهمت في تكامل شعوره الوطني، وجعلته ينظر إلى الاستعمار باعتباره "أصل الداء"، وإلى الحركة الصهيونية بوصفها "أجيراً" للاستعمار. وعليه، لم يكن مصادفة أن ينضم إميل سنة 1940، وبعد فشل الثورة الفلسطينية الكبرى، إلى صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان يرتكز نضاله على الاستعمار البريطاني ويسعى لتوحيد الكادحين اليهود والعرب في هذا النضال. وقد تمسكت عصبة التحرر الوطني، شكّلها إميل مع رفاقه العرب بعد انسحابهم من الحزب الشيوعي الفلسطيني سنة 1943، بموقف العداء الحازم للاستعمار، وتمايزت سياستها عن سياسة القيادة "التقليدية" للحركة الوطنية الفلسطينية، بدعوتها إلى فصل السكان اليهود في فلسطين عن الحركة الصهيونية وتبني حل ديمقراطي لـ "العقدة" الفلسطينية، يراعي التغير السكاني الذي طرأ على بنية البلد عقب الحرب العالمية الثانية، ويضمن إنهاء الانتداب واستقلال فلسطين في ظل حكم ديمقراطي يتمتع جميع السكان فيه بالحقوق نفسها. وعندما لم يُكتب النجاح لمثل هذا الحل، وافقت قيادة عصبة التحرر الوطني – ومن ضمنها إميل – على قرار هيئة الأمم المتحدة لسنة 1947، الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين تجمع بينها وحدة اقتصادية، معتبرة أن ذلك القرار قد يحُول، على الرغم من "إجحافة"، دون تشريد الشعب الفلسطيني خارج أرض وطنه. وبعد أشهر من ذلك، نظرت قيادة العصبة إلى دخول الجيوش العربية إلى فلسطين باعتباره فصلاً من فصول "مؤامرة"، يشارك الاستعمار والحركة الصهيونية و "الرجعية العربية" فيها، وترمي إلى حرمان الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وإقامة دولته المستقلة في القسم العربي من فلسطين، وفقاً لقرار الأمم المتحدة، وكانت عصبة التحرر الوطني منذ سنة 1945 تحذٍّر من مخاطر تدخل جامعة الدول العربية في شؤون فلسطين الداخلية ومن "الوصاية" التي أخذت تفرضها على قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، التي حمّلتها العصبة، في ما بعد، قسطاً من المسؤولية عن النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني.

وكان إميل حبيبي قد نجح، قبل الخامس عشر من أيار/ مايو 1948، في الانتقال من مدينة رام الله، حيث كان يقيم، إلى مدينة حيفا، وذلك عبر الأردن ولبنان والجليل، وشرع يتكيف مع الواقع الجديد الناشئ، حيث ساهم مساهمة فعالة، في نهاية أيلول/ سبتمبر 1948، في التوصل إلى اتفاق قضى بانضمام أعضاء عصبة التحرر الوطني، الذين بقوا في المناطق التي شملتها حدود دولة إسرائيل، إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وذلك بهدف "إعادة بناء حزب شيوعي أممي موحد" يناضل، بالتعاون مع القوى "الديمقراطية" اليهودية، من أجل "إنشاء الدولة العربية في الحدود التي قررتها لها منظمة الأمم المتحدة"، وتثبيت "حق اللاجئين العرب في العودة إلى وطنهم"، ومقاومة "سياسة الضغط والتمييز العنصري التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية تجاه المواطنين العرب." وخلال مرحلة طويلة، امتدت من نهاية الأربعينيات إلى نهاية الثمانينات، تبوأ إميل حبيبي مواقع قيادية بارزة في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي؛ فكان عضواً في مكتبه السياسي، وبقي عشرين عاماً تقريباً واحداً من نوابه في الكنيست، كما أنه رأَس لأعوام عديدة هيئة تحرير صحيفته العربية "الاتحاد" التي شارك في إصدارها في مطلع أيار/ مايو 1944، ثم قام،في سنة 1983، بدور بارز في تحويلها إلى صحيفة يومية.

 الموقف من اتفاق أوسلو و"استقلالية" القرار الفلسطيني

من المواقف التي انتقُد إميل حبيبي بسببها، في سنوات عمره الأخيرة، دعمه اتفاق "إعلان المبادئ" الذي وقعته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مع الحكومة الإسرائيلية في واشنطن، في أيلول/ سبتمبر 1993، وتشديده على ضرورة احترام "استقلالية" القرار الفلسطيني. ومع أن إميل كان في ذلك التاريخ قد غادر صفوف حزبه، فإن موقفه من الاتفاق المذكور ومن موضوعة "الاستقلالية" لم يخرج، في الواقع، عن النهج "الواقعي" الذي تمسك الشيوعيون في إسرائيل به تجاه حل القضية الفلسطينية. فقد قام ذلك النهج تاريخياً على أساس النضال من أجل فك ارتباط إسرائيل بالقوى الاستعمارية الغربية، والذي جسده شعار "مع الشعوب العربية ضد الامبريالية وليس مع الامبريالية ضد الشعوب العربية "، والسعي لإقامة سلام حقيقي في المنطقة يضمن الاعتراف العربي بإسرائيل من جهة، ويضمن من جهة أُخرى اعتراف إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وبحق لاجئيه في العودة أو التعويض، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة. ومن منطلق تمسكه بمبدأ "الاعتراف المتبادل"، عارض الحزب الشيوعي الإسرائيلي، في مؤتمره الخامس عشر، في آب/أغسطس 1965، ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، مؤكداً أن فلسطين، في تطورها التاريخي، "أصبحت وطناً للشعبين اليهودي والعربي"، وأن المؤقف الداعي إلى تدمير إسرائيل "يجلب الضرر لقضية وحدة شعوب المنطقة في المعركة ضد الاستعمار ويقوي نفوذ المناصر الشوفينية والعسكرية في إسرائيل." ومنذ مطلع السبعينيات، بدأ تحول يطرأ على مواقف الحزب من منظمة التحرير في اتجاه النظر إلى فصائلها بوصفها "حركة قومية جماهيرية معادية للاستعمار تناضل ضد الاحتلال ومن أجل حقوق الشعب العربي الفلسطيني القومية." وفي مؤتمره السابع عشر، في حزيران/ يونيو 1972، طرح الحزب مشروعاً متكاملاً لإقامة السلام في المنطقة، دعا فيه إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 بجميع بنوده، وفي المقام الأول انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، بما "يخلق الظروف التي تتيح للشعب العربي الفلسطيني إمكانية البت في شكل ممارسة حقه في تقرير مصيره." واعتبر المشروع المذكور أن برنامج منظمة التحرير القائم على أساس "إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية ... مع إلغاء الدولة الإسرائيلية ذات السيادة ليس صحيحاً من حيث المبدأ، وهو يسهل الأمور على الأعداء المشتركين للشعب العربي الفلسطيني وشعب إسرائيل – الاستعمار وعملائه في إسرائيل وفي الدول العربية." ومنذ منتصف السبعينات ، صار الحزب يعتبر أن تقرير المصير للشعب الفلسطيني يمكن أن يتحقق عبر إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، بما فيها القدس العربية، وفي قطاع غزة، وينظر إلى منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، داعياً حكومة إسرائيل إلى التفاوض المباشر مع ممثلي الشعب الفلسطيني الشرعيين.

ومع أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي عارض، في بعض الأحيان، توجهات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كما حدث عند توقيع "اتفاق عمان" سنة 1985، منسجماً في ذلك مع مواقف الاتحاد السوفياتي ومواقف الشيوعيين الفلسطينيين، فإنه لم يحد قط عن موقفه الداعي إلى احترام "استقلالية" القرار الفلسطيني واستناداً إلى هذا الموقف بالذات، أعلن الحزب الشيوعي الإسرائيلي تأييده لاتفاق أوسلو، ورأى فيه خطوة تنسجم مع نهجه التاريخي القائم على ضمان الاعتراف المتبادل بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وقد تمهٍّد الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل.

وكما جرت الإشارة سابقاً، لم يخرج موقف إميل حبيبي من اتفاق "إعلان المبادئ" وموضوعة "الاستقلالية" عن السياسة العامة التي تبناها الشيوعيون في إسرائيل، والتي ساهم هو نفسه في صنعها حتى سنة 1989. غير أن ما يؤخذ على إميل، في اعتقادي، هو أنه قد بنى، في إطار تحوله السياسي والفكري بعد خروجه من الحزب، آمالاً كبيرة على ذلك الاتفاق، ولم يتنبه إلا قبل فترة قصيرة من رحيله إلى الألغام الكامنة فيه، علماً بأنه ظل يؤكد قناعته بأن البديل من اتفاق أوسلو هو أسوأ منه. ففي حوار أجراه مجدي حسنين معه في كانون الثاني/ يناير 1995، ونشرته صيحفة "الأهالي" القاهرية في 15 أيار/ مايو 1996، أكد إميل أن "ما يسمى باتفاق المبادئ في أوسلو بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية هو اتفاق مجحف جداً بحق الشعب العربي الفلسطيني، ولكن البديل في اعتقادي عن هذا الاتفاق أسوأ منه." وأضاف: "وما كان لهذا الاتفاق أن يتم لو لم تجرؤ القيادة الفلسطينية على قبوله؛ وأنا أعلم صراحة أن الحكومة الإسرائيلية استهدفت (مط) ومد هذه المفاوضات إلى عشر سنوات على الأقل دون الوصول إلى نتيجة، في ظل إعادة رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، وكان المخطط ألاّ يكون للشعب الفلسطيني مكان فيها. وبالموافقة على اتفاق أوسلو ضمنت القيادة الفلسطينية ولو موطئ قدم على هذه الخريطة التي يتم رسمها بأيد أميركية... لذلك أعتبر اتفاق غزة – أريحا أشبه بموطئ قدم، بوضع الرجل في الركاب، فإمّا أن ينجح الفارس في أن يمتطي صهوة الفرس وإمّا لا ينجح فيركض الفرس ويجرجره وراءه محطماً، وهذا الخطر لا يزال قائماً." وفي الحوار نفسه، إشار إميل إلى أن من حق القيادة الفلسطينية أن تستقل بقرارها، وأن على العرب "أن يحترموا إرادة الشعب الفلسطيني التي هي مثل إرادة كل شعب عربي في وطنه، قائمة على قدراته في المرحلة المعينة..." وهذه قدرات شعبنا الذي هو مثل بقية الشعوب لا يعتقد أن أولاده ولدوا لكي يستشهدوا."

ويبدو لي أن إميل، بتأثير تجربته التاريخية وهاجس "الوصاية" العربية الذي سكنه منذ النصف الثاني من الأربعينيات، قد غالى كثيراً في توجهه نحو "فلسطنة" القضية الفلسطينية وقفز، إلى حد ما، عن البعد القومي لهذه القضية، وهو بُعد نشأ مع نشوء القضية الفلسطينية، في مطلع العشرينات، وعمّقه التضامن الكفاحي الذي أبدته الشعوب العربية مع نضال أشقائها الفلسطينيين. صحيح أن الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية عانيا جرّاء "الوصاية" العربية وتدخلات بعض الأنظمة العربية، في مراحل معينة، إلا أن هذا لم يكن سوى جانب من مسألة متعددة الجوانب. وفي الأحوال كافة، ليست هذه "الوصاية" هي التي تتحمل – كما اعتقد إميل – المسؤولية المباشرة عما حل بالشعب الفلسطيني من مآس. ففي مقال نشرته مجلة "صوت الوطن" الفلسطينية التي كانت تصدر في قبرص، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1992، كتب إميل: "لولا (الوصاية العربية)، الأشبه بـ (حاميها حراميها)، لما أضاع الشعب العربي الفلسطيني - الخلوص والصبور – أية فرصة تاريخية. فلو تُركنا وشأننا، في عام النكبة، لاستطعنا تجاوز النكبة." وأضاف: "وتُعلّمني التجربة الطويلة أن هذه القضية هي قضية سياسية تعود إلى (الخطيئة الأُولى) العربية بفرض (الوصاية العربية) على قضية الشعب العربي الفلسطيني القومية، من دون أي شعب عربي آخر، ولا حتى على الصومال وموريتانيا والصحراء الغربية. لقد أدت هذه (الوصاية العربية) إلى تجاهل المميزات الخاصة، التي تميّز القضية القومية الفلسطينية عن غيرها من القضايا القومية في البلدان العربية، من جهة، وإلى تعامل المجتمعات العربية مع قضيتنا الفلسطينية تعاملاً منطلقاً من مصالح صراعاتها الداخلية وليس من منطلق أنها قضية قائمة بذاتها ولها مقوماتها الخاصة التي تميّزها عن قضايا غيرها من الشعوب العربية."

 الموقف من مسألة "التطبيع الثقافي"

 كان الانتقاد الأشد الذي وجهه عدد من الكتّاب والمثقفين الفلسطينيين والعرب إلى إميل حبيبي هو أنه يدعو إلى "التطبيع الثقافي" مع إسرائيل. وكان صاحب "المتشائل" قد أثار ضجة واسعة عندما وافق، في ربيع سنة 1992، على قبول "جائزة الإبداع" التي منحتها حكومة يتسحاق شمير له. وعلى الرغم من هذه الضجة، تسلم إميل الجائزة في احتفال رسمي، ثم تبرع بقيمتها المادية إلى جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني التي كانت تشرف على معالجة جرحى الانتفاضة.

وقبل عرض موقف إميل حبيبي من هذه المسألة، أجد من الملائم التوقف عند ملاحظتين الأُولى تتعلق بمفهوم "التطبيع الثقافي" نفسه، وهو، في اعتقادي، مفهوم ملتبس، مثله مثل مفهوم "الغزو الثقافي"، ثارت وتثور حوله ضجة كبيرة لا مبرر لها؛ أولاً لأن الأزمة التي يعيشها الوطن العربي إزاء مشروع التسوية – وكما يقول عن حق السيد محمد حسن الأمين – ليست أزمة ثقافية، بل هي أزمة سياسية – اقتصادية، والتطبيع هو تالياً تطبيع سياسي – اقتصادي؛ وثانياً، لأن الثقافة العربية تمتلك، في اعتقادي، وشريطة أن يتخلى المثقفون العرب عن "عقدة الخوف"، من عناصر القوة ما يجعلها قادرة على الاستمرار في مواجهة الصهيونية ومقولاتها العنصرية؛ وثالثاً، لأن التفاعل الثقافي، بمضامينه الإنسانية، هو اليوم سمة من سمات هذا العصر. أمّا الملاحظة الثانية، فهي تتعلق بما سبق أن أشرت إليه من خصوصية تتمتع الأقلية العربية الفلسطينية بها، وهي الأقلية التي بقيت في وطنها بعد قيام دولة إسرائيل، وواجهت أوضاعاً مختلفة جذرياً عن أوضاع باقي الشعب العربي الفلسطيني.

فقد فرضت الأوضاع على أبناء هذه الأقلية أن يناضلوا من أجل التمتع بحق المواطنة الكاملة في دولة إسرائيل. وفي مطلع الخمسينات، دارت معركة حامية، بقيادة الشيوعيين، كي يحصل كل المواطنين العرب الذين بقوا في إسرائيل على الحق في الجنسية الإسرائيلية، وذلك رداً على القيود العديدة التي فرضتها الحكومة الإسرائيلية على حق العرب في اكتساب الجنسية. ففي حين نص "قانون العودة"، لسنة 1950، على حق كل يهودي في الحصول على الجنسية الإسرائيلية بمجرد وصوله إلى البلد، استثنى "قانون الجنسية" آلاف المواطنين العرب الذين لم يكن لهم قيود عند تسجيل السكان سنة 1949، لكونهم اضطُّروا إلى تغيير أماكن إقامتهم خلال حرب فلسطين. ومن جهة أُخرى، كان على أبناء هذه الأقلية، في مواجهة مقولات صهيونية عنصرية تزعم أن هذه الأقلية لا تتمتع "بأية سمة خاصة" وتفتقر إلى "الملامح القومية"، أن يؤكدوا أصالتهم القومية وأن يثبتوا قدرتهم على إنتاج ثقافة حية وغنية تشكل جدولاً في نهر الثقافة العربية، وتفرض نفسها على "الآخر"، الذي ذهب في مواقفه العنصرية إلى حد اقتراح نشوء "إنتاج عربي" قصصي وشعري وفكري، باللغة العبرية" (اقتراح إلياهو أغاسي، أحد زعماء الدائرة العربية في الهستدروت، في أيار/ مايو 1956). وفي هذه المعركة بالذات، من أجل إعلاء شأن العربية وفرض احترام اللغة العربية والتراث والتاريخ العربيين، برزت المساهمات التي قدمها إميل حبيبي في ميدان الراوية، وقدمها رفاقه الآخرون في ميادين الشعر والقصة والتاريخ.

وكان إميل قد رأى في هذه السياسة الصهيونية العنصرية عاملاً من العوامل التي دفعته إلى التركيز، في إبداعاته، على قضية اللغة العربية، حيث تطرق، في حوار أجرته معه مجلة "الكاتب" المقدسية في كانون الثاني/ يناير 1988، إلى سياسة الأوساط الحاكمة في إسرائيل الرامية إلى "تجاهل تراثنا ووجود تراث عريق لنا، والقضاء على معالم هذه التراث في جميع مناحي الحياة"، مستشهداً، في هذا السياق، بكلمة ألقاها في مطلع السبعينات وزير المعارف يغآل ألون وقال فيها: "لو كان موجوداً في هذه البلاد شعب فلسطيني لكان خلّف وراءه تراثاً، فأين هو تراث الشعب الفلسطيني؟". يتابع إميل، في الحوار نفسه: "صحيح في ما بعد أقمنا ضجة حيال هذا الكلام العنصري الوقح، الصادر عن جهل مطبق بالمكتسبات الإنسانية، مما اضطر ألون إلى الاعتذار عن هذا الكلام، ولكن هذا الانطباع المدبر بقي قائماً واستمر بأشكال مختلفة، والهدف هو القضاء على الوجود العربي الفلسطيني في هذه البلاد وفرض المقولة الصهيونية الشهيرة عن شعب بلا وطن يعود إلى بلاد بدون شعب... وكان علينا أن تنصدى لهذا النهج في كل المجالات."

ويبدو أن إميل حبيبي قد أراد بقبوله "جائزة الإبداع" الإسرائيلية أن يكرس الاعتراف الإسرائيلي الرسمي بالإنتاج الثقافي العربي الفلسطيني، وأن يبيّن أن الفلسطينيين ليسوا كـ "الحطب المشلَّخ" لا جذور لهم ولا تراث يستندون إليه. صحيح إني شخصياً تمنيت في حينه أن يرفض إميل تلك الجائزة، وذلك حتى لا يُشكل قبوله بها تغطية على ممارسات حكومة شمير في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا إنني أرى أن صاحب "المتشائل" قد ظُلم كثيراً عندما سارع البعض، من أصحاب الصيحات الانفعالية، إلى اتهامه بـ "السقوط". وبعد رحيل إميل، توقفت أمام مقال للناقد المصري فاروق عبد القادر، نشره في الملحق الثقافي لصحيفة "السفير" البيروتية في 17 أيار/ مايو 1996، وأعاد فيه التذكير بما كان قد كتبه في مجلة "روز اليوسف" سنة 1991، تعقيباً على قبول إميل بالجائزة، حيث كتب: "بأي وجه نطلب منه أن يرفض جائزة تمنحها له الدولة التي يعيش داخل حدودها، وقضى عشرين عاماً نائباً معارضاً في مجلسها النيابي، ويحمل وثائقها ويتعامل بعملتها ويدفع لها الضريبة؟ ألأن يدي شمير ملوثتان بدماء الفلسطينيين؟ ولكن من يجهل أن كل قادة إسرائيل ونخبتها الحاكمة، منذ قامت وحتى تباد، أيديهم ملوثة بدماء الفلسطينيين والمصريين واللبنانيين والسوريين وسواهم؟". فهل وضع عبد القادر القضية في سياقها الصحيح؟

مهما يكن ، وبغض النظر عن هذا الجانب من جوانب "التطبيع الثقافي" ما هي حقيقة موقف إميل حبيبي من هذا المفهوم الملتبس؟

ففي مقاله المنشور في مجلة "صوت الوطن"، والذي سبقت الإشارة إليه، أشار إميل إلى أنه، إذ يعتز بالتراث الحضاري الثقافي العربي، يرفض "الانطواء على الذات بحجة الدفاع عن ثقافتنا من (الغزو الاستعماري الثقافي) أو من (الغزو الصهيوني الثقافي)." وأضاف: "فما شأن الاستعمار والثقافة، وما شأن المفاهيم العنصرية والثقافة؟ حتى ولو كان أصحاب هذا الرأي مخلصين في ظنونهم فإنهم يستهينون بشأن أهل الثقافة العرب وبتراثهم النيّر وبقدراتنا على أن نكون أنداداً لغيرنا." وفي المقال نفسه، أكد أنه سيواصل السعي من أجل تعزيز العلاقات مع المثقفين "الديمقراطيين" اليهود الإسرائيليين، وكتب: "ولسنا أغنياء حتى نُفرط بأي صوت يرتفع في التضامن مع قضيتنا العادلة، وعلى رأس هذا الصوت صوت الديمقراطيين اليهود الإسرائيليين وفي مقدمتهم زملاؤنا من أهل الثقافة أعداء الاحتلال الإسرائيلي وأنصار حق شعبنا في تقرير المصير على أرضه. ومثلما ظهر مثقفون أعداء للاحتلال، لدى الشعوب التي مارست الاحتلال في التاريخ، ظهر ويظهر مثقفون إسرائيليون تعاونّا وسنتعاون معهم على القضية المشتركة: السلام العادل والتعايش السلمي، وهم يعتزون بما أقمناه من أواصر الصداقة والتعاون في ما بيننا، ونحن نعتز بها وبهم، ونود أن يتعرفوا على منجزات أهل الثقافة العرب ليتأكدوا من أننا نحن المثقفين الفلسطينيين – كما شعبنا –(لسنا من ضيعة قليلة)." فهل اختلف هذا الموقف، الذي عبّر إميل عنه سنة 1992، عن المواقف التي تبناها منذ أن انتسب إلى صفوف الحركة الشيوعية ووضع في مركز أهدافه النضال من أجل "سلام حقيقي" يقوم على "الاعتراف المتبادل"؟

هذا، وتجدر الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي اشتهر بوقوفه الحازم ضد الأيديولوجيا الصهيونية، كان قد سعى، ولا سيما بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 1982 وبروز حركة "السلام الآن" في إسرائيل، لتوسيع دائرة علاقاته بحيث تشمل قوى صهيونية مستعدة للنضال معه من أجل إقامة سلام عادل وشامل في المنطقة يقوم على انسحاب إسرائيل من المناطق العربية والفلسطينية التي احتلتها في حزيران/ يونيو 1967 وإحقاق الحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، ولا سيما حقه في إقامة دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وفي حديث إلى مندوب "الأهالي"، في كانون الثاني/ يناير 1995، أكد إميل، بعد أن حذر من مخاطر التطبيع الاقتصادي والدبلوماسي الذي يجريه بعض الأنظمة العربية مع إسرائيل قبل التوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية، أكد أن قضية "التطبيع الثقافي" لا تشغله أبداً، وأنه لم يطلب "في يوم من الأيام تطبيعاً ثقافياً مع إسرائيل"، وأن النقاش كان يدور "حول الحوار مع الإسرائيليين الذين لهم نفس مواقفنا ويعلنون تضامنهم مع الشعب العربي الفلسطيني ويقفون ضد الاحتلال وضد حكوماتهم." وأشار إلى أنه قاطع، مع عدد من زملائه، الاحتفال الذي دعا رئيس دولة إسرائيل، عيزر وايزمن، إليه بمناسبة مرور عام على اتفاق أوسلو، وذلك لأن "النظام الإسرائيلي لا يستحق أي تعاطف ثقافي أو غيرثقافي." وأضاف إميل: "فنحن لا تشغلنا بالمرة قضية التطبيع، يشغلنا موقف العديد من المثقفين العرب ضد النهج الذي سرنا عليه، وهو ما أسميه المصالحة التاريخية... وحينما تحرجهم يقولون لك بصراحة: نحن غير موافقين على التسوية السلمية، بعضهم يعيشون في أحلام الماضي ويصرون على أنه من حق المثقف أن يعيش فوق الضباب وأن يبتعد عن وقائع الحياة وأن تظل يداه نقيتين. أمّا نحن فأيدينا وأرجلنا ووجوهنا تتلطخ في هذه المستنقعات... برنامج علاقاتنا الثقافية في داخل إسرائيل قائم على التضامن مع الشعب الفلسطيني والالتزام بكل حقوقه، وبالطبع ليس الأمر أمر خوف من الثقافة الإسرائيلية. فنحن نعيش منعزلين داخل إسرائيل، حوالي نصف قرن، ولم تستطع أية موبقة غربية أو إسرائيلية أن تؤثر علينا وعلى تقاليدنا، بل على العكس أرى تحدياتنا ومواجهتنا لهذه الثقافة جعلتنا على مستوى لا بأس به بالمقارنة مع المجتمعات العربية."

 الصراع بين الأدبي والسياسي

 في شخصيته

في سنة 1968، كان إميل في السابعة والأربعين من العمر عندما صدرت روايته الأولى "سداسية الأيام الستة"، فأثارت اهتمام الأدباء والنقاد العرب الذي اكتشفوا في صاحبها روائياً من الطراز الأول، صار يُنظر إليه باعتباره واحداً من المعبرين عن ظاهرة أدبية أُطلق عليها اسم "أدب المقاومة الفلسطينية".

وكان إميل، في الواقع، قد تعاطى الأدب وأحبه منذ أيام الدراسة،بل كان الأدب، كما يعترف، هو طريقة إلى السياسة ، حيث تعرف خلال عمله في شركة تكرير البترول في حيفا، في نهاية الثلاثينات، إلى شيوعي من عكا كان يعمل قائد قاطرة، فاكتشف هذا الأخير ميوله الأدبية، وشجعه على كتابه القصص، ووعده بتسهيل نشرها؛ وبذلك وجد نفسه يندفع على طريق العمل السياسي وينضم، في سنة 1940، إلى صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني. وفي سنة 1943، وبعد أن كان إميل قد انتقل إلى العمل مذيعاً في محطة إذاعة القدس، فرض عليه رفاقه أن يترك العمل الإذاعي كي يتفرغ للعمل السياسي في صفوف عصبة التحرر الوطني، فصارت السياسة حرفته منذ ذلك الحين. غير أن اهتماماته السياسية لم تمنعه من الاستمرار في تعاطي الأدب، حيث نشر، قبل سنة 1948، عدداً من القصص في صحيفة "الاتحاد"، وفي مجلة "الغد" التي كانت تصدرها رابطة المثقفين العرب في فلسطين. كما نشر قصصاً أُخرى في مجلة اسمها "المهماز" شارك في ملكيتها وصدرت سنة 1946، إضافة إلى قصة نشرها في مجلة "الطريق" اللبنانية.

ومنذ مطلع الخمسينيات، اشتهر إميل بكونه قائداً ثورياً وكاتباً وصحافياً سياسياً، وذلك إلى أن قرر، في أواسط الستينات، وبعد خروج حزبه سالماً من أزمة داخلية شهدها، أن يتخفف من مسؤولياته في ميدان العمل الحزبي وأن يعود إلى "حبه الأول"، فكانت "السداسية"، التي كتب إميل في مقدمتها: "إني أحترف السياسة وأتذوق الأدب فأسند الواحد بالآخر، وأكتب القصة في أوقات متباعدة حين يضيق صدري عن آهة لا يقوى صدري على حبسها." وشيئاً فشيئاً، صار إميل يشعر بأن عليه أن يتفرغ كلياً للعمل الأدبي، ولا سيما بعد أن ظهرت روايته الثانية "الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" سنة 1974، واعتُبرت "عملاً نادر التحقق وأفقاً جديداً للرواية العربية." ويبدو أن اكتشاف صاحب "المتشائل" للإمكانات الأدبية التي يتمتع بها، بعد الصدى الواسع الذي تركه عمله الروائي الثاني، قد جعله يشعر بأن عليه أن يتخلى عن "حمل بطيختين في يد واحدة"، الانهماك بالسياسة والانهماك بالأدب، وأن يختار نهائياً، ما سبق أن اختاره سواه، بدلاً من العمل السياسي اليومي.

وقد توصل إميل آنذاك إلى حل وسط مع رفاقه في قيادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، إذ قبل فكرة السفر إلى براغ ليمثل حزبه في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية"، ويتفرغ أكثر لعمله الأدبي، وأمضى فعلاً أعواماً عديدة في العاصمة التشيكية، أنجز خلالها عمله الثالث، وهو مسرحية "لكع بن لكع". غير أن خوفه من اتهامه بأنه "هارب" من السياسة إلى الأدب دفعة، كما يذكر في حواره مع محمود درويش والياس خوري المنشور في العدد الأول من مجلة "الكرمل" سنة 1981، إلى العودةإلى البلد لمواصلة نشاطه السياسي في إطار المكتب السياسي لحزبه وفي رئاسة تحرير صحيفة "الاتحاد".

وبقي إميل حبيبي يشغل مواقعه الحزبية إلى أن تفجر الخلاف بينه وبين رفاقه في قيادة الحزب بشأن الموقف من سياسة البريسترويكا والغلاسنوست التي أطلقها ميخائيل غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي؛ ففي حين اتخذ إميل موقف الدعم المطلق لهذه السياسة، تبنى رفاقه موقفاً متحفظاً يشوبه الشك تجاهها. وفي مطلع آذار/ مارس 1989، تبنى المكتب السياسي للحزب الشيوعي الإسرائيلي قراراً بإبعاد إميل عن رئاسة تحرير صحفية "الاتحاد"، رد عليه هذا الأخير بقيامه في 8 أيار/ مايو من السنة نفسها، بتقديم استقالته من جميع مناصبه القيادية إلى اجتماع اللجنة المركزية للحزب. ومنذ ذلك الحين، صارت الهوة تتعمق بين إميل ورفاقه، ولا سيما بعد أن رفضت قيادة حزبه نشر المقالات "السجالية" التي كان يكتبها في صحافة الحزب الرسمية، وذلك إلى أن تكسرت جميع الجسور بينه وبين هذه القيادة، في 19 آب/ أغسطس 1991، عندما اتهم إميل رفاقه بالوقوف إلى جانب الانقلاب الذي وقع في ذلك اليوم في موسكو لإطاحة غورباتشوف، وسارع إلى إعلان خروجه النهائي من صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي.

وما أن هجر صاحب "المتشائل" العمل الحزبي بصورة نهائية حتى راح يراجع مواقفه السابقة من علاقة الثقافة بالسياسة ومن علاقة المثقف بالحزب، مؤكداً، في أحد مقالاته التي نشرها في كتاب: "نحو عالم بلا أقفاص، الصادر سنة 1993، أنه قد ثُبت له "أن العيش في حضن الطبيعة أكثر ملاءمة للإنسان والحضارة الإنسانية من كل الأقفاص الموجودة في العالم"، وأن التجربة الديمقراطية وحرية الفرد؛ والثاني، أنه من الأنسب ازدياد عدد أصحاب الضمير ومبدعي القيم الإنسانية السامية الذين يختارون البقاء مستقلين وأحراراً من قيود جميع الأقفاص." ووصلت مراجعة إميل النقدية لعلاقة الثقافة والسياسة والمثقف والحزب إلى حد دعوة جميع المبدعين والمثقفين إلى رفض الانضمام إلى أي إطار سياسي حزبي، وذلك كي يتخلصوا نهائياً من المعاناة في "ممارسة فعل الحرية ومن ممارسة فعل الإبداع"، وحتى لا تظل "الميكيافيليه السياسية"، على حد تعبيره، تثقل ضمائرهم. وفي هذا الصدد، كتب: "لقد علمتني تجربة حياتي، وهي تجربة ليست بالقليلة، أن مصيبتنا الكبرى هي في اضطرارنا للتخلي عن المهمة التي خلقنا من أجلها – مهمة الحفاظ على نقاوة الضمير الشخصي والقومي، وتبرير انشغالنا بالسياسة الحزبية بأن (الباذنجان يوفّر للفقراء لحم الفقراء). إنني بعد هذه التجربة المريرة أنصح زملائي المبدعين برفض الانتساب إلى أي قفص حزبي.ليس لنا من حق الوجود، بصفة كوننا مبدعين، سوى إنقاذ الضمير الشعبي من التلوث الميكيافيلي الذاتي... فليس من المجدي، في ملتي واعتقادي أن نشن معركة الحرية والديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي الآخر من موقع الإقعاء في القفص – أي قفص." وتذكر الأدبية الفلسطينية ليانة بدر، في شهادة أدلت بها لمراسل مجلة "الوسط" اللندنية، أن صاحب "المتشائل" رد على سؤال، وجهته إليه قبل عشرين يوماً من رحيله، عما يريد أن يصنع بحياته لو استطاع عيشها من جديد، بقوله: "من المؤسف أن المرء لا يستطيع معرفة ما يريده من الحياة إلا بعد فوات الأوان"، مؤكداً أنه "كان يتمنى لو أنه وهب حياته كلها للأدب والكتابة."

وهنا أيضاً أجد أن إميل ذهب بعيداً، وأري أن وضعه المثقف أو الأديب في تعارض صارخ مع المؤسسة الحزبية كان تعبيراً عن "ردة فعل". صحيح أن صاحب "المتشائل" لم يمثّل في موقفه هذا حالة خاصة، ولا سيما بعد أن تصاعدت بين صفوف المثقفين العرب في الأعوام الأخيرة الدعوات إلى هجر السياسة وإقامة سد منيع يفصلها عن الثقافة وإلى الانفكاك عن المؤسسة الحزبية، حيث يرى أصحاب هذه الدعوات أن الثقافة العربية خانت نفسها عندما ارتضت أن تكون "مقطورة إلى عجلة سياسة نفعة ومتقلبة، وسياسيين قساة وجهلة"، على حد تعبير أحدهم. طبعاً من الصعب على "العارف" أن ينكر أن أساليب تعامل الحزب مع المثقفين كانت خاطئة عموماً، وأنه قد جرت الاستهانة بدور المثقف ووضعه، غالباً، في غير مكانه؛ لكن هل يشكل ذلك كله مبرراً كي يهجر المثقف العربي النقدي السياسة وينفك عن الحزب، باعتباره أداة لممارستها؟ ثم ما الذي يؤكد أن إميل بالذات كان قد أبدع ما أبدع، في المجال الأدبي، لو لم يستند إلى تجربة سياسية وحزبية حافلة كتلك التي راكمها؟ أَوَلم تكن كتابته الأدبية، كما ذكر أحد النقاد، المعادل الموضوعي للنضال السياسي الذي خاضه على رأس حزبه؟

 الرهان على البريسترويكا وخيبة الأمل

في الواقع، لقد ارتبطت "ردة فعل" إميل هذه تجاه العمل الحزبي ارتباطاً وثيقاً بالخيبة التي شعر بها بعد سقوط رهانه على البريسترويكا، وتداعي أمله في وصول رياحها إلى حزبه.

"لقد وجدت ثورة غورباتشوف الفكرية – السياسية حلاً للعقدة الأخلاقية التي سكنتني باطنياً طول حياتي الواعية وأصابتني بداء تأنيب الضمير فأُسكته بالالتجاء إلى الإبداع الأدبي، أعني قوله إنه (آن الأوان لإنهاء البون الشاسع الذي يفصل السياسة عن الأخلاق)"؛ "لم أخف لما يجري في الاتحاد السوفياتي وفي كل حركتنا الشيوعية؛ شعرت كما لو أنني ولدت من جديد مع ميلاد حركتنا السامية، سياسياً وأخلاقياً، من جديد." ... بهذه الكلمات الصريحة، المأخوذة من مقالاته المنشورة في كتاب: "نحو عالم بلا أقفاص"، عبَّر إميل عن التأثير الكبير الذي تركته سياسة البريسترويكا في تفكيره وسيرته الحزبية، إلى درجة أنه ربط مصيره الشخصي – وكما يذكر – بانتصار هذه السياسة. وكان صاحب "المتشائل" قد تعرّف إلى البريسترويكا خلال زيارة قام بها إلى موسكو في أيار/ مايو 1987، لتمثيل حزبه في احتفالات الذكرى السبعين لصدور صحيفة "برافدا"، وشعر منذ ذلك الحين بأن "ثورة" غورباتشوف جاءت لتخرج الحركة الشيوعية العالمية من "الأزمة" التي تعانيها ومن "التشوه الستاليني" الذي أصاب أحزابها. أمّا مظاهر هذه "الأزمة"، فقد كانت تتجلى، في نظره، في "الجمود الفكري" الذي نشأ عن "كبت كل تفكير جديد وكل محاولة للإبداع الفكري والتنظيمي"، وفي تجاهل الهدف الأسمى للشيوعية وهو "حرية الإنسان"، وفي رضوخ الحركة الشيوعية لحاله "انقسام العالم إلى معسكرين متصارعين"، وسيادة القناعة في صفوفها بأن المنجزات الاجتماعية الأساسيةلا يمكن أن تتحقق إلا بوصول الشيوعيين إلى الحكم، وهو الأمر الذي جعل أحزاب هذه الحركة تنظر إلى أي منجز يتحقق، من هذه المنجزات، باعتباره "مزيّفاً"، أو "جزرة" أو "مؤامرة لها ما وراءها". واعتبر إميل أن "المصدر الأساسي" لهذه "الأزمة يتمثل في "الحزب من نوع جديد"، الذي ظهر منذ سنة 1903 وقام على "المركزية الديمقراطية" و "وحدانية الفكر"، وحوّل الحركة الشيوعية إلى "ثكنات عسكرية" تحرّم المبادرة الشخصية و "تقطف رأس كل من يرغب في استعمال ما هو موجود في رأسه."

وانطلاقاً من اعتقاده أن البريسترويكا ستترك تأثيرها في جميع الأحزاب الشيوعية في العالم، وأنه لن يكون في وسع أي حزب الاحتماء وراء "الاستقلالية" والقول إن ما يحدث في موسكو لا يعنيه، سعى إميل لإيصال رياح هذه "الثورة" إلى حزبه، وصار يطرح، قبل استقالته من هيئات الحزب القيادية وبعد استقالته منها، عدداً من الأفكار "التجديدية" و "الإصلاحية"، في مجالات الفكر والسياسة والتنظيم. ففي تعليقه على مشروع "دستور" الحزب الشيوعي الإسرائيلي،الذي نشرته "الاتحاد" في 28 شباط/ فبراير 1990 في سياق حملة التحضير للمؤتمر، شدّد إميل على ضرورة أن يكون الحزب "ديمقراطياً حتى العظم في حياته الداخلية وفي تعامله مع محيطه"، وأن يقوم على أساس "حوار التعددية في المواقف، في إطار أن القرار هو للأكثرية، واحترام رأي الأقلية وفتح المنابر الحزبية أمامها للتعبير عن مواقفها." كما دعا إلى إعادة النظر في مهمات السكرتير العام للحزب، بحيث يصبح "من الممكن إجراء التناوب، ومن الأفضل كل سنتين، على هذا المنصب التنظيمي الداخلي." وبشأن منابع الحزب الفكرية، رأي إميل أن يكتفي الحزب بالاستناد إلى الجدلية الماركسية "التي لا تنغلق على مفاهيم العدالة والمساواة التي ظهرت ما قبل وفي أثناء وما بعد منجزات الفكر الماركسي،وذلك حتى لا يتحول الحزب إلى ما يشبه (الزاوية الدينية)"، مؤكداً أهمية أن يتحلى الحزب بـ "التسامح" تجاه الرأي الآخر، وأن يعود إلى نقطة البداية، أي إلى قول فولتير الشهير: "إنني لا أوافق على رأيك ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في إبدائه." أمّا في ما يتعلق بأهداف الحزب، فقد اقترح إميل ألاّ يضع الحزب "إقامة نظام اشتراكي" هدفاً له بل أن يؤكد سعيه من أجل "تحقيق الحرية المتنامية دوماً، مادياً وروحياً، للإنسان" عن طريق "إقامة اشتراكية ديمقراطية وإنسانية"، معتبراً أن الاشتراكية لا تمثل هدفاً في حد ذاتها وإنما هي وسيلة، وأن تحويل الاشتراكية إلى هدف هو الذي استتبع تحويل الحزب إلى هدف، بل إلى "أسمى هدف".

وفي رهانه على البريسترويكا، ذهب إميل بعيداً كذلك حين تبنى جميع مقولات "التفكير السياسي الجديد" عن "الانفجار الديمقراطي الكبير"، الذي يشهده العالم، وعن دخول الإنسانية مرحلة جديدة نوعياً "تتضاءل فيها الحاجة إلى الثورة باعتبارها أداة التغيير الجذري الحتمية"، وعن ولادة "نظام عالمي جديد" سيخلف نظام الحرب الباردة الذي جرّ على الشعوب "المآسي والويلات". ولأن الرهان الذي بناه على البريسترويكا كان كبيراً، جاءت خبية أمله كبيرة أيضاً عندما انهارت المحاولة الإصلاحية التي قام غورباتشوف بها، فسارع، بعد أن اتهم رفاقه بالوقوف ضد هذه المحاولة وتأييد أعدائها، إلى إعلان خروجه النهائي من "قفص" الحزبية. وعند تحليله لأسباب فشل البريسترويكا، حمّل إميل الحزب الشيوعي السوفياتي المسؤولية الرئيسية عن ذلك، وذلك بسبب "إصراره على أقانيم (الحزب من نوع جديد)"، حيث كتب: "لقد كانت حركة غورباتشوف، في الواقع، أملنا الأخير في إنقاذ حركتنا العظيمة من الاضمحلال، ولكننا لم نعلم إلا متأخرين أن الحزب الشيوعي السوفياتي كانت أمواج التطور قد قذفته على صخور الشاطئ حوتاً ميتاً، [وذلك] بعد أن استشرى في جسمه صدأ الزمن حتى أصبح عاجزاً عن تجديد نفسه."

وبهجره العمل الحزبي، اعتبر صاحب "المتشائل" أنه قد رجع إلى "ينابيع صباه" التي أوصلته إلى الشيوعية، إلى "العدالة"، في كل مجالات العدالة"، مؤكداً عزمه على مواصلة السعي من أجل "إعادة الأمل بالاشتراكية الديمقراطية"، من منطلق أن "النضال من أجل التقدم الإنساني والعدل الاجتماعي لم يبدأ بظهور الحركة الشيوعية ولن ينتهي بانتهائها."

وختاماً، كنت أتمنى لو أتيحت لي فرصة الاطلاع، بصورة أفضل، على ما كتبه إميل حبيبي في العامين الأخيرين لأتبيّن ما الذي بقي ثابتاً وما الذي تحول في أفكاره الجرئية، والمثيرة للجدل، التي قمت بعرضها في هذه المساهمة، ولا سيما بعد أن توضحت أمور كثيرة وتطبّعت علاقاته برفاقه السابقين. ومهما يكن، فإن الثابت بالنسبة إلىّ هو أن صاحب "المتشائل"، الذي التقيته مرات عديدة وتعرفت إليه عن قرب، كان وطنياً مخلصاً لقضية شعبه وإنساناً صادقاً في دعوته إلى السلام الحقيقي العادل.

 مراجع

استندت في هذه المادة، إضافة إلى وثائق مؤتمرات الحزب الشيوعي الإسرائيلي، إلى:

  • إميل حبيبي، "نحو عالم بلا أقفاص، رسائل ومقالات فكرية" (حيفا: مكتبة كل شيء، 1993).
  • إميل حبيبي، "خبرة حزبنا الغنية وباهظة التكاليف ذخيرة لا يمكن الاستغناء عنها"، "الاتحاد"، حيفا، 7/12/1979، ص 7؛ 14/12/1979، ص 7.
  • إميل حبيبي، "نحن روح الأمة وحقها المطلق"، "صوت الوطن"، نيقوسيا، العدد 39، 15/11 – 15/12/1992، ص 37 –
  • إميل حبيبي، "أنا هو الطفل القتيل" (حوار أجراه محمود درويش والياس خوري)، "الكرمل"، بيروت، العدد الأول، شتاء 1981، ص 180 –
  • "حوار مع الكاتب الكبير إميل حبيبي"، "الكاتب"، القدس، العدد 93، كانون الثاني/ يناير 1988، ص 53 –
  • "إميل حبيبي قبل الرحيل ازداد تشاؤلاً" (حوار أجراه مجدي حسنين)، "الأهالي"، القاهرة، 15/5/1996، ص 15.
  • فاروق عبد القادر، "إميل حبيبي عاشق كل حجر في أرض فلسطين"، "السفير"، بيروت، 17/5/1996 (الملحق الثقافي).
  • "كاتبات وكتّاب يودعون الأديب الفلسطيني الكبير"، "الوسط"، لندن، العدد 224، 12 – 19/5/1996، ص 50 –
  • إميل توما، "طريق الجماهير العربية الكفاحي في إسرائيل" (عكا: منشورات دار "أبو سلمي"، 1982).
  • "مثقفون لبنانيون وعرب يطرحون آراءهم في مسألة التطبيع الثقافي"، "السفير"، 17/5/1996 (الملحق الثقافي).
السيرة الشخصية: 

ماهر الشريف :كاتب فلسطيني مقيم في سورية.