الشريف. "البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908-1993" (بالعربية)
النص الكامل: 

يشغل مؤلف هذا الكتاب مكانة ملحوظة بين الباحثين في الشأن السياسي الفلسطيني والناشطين في حقله؛ فهو كاتب له مساهمات متميزة، وممارس للسياسة احتلّ موقعاً قيادياً في الحزب الشيوعي الفلطسيني، واحتفظ بهذا الموقع بعد تخلي الحزب عن اسمه وحمله اسم حزب الشعب. أشير إلى هذه الممارسة لأنها تفسر ظاهرة تخصيص المؤلف ثلاثة من أربعة كتب له قبل هذا الكتاب لتناول مسائل متصلة بمواقف الشيوعيين وفكرهم، ولأنها تفسر أيضاً التوفيق الذي حالفه في تناوله هذه المسائل.

 في الكتب الثلاثة المشار إليها، وفي كتاب رابع مخصص لمعالجة مسائل التطور الاقتصادي والاجتماعي في فلسطين، بدا أن ماهر الشريف يفلح في حقله بداية؛ كان ذلك حقلاً يعرفه المؤلف، وقد استخدم في تقليبه لتربته أداة كان يثق في فعاليتها، هي المنهج الماركسي – اللينيني في التحليل الذي كان، ولا يزال، يؤمن به، فجاء بما هو جديد ومفيد. فأي جديد جاء به بعد تجاوزه حدود الدائرة التي تخصص بها، وهل قدّم في كتابه الجديد ما يمكن أن يكون مفيداً، ولا سيما أنه أهمل الأداة السابقة؟

 يتوخى المؤلف في كتابه الجديد، كما يذكر في المقدمة، متابعة تطور الفكر السياسي الفلسطيني بمختلف تياراته، وكيف تعامل هذا الفكر مع موضوعة الكيانية الفلسطينية، وذلك في المراحل الكثيرة المتعاقبة على امتداد القرن العشرين. ويفترض المؤلف أن الوعي الكياني الفلسطيني عانى عبر مراحل تطوره جميعها قصوراً واضحاً، لكنه لا يحدد طبيعة هذا القصور، وبالكاد يدل عليه حين يذكر سببه. فهو، عنده، قصور ناجم "عن خصوصية القضية الفلسطينية وتداخلاتها وعن الاختلال الكبير في موازين القوى بين الطرفين الرئيسيين المتصارعين حولها على الأرض الفلسطينية." (ص 14). ويؤكد المؤلف في المقدمة أن كتابه لم يكشف وثائق جديدة غير معروفة سلفاً، ولم يدخل أية إضافات على المستوى المرجعي، "بل استند [فقط] إلى مادة حافلة وغنية كانت تراكمت على مدى عقود من البحث الخاص بالقضية الفلسطينية." (ص 13). ويقول المؤلف أنه تعامل مع الوثيقة الرسمية الصادرة عن المؤسسات السياسية والحاملة لرأي معين من "دون أن تعني كثيراً بالنقاشات الداخلية التي كانت تدور في إطار المؤسسة." (ص 13). وبتوخيه تحقيق هذا الهدف، واقتصاره من حيث مراجعه على الوثائق المبذولة للجميع وتجنيبه التمعن في خلفياتها، كاد المؤلف أن يقول لنا منذ البداية أنه لن يجيء بجديد، وأن كتابه سيقتصر على تقديم عرض للتطورات التي يتابعها من دون أن يتدخل في تحليلها، خصوصاً حين يقترن العرض غير النقدي بابتعاد المؤلف، كما يقول هو نفسه، عن "إطلاق الأحكام القيمية." (ص 15).

إن الانطباع الذي تخلفه قراءة المقدمة ما كان ليشجع على قراءة الكتاب لو لم يكن ماهر الشريف مؤلفه. وإذ أكتب الآن عن هذا الكتاب، فإني لا أتوخى من جانبي أن أقدم مراجعة تقليدية له، فأنا لم آلف كتابة مراجعات لكتب، بل أرمي إلى تقديم قراءة نقدية لكتاب تصدى مؤلفه لعرض نشأة الفكر السياسي الفلسطيني وتطوراته منذ بدايته إلى اليوم.ولْنقل إن قراءة الكتاب كانت مناسبة نستعيد بها وقائع هذا المسار الطويل وإنجازاته وإخفاقاته، ونتحاور بشأن ملابساتها مع أنفسنا ومع المؤلف والقرّاء.

اختار المؤلف سنة 1908 منطلقاً للفترة الزمنية التي يغطيها الكتاب، وبرر هذا الاختيار بواقعة صدور صحيفة "الكرمل" الحيفاوية، بوصفها، عنده، أُولى الصحف التي صدرت في فلسطين، مُقرّاً هو نفسه بأن هذا الشكل نقطة بداية اعتباطية إلى حد ما. والحقيقة أن هذا الاختيار لم يحالفه التوفيق قط؛ فسنة 1908 هي سنة الإصلاح الدستوري في الإمبراطورية العثمانية، وليس فيها شيء واحد يخص فلسطين وحدها أو يخص فكرها السياسي أو كيانها.

في أية حال، وبصرف النظر عن نقطة الانطلاق، فإنه مما يدهش القارئ أن الكتاب المشتمل على 511 صفحة لم يخصص سوى 24 صفحة فقط لعرض نشأة الفكر السياسي الفلسطيني وتطوراته بين سنتي 1908 و1948. ولا يسع القارئ إلا أن يتوقف إزاء هذا الخلل الفادح في توازن العرض. إذ كيف يمكن أن تُغطى فترة النشأة الغنية وملابساتها، والأفكار التي تأسست فيها، وتطورات ذلك كله خلال أربعة عقود كاملة، في أقل من ملزمتين؟ وأي خلل هذه الذي يصدم القارئ حين يجد أن نشأة الفكر وتطوراته الأساسية تُغطى في أربع وعشرين صفحة، في حين يُخصص لاستطراداته أكثر من أربعمئة وثمانين صفحة؟ وما الذي يسوغ لكاتب جاد أن يفرد لآراء نايف حواتمة أو طلال ناجي أو هاني الحسن أكثر مما يفرد للحاج أمين الحسيني أو عوني عبد الهاني أو أكرم زعيتر؟

 ثم إن أوجه الخلل في بناء الكتاب لا تقتصر على ما تقدم، بل تنضاف إليها أوجه لا تقلّ خطورة.

 فالكتاب الذي يقتصر، إجمالاً، على عرض ما يرد في الأدبيات المبذولة للجميع، يتعمد التعامل مع هذه الأدبيات من دون أن يتعرض لا بقليل ولا بكثير لصدقية الوثيقة، على الرغم من أن التدقيق في أغلبية الوثائق متيسر بسهولة، لأن زمناً كافياً تماماً قد مضى منذ صدورها، وأصبح ممكناً أن تبين الوقائع الملموسة مقدار الصدق أو الختل في أية وثيقة. وما دام الكاتب يهمل متعمداً التعرض للسجال الذي يدور في المؤسسة المعنية بشأن أية وثيقة، فإن الخلل الذي نشير إليه يتفاقم.

إلى هذا، يهمل المؤلف، أيضاً، وقائع كثيرة كان لها تأثي كبير، وحاسم أحياناً، في الحفز على تطورات الفكر والمواقف السياسية. فقد أُهملت كلياً وقائع السجال الطويل الممتد عبر أعوام فيما يتعلق بأهمية اللجوء إلى العنف في مقاومة الاحتلال أو الاستيطان اليهودي الصهيوني. وأُهملت أيضاً وقائع السجال بشأن الحاجة إلى التعاون أو عدم التعاون مع دول رأسمالية متقدمة، مثل بريطانيا. كما أُغفلت وقائع السجال بشأن البنى التنظيمية للحركة الوطنية والاجتماعية، والحياة الديمقراطية والوحدة العربية والأُخرى الإسلامية. وإلى جانب الإغفال التام لوقائع بعينها ولتأثيراتها في الفكر أو تأثيرات الفكر فيها، ترد بشأن وقائع وتأثيرات أُخرى مهمة إشارات عابرة فقط، وكثيراً ما ترد هذه الإشارات في الهوامش لا في المتن، وهو ما سترد أمثلة له في سياق هذه المناقشة.

هناك خلل آخر ملحوظ؛ فالمؤلف يعرض مواقف أطراف كثيرة بإفاضة لكنه لا يشير، إلا في أقلّ الحالات، إلى الصلة بين هذه المواقف ومسألة الكيان التي يفترض أنها هي موضوع الكتاب.

ثم إن الكتاب المكرس للبحث في تطورات لا يزال معظم شهودها والمؤثرين في أغلبها أحياء يكتفي باستخدام أدبيات مبذولة للجميع، ويهمل الاستفادة مما يمكن أن يلقيه شهود التطورات والمؤثرون فيها من إضاءات ضرورية على التطورات ذاتها، أو على أحاديثهم السابقة بشأنها. إن مراجع الكتاب خالية تماماً من أية مقابلة مع أي من هؤلاء.

أمّا صواب العرض ذاته وعدم صوابه فسيتم التعرض لهما بعد استيفاء الملاحظات على خطة الكتاب ومنهجه. وأول ما يلفت النظر في الكتاب كثرة الحواشي التي تتضمن معلومات مضافة إلى المعلومات الواردة في المتن، وطول هذه الحواشي، التي يزيد كثير منها عن نصف صفحة. فإذا كان المؤلف قد وجد من الضروري أن يطلع قارئه على هذه المعلومات فلماذا لم يوردها في المتن؟ ولماذا يتوجب على القارئ أن يشتت ذهنه ونظره بيني أعلى كل صفحة وأسفلها. وإذا عرفنا أن نسبة كبيرة من المعلومات الواردة في الحواشي مهمة، وأنها أهم أحياناً من المعلومات الواردة في المتن، فلنا أن نتساءل: لماذا جرى الفصل بينها على هذا النحو المتعسف والمتعب؟ ويرتبط بهذه الملاحظة ملاحظة أُخرى مساوية لها في إتعاب القارئ. فالكاتب يكثر من اقتباس النصوص، وهذا في حدّ ذاته جيد، إلا إن معظم المقتبسات، بل أكاد أقول كلها، طويل. بل إن منها ما يملأ نصف صفحة أو أكثر. والكثير من الاقتباسات الطويلة يرد بعد أن يكون الكاتب قد أشار إلى رأي المقتبس عنه أو أوجزه بحيث لا يبقى مسوغ لإيراد مقتبس قصير أو طويل.

يقسم المؤلف كتابه إلى خمسة أقسام تشتمل جميعها على أحد عشر فصلاً:

وفي أول مقطع من الفصل الأول، نقع على تأكيد مؤداه أن ظاهرة تبلور شخصية وطنية فلسطينية ارتبطت بالاستيطان الصهيوني. ثم يقتبس المؤلف من كاتب آخر رأياً يؤكد التأكيد حين يظهر أن الإحساس المتنامي بالخطر الصهيوني هو الذي أدى إلى تبلور فكر فلسطيني متمايز إلى حد ما عن الفكر السياسي الذي انتشر في الولايات السورية الأُخرى الخاضعة لسيطرة الدولة العثمانية (ص 19). فالتأكيد وتأكيد التأكيد يشيران إذا إلى أن الحديث يجري عن نشأة الفكر الفلسطيني وتمايزه عن الفكر العربي العام، لا عن تطوره اللاحق، وينسبان هذه النشأة إلى الإحساس بخطر الاستيطان الغريب. إن هذين التأكيدين كليهما ينطويان، في نظري، على حكم متعجل. إذ يصعب أن يقع الباحث غير المتعجل على ما يدل على التمايز في الفكر داخل البلاد السورية قبل وقوعها تحت سطوة الاحتلالين الفرنسي والبريطاني وتقسيمها بينهما عند انتهاء الحرب العالمية الأُولى. ولم يكن الشعور بمخاطر الاستيطان اليهودي شديد التأثير قبل وقوع الاحتلال والاطلاع على وعد بلفور وعلى التزام المحتل البريطاني إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين بالذات. أمّا الاستشهاد بمقتبسات من "الكرمل" الحيفاوية لتأكيد التمايز منسوباً إلى الإحساس بخطر الاستيطان، فقد استند إلى أقوال ظهرت جميعها سنة 1913، أي السنة التي يفصلها عن بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين إثنان وثلاثون عاماً. وهذه الاستشهادات، إن جاز أنها تدل على شيء خاص، فإنها، في أية حال، لا تدل إلا على استثناءات محدودة للغاية.

وفي السياق ذاته، سياق التعجل في البحث عن تمايزات فلسطينية، يرد التشديد على أن الفكر السياسي الفلسطيني كان منذ ذلك الوقت المبكر "مدركاً، إلى حد كبير، طبيعة الصهيونية متنبهاً لحقيقة أهدافها." (ص 22). هنا، يقع القارئ على مبالغة؛ إذ كيف لا يقف المؤلف عند عشرات الدلائل التي تشير إلى غياب أي إدراك لهذا الخطر؟ وإلى أي شيء تنتسب إذاً الأقوال الكثيرة التي رحّب أصحابها بالاستيطان الصهيوني وعدّوا مجيء اليهود إلى البلد فرصة لمجيء الاستثمارات وتحسين الأحوال الاقتصادية؟ ولم كان الإحساس بالخطر الصهيوني كبيراً فكيف نفسر وقائع مهمة، لم يشر الكاتب إليها للأسف الشديد، وكيف نفسر ترحيب عبد الحميد الزهراوي، رئيس المؤتمر العربي العام الأول، الذي عقد في باريس سنة 1913 وحضره فلسطينيون، حين عدّ اليهود أبناء عمومة ورحب ترحيباً صريحاً بعودتهم إلى ديار أبناء عمومتهم العرب؟ وكيف نفسر إقدام الملك (آنذاك الأمير) فيصل بن الحسين على إبرام اتفاقية رسمية سنة 1919 مع حاييم وايزمن وموافقته على قيام دولة يهودية في فلسطين ثم مبايعة الفلسطينيين له كملك بعد ذلك؟

وفي سياق هذه المبالغة، يرى الكاتب أن المفكرين تنبهواـ أيضاً، إلى وجود روابط بين الحركة الصهيونية والدول الأوروبية الكبرى، وتحسسوا خطرها. فكيف تستقيم هذه الرؤية مع ترحيب الفلسطينيين والعرب الآخرين بالاحتلال البريطاني لبلادهم، واستقبالهم للبريطانيين في البداية كمحررين. ألم يكن نجيب نصار، محرر "الكرمل" وصاحبها الذي يقتبس المؤلف عدداً من أقواله، واحداً من الذين بادروا إلى تأسيس حزب يدعو إلى التعاون مع بريطانيا؛ حزب سموه هم أنفسهم، لا خصومهم، "الحزب الموالي لبريطانيا"؟

في تصنيفه للتيارات التي لوّنت مساحة الفكر السياسي الفلسطيني قبل سنة 1948، يعدّ المؤلف ثلاثة: تيار القومية العربية وتيار الوطنية القطرية وتيار الأممية الشيوعية، ويغفل الإشارة – إلا في جمل عابرة – إلى التداخل الكبير بين التيارين الأولين، كما يغفل امتزاجهما كليهما، متداخلين ومتمايزين، بالفكر الإسلامي السائد في ذلك الوقت؛ ويتحدث عن الشيوعية كتيار ويصرف النظر عن تحديد وزنه، مع أن الحزب الشيوعي الفلسطيني ذاته لم ينشأ إلا في العشرينات، وكان الأعضاء العرب فيه آنذاك أقلّ من أن يعتدّ بوجودهم فيه، وكان تأثير فكر الحزب كلّه محدوداً إلى درجة يصعب فيها احتسابه تياراً ومضاهاته بالتيارين الآخرين. وإذا كانت مواقف الشيوعيين قد غدت مهمة لدى الباحثين في حقل الفكر السياسي فيما بعد، فإن أهميتها في ذلك الوقت لم تكن ماثلة بحيث يعتدّ بها.

وفي المحصلة، ينتهي القسم الأول من دون أن يقدم المؤلف فيه جديداً، ومن دون أن يشمل تطورات الأعوام الأربعين بأكثر مما قد يشملها أي مقال متعجل منشور في صحيفة.

أمّا في الأقسام التالية من الكتاب، فالأمر يختلف، لا في الجوهر في واقع الأمر، بل في مدى شمول التغطية؛ إذ إن عرض التطورات يأخذ في هذه الأقسام أسلوباً أسلس، ويتطرق أكثر فأكثر إلى ما هو مهم فيها.

فالقسم الثاني (1948 – 1964) يعرض تطورات الفترة التي ابتدأت بالانهيار الشامل للكيان الوطني غير المكتمل،وانتهت بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. ويشتمل هذا القسم على الفصلين الثاني والثالث. ولا يفتقر عرض التطورات هنا إلى التوازن، وإن لم يخل من تأثيرات أوجه الخلل الأُخرى.

ففي بداية الفصل الثاني (1948 – 1958)، ترد سطور قليلة لا تكفي لملء صفحة واحدة للحديث عن موقف الهيئة العربية العليا من قرار التقسيم الشهير، ورفضها الأشهر له (ص 45 و46)؛ هذا الرفض الذي شكل منذ سنة 1936، لا منذ سنة 1947، كما يوحي إغفال المؤلف ذكر مشروع التقسيم الأول الذي اقترحته لجنة بيل، أكثر مكونات الفكر السياسي الفلسطيني قوة وثباتاً وتأثيراً، وذلك طوال العقود المتتابعة التي تلت ظهور فكرة التقسيم. ولم يفقد هذا العامل تأثيره الحاسم إلا مؤخراً. والمدهش أن موضوعة التقسيم، أكثر موضوعات الفكر السياسي ارتباطاً بموضوعية الكتاب، لا تشغل من اهتمام الكاتب على مدى فصول الكتاب كلّها إلا أقلّه. وما هو مهم، مما يغفله الكاتب، تأثير رفض التقسيم أو قبوله في العلاقات بين التيارات الوطنية والقومية والإسلامية، من جهة، والشيوعيين، الفلسطينيين وغيرهم، من جهة أُخرى، وفي علاقة التيارات والدول العربية بالاتحاد السوفياتي. لقد رأى الشيوعيون أن تطبيق قرار التقسيم يعني، بين ما يعنيه، تمتع الفلسطينيين بحق تقرير المصير والحصول على كيان خاص بهم تام الاستقلال، بينما انطوى رفض التيارات الأُخرى، بين ما انطوى عليه، على استهانة واضحة بأهمية الكيان الفلسطيني المستقل. فكيف يجوز لكتاب يرصد "البحث عن كيان" ويجعله عنواناً له أن يمر بهذا كله مرور الكرام؟ شيء آخر لا يتعرض الكاتب له في عرضه لتطورات الأعوام العشرة الأُولى التي تلت عام النكبة، إذ إنه يتحدث عن مساهمات الفلسطينيين في الأحزاب والجماعات العربية والإسلامية العامة، ولا يتطرق إلى المحاولات الكثيرة التي جرت لإقامة منظمات فلسطينية مستقلة. صحيح أن حجم الإنجازات التي حققتها هذه المحاولات لم يكن مما يملأ عيناً فارغة أو قنوعة، لكن هذه المحاولات عكست الحاجة المبكرة إلى كيان فلسطيني مستقل، وشكلت الأرضية التي نشأت عليها المحاولات الناحجة بعد ذلك.

وفي الفصل الثالث (1959 – 1964)، يشير الكاتب إشارات متفرقة إلى حقيقة طغيان الفكر العربي القومي المستهين، ولو نظرياً على الأقل، بالكيانات القطرية، والشاجب للدعوة إلى إنشائها أو تكريسها؛ لكنه يغفل حقيقة أن فريق القيادة من الرعيل الذي أسس م.ت.ف. وأغلبية مؤيديه، كان من المتأثرين بهذا الفكر. وفي هذا ما يفسر الكثير من المواقف المهمة والتباينات بين السلوك وما تدعيه الأدبيات الرسمية. ومن الجلي، مما يغفله المؤلف، أن وثائق م.ت.ف. الأُولى تأثرت بفكر هذا الفريق القومي أكثر مما بأي فكر آخر، فأظهرت استهانة خطرة بمسألة الكيان الفلسطيني المستقل.

 القسم الثالث من الكتاب، وفيه فصوله الرابع والخامس والسادس، يغطي فترة 1965 – 1970؛ من عام إطلاق "فتح" رصاصتها الأُولى ضد إسرائيل إلى عام الصدام المسلح في عمان. وهنا يصير العرض أسلس من السابق كثيراً، وتقل الأخطاء، وإن لم يختف تأثير العيوب الأُخرى.

ففي الفصل الرابع، يجول الكاتب على عدد من أدبيات "فتح" ويعرض مكونات المنظمة الفدائية الأكبر، ووقائع السجال الذي انخرطت فيه بشأن قيام م.ت.ف. ومواقفها منها ومن قيادتها. ويعالج الكاتب هذا، كدأبه في الكتاب كلّه، من دون ربط المواقف بدوافعها ومن دون التدقيق في صدقية المعلن أو مضاهاته بدلالات السلوك، بل، أيضاً، من دون الإشارة إلى التباينات التي تظهرها البيانات المعلنة ذاتها. وإذ يعتمد الكاتب في عدد من الحالات على أقوال تفسر بعض المواقف قيلت بعد أعوام من اتخاذ الموقف، فإنه يفاقم تأثير غياب المنهج النقدي في الأساس. نضرب مثلاً لذلك ما اقتبسه الكاتب من أقوال أدلى السيد هاني الحسن بها سنة 1972، وفسّر بها غموض طروحات "فتح" في سنتي 1965 و1966. في المقتبس من كلام عضو "فتح" الذي لن يصير عضواً في لجنتها المركزية إلا بعد أعوام طويلة، يقول هاني الحسن إن منظمته كانت في تلك الفترة "تحافظ بشكل متعمد على الغموض في كل قضية، غير الخطوط العامة" (ص 112)، وينسب الغموض إلى حاجة "فتح" إلى حماية نفسها من بطش الأنظمة العربية. ولو أخضع أي متتبع للأمر هذا التفسير للتدقيق، حتى لو كان المتتبع أقل كفاءة من المؤلف ماهر الشريف الكفؤ حقاً، لحكم بأن هذا التفسير ليس أكثر من كلام يساق لتزيين صورة "فتح" وتصوير قيادتها بصورة القادر على التحايل على الدول العربية. أمّا الغموض، فله تفسير في المتناول: إنه سمة تطبع مواقف "فتح" وأوجه سلوكها السابقة والراهنة، مثلما تطبع مواقف القوى المماثلة لها في البنية الطبقية، جميعها.

وفي الفصل الخامس، مع اطراد سلاسة العرض، يرصد المؤلف تأثيرات حرب حزيران/يونيو 1967 والظواهر الجديدة التي تلت تلك الحرب: طغيان الدعوة إلى الكفاح الشعبي المسلح، وتقديس البندقية، وانتقال قيادة م.ت.ف. إلى أيدي حملة البنادق، وتحولات حركة القوميين العرب نحو الماركسية والماوية والغيفارية وانشقاقاتها؛ ومواقف الشيوعيين، الإسرائيليين والأردنيين، وضمنهم الفلسطينيون، من الكفاح المسلح. وهنا يصير العرض ممتعاً وإنْ لم يأت بجديد. غير أن هذا لا يخلو، مع ذلك، من الأخطاء التي يقع المتعجلون فيها؛ يخطئ المؤلف في روايته لواقعة الغارة الجوية الإسرائيلية على مواقع في الجبهة السورية في نيسان/أبريل 1967 (ص 143)؛ ويبدو تفسيره لتحول حركة القوميين العرب وانقلاب مواقفها بقمدار 180 درجة قاصراً حين ينسبه إلى تأثير الاجتماع الذي عقدته اللجنة التنفيذية للحركة في تموز/يوليو 1968 (ص 150)، ناسياً التطرق إلى التفاعلات التي حفزت على التحول. ويؤدي التعجل إلى إغفال الملابسات الأهم لواقعة خطف طائرة "الـ - عال" الإسرائيلية والمجيء بها إلى مطار الجزائر سنة 1968. فالكاتب يقول إن الجبهة الشعبية هي التي خطفت الطائرة، وهذا صحيح، إلا إنه ليس الحكاية كلها؛ ذلك بأن السلطات المصرية هي التي كانت بحاجة إلى هذه العملية .لإحراج الرئيس الجزائري هواري بومدين، الذي لم يكفّ عن توجيه انتقادات علنية حادّة لسياسة مصر وقبولها بوقف إطلاق النار، إلا بعد العملية والسلطات المصرية هي التي سهلت للجبهة خطف الطائرة.

وفي تطرقه إلى إنشاء الحزب الشيوعي الأردني فصيل الأنصار المسلح، بالتعاون مع الأحزاب الشيوعية في سورية ولبنان والعراق، (ص 170)، يغفل الكاتب أن نظام 23 شباط/فبراير السوري البعثي اليساري لم يكن مرتاحاً إلى ظاهرة تسلح الشيوعيين، فضلاً، بالطبع، عن استياء الأنظمة العربية المحافظة، ويغفل أيضاً ذكر تأثير هذا كلّه في السجالات التي اشتدت حول منظمة الأنصار ونتائجها.

في الفصل السادس، تستمر سلاسة العرض. وفي سياق عرض المواقف المتباينة في شعار الدولة الديمقراطية، يعرض المؤلف مواقف التيارات السياسية إزاء اليهود، ويبين كيف بقيت غامضة. ويرصد المؤلف، أيضاً، نظرتين إلى الأمن متفاوتتين، واحدة يسميها قومية وتقوم على اعتبار الأمن مسألة عربية عامة، وأُخرى هي القطرية التي تأخذ، في المقام الأول، أمن كل دولة عربية على حد في الحسبان.

إن تقسيم المفاهيم السائدة بشأن الأمن على هاتين النظرتين يستحق مناقشة مستفيضة لكثرة شيوعه، على الرغم من أنه تقسيم غير دقيق. ولأن المجال لا يسمح بالإفاضة، فسأكتفي بالإشارة إلى أنّ واقع الحال، كما يمثله السلوك الفعلي لا الأدبيات المؤسساتية وحدها، لا يظهر أن نظرة المقاومة الفلسطينية إلى الأمن طابقت الحاجات والإمكانات العربية وحدها، كما لا يظهر أن نظرة الدول العربية إليه أهملت هذه الحاجات الفلسطينية كلياً. فالمنطلق القطري، إذا جاز التعبير، لم يهمل التوجه إلى التضامن العربي في مواجهة إسرائيل بوصف سياستها تشكل خطراً على الجميع؛ والمنطلق القوي الذي نسبه المؤلف إلى المقاومة الفلسطينية، خصوصاً إلى "فتح"، انطوى في عدد كبير من الحالات على تغليب القطري الفلسطيني. ولم يكن دقيقاً ما أورده المؤلف، مما هو شائع، من أن الاختلاف بين منطلق قومي (منسوب إلى المقاومة الفلسطينية) ومنطلق قطري (منسوب إلى الدول العربية) هو الذي استتبع الاحتكاكات المتلاحقة بين الجانبين. يقيناً، إن لكل احتكاك أسباباً كثيرة، أمّا ما يتصل من الأسباب بمفاهيم الأمن، فمن الأصوب البحث عنه في محاولات التوريط وردات الفعل المتهيبة منها.

يغطي القسم الرابع من الكتاب فترة 1971-1981، ويشتمل على الفصول السابع والثامن والتاسع.

في الفصل السابع، يجري عرض ما خلفته هزيمة المقاومة في الأردن من تأثيرات في التطورات الفكرية السياسية، والتقويمات المختلفة للنتائج كما رأتها "فتح" والفصائل الأُخرى والشيوعيون. كما يجري عرض وقائع انتقال قاعدة المقاومة، التي أريد لها أن تكون آمنة، من الأردن إلى لبنان. ويرصد المؤلف في هذا الفصل بروز الدعوة إلى أن تمارس م.ت.ف. حق تمثيل الشعب الفلسطيني وصوع مستقبله، وبدايات اهتمامها بالساحة الفلسطينية في الداخل، أي في الأرض المحتلة. ويظهر عرض المؤلف للوقائع الارتباط بين هذا البروز والمحاولات التي بذلتها إسرائيل وغيرها لإيجاد قيادة بديلة، أو وضع بديل من م.ت.ف.

وفي الفصل الثامن، يتتبع المؤلف وقائع السجال الذي حفزت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 عليه، وبروز الدعوة إلى صوغ أهداف مرحلية للعمل الوطني الفلسطيني بدلاً من الاقتصار على التشبث بالدعوة إلى تحقيق الهدف الشامل: تحرير فلسطين كلها دفعة واحدة. ويعرض المؤلف المساعي التي أدارتها "فتح" بمساندة واضحة من ساحة الداخل للدفع نحو اشتراك م.ت.ف. في مؤتمر جنيف الشهير، الذي اتفق على عقده برعاية الأمم المتحدة للتفاوض بين الأطراف المعنية بالصراع العربي – الإسرائيلي، ويظهر مقاومة الفصائل الفلسطينية الرافضة لهذا المسعى ويربط عرض المؤلف لوقائع هذه الفترة بين انتكاس مساعي عقد المؤتمر وتوجه "فتح" إلى تطبيع علاقاتها بالأردن من جهة، وبالاتحاد السوفياتي من جهة أُخرى وفي هذا الفصل يقدم المؤلف أكثر عروضه للتطورات توفيقاً، وإن لم يخل من تأثيرات أوجه الخلل التي أشرنا إليها فالعرض لا يشتمل إلا على إشارات عابرة للخلافا السوري – المصري بشأن التسوية، ولا يظهر ضخامة تأثير التوجه المصري إلى التسوية بأي ثمن، وتأجج الخلافات بشأنها على الساحة الفلطسينية، وما أدى ذلك إليه من استبعاد فرصة التسوية الشاملة.

أمّا الفصل التاسع، فيشتمل على عرض موفق، أيضاً، للمواقف والخلافات الفلسطينية بشأن التوجه الذي اشتملت مساعي الرئيس المصري عليه بعد فشل مؤتمر جنيف، وهو التوجه الذي هدف إلى التوصل إلى تسوية منفردة مصرية – إسرائيلية برعاية الولايات المتحدة الأميركية. وفي هذا السياق، تجيء زيارة الرئيس السادات للقدس، ومفاوضات كامب ديفيد، والحل المنفرد الذي أبرم هناك، وقبول السادات بخطة إسرائيل بشأن الحكم الذاتي الفلسطيني. ويعيد الفصل إلى الأذهان الصورة النابضة بوقائع تلك الفترة، والسجالات التي اقترنت بها. وعلى الرغم من ذلك، فإن وقائع كثيرة مهمة أُغفلت وأُغفل بالتالي تأثيرها، ووقائع أُخرى لم يُشَر إليها إلا بصورة عابرة؛ فانعقاد القمة العربية التي استضافتها عمان في خريف سنة 1980 وقاطعتها أطراف جبهة الصمود والتصدي العربية، بكل ما يعنيه أو يكشف عنه، لا يحظى بالذكر إلا في سطرين في أحد الهوامش (ص 228)؛ والانعكاسات الخطرة، بل المدمرة، للحرب العراقية – الإيرانية لا يرد ذكرها إلا في هامش آخر (الصفحة ذاتها).

يضم القسم الخامس من الكتاب، وهو القسم الأخير، الفصلين العاشر والحادي عشر، ويعرض وقائع وآراء حاضرة في ذهن القارئ حضوراً كبيراً، وإذا كان من الخلل الاقتصار في الأقسام السابقة على مجرد عرض الوقائع، فما من شيء يسوغ الاقتصار عليه هنا، ما دامت هذه الوقائع حاضرة، ولا حاجة حتى إلى التذكير بها. وإني لن أوجز محتويات هذا القسم، إذ لا لزوم لهذا الإيجاز كما أعتقد، ولن أشير إلى أوجه الخلل في العرض، لأنها من النوع ذاته الذي سبقت الإشارة إليه. شيء واحد يسجل لمصلحة العرض الذي اشتمل هذا القسم عليه، وهو أنه جاء تامّ السلاسة. ولن أناقش ما انطوي العرض عليه من آراء أجدها غير دقيقة أو غير صائبة، لأن المناقشة، مثلها مثل العرض، لن تضيف جديداً إلى ما يجده القارئ هذه الأيام في مقالات كتّاب الصحف والمجلات الرائجة.

وفي الختام، يجدر التنوية بأهمية الصفحات التسع الأخيرة التي يتصدرها عنوان خلاصات (ص 427 – 435) والتي تسبق الصفحات المخصصة للوثائق في الكتاب. ففي هذه الصفحات، نستعيد الكاتب القدير المتمكن من تقديم قراءته للأحداث والتطورات الفكرية بعبارات تكشف ما هو ضروري.

السيرة الشخصية: 

فيصل حوراني: كاتب فلسطيني.