يعرض المقال الرؤية السياسية لليكود، باعتبارها "مقاربة براغماتية ـ تكتية"، بما في ذلك الخطة التفصيلية التي قدمها بنيامين نتنياهو إلى رئيس الحكومة شمعون بيرس لـ "مكافحة الإرهاب"، والتمايزات الموجودة في صفوف قيادة الحزب بشأن التسوية السياسية، ومحاولات رص صفوفه عقب انشقاق معسكر دافيد ليفي.
حفلت الشهور الأخيرة بجملة من التطورات والحوادث المهمة، من أبرزها: إبرام اتفاق أوسلو - 2 ثم توقيعه في السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1995؛ اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 1995؛ سلسلة العمليات الاستشهادية في فلسطين في 25 و26 شباط/فبراير و3 و4 آذار/مارس 1996. وقد انعكست هذه التطورات والحوادث، بشكل أو بآخر، على وضع الليكود في رأس المعارضة وعلى مواقفه وأدائه السياسي. ومما جعل الليكود أكثر عرضة لتأثير مثل هذه الانعكاسات هو أنه كان يعاني أصلاً الذيول التي خلّفها انشقاق جناح دافيد ليفي، في حزيران/يونيو 1995، على "البيت الليكودي" وعلى مجمل أداء المعارضة في الكنيست وفي الشارع.
وإلى ذلك، فإن قيادة الليكود، بزعامة بنيامين نتنياهو، لم تقف طبعاً مكتوفة اليدين، تتفرج على اهتزاز الوضع الداخلي للحزب وتراجع نفوذه السياسي. وجاء قرار تقديم موعد انتخابات الكنيست والانتخاب المباشر لرئيس الحكومة، ليدفع بهذه القيادة إلى تعزيز الجهود الرامية إلى تحسين فرص الليكود في الفوز في هذه الانتخابات، إلى جانب أحزاب "اليمين القومي" الأُخرى، وفي مواجهة حزب العمل الحاكم وحلفائه المحتملين.
لكن، ما هي، في نهاية المطاف، الصورة التي يستقر الليكود عليها عشية الانتخابات، إنْ لجهة موقفه من أبرز القضايا السياسية، وفي مقدمها الموقف من "التسوية السلمية" الجارية، أو لجهة الاصطفاف الذي يقوده في المعسكر "اليميني القومي" الصهيوني؟
الرؤية السياسية "مقاربة براغماتية - تكتية"
على خلفية التطورات والحوادث التي أشرنا إليها أعلاه، أثّرت عدة عوامل في إعادة صوغ الموقف الثابت لليكود حيال القضايا المتعلقة بعملية "التسوية" الجارية. فتجربة الأداء الضعيف التي مر الحزب بها في معارضة اتفاق أوسلو - 2[1]جعلته على ما يبدو يعيد النظر في مقاربته هذا الاتفاق. كما أن اغتيال رابين أدى، من بين أمور أُخرى، إلى إضفاء "صورة اللاشرعية" على اليمين الصهيوني، حتى في أوساط جمهوره التقليدي، وهو ما فرض عليه إدخال تغييرات في تكتيك دعايته الانتخابية.[2] ولئن كان زعيم الليكود قد اتفق مع رئيس الحكومة على "تهدئة الجدل السياسي" عقب مقتل رابين، فإن الحزب انتهج موقفاً ظاهره الرزانة بعد العمليات الاستشهادية، يقوم على أساس ضبط النفس وعدم استغلال العمليات لأغراض سياسية.[3]
وقد حاول الليكود، تحت تأثير مثل هذه العوامل، أن يصوغ رؤية سياسية "واقعية"، تجسدت في المقام الأول في موقفه من اتفاقات أوسلو. ففي أواسط كانون الثاني/يناير، أبلغ نتنياهو إلى نائب الرئيس الأميركي آل غور بأنه لا يزال يعتبر هذه الاتفاقات سيئة وتشكل خطراً على إسرائيل، لكنه إذا أصبح رئيساً للحكومة، فإنه لن يصدر أوامره إلى الجيش بإعادة احتلال المدن التي أخلاها، إلا إذا قام الفلسطينيون بانتهاك خطر لتلك الاتفاقات.[4] وأشار بعض الأنباء الصحافية إلى بوادر لاستعداد الليكود لنقل نحو 30% من مساحة الضفة إلى الفلسطينيين، لأغراض الحكم الذاتي فقط.[5] وظهر تباين في آراء أعضاء مكتب الليكود بشأن اتفاقات أوسلو، وصرح رئيس المكتب عوزي لانداو قائلاً "إن الموقف السياسي لليكود لا يزال مبهماً."[6]
استمرت المداولات داخل قيادة الليكود بشأن مواقفه السياسية، التي أخذت تتضح بالتدريج. ففي المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده نتنياهو في 8 شباط/فبراير مع رئيس كتلة تسومت رفائيل إيتان، بمناسبة توقيع الاتفاق بينهما على قائمة مشتركة في الانتخابات، قال زعيم الليكود إن حكومة برئاسته ستتفاوض مع الممثلين المنتخبين للسلطة الفلسطينية بشأن الترتيبات الدائمة في الضفة، لكنه لن يجتمع شخصياً بعرفات. وأكد أنه لا يعترف باتفاقات أوسلو، بل بـ "الواقع" الذي أوجدته. وأضاف أن حكومة برئاسته "ستحاول أن تغير الواقع من داخل الواقع، وأن تقلص الخسائر التي نجمت فعلاً عن هذه الاتفاقات..."[7] وحدد نتنياهو في المناسبة ذاتها الموقف من قضايا التسوية السياسية المطروحة على النحو الآتي: الاحتفاظ بالجولان، وإقامة إدارة ذاتية فلسطينية لا دولة، والحفاظ على وحدة القدس.
احتلت القدس مكان الصدارة في الحملة الانتخابية لائتلاف الليكود - تسومت. فكان الشعار الرئيسي في مستهل الحملة: "بيرس سيقسم القدس"، ثم أصبح: "السلام مع القدس". وقد استغل الليكود الأجواء الناجمة عن العمليات الاستشهادية المذكورة، فأخذ يعزف على وتر "الأمن" في حملته الدعائية، معتبراً أن "البديل" هو "طريق الأمن إلى السلام". كما قدّم نتنياهو إلى رئيس الحكومة بيرس خطة تفصيلية لـ "مكافحة الإرهاب"، برز فيها التركيز على القدس مرة أُخرى. ونظراً إلى أن هذه الخطة تكشف عن جانب من نظرة الليكود إلى العلاقة بالفلسطينيين، وعن نوع الإجراءات التي يمكن لهذا الحزب أن يتخذها في مواجهة عمليات عسكرية في حال عودته إلى السلطة، فإننا نورد فيما يلي النقاط الخمس التي تضمنتها:
- "وقف أية محادثات سياسية مع السلطة الفلسطينية إلى حين تصفية البنية التحتية للإرهاب.
- "إغلاق كامل لجميع المناطق التي تقوم فيها بنية تحتية للإرهاب، وعدم رفعه إلى حين تصفية هذه البنية.
- "منح الجيش الإسرائيلي وقوى الأمن حرية كاملة للقيام بأعمال الوقاية والملاحقة وجمع المعلومات الاستخبارية في أي مكان يتطلب ذلك، بما في ذلك مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني.
- "اتخاذ تدابير عقابية صارمة ضد المخربين ومن يرسلونهم أو يساعدونهم، بما في ذلك الطرد إلى خارج حدود إسرائيل.
- "تصفية جميع بؤر النشاط التابعة لِـ م.ت.ف. وحماس في القدس وجوارها، بما في ذلك الإغلاق الفوري لبيت الشرق."[8]
وقد بلور المنبر السياسي لليكود، في ظل المتغيرات والتطورات الأخيرة، توجهاً سياسياً يحمل اسم "خطوط السياسة السلمية". ورشح أن هذا البرنامج لا يأتي إلى ذكر اتفاقات أوسلو أو م.ت.ف. أو السلطة الفلسطينية، بل يكتفي بالقول "إن حكومة برئاسة الليكود ستجري مفاوضات بشأن التسوية الدائمة مع الفلسطينيين." وقد تقرر وضع مثل هذه الصيغة العامة بهدف جَسْر الفجوات القائمة بين مواقف قادة الحزب. ففي حين يدعو بِنِي بيغن ورئيس الحكومة الأسبق يتسحاق شمير إلى عدم الاعتراف باتفاقات أوسلو، فإن معظم أعضاء المنبر،[9] بمن فيهم نتنياهو، يتبنون "مقاربة براغماتية - تكتية"، تدعو بوضوح إلى إجراء مفاوضات مستقبلية مع السلطة الفلسطينية. وجاء في البنود القليلة، العامة وغير التفصيلية، التي يتضمنها توجه الليكود، بحسب الأنباء الصحافية، ما يأتي:
- تطّبق الإدارة الذاتية على المناطق ذات الكثافة السكانية العربية، وتكون مناطق الاستيطان تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، ويعتبر غور الأردن "الحدود بين المملكة الأردنية ودولة إسرائيل."
- "ستُجري إسرائيل مفاوضات سلمية مع سورية"، وستبقي الجولان بحدوده الحالية ضمن تخومها.
- "تظل السيادة والإدارة في المدينة [القدس] في أيدي إسرائيل" (وهو ما يعتبر تغيراً عن البرامج السابقة لليكود التي كانت تتناول السيادة، من دون الإدارة). وستغلق مكاتب م.ت.ف. في المدينة، ولن يُسمح لقوات الأمن الفلسطينية بممارسة أي نشاط فيها.[10] في ضوء كل ما ورد أعلاه، تتضح التوجهات العامة لليكود فيما عنى مستقبل الضفة والقطاع، ولا سيما القدس. وعلى الرغم من عمومية هذه التوجهات، فإنها تظل نسبياً أكثر تحديداً من توجه الليكود فيما يختص بالمسارين السوري واللبناني، اللذين قلّما تناولتهما تصريحات المسؤولين في الحزب؛ وإن تناولتهما، فباقتضاب شديد، وغالباً بالإشارة الفضفاضة إلى "الاحتفاظ بالجولان". ولعله من المفيد في التعرف على هذا التوجه، أن نعود إلى مناسبتين بارزتين أعرب الليكود فيهما عن موقفه من مستقبل المرتفعات السورية المحتلة.
ففي الصيف الماضي، تقدم الحزب إلى الكنيست بمشروع قانون لتثبيت قانون الجولان، ينص على "تقييد التنازل عن أرض"، كالجولان، من خلال "أغلبية خاصة" تتألف مما لا يقل عن 70 عضو كنيست أو 50% من أصحاب حق الاقتراع في استفتاء عام. ومع أن الكنيست رفض هذا المشروع في26 تموز/يوليو 1995، بعد أن تعادلت أصوات المؤيدين والمعارضين (59 صوتاً لكل طرف)،[11] فإن الواقعة في حد ذاتها تشير إلى الكيفية التي يراها الليكود لعرقلة أي انسحاب ممكن من المرتفعات السورية في المستقبل، سواء كان في المعارضة أو في الحكم.
أمّا المناسبة الأُخرى فكانت الجلسة التي عقدها الكنيست في إثر اغتيال رابين للمصادقة على الحكومة الجديدة برئاسة شمعون بيرس. ففي الكلمة التي ألقاها زعيم الليكود في الجلسة، برزت ذريعة "الأمن" في مجمل ما عرضه من مواقف تتعلق بمختلف المسارات، بما فيها المسار السوري. وقد طالب نتنياهو سورية، ضمناً، بإعطاء "وعد مكتوب أو شفهي" بعدم استخدام "إرهاب حزب الله القاتل ضدنا في الجنوب اللبناني" وعدم استعمال "المنظمات الإرهابية الفلسطينية في دمشق." وأضاف "أن السلام مشروط بترتيبات أمنية كافية، الأمر الذي يعني البقاء في مواقعنا على مرتفعات الجولان." وكرر زعيم الليكود التشديد في كلمته على ضرورة الاحتفاظ بهذه المرتفعات "من أجل تفادي الحرب مع سورية في المستقبل، ومن أجل سلام ثابت مع سورية عندما يحين الوقت."[12]
وبعد أن عرضنا الملامح العامة للمقاربة السياسية التي اتبعها الليكود استعداداً لانتخابات الكنيست المقبلة، ننتقل الآن إلى محاولة لتحديد القسمات الرئيسية لوضعه التنظيمي والجبهوي عشية هذه الانتخابات.
رص الصفوف: "البيت الليكودي" و"ائتلاف اليمين"
يبدو أن الليكود، بزعامة بنيامين نتنياهو، قد تمكن من التماثل من الوعكة التنظيمية التي ألمّت به بعد انشقاق معسكر دافيد ليفي، وانعكست في أدائه السياسي في رأس المعارضة. وإلى جانب نجاحه النسبي في بلورة تكتيك سياسي براغماتي، فإنه نجح بصورة نسبية أيضاً في إعادة ترتيب أوضاع البيت الحزبي، وفي رص صفوف "اليمين القومي" الصهيوني، ربما على أفضل وجه منذ "الانقلاب السياسي" سنة 1977.
وكان ليفي قد قاد انشقاق معسكره عن الليكود، وأعلن في 18 حزيران/يونيو 1995 أمام الآلاف من أنصاره أن الليكود تغيّر ولم يعد "بيتنا"، وأنه يتوجه نحو تأسيس حركة جديدة ترفع اللواء الاجتماعي، ويعتزم ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة في الانتخابات المقبلة. وكان من الواضح أنه يعوّل في ذلك على اليهود الشرقيين، المصدر الرئيسي لعضوية ودعم الليكود، ولا سيما على رؤساء بلديات مدن التطوير وبعض أعضاء الكنيست. وفي ضوء ما آلت إليه حسابات الحقل من بيدر فعلي (مثلاً، لم ينضم إلى حركة الانشقاق من بين أعضاء الكنيست سوى دافيد ميغين)، ظل ليفي - على ما يبدو - متردداً طوال عشرة شهور، في إعلان ولادة حركة "غيشر" ("الجسر") بقيادته حتى شباط/فبراير الماضي.
لقد كانت محاولة ليفي من ألفها إلى يائها برهاناً جديداً عن الحدود التي لا يمكن لليهود الشرقيين أن يتخطوها في إطار الخريطة الحزبية الصهيونية. كما أن الجسر الذي حاول ليفي أن يقيمه بين معسكري العمل والليكود الرئيسيين كان "جسراً قصيراً جداً"[13] بالفعل. ولا غرابة، والحال هذه، أن يختار زعيم غيشر العودة إلى بيت الليكود عبر النافذة، بعدما تعذّر دخوله مجدداً عبر الباب، وذلك من خلال انضمامه إلى ائتلاف الليكود - تسومت، بعد عشرة أيام فقط من إشهار اسم حزبه.
في موازاة تطور انشقاق ليفي، كان الليكود يحاول تطوير أوضاعه الداخلية وتحالفاته، بما يقلص خسائره الناجمة عن الانشقاق وعن الأجواء التي أعقبت اغتيال رابين، وبما يعزز مكانته عشية انتخابات الكنيست والانتخاب المباشر لرئيس الحكومة. وقد جرت هذه المحاولات على مستويين: داخلي وجبهوي.
على المستوى الداخلي، نجح الليكود إلى حد بعيد في التخلص من ظاهرة "المعسكرات" التي سيطرت على حياته الداخلية ردحاً من الزمن، وما رافق هذه الظاهرة من صراع وتنافس شخصي في شأن الزعامة. فتم عقْد لواء الرئاسة لنتنياهو من دون منازع تقريباً. واستقرت قيادة العشرة الأوائل في الحزب (بعد نتنياهو) على الآتية أسماؤهم: بِني بيغن، أريئيل شارون، دان مريدور، موشيه كتساف، تساحي هنغبي، ليمور ليفنات، إيهود أولمرت، مئير شيطريت، يتسحاق مردخاي، عوزي لانداو.[14] وعاد الليكود إلى نقطة انطلاقه ممثلة في "العائلة المقاتلة"، بقيادته الجديدة المنتمية إلى حركة حيروت، وإلى الجيل الثاني المتحدر من "إيتسل"، وإلى حد ما "ليحي"، أيديولوجياً، ومن أوروبا الشرقية منشأً.[15]
كما نجح الليكود في استعادة بعض أبنائه الضالّين، ولا سيما من بين رؤساء بلديات التطوير المحسوبين على معسكر ليفي. ففي أواخر كانون الأول/ديسمبر الماضي أعلن كل من غابي للوش رئيس بلدية ديمونا، وبروسبر أزران رئيس بلدية كريات شمونة، انفصاله عن حركة ليفي وعودته إلى الحزب الأم. واستطاع الليكود في الفترة نفسها تعزيز صورته "الأمنية" من خلال استقطاب بعض كبار رجال الأمن والجيش السابقين، مثل جدعون عيزرا رئيس الشَبَاك السابق واللواء (احتياط) يتسحاق مردخاي، وعبر السعي لاستقطاب بعضهم الآخر، مثل قائد سلام الجو السابق اللواء (احتياط) أفياهو بن - نون. وضم الحزب إلى صفوفه أيضاً بعض الأعضاء السابقين في كتل الكنيست اليمينية، مثل إستر سلموفيتس، من كتل "يِعود" المنشقة عن "تسومت"، وغيئولا كوهين، من كتلة "هتحياه" سابقاً. ونقلت الأنباء في تلك الفترة أن نتنياهو عرض على ليفي نفسه العودة إلى الحزب، في مقابل منحه المكان رقم 2 في القائمة الانتخابية، وتغيير أسلوب الانتخابات التمهيدية الحزبية،[16] الذي كان الخلاف بشأنه عنواناً للانشقاق في حينه.
أمّا على المستوى الجبهوي، فقد تمكن الليكود من التوصل، في مطلع آذار/مارس، إلى إقامة "ائتلاف اليمين" الذي يضمه مع تسومت وغيشر، بعد نحو أربعة أشهر أمضاها في الاتصالات مع أطراف "اليمين القومي" منذ اغتيال رابين، وبعد نحو ثلاثة أسابيع من إعلان تقديم انتخابات الكنيست.
وفي سعيه لإقامة هذا الائتلاف، بدأ الليكود تحركه على خطين متلازمين، مع كل من تسومت وليفي. ففي حين كان نتنياهو يتفق مع بيرس على تهدئة الجدل السياسي، كان يطلب من قادة تسومت (والمفدال أيضاً) وقف اتصالاتهم بحزب العمل. وقد استجابت تسومت لهذا الطلب منذ أوائل كانون الأول/ديسمبر الماضي، ودخلت في مفاوضات مع الليكود استمرت شهرين، حين أعلنت الحركتان في 8 شباط/فبراير التوصل إلى اتفاق مبدئي على خوض الانتخابات في قائمة مشتركة.[17] ويذكر أن كتلة تسومت في الكنيست كانت قد قلصت قبل أكثر من عام من 8 أعضاء إلى 5 أعضاء، عندما انشق غونين سيغف وإستر سلموفيتس وأليكس غولد فارب عنها، وألفوا كتلة جديدة باسم "يِعود".
وعلى الخط الآخر، كان الليكود لا يزال يحاول إغراء ليفي بالعودة إلى الحزب، على النحو الذي ذكرنا، إلى أن أُعلن في أواسط شباط/فبراير فشل عضويْ الكنيست موشيه كتساف وعوفاديا عالي في إقناعه بذلك. ولكن الأيام القليلة الأخيرة من ذلك الشهر، التي تبعت العمليتين الاستشهاديتين في القدس وعسقلان، شهدت تطورات متسارعة في هذا الصدد. فقد رشحت أنباء عن أن ليفي يدرس إمكان العودة إلى الليكود، وتبعها في اليوم التالي إعلان اتفاق أولي بشأن انضمام غيشر إلى قائمة الليكود - تسومت. وفي الأول من آذار/مارس، نُشر نص مذكرة التفاهم بين الأطراف الثلاثة بشأن خوض الانتخابات معاً. وتضمنت المذكرة:
- تكون قائمة المرشحين المشتركة بين الليكود - تسومت وغيشر، بعد الانتخابات، كتلةً واحدةً من كتل الكنيست الرابع عشر، وتظل كذلك طوال فترة ولاية الكنيست. أمّا بعد ذلك، فيمكن لكل حزب أن يؤلف قائمته الخاصة.
- يحل ممثلو غيشر في القائمة المشتركة في الأماكن التالية: 2، 9، 14، 21، 30، 37، 41، 50. وفي أية حال، فإن هذه الأماكن تكون في محاذاة الأماكن التي ستشغلها تسومت، وفق ترتيب متغير على التوالي.[18]
ويذكر أن الاتفاق بين الليكود وتسومت كان قد نص على منح هذه الأخيرة الأماكن التالية: 2، 8، 14، 20، 26، 32، 38. ثم: 46، 50 وهكذا دواليك (حدث تغيير في هذه الأماكن بموجب الاتفاق الثلاثي، فأصبحت على النحو التالي: 3، 8، 15، 20، 31، 36، 42). كما نصت المادة رقم 6 من الاتفاق، بعد تعديلها، على أن الكتلة المشتركة ستعمل من أجل التقريب بين الدينيين والعلمانيين، مع الحفاظ على مبدأ "ستاتيكو" (الوضع القائم) في الشؤون الدينية.[19] وقد جاءت هذه الصيغة المعدّلة انطلاقاً من حرص الليكود على عدم تنفير الأحزاب الدينية بسبب تحالفه مع حركة تسومت "العلمانية".
وفي نهاية المطاف، التقى الخطان اللذان عمل الليكود وفقهما من أجل إقامة "ائتلاف اليمين". ففي 12 آذار/مارس، تم توقيع الاتفاق بين الليكود وتسومت وغيشر، في جو احتفالي، تصافح فيه الرفيقان اللدودان نتنياهو وليفي أمام عدسات المصورين. وفي هذا "اليوم التاريخي"، قال نتنياهو: "لقد قررنا أن نضع جانباً ترسبات الماضي وأن نمضي معاً، لأن الدولة ومستقبلها يطلبان ذلك... إنها أول مرة منذ سنة 1977 التي يمضي فيها المعسكر القومي كله يداً بيد مع بشرى بالأمن والسلام. الأمن أولاً الذي هو حيوي، ومنه يأتي السلام."[20]
ومع ذلك، فإن هذا كله لا يمكنه أن يخفي حقيقة المخاض الصعب الذي سبق انبثاق "المعسكر القومي" مجدداً، وعملية الولادة العسيرة - إن لم نقل القيصرية - التي رافقته، والآلام والندوب التي يمكن أن يكون خلّفها في الجسم اليميني الوليد.[21] فمن الواضح أن الاتفاق بشأن ائتلاف اليميني قد أُبرم على مضض من أطرافه، المهدَّدة جميعها بتأكّل شرعيتها السياسية في إثر اغتيال رابين. يُضاف إلى ذلك تعثّر خطى ليفي على طريق إقامة حركته الاجتماعية، وتقلُّص هامش المناورة أمامه من هامش واسع يتيح له ابتزاز أية حكومة تؤلَّف في المستقبل،[22] إلى آخر ضيق لا يسمح له إلاّ بابتزاز نتنياهو الساعي لرئاسة الحكومة في انتخابات مباشرة لأول مرة، والذي لم يعد أمامه هو الآخر من مجال سوى تقديم تنازلات لليفي سبق له أن رفض تقديمها تداركاً للانشقاق.
وترافق الاتفاق، من جهة أُخرى، مع معارضة لا يُستهان بها في صفوف أطرافه الثلاثة. ففي الليكود، اضطر نتنياهو إلى تأجيل توقيع الاتفاق مع تسومت، تحت ضغط المعارضة الداخلية. وشعر بعض قادة الحزب، مثل مئير شيطريت، بأنه دفع إلى شريكيه في الائتلاف، تسومت وغيشر، ثمناً باهظاً.[23] وفي تسومت، اضطر إيتان إلى أن يؤكد أمام كتلته أن الحركة لم تخضع لإملاءات الليكود، وأنها لا تزال مستقلة. وصرح موشيه بيليد أن ليفي مارس أبشع أنواع التجارة، وأن غيشر تصرف بقذارة.[24] أمّا في غيشر نفسه، فقُدّر أن رُبْع أعضائه يعارض الاتفاق مع الليكود.[25] يضاف إلى ذلك أن الحزب القومي الديني (المفدال) شارك في الاتصالات السابقة لإعلان الائتلاف، لكن الاستطلاعات أظهرت أن مؤيديه يحبذون أن يخوض الانتخابات في قائمة مستقلة.[26] كما أن الاتفاق الثلاثي أبعد ممثل المهاجرين، بما لهؤلاء المهاجرين من أهمية انتخابية، إلى المركز غير المضمون في القائمة النهائية، رقم 45، كما أبعد ممثل "الأقليات" إلى المركز رقم 46.[27]
* * *
تمهيداً لانتخابات الكنيست ورئاسة الحكومة، تمكن الليكود من صوغ مقاربة سياسية تكتية، لكنها عائمة في كثير من جوانبها. كما أنه تمكن من إقامة "ائتلاف يمين" عريض إلى حد كبير، لكنه باهظ الثمن ومشحون بالتوترات أيضاً. فهل يتمكن الحزب والائتلاف من الفوز في الانتخابات الوشيكة؟ وهل ينجح، من ثم، في توزيع الغنائم الوزارية وإقامة حكومة ائتلافية، مدعومة من كتلة برلمانية تظل موحدة حتى آخر ولاية الكنيست الرابع عشر؟
أواخر آذار/مارس 1996
[1] بشأن هذا الأداء، أنظر مثلاً: حانه كيم، "الوطنيون"، "هآرتس"، 7/7/1995؛ يوسي أولمرت، "أين الليكود؟ كامب ديفيد: الخطيئة الأصلية"، "دافار"، 17/8/1995؛ ليلي غاليلي، "هآرتس"، 29/8/1995؛ يوئيل ماركوس، "كل شيء سيلتصق بالليكود"، "هآرتس"، 11/8/1995.
[2] أنظر: "هآرتس"، 14/2/1996.
[3] المصدر نفسه، 14/11/1995 و26/2/1996.
[4] أنظر: ييريّح طال، "هآرتس"، 17/1/1996.
[5] "هآرتس"، 4/2/1996.
[6] المصدر نفسه، 2/2/1996.
[7] المصدر نفسه، 9/2/1996. وقد عاد نتنياهو بعد أسبوع وأكد موقفه من الاستعداد للتفاوض مع السلطة الفلسطينية، "إذا أُلغي الميثاق الفلسطيني وأعلنت م.ت.ف. والسلطة أنهما تتخليان تماماً عن درب الإرهاب وأثبتتا ذلك." أنظر: "هآرتس"، 16/2/1996.
[8] أنظر: ييريّح طال ونداف شراغي، "هآرتس"، 4/3/1996. وقد نجحت المعارضة، في هذه الأثناء، في إقرار مشروع قانون بإغلاق "بيت الشرق"، في القراءة الأُولى في الكنيست - "هآرتس"، 8/3/1996.
[9] يضم المنبر، إضافة إلى بيغن وشمير ونتنياهو، كلاً من: دان مريدور، أريئيل شارون، إيهود أولمرت، إلياهو بن أليسار، زلمان شوفال، يتسحاق مردخاي.
[10] أنظر: نداف شراغي، "هآرتس"، 3/3/1996.
[11] بشأن مشروع القانون هذا، أنظر: "هآرتس"، 326 و27/7/1995.
[12]للاطلاع على النص الكامل لكلمة نتنياهو، أنظر: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 25، شتاء 1996، ص 235 - 240.
[13] افتتاحية "هآرتس"، 3/3/1996.
[14] الأسماء، بحسب شلوم يروشالمي، "الانتخابات التمهيدية في الليكود: من ضد من ولماذا وكيف"، "معاريف"، ملحق السبت، 4/8/1995، ص 8 - 9، 12؛ استناداً إلى استقصاء أجراه أحد المعاهد وإلى تقدير الكاتب نفسه.
[15] أنظر: ران كسليف، "دافيد والأمراء"، "هآرتس"، 31/3/1995.
[16] "هآرتس"، 8/12/1995. وقد نفى ليفي العرض، وإن كانت التطورات اللاحقة تشير إلى احتمال حدوثه.
[17] بشأن التفصيلات المتعلقة بهذا الاتفاق، أنظر: "هآرتس"، 9/2/1996.
[18] أنظر نص مذكرة التفاهم في: المصدر نفسه، 1/3/1996.
[19] نص الاتفاق في: المصدر نفسه، 9/2/1996.
[20] بشأن التفصيلات المتعلقة بالمؤتمر الصحافي الذي أُعلن الاتفاق فيه، وردات الفعل على هذا الاتفاق، أنظر: "هآرتس"، 13/3/1996.
[21] اعترف شارون، الذي يبدو أنه قام بدور أساسي في التوصل إلى الاتفاق، بأن "الأمر لم يكن سهلاً"، بسبب وجود "ترسبات من الماضي". أنظر: "هآرتس"، 13/3/1996.
[22] ظل ليفي يتبجح، حتى 20 شباط/فبراير، بأن حركته ستكون قوة حاسمة، ولا يمكن تأليف أية حكومة من دونها. أنظر: "هآرتس"، 21/2/1996.
[23] "هآرتس"، 7/2/1996 و13/3/1996، على التوالي.
[24] المصدر نفسه، 9/2/1996 و13/3/1996، على التوالي. كما أن تسومت عارضت إعطاء ليفي المركز الثاني من حيث الأهمية في حكومة يؤلفها نتنياهو في حال فوز الائتلاف في انتخابات الكنيست المقبلة - "هآرتس"، 8/3/1996.
[25] المصدر نفسه، 3/3/1996. وقد أكد الرجل الثاني في غيشر، دافيد ميغين، أن حزبه سيظل حزباً مستقلاً - "هآرتس"، 13/3/1996.
[26]المصدر نفسه، 5/2/1996.
[27] أنظر: "دافار"، 28/3/1996.