تعالج الرسالة المسائل التي أثارتها ورشة العمل التي أقامها مركز الفن الشعبي في البيرة (في الضفة الغربية) يومي 26 و 27/11/1995، تحت عنوان "الحركة الفنية الفلسطينية". وهذه هي أول تجربة في فلسطين تداخلت فيها تجليات ثقافية متعددة، بدءاً من المنطلقات النظرية في الثقافة وعلاقة الثقافات بعضها ببعض، مروراً بالمراكز الثقافية، وانتهاء بالفنون ذاتها، كالمسرح والفن التشكلي والموسيقى والرقص والسينما.
أقام مركز الفن الشعبي في البيرة يومي 26 و27 تشرين الثاني/نوفمبر 1995 ورشة شاملة تحت عنوان "الحركة الفنية الفلسطينية". وهذه هي أول تجربة في فلسطين لم تكن مكرسة لجانب واحد من جوانب الثقافة بل تداخلت فيها تجليات ثقافية متعددة، ابتداء من المنطلقات الرؤيوية النظرية في الثقافة وعلاقة الثقافات بعضها ببعض، مروراً بالمراكز الثقافية وأدوارها والمناهج التربوية، وانتهاء بالفنون ذاتها، كالمسرح والفن التشكيلي والموسيقى والرقص والسينما.
إن المداخلات والحوارات التي دارت في هذه الورشة تشكل فعلاً ثقافياً قد يكون شمولياً من ناحية، ويعكس تصورات معرفية وسلوكية من جهة أُخرى. فما هي الأسئلة الثقافية التي تطرح؟ وكيف يتعامل المثقفون والفنانون معها على المستويين الذهني والتجسيدي؟
ابتدأت المداخلات بتحليل نظري لواقع الحركة الفنية الفلسطينية وآفاقها المستقبلية؛ فمن خارج السلطة ظهر صوت، ومن داخلها ظهر صوت آخر. فمن داخلها تتغلف المداخلة بالطموح والتحرر والانعتاق، غير أنها تمأسس كل شيء وتقنن كل شيء أيضاً، ومن خارجها، تتحرر المداخلة إلى أقصى فضاءاتها لتبني صورة منتجها الحالمة. فيفتتح القول في هذه الورشة د. حسين جميل البرغوثي ليفاجئ الجميع كعادته؛ فهو يقدم شيئاً مختلفاً مغايراً يبدو للسامه أنه ليس متصلاً بالموضوع؛ فما علاقة تحليل نظري لواقع الحركة الفنية وآفاقها المستقبلية بالشروع في الحديث عن "زرقاء اليمامة" مستخدماً حكايتها المشهورة كمفتتح لحكيه.
ويندفع البرغوثي في استقرائه للحادثة التاريخية ليقول إن انقلاباً حاداً وقع في الخطاب اللغوي الفلسطيني السائد، وليصل بقوله إلى أن الإنسان يغلف وجوده بالأساطير، وبالتالي "فإن عملية أسطرة جديدة قد بدأت" لتفسير ما يجري في الواقع الفلسطيني الذي يتفاعل مع تغيرات سياسية أساسية. "فبمجرد" ما بدا أن الفكرة الأسطورة هذه تنتقل إلى مشروع دولة على أرض الواقع انهارت أمكنة ذهنية، وخرائط أساسية؛ أعني حدثت هزة في جيولوجيا الروح تمس حتى الهوية نفسها ويحس بها أكثر الناس بلادة، أمكنة سميت مثلاً (بالثوابت الوطنية والمرجعية)، أمكنة طقوسية ما، انهارت (ففي القرن التاسع عشر مثلاً كانت هناك آبار مسكونة وأولياء لهم أمكنة مقدسة، ونذر، وطقوس، وزواج وموت...) وكل هذه الطقوسيات انهارت واندثرت أمام تقدم الفكرة القومية المفسِّرة، ونشأت على أنقاضها طقوسيات أُخرى من نوع عبّر عنه محمود درويش (لا يعرفون الرقص والمزمار إلا في جنازات الرفاق الراحلين.) ملصقات بصور الشهداء تتمتع بإجلال خرافي، فنون تشكيلية ترسم البندقية والكوفية وألوان العلم... إلخ. هذه الأمكنة الطقوسية تدخل أيضاً في دوامة التغير. فقد كانت منذ السبعينات مثلاً مهرجانات وطنية ولكن الجديد في المهرجانات الحالية افتقار المهرجانية الآن لهذا التوتر الذي كان يعني صداماً مع الاحتلال. أمّا الطقوسية الحالية فتشبه ما يسمونه في ما بعد الحداثة (بالحالاتية والحالاتيين) إنها فرجة، حالة خفيفة، أي أن هذه (الحالاتية) هي جزء من الطقوس في حالة ولادة الفكرة المفسِّرة على أرض الواقع في هذه المرحلة الانتقالية وأحياناً - وهذه جملة أرجو أن لا تثير وزارة الثقافة أكثر من اللازم - يطغى لدي شعور بأن هذه الحالاتية قد تكون أداة لعدم بناء بنية تحتية وثقافية عبر الهوس بالمتلاشي مثل معرض اللوحات الذي ينتهي بعد قليل رغم التكاليف الطائلة لمثل هذه الحالات، وهناك ما يمكنني أن أسميه بطقوس كتابة (البروبوزلز) المهنة الهامة الجديدة. وطقوس النضال الأُولى امتزجت الآن بطقوس الانتفاعية المفتوحة..."
وخلص د. البرغوثي إلى أن الكرة الأرضية الآن مقسمة إلى دول قومية من القطب إلى القطب. هذه الدول القومية المكتملة التي ليست مجرد مشاريع لم تحل مجموعة هائلة من التناقضات والقضايا، مثل قضية هيمنة الذكور على الإناث، أو قضية اللامساواة في الإنتاج وفي التوزيع، أو قضية الإثنية، أو قضايا الطائفية والتعصب الديني... وفي نهاية المطاف يجب أن نتذكر بأننا نحيا في زمن قلتُ عنه مرة إنه زمن "تخوزقت فيه جميع الطبقات من الطبقة العاملة حتى طبقة الأوزون"، والدولة القومية لن تكون حلاً.
ثم تلاه مدير عام في وزارة الثقافة، وهو الأستاذ محمود البطراوي، مفتتحاً كلامه بتحديد صورتيْ الثقافة: صورة الثقافة الرسمية التي تمثل فلسفة الأنظمة الحاكمة، وصورة الثقافة التي تبلورها الشعوب تعبيراً عن توق اجتماعي إنساني لتغيير واقعها ولتشكيل الوجدان القادر على دفع عجلة التغيير.
وتناول الجزء الأول من الورقة الجذور والإنجازات لحركة الثقافة الفلسطينية، ثم جرى الحديث عن محاولة التدمير المتعمد لعقل الإنسان الفلسطيني من خلال برامج التعليم التي وضعتها حكومة الانتداب البريطانية وخصت بها عرب فلسطين، في حين أنها وضعت مناهج التعليم اليهودية تحت إشراف المجلس الملي اليهودي، الذي استطاع أن يصوغ مناهج أوسع وأرحب تناولت المعرفة والفن وتنمية الوجدان. واستشهدت الدراسة بتقرير اللجنة الملكية البريطانية بشأن التعليم في فلسطين في إبان فترة الانتداب.
وجاء الجزء الثاني ليتناول الشوائب والنواقص والإجابة عن السؤال المطروح: هل ثقافتنا في أزمة؟ ثم جرى تحديد ملامح هذه الأزمة ومظاهرها والشواهد عليها: قصور الرؤيا، خلص المصطلح، انعدام التخطيط، الروح الحَلقية/الفئوية. ثم تناولت الورقة الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة وطريق الخروج منها: عبر إصلاح المؤسسات والأجهزة الثقافية القائمة، وخطة العمل المقترحة للمنطلق المقترح لبناء أجهزة ثقافية جديدة وفعالة. أمّا التوصيات التي أشار البطراوي إليها فيما يخص هاتين المسألتين فجاءت على النحو التالي:
- المؤسسات القائمة وتحسين أدائها على أسس ديمقراطية.
- تصفية روح التنافس الفئوي والصراعات الجانبية على المناصب والمكاسب.
- اقتصار الدعم على المشاريع التنموية الثقافية ومشاريع النشاط المبرمج.
- تقليص حجم الأجهزة بإلغاء الازدواجية وترسيخ الطابع الجبهوي فيها.
- ترشيد الإنفاق المالي وإعلاء دور أجهزة الرقابة المالية والإدارية.
- مراجعة الأداء باستمرار ومراقبة النتائج.
دور المؤسسات الرسمية الأهلية
في دعم الحركة الفنية وتنشيطها
في المحور الثاني من محاور الورشة، ركز وكيل وزارة الثقافة الفلسطينية، الأديب يحيى يخلف، على دور وزارة الثقافة الفلسطينية، مفتتحاً حديثه بالقول: "إن الإبداع جهد فردي، وإن دور المؤسسات تنشيط هذه الجهود والمساهمة في نشر وتعميم هذه النشاطات الثقافية الفردي منها والجماعي. وبالتالي فإن دور المؤسسة احتضان هذا النشاط الثقافي وإشاعة جو يسهم في وصول هذا النتاج إلى المتلقي. وعندما نتحدث عن دور المؤسسة الرسمية نتوقف ابتداء للنظر إلى موضوع البنى التحتية الثقافية، فلكي يكون هناك ثقافة وعمل ثقافي مؤسساتي لا بد من توفر بنى تحتية تسهم في نشره وتعميمه وأحياناً تسهم في خلقه. إن ظروف الاحتلال حالت دون وجود مثل هذه البنى." ثم قام باستعراض بعض القضايا المتعلقة بالثقافة: 1) نشر الكتاب: حيث لا توجد في عموم الوطن دار نشر واحدة، ولا توجد شركة توزيع، 2) المسرح: فليس هناك في الضفة الغربية وقطاع غزة سوى قاعة مسرع واحدة ملائمة.
ويضيف يخلف: "لقد قمنا في وزارة الثقافة ببعض النشاطات الثقافية في مجال النشر والمسرح والمهرجانات والفن التشكيلي والممتلكات الثقافية وورشات التدريب والاتفاقات العربية... وتجري الآن محاولات في مجال إنجاز بنية تحتية ثقافية، وتم الاتصال بالأثرياء الفلسطينيين وبحث معهم إنشاء مؤسسة ثقافية تدعم من قِبل رجال الأعمال بهدف إنشاء مكتبة وطنية ومسرح وطني ومراكز ثقافية، وتم تأسيس مؤسسة تنمية ثقافية لتقوم بتأسيس البنى التحتية الفلسطينية. وفي إطار الاعتماد على الذات حاولنا إشراك المؤسسات الوطنية كالبلديات في إنشاء المراكز الثقافية التي عليها الالتزامات الثقافية إلى جانب التزاماتها التقليدية، فمؤسسات المجتمع المدني هي التي يجب أن تباشر بتأسيس الحالة الثقافية إضافة إلى مسؤولية المؤسسة الرسمية. وهناك العديد من المراكز الثقافية الأهلية التي تحتاج إلى الدعم والمساعدة في وضع برامج في التأهيل والتدريب."
التربية والتعليم والمنهاج الفني
حاول الأستاذ موسى برهم أن يتناول موقع الفنون في المنهاج التربوي الفلسطيني الذي سيُنجز بديلاً من المناهج القائمة، غير أنه لم يشر إلى هذه المسألة من بعيد أو قريب، وأخذ يقدم النصائح العامة المتعلقة برعاية الفنون والاهتمام بالأطفال. ومن اليسير الإدراك أن تصوراً واضحاً لموضوع الفنون بعلاقتها في التعليم وبالمناهج الفلسطينية المستقبلية ليس واضحاً بعد.
ثم تلته الأستاذة ميرفت عياش، من وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، حيث تناولت التربية والتعليم والمنهاج الفني. ومما قالته:
- في سنوات الانتفاضة، كانت حصص التربية الفنية تقدم بطرق سيئة، حيث كانت وما زالت توزع على المدرسين غير المتخصصين في سبيل استكمال البرنامج المدرسي وفي ضوء التغيرات التي حصلت في سلّم التعليم والخطة الدراسية، فقد تم إعداد مناهج للمرحلة الأساسية استناداً إلى ثلاثة محاور:
- الإنتاج الفني الذي يشمل التعبير بالرسم والتصوير، التصميم الابتكاري، التشكيل والتركيب، الفن والتكنولوجيا؛
- تاريخ الفن (فنون الحضارات القديمة وفنون عصر النهضة، والفن الإسلامي والفن الحديث)؛
- التذوق الفني (يشمل الفنان والعمل الفني والقيم الجمالية والتذوق الفني)."
ربع قرن للمرأة الفلسطينية
على خشبة المسرح
(تمثيل، تجسيد، تشخيص)
قدمت الفنانة المسرحية إيمان عون في محور المسرح مداخلة، حاولت فيها دراسة واقع المرأة في المسرح الفلسطيني عبر تناول التجربة الفلسطينية في الضفة الغربية:
"إن تتبع ظهور المرأة الفلسطينية على خشبة المسرح بأشكاله وصوره المتعددة يدفعنا إلى إدراك التغيرات السياسية والاجتماعية الحاصلة في المجتمع وتتبعها. كما أن إهمال انخراط المرأة الفلسطينية في العمل الفني عموماً والمسرحي بخاصة كان ناجماً عن طغيان الانخراط المجتمعي في المسألة السياسية والنضالية، فأصبح الفن في أدنى سلّم الأولويات. وهذا لم يمنع جماعة من المثقفين الذين نظموا الحلقات والتجمعات الممنوعة من قِبل الاحتلال من التعبير عن دورهم بطرق نضالية إبداعية، حيث وجدت هذه التجمعات نفسها على شكل حلقات ثقافية متعددة المواهب والأفكار أفرزت فيما أفرزت تجمعات مسرحية.
"إن خروج المرأة إلى العمل السياسي أفضى إلى مشاركتها في الحياة الثقافية ومشاركة بعض الموهوبات في حينه والمحترفات الآن في مجال العمل المسرحي وتأثيرهن على جموع المهتمين نسبياً، وانعكس ذلك على تحفيز بعض الفتيات للتفكير الجدي بالمسرح، إضافة إلى أن خروج بعض الفتيات للدراسة في الخارج ساعد على بلورة توجهاتهن الثقافية وبلورة رؤاهن الفنية المسرحية."
ثم تحدثت عن الأدوار التي قامت نساء بها أو عن أدوار نسوية أداها الرجال حينما ندر العنصر النسائي، وحاولت تحليل انعكاسات هذه الأدوار على المسرح:
"التشخيص كمفهوم وكحالة محصلة لوعي هذا المجتمع الذكوري، فبينما آثر البعض البحث عن أعمال تخلو من الشخصيات النسائية، عمل البعض الآخر على إعطاء هذه المهمة للرجل وألبسه ثوباً هو أصلاً بعيد عنها. فجاءت الشخصيات نمطية سطحية وخالية من الإبداع. أمّا المسرحيات التي تناولت النساء في أعمالها كمواضيع، فهي شحيحة نسبياً. فالهم الأساسي فيها كان منصباً على الموضوعة السياسية، وأتت المرأة هنا كجزء من هذه الهموم، أو لأن كتابها كانوا من الرجال الذين لم يستطيعوا التعمق في طبيعة المرأة. وجاءت بعض المسرحيات مجسدة الرجل والمرأة على المسرح بشكل تجريدي، فلم يكن للفرد فيها أي تأثير على الأداء."
المسرح الفلسطيني: واقع وطموحات وآفاق تطور
ثم تحدث الفنان المسرحي أحمد أبو سلعوم عن هموم المسرح الفلسطيني في ظل الاحتلال، وأشار إلى أن "المسرح الفلسطيني بعد 1967 ولّدته وبعثته أزمة الإنسان الفلسطيني الذي لعق الهزيمة على غير ما توقع. إذن، هو وليد أزمة عاصفة ما زلنا ندفع ثمنها حتى يومنا هذا ولربما لأجيال قادمة. وقد بدأ المسرح عندنا كرد من ردود الفعل على هزيمتنا وظل محطات اجتهادات كسولة تتراوح بين رغبات البعض الذي أراد لنفسه مكاناً أو طموحات السياسيين الذين رأوا في المسرح مردداً لشعاراتهم أو موزعاً لأفكارهم أو حتى لعبة تستهوي من لديه هواية جمع الناس ودفعهم للتصفيق له أو نشر صورته في الجريدة. وبالرغم مما تقدم، فإن عشرات الفرق وأضعافها من المسرحيات التي عرضت شكلت تراكماً ربما فاقت عدديته نوعيته. ففي الوقت الذي بقيت فيه فرق قليلة وعدد ضئيل من المسرحيين في أواسط الثمانينات، وفي فترة الانتفاضة، ضعف الإنتاج المسرحي من ناحية الكم، غير أنه تحسن نوعاً بسبب افتتاح مسرح الحكواتي الذي دفع إلى استخدام التقنيات، إضافة إلى توفر عناصر مسرحية مجربة وأُخرى حصلت على دراسات أكاديمية مسرحية متخصصة ومطلعة على تجارب مسرحية خارج الوطن.
"تكاد صلتنا بالعالم الخارجي تكون في أحسن صورها حديثاً، وأثمرت ميزانيات للبعض وتحسناً ملموسً في الإنتاج. فاليوم لدينا مؤسسات مسرحية تغني كل واحدة على ليلاها وتعمل غالباً في غياب الاستراتيجي، فلا زلنا نتخبط ونتعثر وليس لدينا أي خطة عمل مستقبلية.
"فهناك مسرحيون يتظللون تحت مظلة التجريب في إنتاجهم التي شهدتها كل مراحل العمل المسرحي الفلسطيني حتى أصبحت كلمة التجريب ملجأ وملاذاً للتستر على الإنتاج الرديء."
الفن التشكيلي الفلسطيني
ركز الفنان التشكيلي سليمان منصور في مداخلته على مسألتين: الأُولى علاقة السياسي بالفني، والأُخرى تطوير ذوق الجمهور:
"لم يكن في الضفة الغربية أي نشاط في الفن التشكيلي منذ احتلال 67 إلى 1972، حيث أُقيم أول معرض للفن التشكيلي. طغيان الواقع السياسي لم يسمع بتطوير أدوات الفنانين، وعشنا في شبه غيتو ثقافي لم يمكننا من الانفتاح على العالم. وتم الاستناد إلى الأفكار والرموز السياسية بدلاً من الاستناد إلى جماليات الفن وتقنياته. ونشأت قطيعة ما بين الفنانين والجمهور بسبب الاستخفاف الذي تم تبادله ما بين الفنان الذي يرسم ما يبتغيه الجمهور والجمهور الذي مل حشد الرموز السياسية وألوان العلم والقبضات في اللوحات... إلى أن جاءت الانتفاضة التي حررت الفنانين من التوجه السياسي المباشر ومنحته إمكانية تطوير فنه، وكان السبب راجعاً إلى تغير نظرة بعض الفنانين إلى دورهم الذي كان يطغى عليه سابقاً الشعور بالقيادة والتوجيه والتحريض إلى أن باتوا مقتنعين بأن دورهم عادي وتأثيراته على الجمهور ليست كبيرة.
"وبعد اتفاقية السلام، وقع كثير من الفنانين في ورطة كبيرة، حيث كانوا يعتمدون إلى حد كبير على السياسي الذي لم يعد المحور الأساسي لهم."
رؤية الفن التشكيلي
في بناء مجتمع مدني فلسطيني
أمّا الفنان التشكيلي العائد جمال الأفغاني، فقد قدم مداخلة مؤثرة تحت عنوان "هلوسات مواطن في الضباب"، عكست علاقته بالمكان الجديد الذي هو الوطن، وكشف بصدق فاضح مكنونات نفسه. وربما من المفيد هنا نقل معظم كلمته التي اختتمها بقوله "أنا لست مواطناً":
"عندما تقررت عودتنا اتخذت قراراً ذاتياً بمسح كل ما في ذاكرتي المتعلقة بالمنفى لأكتشف العالم الجديد؛ الشق الآخر وهو الوطن.
"الخطوة الأُولى التي لدي هي أنني وقبل كل شيء فنان، ولست مواطناً يختار. فنان يؤمن بمقولة الإيمان بالفن كإيمان الإنسان في الحياة، عبء يلقى على عاتق الفنان وعليه أن يختار: إمّا التعبير عن جوهر الحقيقة والحرص على الحق للحق أو الاستسلام لضغوط الحياة، أو انعدام الحماس واتخاذ المواقف المأمونة وضحالة الثقافة والاكتفاء بالأحكام المتداولة لنصل إلى قبول رقيب يعمل قلمه الأحمر حذفاً إلى إضافة، وإداري يقبل العمل الفني أو يرفضه، أو تحكم مسؤول باسم المصلحة العامة لفرض اتجاهات معينة أو التحكم بالفنان على السلم الوظيفي إذا كان على الفنان أن يربط حياته وعمره بالإطار المؤسساتي، وهو إطار قد تتحكم فيه قوى مختلفة لا تربطها أية صلة بالفن أو إدراكه.
"وفي النهاية، فالفنان المواطن، إمّا أن يكون فناناً أو لا شيء على الإطلاق، وفي حالة كونه فناناً، فعليه أن يتحمل كل شيء: وحدته وغربته، فتجربته ذاتية ومستقلة، ولا يمكن لأحد أو لقوة التدخل فيها. ولهذا فأنا لست مواطناً."
العلاقة الفنية بالآخر حاضراً ومستقبلاً
الأديب الروائي إميل حبيبي، وكعادته، ينتج مداخلة كولاجية، فيقفز من قضية إلى أُخرى، تشابك القضايا حيناً وتتغارب في أحيان أُخرى. وحينما يتحدث فإنه دائماً يحاول تفكيك مقولة ضدية جاهزة دائماً في ذهنه، وكلها تدور حول "التطبيع":
- الأزمة التي يعانيها الفنانون الفلسطينيون يمكن اعتبارها أزمة عالمية، لا تستخفوا بأنفسكم، الآخر ليس أفضل منكم وعلينا أن نتخلص من هذا الشعور بالنقص.
- الآخر أيضاً هو أنت وأنا. ومن المؤلم جداً أن أجد وفي كل العالم أن العلاقة بين المبدعين من أسوأ ما عرف من علاقات. لا يمكن أن يكون الفنان فناناً إلا إذا كانت نرجسيته عالية جداً لأننا ذاتيون.
- في البلاد العربية حركة ثقافية تنادي بالوقوف في وجه الغزو الثقافي، وحينما كنت في القاهرة في محاضرة مشتركة مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، قدم الجواب فقال ليقوموا بغزونا بالثقافة بدلاً من غزونا بالدبابات، أنا لست مقتنعاً بوجود غزو ثقافي غربي ولن يكون هذا أبداً، والثقافة الجيدة المتميزة هي ثقافة تغتني بالثقافات الأُخرى. أصحاب الثقافة العربية وخصوصاً السياسيين منهم هم الذين لا يريدون أن تصلنا ثقافتهم، فنحن لم نضع الحواجز أمامها. لقد حاربوا حتى بالفلسفة لمنع وصول المكاسب العلمية إلينا.
- لقد مررنا بعصر انحطاط كبير، وكنا نتمتع بعصور مضيئة، ومع ذلك لم ننقرض وثقافتنا لم تنقرض كما حدث لليونانيين. لغتنا زالت ولم تنقرض. وتراثنا أسهم في التراث العالمي واستوعبه.
- نحن نقيم لأنفسنا أقفاصاً ثم نستمرئ هذه الأقفاص والحياة في ظلها. وننسى أن الذي أقام لها هذه الأقفاص لسنا نحن بل عدونا.
- حرية الإنسان تتجسد بحرية الإنسان من المرأة، فالآخر هو المرأة، وهذه مصيبتنا وأزمتنا، فنصف مجتمعنا مشلول. أنالا أدعو إلى الإباحية ولكن أدعو إلى رفع أربعة أخماس جبل الثلج إلى فوق. نحن تربينا على الكذب الذي هو أشد من العهر. أنا لا أتجاسر على قول هذا الكلام في "مشارف"، وها أنا أقوله أمامكم لأنني أيضاً أنا محمل بعقدة.
- نحن ندعو إلى تضامن المفكرين والمبدعين اليهود مع قضيتنا العادلة. نحن نريد مسرحاً مصرياً أن يأتي إلى إسرائيل، إلى غزة وإلى رام الله، نحن لا نطلب ذهاب المسرح الإسرائيلي إلى القاهرة. نحن نريد تضامن المبدعين العرب معنا وهم لا يريدون ذلك.
العلاقات الثقافية بالآخر
أمّا القاص محمود شقير، فحاول أن يتناول العلاقات بالآخر في بعدها العالمي، ولم يقصرها على العلاقة بالإسرائيلي:
"أمام الشروط المجحفة في التسوية الراهنة بين الفلسطينيين والعرب من جهة والإسرائيليين من جهة أُخرى، هنالك نوع من التخوف المشروع في أوساط الجماهير العربية وفي أوساط المثقفين العرب والفلسطينيين من أن هذه التسوية بشروطها المجحفة قد تسهم في تكريس تعثر المشروع النهضوي العربي وفي تحقيق الأطماع الإسرائيلية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني وتجاه المنطقة العربية عموماً. ويتحسس المثقفون العرب والفلسطينيون كثيراً ولا يجدون في نهاية المطاف إلا موضوعة التطبيع الثقافي لينفخوا فيها ويضخموها كثيراً باعتبار أنها تشكل فرصتهم في قولهم لرأيهم. فهناك مثقفون يتناسون الخطر الناجم عن التطبيع في الميادين السياسية والاقتصادية والدبلوماسية ولا يرون إلا موضوع التطبيع الثقافي يكيلون من خلالها التهم بعضهم لبعض.
"حينما أتحدث عن الآخر الغربي وعن غزوه الثقافي، فإنني أذهب إلى غير ما ذهب إليه إميل حبيبي، فلست أرى في النتاج العلمي والمعرفي الديمقراطي الغربي إلا نتاجاً إنسانياً يسهم في ارتقاء الحضارة وليس غزواً ثقافياً. أمّا الغزو الثقافي فهو الذي يعمل على تكريس الهيمنة والتبعية وصرف وعي الشعوب العربية عن مصالحها الحقيقية ومحاولة نهب خيراتها ومحاولة إبقائها رهينة للتخلف. فمن هذا المنظور أعتقد أن غزواً ثقافياً قد وقع. ومن هذا المنظور أقول بأن مشروعنا الثقافي النهضوي العربي قد تعثر بسبب هذا الغزو الثقافي وبسبب ما أفرزه من ردود فعل معظمها سلبي وقليلها إيجابي.
"نحن بحاجة إلى إعادة التفاهم مع ماضينا؛ ففي سياق الغزو الثقافي الذي نواجهه الآن ما زلنا في معضلة مع تراثنا، علينا إزاحة هالة القداسة عنه فنأخذ من التراث ما يلائم لحظتنا الراهنة وما يلائم مستقبلنا، وأن نتعامل مع التراث ومع الغرب بعقلانية. وأنا أرى بأننا بحاجة إلى أممية جديدة تضع كل شعوب العالم الطامحة إلى الحرية والديمقراطية والسلام في صف واحد مواجه لشركات المتعددة الجنسيات وهيمنة الاحتكارات الرأسمالية التي تحاول فرض نظام القطب الواحد."
الموسيقى في فلسطين
الفنان الموسيقي سهيل خوري أخذ يصنف التوجهات الموسيقية التي سادت في فلسطين بعد سنة 1967:
"ففي الوقت الذي كانت فيه التجربة الموسيقية خارج الوطن تقدم أساساً موسيقى الثورة عبر الأناشيد ومن خلال الإذاعات العربية، فقد كانت التجربة في داخل الوطن تتجه إلى تلحين الأناشيد الوطنية بطريقة مختلفة ذات قيمة موسيقية وشعرية أرقى وأقل حماسية، حيث ظهرت الموسيقية ريما ترزي والموسيقي أمين ناصر إلى جانب الفرق الموسيقية التقليدية التي كانت تحيي الاحتفالات والمناسبات عبر الأغاني العربية الكلاسيكية.
"وفي النصف الثاني من السبعينات برز اتجاهان موسيقيان: الأول تعزيز الفرق المنطلقة من موسيقى البوب وموسيقى الرهبانيات التي ساهمت المدارس الأهلية في تعزيزه. والاتجاه الثاني عبر الموسيقى الفولكلورية كفرقة العاشقين والزجال أبو عرب.
"على صعيد الموسيقى السياسية، بدأت تتضح ملامحها فلسطينياً بتأثير من فنانين عرب كمارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر والشيخ إمام.
"أمّا في بداية الثمانينات، فقد ظهرت فرقة صابرين لتسد فراغاً كبيراً في الموسيقى الفلسطينية السياسية التي لها طابع خاص. كما ظهرت فرق جديدة كفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية وفرقة جذور وفرقة سرية رام الله الأُولى، كما أُنشئت في الجليل فرقة يعاد التي لعبت دوراً كبيراً على المستوى الموسيقي والغنائي.
وفي أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، خفتت حدة الأغاني التحريضية المباشرة، وبرزت الفنانة ريما بنا، وظهرت جوقة نداء وفرقة وشم المقدسية."
ثم أشار خوري إلى أن الفرق الموسيقية الفلسطينية الجيدة لم تساهم في تطوير الذوق الشعبي العام، وأرجع ذلك إلى قلة الإنتاج وضعف الانتشار.
وفي نهاية مداخلته قدم رؤية أولية لمستقبل موسيقي مؤثر عبر تأسيس معهد قومي للموسيقى، وتجميع الطاقات الموسيقية الفلسطينية، والاستعانة بموسيقيين عرب، وإقامة إذاعة موسيقية، ومجلتين دوريتين تهتمان بالموسيقى، الأُولى شعبية والأُخرى للمتخصصين، ودعم الفرق سنوياً من قِبل وزارة الثقافة وخصوصاً الفرق التي تقدم إنتاجاً للأطفال.
توظيف التراث الفلسطيني في تحديث الأغنية الفلسطينية
وفي المحور نفسه، قدم الفنان الموسيقي نبيل عازر تصوراً للعلاقة بين التراث الموسيقي وتجربته في إعادة إنتاج الأغنية الفلسطينية عبر فرقة يعاد الجليلية. ومما جاء في مداخلته:
"في الأغنية الشعبية نلاحظ ثباتاً في لحنها وتغيراً في النصوص، وهذا جزء من خصوصية التراث. فمن ناحية، عملية الأغنية الشعبية منوعة في مواضيعها، وكل لحن يمكن له أن يتناول كل جوانب الحياة. فالقالب اللحني (دلعونا) مثلاً احتوى عبر تاريخه على مواضيع مختلفة ومتنوعة.
"إنني أتعامل مع الأغاني التراثية في إطار البرنامج الموسيقي لفرقة يعاد بروح إعادة صياغتها موسيقياً بحيث أمنح الأغاني بعداً جمالياً وعمقاً وحركة، مما يجعل اللحن قادراً على التعبير عن جميع الحالات والمشاعر الإنسانية بشكل صادق."
ثم تلاه الفنان محمد عطا متناولاً تجربة فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية في الرقص الشعبي ورؤيتها:
"انطلقت الفرقة بهدف الحفاظ على التراث وحمايته عبر المساهمة في ترسيخ الهوية الوطنية كوننا نعيش في مرحلة تحرر وطني، وبهدف الربط ما بين الأصالة والمعاصرة. والرقصات التي كنا نقدمها تنتمي إلى الدبكة الشعبية الفلسطينية: الدلعونا، الطيارة، السحجة، التغريبة... وكانت تقدم مقتربة كثيراً من صياغتها الأصلية وكما تعلمناها في الأعراس، والتغيير الوحيد الذي كنا ندخله في هذه الرقصات هو محاولة تنسيق الحركات وترتيبها لتصبح ممكنة على خشبة المسرح."
أسئلة السينما الفلسطينية
تطرق المخرج السينمائي رشيد مشهراوي في محور السينما الفلسطينية إلى عدم وجود سينما فلسطينية، وإلى غياب إمكان وجود سينما فلسطينية في غياب صناعة السينما بكل تفصيلاتها:
"إننا ما زلنا في طور المحاولات غير الراسخة، وذلك يعود إلى أن السينما صناعة إضافة إلى كونها فناً. وسينما الداخل تابعة لسينما الخارج، فلكي ننتج فيلماً ذا سوية عالية، فإننا نحتاج إلى مبالغ كبيرة تدفع باتجاه الإنتاج المشترك، والعمل مع دول أُخرى كفرنسا وإيطاليا وألمانيا... وفي الوقت نفسه، لا يوجد لدينا إمكانات العرض في الوطن إذا ما تسنى لنا إنتاج الفيلم، فليس هناك آلة عرض أو دور عرض أو موزعون... ونحن نفتقر إلى كل ما يتعلق بإنتاج الفيلم من مصورين ومختبرات... ولهذا فنحن أمام خيارين: إمّا العمل مع الإسرائيليين أو الاتجاه إلى دول أجنبية، وهذا مرتبط بميزانية الفيلم."
أمّا المخرج السينمائي محمد السوالمة، فقد اختار المقارنة بين السينما الفلسطينية في الخارج والسينما في داخل الوطن. ومما جاء في مداخلته:
"حاولت الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها دعم وجود سينما فلسطينية، وفي تاريخ السينما الفلسطينية بصمات ذات دلالة ترجع إلى السينمائيين الفلسطينيين الأكاديميين، منهم غالب شعث. وفي المقابل، شهدت السينما الفلسطينية متسلقين هدفوا إلى الإثراء السريع وليست لهم علاقة حقيقية بالسينما."
وختم ورقته بسؤاله المرير: "هل نقبر السينما الفلسطينية إلى الأبد ونكتفي بمحاولات الإنتاج المشترك الذي يعني تمويلاً خارجياً؟ إن السلطة الفلسطينية ووزارة الثقافة بشكل خاص مطالبتان بإعادة إنشاء الجسم السينمائي الفلسطيني المفكك."