يتناول التقرير انعقاد الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني، في غزة، في 22 نيسان/ أبريل 1996، وهي الدورة التي قررت تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني بإلغاء المواد التي تتعارض مع رسائل الاعتراف المتبادل. فيعرض مداولات "هيئة الحوار الوطني" والمجلس الوطني. ويرى كاتب التقرير أن هذه المداولات بينت أن في إمكان ياسر عرفات إقناع هيئات المنظمة باتخاذ القرار الذي يريده، من دون أن يكون للمعارضة في هذه الهيئات سوى تأثير ضئيل.
بينت مداولات هيئة الحوار الوطني التي سبقت الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني، ومداولات الدورة ذاتها أن في إمكان الرئيس ياسر عرفات إقناع هيئات المنظمة باتخاذ القرار الذي يريده من دون أن يكون للمعارضة التي تقف في وجهه في هذه الهيئات سوى تأثير ضئيل. يستوي في هذا أن يكون القرار المطلوب على مستوى تعديل الميثاق الوطني أو على أي مستوى آخر.
ففي فترة 17 – 21 نيسان/ أبريل 1996، أجرت هيئة الحوار الوطني، التي سمى الرئيس أعضاءها، الحوارات التقليدية التي تسبق دورات المجلس عادة وتحضّر لها. وقد ضمت قائمة المدعوين إلى المشاركة في الحوار نحو ثمانين عضواً، راعى الرئيس الذي اختارهم أن يكون بينهم ممثلون لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية وعدد من القوى غير الممثلة فيها، بالإضافة إلى عدد من المستقلين وذوي الكفاءات الخاصة. وقد لبى الدعوة من هؤلاء ستون عضواً تقريباً، وشكل عدد المنتمين منهم إلى "فتح" أكبر مجموعة بين الحاضرين، وتمثلت فيهم الفصائل المتعاونة مع الرئيس، وهي: حزب الشعب الفلسطيني (سابقاً: الشيوعي)؛ الحزب الديمقراطي الفلسطيني "فدا" وهو التنظيم الذي أُنشئ بعد انفصال مؤسسة عن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين؛ جبهة النضال الشعبي؛ جبهة التحرير الفلسطينية التي يتزعمها محمد عباس (أبو العباس)؛ حزب الخلاص الإسلامي الذي أُسس مؤخراً في غزة وبقي فيه أشخاص ميزوا أنفسهم عن "حماس" المعارضة الأكثر شهرة، وهما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فقد غاب ممثلوهما عن جلسات الحوار، وآثر كل منهما أن يجري، على حدة، حواراً مباشراً مع الرئيس عرفات،خارج إطار جلسات الهيئة؛ إذ اعترضت الجبهتان على طريقة تأليف الهيئة وأسلوب عملها، فآثرتا الغياب. وغاب عن الحوار، أيضاً، ممثلو باقي الفصائل العشرة المتحالفة ضد التحالف الذي يقوده عرفات، بسبب معارضتها لسياسته ودعوتها إلى مقاومته.
تم افتتاح أُولى جلسات هيئة الحوار في مساء 17 نيسان/ أبريل 1996، في قاعة الاجتماعات، في مبنى المنتدى الذي يضم مكاتب رئيس السلطة الفلسطينية في غزة. وفي وجود أغلبية واضحة من المدعوين، ومن دون أن يتمّ التثبيت من العدد والأسماء، أو من دون أن يحتاج الأمر إلى ذلك، اتفق المشاركون على أن يتولى الرئيس عرفات رئاسة الجلسات. هذا الاتفاق له مغزى خاص، إذ أن رئيس المجلس الوطني هو الذي يتولى عادة رئاسة هيئة الحوار. ولما كان رئيس المجلس، الشيخ عبد الحميد السائح، مستقبلاً منذ ما بعد توقيع "إعلان المبادئ" الفلسطيني – الإسرائيلي، المسمى أيضاً اتفاق أوسلو، فقد كان من المفروض أن يقوم مقامه نائب الرئيس بالوكالة، سليم الزعنون (أبو الأديب). غير أن هذا الأخير لم يتمكن من الحضور في الوقت الملائم، كما قيل للحاضرين، ولما وصل إلى غزة في اليوم التالي، بقي بعيداً عن جلسات الهيئة، واتضح أنه يغيب عنها متعمداً، لاعتراضه على عدد من المسائل المتصلة بتأليف هيئة الحوار والدعوات، وما إلى ذلك، ولمعرفته أن أمر ترشيحه ليحل محل الرئيس المستقيل لم يحسم بعد.
وفي غياب رئيس المجلس ورئيسه بالوكالة، وفي غياب ممثلين معتمدين من الحركة الإسلامية، وخصوصاً من "حماس"، والممثلين المعتمدين من الجبهتين الشعبية والديمقراطية والفصائل الأُخرى المعارضة التي أزمنت مقاطعتها لهيئات م.ت.ف.، صار الحوار داخل الهيئة أقرب إلى التبادل العائلي للآراء، كما وصفه أحد المشاركين فيه. وباستثناء مداخلات قليلة مهمة قدّمها الرئيس عرفات وعدد من معاونية المقربين وزعماء عدد من الفصائل المشاركة، بدا الحوار باهتاً. وساهم في تبهيته أن مستوى أداء عدد من المشاركين فيه كان أدنى من المستوى المطلوب في حوار يتصدى المناقشة قضايا شائكة ومهمة. ويبدو أن المعنيين بالحوار لمسوا هذه الحقيقة، فشاؤوا أن يعوضوا النقص، فانتقوا، من دون أن يعلنوا ذلك، عدداً من الحاضرين، تألفت منهم لجنة مصغرة سميت لجنة صياغة. وقد عقدت لجنة الصياغة هذه أول اجتماعاتها برئاسة عضو اللجنة التنفيذية لـ م.ت.ف. وعضو اللجنة المركزية لــ "فتح" والمشرف على أطقم المفاوضات مع إسرائيل، محمود عباس (أبو مازن). وقد أدار عباس الجلسة الأُولى ثم غادر لشأن طارئ، فحل محله أحد معاونيه، المدير العام لدائرة المفاوضات.
وقد ضمت لجنة الصياغة هذه ممثلين عن "فتح" وفصائل م.ت.ف. الأُخرى، التي لم تقاطع الحوار، وعدداً من المستقلين الذين واظبوا على حضور اجتماعاتها، منهم المدير العام لمؤسسة عبد الحميد شومان، الدكتور أسعد عبد الرحمن، والكاتب فيصل حوراني، والصحافي توفيق أبو بكر. وقد عقدت اللجنة سلسلة من الاجتماعات جرى التداول فيها بشأن موضوعين: تعديل الميثاق الوطني للمصادقة عليها. وقد تميز في اجتماعات اللجنة الدور المثابر الذي قام به المدير العام لدائرة المفاوضات؛ إذ أبدى حرصاً على أن يتم تعديل الميثاق في صيغة لا تلبّي التزامات م.ت.ف. إزاء إسرائيل في هذا الصدد فحسب، بل تخدم أيضاً حملة رئيس الحكومة الإسرائيلية، شمعون بيرس، وحزب العمل الإسرائيلي، في انتخابات رئاسة الحكومة والكنيست. وقد مضت مناقشات لجنة الصياغة في موازاة مداولات هيئة الحوار، واجتهد أعضاء اللجنة في تعميق الأفكار المطروحة أمام الهيئة وبلورتها.
في اللجنة، كما في الهيئة، كما سيصير الأمر عليه في اجتماعات دورة المجلس، حاز موضوع تعديل الميثاق على المحل الأول من الاهتمام، وجرت بشأنه أسخن المناقشات.
ولم تبدأ المناقشات بشأن هذا الموضوع مع ابتداء مناقشات الهيئة أو اللجنة، بل سبقتها بوقت طويل، كما هو معروف. فقد شغل الاهتمام بهذا الموضوع حيزا كبيراً في مداولات الهيئات الفلسطينية المتعددة، الرسمية وغير الرسمية، وأوساط الرأي العام، وأحاديث المجالس، والكتابات والتعليقات في وسائط الإعلام، وذلك منذ أن توصل المفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون إلى اتفاق أوسلو، وتبادل الجانبان رسائل الاعتراف بينهما في أيلول/ سبتمبر 1993. ففي الرسالة الموجهة من الجانب الفلسطيني، تعهد الرئيس عرفات العمل على تعديل الميثاق الوطني وإلغاء مواده التي تتعارض مع "إعلان المبادئ"، أي إلغاء المواد التي تتعارض مع اعتراف م.ت.ف. بحق إسرائيل في الوجود أو تحث على استخدام الكفاح المسلح ضدها. وهذه هي المواد التي دأبت الدعاية الإسرائيلية على القول إنها تدعو إلى تدمير دولة إسرائيل.
وقد تكشفت المداولات التي سبقت التحضير لدورة المجلس الوطني عن مواقف فلسطينية عدة، متفقة، أو مختلفة، أو متباينة بشأن موضوع التعديل فالأطراف التي عارضت اتفاق أوسلو وثابرت على معارضتها للمسار الحالي للعملية السياسية رفضت، في سياق ذلك، الدعوة إلى تعديل الميثاق، ورفضتها أيضاً الأطراف التي ترفض مبدأ التسوية. أمّا الأطراف الأُخرى، ومنها تلك التي انتقدت هذا أو ذاك من جوانب الاتفاق وأوجه الأداء السياسي الفلسطيني الرسمي، فقد تراوحت طروحاتها بين الدعوة إلى وضع ميثاق جديد كلياً يرسم أهداف المرحلة الجديدة ويأخذ في الحسبان التزامات م.ت.ف. الدولية فتغيب عنه المواد المتعارضة مع "إعلان المبادئ"، وبين الدعوة إلى حذف هذه المواد أو تعديلها. وقد وضع بين يديّ لجنة الصياغة، فضلاً عن الاقتراحات المتداولة في هيئة الحوار، ملفٌّ يحوي عدداً وافراً من الاقتراحات. وضم هذا الملفّ مشاريع لميثاق جديد، وأُخرى لتعديلات أو تبديلات مقترحة، كان أعدّها أشخاص معنيون بالأمر أو مجموعات من الأشخاص وقدموها إلى الرئيس الفلسطيني أو إلى رئاسة المجلس الوطني.
وتميزت في هذا الملف ورقة فيها نص أبرزه المدير العام لدائرة المفاوضات وقال إن صيغته جاءت ثمرة مشاورات أجرتها الدائرة مع الجانب الإسرائيلي، وفيها ما يلبّي الحاجة إلى الوفاء بالالتزام المتعلق بتعديل الميثاق وما يخدم حملة شمعون بيرس وحزبه الانتخابية، وحثّ اللجنة على تبنّي هذا النص وتنحيه ما عداه. وكان منطق المتبنّي لهذا النص واضحاً: إذا لم يفز بيرس وحزبه في الانتخابات المقبلة فإن العملية السياسية برمتها ستنهار، ولذا فإن الحفاظ على المصلحة الفلسطينية يوجب تقديم أية مساعدة تعزز فرص نجاحهما.
وبعد مناقشة ساخنة، لم تخل من المهاترات، قررت اللجنة تنحية هذا النص، ولم يدافع عنه من أعضائها سوى هذا المدير.
وقد حوى هذا النص، الذي نشرت الصحف في حينه بعض محتوياته على الرغم م حرص معدّيه على سريته، ما يزيد عن الحاجة إلى تلبية الالتزام المترتب على م.ت.ف. وفق اتفاق أوسلو.وبيدو أن الذين تفاهموا عليه، وقد راعوا متطلبات الحملة الانتخابية الإسرائيلية، وقعوا في ما يعدّه الفلسطينيون، على اختلاف مواقفهم أو تباينها من العملية السياسية، محظوراً. فالحديث عن الدولة الفلسطينية المستقلة ورد في هذا النص بصيغة إقامتها في (within) أرض الضفة وقطاع غزة؛ وفي الحديث عن الفلسطينيين ورد فيه تمييز مرفوض بين "فلسطينيي الشتات" و "الشعب الفلسطيني". وبينما كانت اللجنة لا تزال تتداول بشأن النص الذي تشبث به المدير العام لدائرة المفاوضات، راجع أحد أعضائها الرئيس ياسر عرفات بشأنه، فأفاده الرئيس بأنه لا يعلم بوجود هذا النص ولا يقبل به.
وبعد تنحية النص، الذي لم يصمد أمام الاعتراض القاطع عليه، ولقطع الطريق على أية مناورات قد تعيده من النافذة بعد إخراجه م الباب، اقترح وزير الثقافة وعضو لجنة الصياغة، ياسر عبد ربه، وممثلو حزبه ("فداء") الآخرون على هيئة الحوار تبنّي إعلان الاستقلال الذي صادقت عليه دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة سنة 1988 كميثاق وطني جديد. وفي المسوّغات التي قدمها أصحاب هذا الاقتراح، وردت الإشارة إلى أن إعلان الاستقلال حظي في حينه بالإجماع، في المجلس الوطني وفي أوساط الرأي العام، وأن الإجماع عليه لا يزال قائماً إلى اليوم. وقد حظي هذا الاقتراح بقبول شبه إجماعي في الهيئة، وكان عرفات في مقدم الذين أشادوا بمزاياه، وبلورت المداولات بشأنه صيغة تنص على اعتماد الأسس والمبادئ والأحكام الواردة في إعلان الاستقلال أُسساً للميثاق الوطني الجديد، مع العلم بأن الإعلان الذي ينوّه بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بقضية فلسطين، لم يخص منها بالذكر بالاسم سوى قرار الجمعية العامة رقم 181 الذي اشتهر باسم قرار التقسيم.
وبينما كانت المداولات بشأن تبنّي إعلان الاستقلال، التي انتقلت إلى لجنة الصياغة، جارية، تلقى الجانب الفلسطيني إخطارين هما بمثابة إنذارين: أحدهما إسرائيلي والآخر أميركي. فقد أبلغت إسرائيل إلى الجانب الفلسطيني، مستندة إلى ما سمعته من أن النية متجهة إلى تبنّي إعلان الاستقلال كميثاق وطني، أن حكومة إسرائيل ستعلن وقف العملية السياسة بكاملها إذا حدث ذلك. وأضافت الإدارة الأميركية في إخطارها (=إنذارها) المماثل أنها ستعمل أيضاً على وقف المساعدات التي تقدم إلى السلطة الفلسطينية. وعززت الإخطار الأميركي رسالة بالمعنى ذاته، وقّعها أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي المئة كلهم. وكان واضحاً أن جميع هؤلاء يرفضون اعتماد إعلان الاستقلال لوجود إشارة فيه إلى قرار التقسيم.
هذه المقاطعة للمداولات الفلسطينية، التي جاءت قبل أن يعتمد الفلسطينيون اقتراحاً بعينه اعتماداً نهائياً، وضعت المسألة كلها في مستوى جديد. وقد تولى الرئيس عرفات بنفسه معالجة الأمر، وتشاور بشأنه مع أعضاء اللجنة التنفيذية. وبلورت مناقشات هذا المستوى، والاتصالات التي يبدو أن القيادة الفلسطينية أجرتها مع أطراف عربية ودولية معنية بالأمر، الصيغة الأخيرة التي عرضت على المجلس، والتي سيرد الحديث عنها، لاحقاً.
في غضون ذلك، وبينما انصرفت لجنة الصياغة إلى إعداد مشروع القرارات السياسية، صرف الرئيس عرفات جانباً آخر من جهده لتحقيق الهدف الثاني الذي شاء أن تحققه دورة المجلس. فعرفات، الذي عانى كثيراً من جراء اضطراب عمل اللجنة التنفيذية في العامين الأخيرين ومن هاجس عدم توفر النصاب اللازم لانعقادها بسبب مقاطعة عدد من الأعضاء لاجتماعاتها، توخى تأليف لجنة تنفيذية محصنة ضد المقاطعة وفقدان النصاب تحصيناً منيعاً. وفي مداولاته مع الأطراف التي عارضت اتفاق أوسلو وقاطع ممثلوها اجتماعات اللجنة، كرر عرفات مطلباً محدداً، بصراحة كاملة: أن يتعهد الفصيل الراغب في أن يكون له ممثل في اللجنة التنفيذية عدم المقاطعة. وقد أظهرت النتائج النهائية أنه حصل على مثل هذا التعهد.
وهنا، يجدر أن نلقي الضوء على حوارات ممثلي الجبهتين الشعبية والديمقراطية مع الرئيس عرفات.
قررت الجبهة الشعبية المشاركة في دورة المجلس الحادية والعشرين بتمثيل رمزي فقط، وأرسلت إلى غزة لهذا الغرض ثلاثة من أعضائها في المجلس هم: عضو اللجنة التنفيذية المقاطع لاجتماعاتها، عبد الرحيم ملّوح، ونائب رئيس المجلس الوطني، تيسير قبعة، وكلاهما عضو في مكتب الجبهة السياسي، وثالث هو عضو في اللجنة المركزية للجبهة. وقد حظرت الجبهة على أعضائها الثلاثة المشاركة في هيئة الحوار، كما حظرت عليهم المشاركة في الجلسة الخاصة المخصصة لمناقشة تعديل الميثاق، وذلك كتعبير رمزي عن معارضتها للتعديل. وفي لقاءات الثلاثة مع عرفات، ركّز هؤلاء حديثهم على المطالبة بالاحتفاظ بمقعد لممثل الجبهة في اللجنة التنفيذية، وزيادة اثني عشر عضواً إلى حصة (كوتا) الجبهة في المجلس الوطني. ربما ليس لهذه المطالبة، في حدّ ذاتها، أهمية كيبرة، إلا أنها أظهرت أن الجبهة لا تثير الشكوك حول شرعية عقد الدورة أو شرعية اللجنة التنفيذية التي تنبثق منها، وهو ما يعني أن الجبهة استبعدت إمكان الاشتراك في أية حملة تشكك في هذه الشرعية وفي صحة تمثيل م.ت.ف.وقيادتها للشعب الفلسطيني. وقد وافق عرفات على استبقاء ممثل الجبهة في قائمة أعضاء اللجنة التنفيذية الجديدة بعد تأكيد شرط عدم المقاطعة، وتعهد زيادة حصة الجبهة في المجلس بستة أعضاء لا باثني عشر عضواً، على أن يتم ذلك بعد جلسة تعديل الميثاق.
أمّا الجبهة الديمقراطية، التي حاورت الرئيس عرفات من خلال عضو مكتبها السياسي وعضو اللجنة التنفيذية لــ "م.ت.ف. المقاطع، تيسير خالد، وآخرين من قادتها، فقدمت مطلبين مماثلين، وتلقت استجابة مشابهة. ورهنت الجبهة مشاركتها في اجتماعات المجلس بوصول أمينها العام، نايف حواتمة، إلى غزة، علماً بأن حواتمة وضع شروطاً تكاد تكون تعجيزية كي يجيء إليها. وقد وزعت الجبهة الديمقراطية، باليد، على أعضاء المجلس بياناً طويلاً أوضحت فيه بالتفصيل موافقها المعروفة إزاء المسائل المطروحة. وقام ممثلو الجبهة الشعبية القليلون بشرح مواقفهم للأعضاء ما وسعهم جهدهم. وباستثناء ما تقدم من اتصالات وشروح، لم يبرز للجبهتين دور ملموس، لا في الحوار ولا في مداولات المجلس.
شيء آخر انهمك الرئيس عرفات به في الأيام والساعات التي سبقت افتتاح الدورة. فقد كان لا بدّ من تحضير قائمة بأعضاء المجلس بصيغتها الجديدة، في ظل هاجسين: توفير نصاب الثلثين اللازم لبدء اجتماعات الدورة.، والتأكد من أن مجموع ثلثي أعضاء المجلس موافق على تعديل الميثاق وفق ما يوجبه النظام الأساسي لـ م.ت.ف. والميثاق ذاته. وفي هذا المجال، استخدم عرفات براعاته المعهودة كلها، وبدا مثل ربّان سفينة حل بها الاضطراب، من دون أن يفقد هو القدرة على التصرف أو التحكم في مسارها.
فلتأمين قائمة الأعضاء الملائمة، استبدال عرفات جميع ممثلي التنظيمات الشعبية الذين لم يصلوا إلى غزة، ومنهم كثيرون معارضون، بآخرين موالين، مستنداً إلى طلبات استبدال وقعها الأمناء العامون لهذه التنظيمات وموافقة رئاسة المجلس الوطني عليها، فتم له ما أراد. وإلى هذا، استبدل عرفات، أيضاً، أعضاء كوتا "فتح" في المجلس، المعارضين والموالين، ممن لم يحضروا إلى غزة لهذا السبب أو ذاك، بأعضاء موالين. وقد استخدم من أجل ذلك حقه المعترف به كرئيس للجنة "فتح" المركزية، وكان له هنا أيضاً ما أراد. ولم يستثن عرفات، في استبداله للغائبين من "فتح" سوى اثنين من أعضاء لجنتها المركزية القدماء، وهما فاروق القدومي (أبو اللطف) ومحمد غنيم (أبو ماهر). أمّا عضو اللجنة المركزية لــ "فتح" المقاطع، محمد جهاد، فقد استُبدل، مثلما استُبدل غيره من قادة فتحاويين معروفين وشبه معروفين. وانضم إلى المجلس، بحكم قانون الانتخابات الفلسطيني، جميع أعضاء المجلس التشريعي المنتخبين من سكان الأرض المحتلة، وعددهم ثمانية وثمانون، ليشغلوا هذا العدد من مجموع حصة الـ 200 مقعد المخصصة للمقيمين في الأرض المحتلة، وفق قرار سابق اعتمده المجلس في هذا الشأن. ولأن عدداً آخر من المئتي عضو جرت تسميته لعضوية المجلس في دورات سابقة من بين المبعدين عن الأرض المحتلة، فقد بقى لعرفات أن يضيف في هذه الدورة نحو مئة عضو جديد. وقد اختير هؤلاء، أيضاً، من الموالين. وبهذا كله، تم التأكد من أن عمل الدورة سيأخذ مجراه، وتم ضمان أكثرية الثلثين من أجل تعديل الميثاق.
واجه الرئيس عرفات، في سياق تحضيراته هذه، بعض العنعنات الجانبية. وكان من ضمن ذلك مساع بذلها هذا أو ذاك من تكتلات "فتح" وشللها لتحقيق مطلب أو غيره. فقد برزت شلّة صغيرة تصدّرها محمد عودة (أبو داود)، الراجع حديثاً إلى أرض الوطن، شاءت أن ترشح لعضوية اللجنة التنفيذية شخصاً من قبلها، لا لشيء إلا لتحول دون فوز القائمة التي يتفق عليها عادة مسبقاً بالتزكية، ولغرض إجراء انتخابات داخل المجلس. وبرزت شلل أُخرى ضغطت من أجل تكريس دور "فتح" القيادي بزيادة عدد ممثليها في اللجنة التنفيذية. ولم يخل الأمر، داخل "فتح" أيضاً، من أصوات جهزت بالاعتراض على تعديل الميثاق. وعلى صعيد آخر، وزع عدد من أعضاء المجلس، تصدّرهم الزعيم الوطني المعروف حيدر عبد الشافي والمتحدثة السابقة باسم الوفد الفلسطيني المفاوض في مدريد وواشنطن، حنان عشراوي، وجميعهم من الموافقين على العملية السياسية في جوهرها، بياناً طالبوا فيه بثمن تدفعه إسرائيل في مقابل تعديل الميثاق، وبأن يُرجأ التعديل إلى أن تدفع إسرائيل هذا الثمن. ومع أن مطلب هؤلاء لقي صدى طيباً لدى عدد كبير من الأعضاء، فإن تأثيره لم ينعكس في النتائج النهائية.
في المحصلة، ونتيجة للجهد المتواصل الذي بذله عرفات، والاتصالات التي أجراها مع من يعينهم الأمر، والوسائل التي اتبعها لإقناع ذوي المطالب العامة والخاصة أو لحصر تأثيرهم في أضيق الحدود، اكتملت الاستعدادات اللازمة لبدء عمل دورة المجلس في الموعد المقرر لها، واستبعدت اقتراحات تأجيلها. كما تمّ استرضاء رئيس المجلس بالوكالة، سليم الزعنون، بعد أن قدمت له الترضيات الملائمة. وقد لفت الانتباه، بين أشياء أُخرى من هذا القبيل لافتة للنظر، أن البطاقات التي وزعت على أعضاء المجلس والمراقبين وأجهزة السكرتاريا والأمن والخدمات الأُخرى، جاءت خلواً من الأسماء والصور. ولم يميز البطاقات الخاصة بكل فئة سوى اختلاف الألوان. وقد قيل في تفسير ذلك إن الأمر ناجم عن ضعف الوسائل التنظيمية والافتقار إلى أجهزة إعداد البطاقات الحديثة في ظروف غزة. وقيل أيضاً إن الإغفال تمً عمداً، وإن غياب الأسماء والصور يجعل من الممكن أن يحصل أي شخص على أية بطاقة، وهذا إجراء احتياطي يمكن الاستفادة منه لو اتضح أن عدد الأعضاء الحاضرين لا يلبّي الحاجة إلى النصاب المطلوب. والواقع أن الحاجة إلى مثل هذا الاحتياط لم تبرز؛ فالإقبال على الحضور كان طاغياً، ومثله التصويت بالموافقة.
وفي مساء 22 نيسان/ أبريل 1996، جرى الاحتفال بافتتاح دورة المجلس الوطني الفلسطيني الحادية والعشرين، وكان احتفالاً متواضعاً من عدة وجوه؛ فقد غاب عنه الحشد الكبير من الشخصيات وممثلي الهيئات والمنظمات والأحزاب والقوى العربية والدولية الذي ألف الفلسطينيون استضافته في جميع دورات مجلسهم السابقة. ولم يجر خلال الاحتفالات تلاوة أية رسالة من رسائل التحية. وقد عرف، فيما بعد وفق ما نشرته وسائل الإعلام في الخارج، أن ثلاث شخصيات لبنانية أرسلت تحياتها إلى المجلس هي: رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق، أمين الجميل، ورئيس حكومتها العسكرية المبعد إلى باريس، ميشال عون، والزعيم المقيم في باريس باختياره، ريمون إدّه. ولم يعرف أن رسائل أُخرى أُرسلت. أمّا الصحافيون الذين حضروا لتغطية عمل الدورة، فقد ضمّ حشدهم معظم المراسلين المحليين لوسائل الإعلام التي تعنى بأنباء الشرق الأوسط وعدداً لا بأس فيه من الصحافيين الفلسطينيين المقيمين في الأرض المحتلة، وغاب عنه الصحافيون العرب وكبار الصحافيين الأجانب الذين كانت الدورات السابقة تجتذبهم. وعكس هذا الغياب، بوجوهه المتعددة، حالاً فلسطينية راهنة تختلف عن حال الفلسطينيين السابقة. وقد تذكر الذين لاحظوا هذا الغياب وانتبهوا لمغزاه كيف أن عقد دورات المجلس كان في السابق مناسبة عالمية يميزها حضور عربي ودولي واسع. وقيل، بين ما قيل في تفسير الغياب، إن جهات كثيرة، بينها إسرائيل والولايات المتحدة، أرادت لهذا الاجتماع الفلسطيني، حتى مع إقرار بعضها بأهميته الخاصة، أن يأخذ صبغة الاجتماع المحلي. وقد لُوحظ أن الاهتمام الإعلامي الأجنبي بأنباء المجلس لم يبرز إلا بعد تعديله للميثاق الوطني.
في جلسة الافتتاح هذه قرأ ياسر عرفات كلمة معدّة مسبقاً، وأكد فيها ما هو معروف من سياسة م.ت.ف. والسلطة الفلسطينية، وشدد على ضرورة وفاء المجلس بالتزاماتهما الدولية، وخصّ بالذكر مسألة تعديل الميثاق الوطني. وألقى سليم الزعنون كلمة لم تتميز بجديد. ثم رُفعت الجلسة من دون أن يتمّ تثبيت العضوية أو التثبيت من توفر النصاب. وقبل في تفسير ذلك إن الإجراءات الإسرائيلية الشائكة أخّرت وصول عدد من الأعضاء الآتين من الخارج، أو من الضفة، إلى غزة. وقيل، أيضاً، لعل هذا هو الأهم، إن قائمة الأعضاء الجدد المضافين إلى المجلس لم تستكمل بعد.
وفي صباح اليوم التالي، اتبعت إجراءات تثبيت العضوية والتحقق من توفر النصاب، وتمّ ذلك بالمناداة على أسماء الأعضاء واحداً واحداً، وتثبيت الحضور أو الغياب. واتضح أن عدد الحاضرين بلغ 536 من مجموع 669، فتوفر بذلك النصاب. وانضم إلى الاجتماعات بعد ذلك عدد آخر من الأعضاء حين وصلوا إلى غزة. وفي غياب رئيس الدائرة السياسية لـ م.ت.ف.، فاروق القدومي، قرأ محمود عباس (أبو مازن) تقرير اللجنة التنفيذية السياسي وقد اتسم تقرير عباس بالإيجاز وبسفوره في عرض الاستحقاقات التي يتوجب على دورة المجلس أداءها بشأن تعديل الميثاق. وقدم رئيس الصندوق القومي الفلسطيني، جويد الغصين، التقرير الخاص بالصندوق، الذي كان موجزاً، وقد أظهر إفلاس الصندوق وافتقاره إلى الموارد. ولم يكن في هذا أية مفاجأة؛ إذ يعرف الجميع أن الصندوق القومي الفلسطيني غدا، مع شحّ الموارد على امتداد أعوام واستمرار الأعباء، في حال لا ينفع معها حتى الرثاء.
وبينما أُعطي الراغبون في التحدث أمام الجلسة العامة الفرصة للإدلاء بدلائهم، أعلنت رئاسة المجلس تأليف خمس لجان فقط من لجانه المعتادة، هي اللجنة السياسية واللجنة القانونية ولجنة المال ولجنة العائدين ولجنة القدس. وتركت الرئاسة للأعضاء، وفق نظام عمل المجلس، حرية الالتحاق بأية لجنة من هذه اللجان ، التي انصرفت إلى أعمالها فوراً بينما استمرت الجلسة العامة معقودة. والواقع أن قليلين فقط من المتحدثين في الجلسة تطرقوا إلى مناقشة ما ورد في التقرير السياسي ذاته، وأقل منهم كان أولئك الذين تطرقوا إلى التقرير المالي. وقد تناولت الأحاديث، أكثر ما تناولت، موضوع تعديل الميثاق، وملابسات العملية السياسية، وآلام الطوق الذي تفرضه إسرائيل على المناطق المحتلة والملابسات المتصلة به. ودأب عرفات على الرد مباشرة على أية ملاحظة أو انتقاد صدر عن المتحدثين، وقدم، في هذا المجال، الإيضاحات التي رأى من الضروري تقديمها لوضع الحاضرين في صورة الوضع القائم بأثقاله واستحقاقاته، وحثهم على أخذها في الحسبان.
وكان أهم جلسات الدورة الجلسة التي خُصصت لمناقشة تعديل الميثاق الوطني، وقد عُقدت مساء أيار/ مايو 1996، بدعوة مسبقة من رئاسة المجلس. وكانت المداولات التي تحدثنا عن أهمّ وقائعها في المستويات المتعددة قد بلورت الصيغة التي عرضت في المجلس، وهي صيغة يمكن أن تعدّ متوازنة، حين يحكم عليها، مع أخذ جميع الملابسات التي اكتنفت إعدادها في الاعتبار. ولم يجر تبنّي إعلان الاستقلال، إلا إن ذكره ورد في نص التعديل. وورد أيضاً ذكر واضح لقرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وخص منها بالذكر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 لسنة 1967 والقرار رقم 338 لسنة 1973. وقد ورد ذلك كله في الحيثيات، وفيها أُشير أيضاً إلى "إعلان المبادئ" بين م.ت.ف. وإسرائيل، وإلى رسالتي الاعتراف المتبادل بينهما. وخص بالذكر كذلك الاتفاق على اعتماد الحلّ السياسي القائم على أساس دولتين لشعبين، وحل النزاعات بالطرق السلمية، والرغبة في إنهاء عقود المواجهة والنزاع بهذه الطرق، والاعتراف بالحقوق السياسة المتبادلة. وبالاستناد إلى الحيثيات، تضمن قرار التعديل فقرتين، فنص على أن المجلس يقرر، أولاً، تعديل الميثاق بإلغاء المواد التي تتعارض مع رسائل الاعتراف المتبادل، ويقرر، ثانياً، تكليف اللجنة القانونية بإعادة صياغة الميثاق على هذا الأساس ليتم عرض الصياغة الجديدة على المجلس المركزي، الذي ينوب عن المجلس الوطني، في أول اجتماع له.
وكان مشروع القرار هذا قد نوقش، آخر ما نوقش، في اللجنة التنفيذية قبل عرضه على الجلسة الخاصة للمجلس، وأجازته اللجنة، وفي الجلسة الخاصة هذه تلت الرئاسة المشروع لعدم توفر نسخ مطبوعة منه لتوزَّع على الأعضاء، ثم أعاد رئيس المجلس التلاوة بالسرعة الإملائية. وقد تدخل عرفات في اللحظة الأخيرة فاقترح تعديلاً بسيطاً على الصياغة، وكان ذا مغزى واضح، فتبدل ترتيب عبارتين في جملة من الجمل الواردة في الحيثيات، بحيث جاء النص على قرارات الشرعية الدولية بإجمالها سابقاً على تخصيص القرارين رقم 242 ورقم 338 بالذكر.
وكان من شأن قرار تعديل الميثاق أن يثير جدلاً مديداً، سواء أثاره الموافقون على اتفاق أوسلو أو المعارضون له. ولمنع الجدل الذي قد لا يتوقف لو بدأه أعضاء المجلس، فاجأ رئيس المجلس الحاضرين بأن قام، فور انتهائه من تلاوة النص، بتقديم اقتراح أن يتم التصويت عليه فوراً، ومن دون مناقشة. وكان هذا اقتراحاً بحجب النقاش، وإن سمّاه صاحبه اقتراحاً بوقف النقاش.وأثار ذلك ردة فعل صاخبة في القاعة. ولما تشبثت رئاسة المجلس بالقول إن ما عرضته هو اقتراح يقفل باب المناقشة، وله وفق نظام الجلسات، الأولوية، وطلبت التصويت عليه ليتم في حال إقراره التصويت بعد ذلك مباشرة على قرار التعديل ذاته، لم يبق أمام المعترضين على حجب النقاش سوى استخدام حق التحدث بموجب "نقطة النظام" المعروفة. وهنا، تناوب على الكلام عدد كبير من المتحدثين، وإن لم تبرز أغلبية معارضة للأسلوب. ومن نقاط النظام تلك واحدة بلبلت الرئاسة، وذلك حيت تلا أحد الأعضاء نص الفقرة في النظام الداخلي التي توجب التصويت على أي اقتراح بتعديل الميثاق بالمناداة بالأسماء، لا برفع الأيدي. وبيدو أن الرئاسة لم تكن قد حسبت حساب هذا الاعتراض، فلم تجد أفضل من رفع الجلسة لبعض الوقت، ولم تجد سبباً لرفعها أفضل من التذرع بالحاجة إلى أداء الصلاة، مع أن وقت صلاة العشاء الذي حل في أثناء المناقشة يمكن أن يظل مفتوحاً، كما هو معروف، لساعات طويلة.
وعندما التأمت الجلسة من جديد، ألقى عرفات أكثر كلماته في الدورة حزماً وحسماً، إذ صارح الأعضاء بأن التصويت سيجري على العملية السياسية كلها، لا على هذا النص وحده، وسوغ التصويت برفع الأيدي لا بالمناداة بالأسماء، بمسوغين: الأول هو أن المجلس لم يسبق له أن اتبع أسلوب المناداة بالأسماء، والآخر هو أن المناداة بالأسماء ستكشف موقف كل عضو، وهو ما سيعرض الأعضاء إلى المساءلة في الدول التي يقيمون فيها، حيث يمكن أن يؤذي الموافق في بلد، والمعارض في بلد آخر. واستخلص عرفات من هذا أن العرف له قوة القانون أن كفّ أهم من التشبث بالشكليات.
كلام عرفات، الذي لم يفتقرْ إلى الصراحة السافرة أو التلميحات السافرة الدلالة، صبّ ماء بارداً على اعتراضات بعض المعترضين وماء ساخناً على اعتراضات آخرين، وحسم الجدل بشأن أسلوب التصويت على التعديل. وعندما طولب الموافقون على التعديل برفع أيديهم، ارتفعت 504 أيد، في حين بلغ عدد أيدي المعترضين 54، وأيدي الممتنعين عن التصويت 14 فقط. وبهذا، حقق المجلس الوطني الفلسطيني المهمة الأُولى التي دُعي إلى عقد دورته في غزة من أجل إنجازها: وفت م.ت.ف. بالتزاماتها وفق أوسلو، وبقي الباب مفتوحاً أمام استمرار المشاركة الفلطسينية في العملية السياسية. وإلى هذا وذاك، ظل من الممكن أن يصاغ الميثاق الجديد في المستقبل وفق التطورات التي تمت، والتطورات التي ستقع.
والمهمة التالية، التي لم تبد أساسية ولم تثر اهتماماً كبيراً، أنجزها المجلس في اليوم التالي، حين تبنى مشروع القرارات السياسية من دون مناقشات طويلة، وهي القرارات التي لم تتضمن ما يخالف السياسات والتطلعات المعتمدة.
أمّا المهمة الثانية الأساسية، أي مهمة المجيء بلجنة تنفيذية محصنة ضد هاجس المقاطعة وفقدان النصاب، فقد أنجزها المجلس بصورة تتطابق مع ما توخاه الرئيس عرفات. إذ عُرضت على المجلس في آخر جلسات الدورة في 25 نيسان/ أبريل قائمة كاملة من المرشحين لعضوية اللجنة باسم قائمة الوحدة الوطنية. وقد شكل عرفات القائمة وفق توازن مدروس ومحكم بمقدار ما يمكن إحكام أي شيء في الساحة الفلسطينية المتموجة، دائماً، بالتفاعلات المتوافقة والمتضاربة. وكان هاجس التحصن ضد المقاطعة وفقدان النصاب هو الحاكم الأساسي للتشكيلة. وبقي في القائمة أعضاء اللجنة السابقة الممثلون للفصائل المشاركة فيها، بمن في ذلك الذين قاطعوا عملها في العامين الماضيين، وزيدت حصة "فتح"، وأُخرج من اللجنة الجديدة، ممن كانوا في اللجنة السابقة، المطران إيليا خوري الذي انتخبته الدورة نائباً لرئيس المجلس، ومحمود درويش وشفيق الحوت، المعارضان اللذان لم يحضرا الدورة ولم يغيرا موقفهما المقاطع لاجتماعات اللجنة، وعبد الله الحوراني، الذي سبق أن اعترض على أسلوب مفاوضات أوسلو وأبدى عدداً من الملاحظات ضد الاتفاق، وقاطع اجتماعات اللجنة التنفيذية لبعض الوقت قبل أن يعود إليها منذ بضعة أشهر، وجمال الصوراني الذي لم يقاطع الاجتماعات إلا إنه أبدى ملاحظات على الاتفاق من طبيعة معارضة، ودافع، عند مناقشة تعديل الميثاق، عن الميثاق القديم. وقد حل محل هؤلاء أعضاء جدد، بعضهم من "فتح"، مثل الزعيم المقدسي عضو اللجنة المركزية لــ "فتح" فيصل الحسيني، وبعضهم مستقل، مثل الدكتور أسعد عبد الرحمن، وجميعهم مؤيد للعملية السياسية تأييداً لا لبس فيه. وعندما دعي أعضاء المجلس إلى قول رأيهم في القائمة الجديدة، لم يرشح أحد آخر نفسه لمنافستها، ففازت حكماً بالتزكية. وعندما أُجري عليها تصويت لا لزوم له، في واقع الأمر، حظيت بموافقة أغلبية كبيرة.
ولمزيد من تحصين اللجنة ضد هاجس المقاطعة، طلب الرئيس عرفات من الأعضاء، قبل ارفضاض جلستهم الأخيرة، الموافقة على حق اللجنة في إسقاط العضوية عن أي عضو يغيب عن اجتماعاتها من دون عذر مقبول أكثر من ثلاث جلسات متتالية، كما طلب إسقاط هذا العضو من احتساب النصاب في اللجنة، فحظي عرفات بالموافقة على طلبه. وبذلك انتفى مفعول سلاح المقاطعة انتفاء كاملاً، من الناحية النظامية على الأقل.
والآن، يمكن القول إنه إذا كانت دورة المجلس الوطني الأُولى التي عقدت في القدس في أيار/ مايو 1964 أهمً دوراته على الإطلاق في ما يتعلق بالميثاق الفلسطيني، فإن الدورة الحادية والعشرين، التي أجمل هذا التقرير وقائعها، هي التالية في الأهمية، من هذه الناحية، إذ أنها هي التي ألغت أهم ما جاء فيه، وذلك من دون أن يسقط هذا القول الفارق الشاسع بين حال الفلسطينيين آنذاك، وحالهم اليوم.