النظام الاقتصادي في إسرائيل: هيمنة السياسة بين الإنجازات والإخفاقات
كلمات مفتاحية: 
السياسة الاقتصادية
الأحوال الاقتصادية
الأحوال الاجتماعية
السياسة الخارجية الإسرائيلية
الأنظمة الاقتصادية
نبذة مختصرة: 

تركز الدراسة على القضايا الجوهرية التي تعتبر في صلب العملية الاقتصادية، وتحاول إلقاء الضوء على شبكة العلاقات المعقدة والنهج المتبع في اتخاذ القرارات والسياسات العامة وأسلوب تنفيذها، ونتائج اتباع هذا النهج على الدولة والمجتمع في إسرائيل وعلى السياستين الخارجية والداخلية في الحاضر والمستقبل. يرى الكاتب أن الهدف الرئيسي من الدراسة هو فهم النظام الاقتصادي في سياقه السياسي والاجتماعي.

النص الكامل: 

 مقدمة

يتميز نظام الحكم في إسرائيل بالتعقيد، وذلك بسبب تداخل أدوار المؤسسات والمنظمات وتعدد الجهات والأجسام التي تعالج كل مجال من مجالات الحياة. وقد نتج ذلك من طبيعة المؤسسات القومية والقطرية والمحلية والحزبية: فهذه المؤسسات تتصف بالشمولية بحيث تتفرع مسؤولياتها فتشمل جميع المجالات. لذلك، فإن كل مجال وكل قضية يرتبطان بعدد كبير من المؤسسات.

إن النظام الاقتصادي في إسرائيل لا يختلف عن غيره من النظم في الدولة: فالمؤسسات الاقتصادية مرتبطة بعدد كبير من المؤسسات السياسية والاجتماعية، وترتبط بها مؤسسة كثيرة أيضاً. وهذا الوضع يؤدي إلى شيوع الغموض والارتباك والتعقيد وتناقض السياسات والقرارات التي تتخذها المؤسسات العديدة. وأمّا في الحياة الاقتصادية، فيتضاعف التعقيد بسبب تناقض القوانين والأنظمة التي تنظم النشاط الاقتصادي. لكن جميع هذه الصفات تؤدي إلى نتيجة واضحة، وهي تبعية المواطن للسلطة المركزية والكثير من المؤسسات في مستويات مختلفة.

نظراً إلى هذا التعقيد في العلاقات، فإن دراسة أي نظام أو أي مجال في إسرائيل تصبح مهمة صعبة بسبب صعوبة وضع الحدود بين أدوار المؤسسات من جهة، ووضع الحدود بين النظام أو المجال المدروس وبين الأنظمة والمجالات الأُخرى. من هنا، فإن محاولتنا دراسة الاقتصاد الإسرائيلي تبقى في الحالات كافة غير مكتملة، إذ لا بد من التنازل عن بعض الجوانب المتعلقة بهذا المجال. أمّا دراستنا الحالية، فسنركز فيها على القضايا الجوهرية التي تعتبر في صلب العملية الاقتصادية، وسنحاول كذلك أن نلقي الضوء على شبكة العلاقات المعقدة والنهج المتبع في اتخاذ القرارات والسياسات العامة وأسلوب تنفيذها، ونتائج اتّباع هذا النهج على الدولة والمجتمع في إسرائيل وعلى السياسة الخارجية والسياسة الداخلية في الحاضر والمستقبل. ومن المهم أن ننبه إلى أن دراستنا ليست دراسة اقتصادية بحتة، وأن الاهتمام بالمعطيات الإحصائية لا يشكل هدفاً رئيسياً، فنحن سنركز على الضروري من هذه المعطيات لفهم العملية الاقتصادية وتفاعلاتها مع جوانب الحياة الأُخرى. إن هدفنا الرئيسي هو فهم النظام الاقتصادي وآليات عمله، لكن في سياقه السياسي والاجتماعي الخاص.

أُسس النظام الاقتصادي

تميز نظام الحكم في إسرائيل من جميع الأنظمة السياسية الديمقراطية بدرجة عالية من المركزية في جميع المجالات، وسيطرة الحكومة على موارد المجتمع واحتكار القرار في معايير توزيعها واستخدامها. وتبرز هذه الظاهرة في المجال الاقتصادي بصورة خاصة، حيث تقوم الحكومة بدور رئيسي لا في توجيه الاقتصاد فحسب، وإنما أيضاً في النشاط الاقتصادي والمشاركة في الملكية والصفقات الاقتصادية. ويزيد في صفة المركزية في هذا المجال الدور الخاص الذي تقوم الهستدروت والمنظمات اليهودية القومية به، كما سنوضح لاحقاً.

لقد اكتسب النظام صفة المركزية القوية بسبب طريقة الهجرة اليهودية والأيديولوجية التي توجهها. فالأيديولوجية القومية سابقة على المجتمع وعلى الاقتصاد، وهذا الأخير يشكل مجرد وسيلة لتحقيق أهداف سياسية قومية. ولذلك فإن الدافع الرئيسي للتطور الاقتصادي لم يكن مصلحة الفرد ومجهوداته. ويمكن أن نحدد الأسس التي وجهت العملية الاقتصادية في إسرائيل على النحو التالي:

  1.  إن الاقتصاد هو وسيلة لاستيعاب الهجرة المنظمة والموجهة. فلقد ساهمت الهجرة الكبيرة (الجماهيرية) مباشرة بعد قيام الدولة في تعزيز المركزية والتوجيه: فخلال أربعة أعوام تضاعف عدد سكان الدولة، وكان لا بد من ضمان أمن المهاجرين ومعيشتهم. ولذلك أخذت الدولة على عاتقها توفير الحاجات الأساسية والعمل والمسكن والخدمات (التعليم والصحة والرفاه). ومن هنا، فإن التطوير الاقتصادي اكتسب معنى سياسياً.
  2.  هدفت القيادة السياسية في إسرائيل إلى تحويل المهاجرين اليهود عن المهن التي احترفوها في الشتات، وهي الصرافة والتجارة والمهن الحرة، إلى العمل المنتج، ولا سيما في الزراعة، الذي من شأنه أن يخدم المصلحة القومية.
  3.  تأكيد الاقتصاد التعاوني والمساواة، وهما لا يتمان إلا بامتلاك الأمة للموارد وتوزيعها على المنظمات التعاونية، مثل الكيبوتس والموشاف.
  4.  إضافة إلى الأساس السابق، فقد شكل امتلاك الأمة للموارد هدفاً في حد ذاته لضمان عدم انتقالها إلى غير اليهود.
  5.  إن الوضع الأمني الذي نتج من تشريد شعب آخر وإقامة الدولة في بيئة معادية سبب الحاجة إلى تركيز الموارد في أيدي الدولة من أجل الإنفاق على الجيش وتطوير الوسائل العسكرية.

نظراً إلى هذه الاعتبارات، وإلى اعتبارات أُخرى موضوعية لكنها أقل أهمية، وضعت الحكومة يدها على الموارد الاقتصادية الرئيسية، التي تكونت من أملاك اللاجئين الفلسطينيين، والمساعدات الأميركية، وأموال الجباية اليهودية، والتعويضات الألمانية.

تدخل الحكم المركزي في العملية الاقتصادية

نتيجة لسيطرة الحكومة على الموارد الاقتصادية الهائلة، استطاعت أن تتدخل في العملية الاقتصادية بصورة مباشرة، لا من خلال التوجيه فقط، وإنما أيضاً بوصفها شريكاً فعالاً في النشاط بواسطة مختلف الوزارات وبنك إسرائيل ومؤسسات عامة أُخرى. وفي سبيل توضيح مدى تدخل الحكومة في الاقتصاد، سنلجأ إلى تصنيف أدوارها بحسب درجة المباشرة ونوع الدور الذي تؤديه.

تتدخل الحكومة في العملية الاقتصادية بصورة مباشرة وبصورة غير مباشرة، على النحو التالي:

التدخل المباشر

هناك نوعان من التدخل المباشر في الاقتصاد:

النوع الأول: هو الدور الذي تؤديه الحكومات في الدول كافة، والمتمثل في تحديد سياسة الإنفاق والاستثمار الحكومي، والسياسة الضريبية، وكمية الأموال في السوق، وأسعار العملة، والمخصصات، والدعم.

وفي هذا المجال، يختلف دور الدولة في إسرائيل عن دور غيرها بسبب سيطرتها شبه الكاملة على السوق المالية: فالحكومة تقوم بدور الرقيب على الأرصدة في البنوك، وثلثا هذا الرصيد مصدرهما الحكومة نفسها، ولذلك فإن معظم الرصيد الذي تمنحه المؤسسات المالية توجهه الحكومة. وقد كانت حصة الأموال التي مصدرها الحكومة في تمويل استثمارات المصالح الاقتصادية 67,4% سنة 1983، وهبطت إلى 42% سنة 1987.[1] كما أن 90% من الأموال التي تجمعها صناديق الائتمان والضمان المتبادل والتوفيرات في البنوك يتم استثمارها في سندات حكومية أو سندات مصادق عليها من الحكومة، ويتم توجيه استثمارها بحسب تعليماتها.[2] وتشارك البنوك الكبرى الحكومة في السيطرة على السوق المالية: ففي إسرائيل 16 بنكاً للإسكان، وأكبرها بنك طفحوت، ومعظم مصادره حكومية. وهناك أيضاً 6 بنوك لتطوير الصناعة، أكبرها بنك التطوير الصناعي، ومعظم مصادر هذه البنوك حكومي أيضاً بصورة مباشرة وبصورة غير مباشرة. وتعمل في البلد 18 مؤسسة لتمويل التطوير الزراعي، وأكبرها البنك الزراعي، وهو بنك حكومي، وبنك ياعد التابع لبنك ليئومي.

هذه السيطرة على السوق المالية لا تمكّن الحكومة من توجيه الاقتصاد فحسب، بل تمكّنها أيضاً من أن تنشط بوصفها مستثمراً. وأكثر ما يبرز تأثير الحكومة في النشاط الاقتصادي وتدخلها المباشر هو سياسة التطوير والدعم (سيتم شرحها بالتفصيل لاحقاً). فقد شكل القطاع العام المصدر الرئيسي للاستثمار، والإدارة الرئيسية لذلك هي ميزانية التطوير. وكان اشتراك الحكومة في الاستثمار بصورة أساسية بواسطة منح القروض لمختلف القطاعات. لقد منحت هذه القروض بفوائد سلبية أو متدنية جداً: منذ سنة 1970، منحت القروض للمدى المتوسط بفوائد سلبية وصلت إلى 10% على الأقل. ووصلت سنة 1974 إلى 30%. ولقد تغير هذا الوضع فقط سنة 1979، إذ أصبحت القروض مرتبطة بجدول الغلاء. وقد كانت حصة الضمانات المدعومة في الزراعة 90% من مجمل الاستثمار، ووصلت في الصناعة إلى نحو النصف. كذلك أعطيت ضمانات كبيرة لبناء الفنادق والسكن الخاص، بينما كانت منخفضة جداً في الخدمات.

أمّا بالنسبة إلى الدعم، فإنه يُمنح بأشكال ثلاثة:

  1. الدعم المباشر من ميزانية الدولة، مثل دعم التعليم والصحة والتصدير والمنتوجات الغذائية والماء، وغير ذلك. فالحكومة تدعم عدداً كبيراً من المنتوجات، وتصل نسبة الدعم أحياناً إلى 100%، أو أكثر.
  2. الدعم غير المباشر، وهو عبارة عن منح للمنتجين، وتسهيلات في الضرائب، وتغطية نفقات إقامة بنية تحتية، وقروض الإسكان وقروض لتطوير فروعه معينة في الصناعة والزراعة. وجزء كبير من هذا الدعم هو عبارة عن دعم الضمانات المالية بواسطة صناديق خاصة أقيمت لهذا الغرض، مثل صندوق الإنتاج للتصدير، والاستيراد من أجل التصدير، وصندوق التصدير غير المباشر، وصناديق خاصة بتطوير فروع اقتصادية معينة.
  3. دعم بضاعة بواسطة بضاعة أُخرى من النوع نفسه، مثل دعم المازوت للصناعة عن طريق رفع أسعار الوقود للاستهلاك الشخصي.

لقد كان لهذه السياسة أثر عميق ومباشر لا بسبب دعم الاستثمار وتفضيل فروع معينة على حساب الأُخرى فحسب، بل أيضاً بسبب ارتباطها المباشر بمركبات الدخل القومي، وخصوصاً مصادره الداخلية. فالمصدر الداخلي الرئيس هو الضرائب التي وصلت نسبتها من الدخل القومي إلى 60% سنة 1966، وإلى 47,5% في فترة 1975 - 1985، وإلى 45,2% في فترة 1985 - 1989. وبعض هذه الضرائب ضرائب مباشرة، وبعضها الآخر ضرائب غير مباشرة، وهي تشكل في مجملها عبْأً كبيراً على المواطن على الرغم من أن أكثر من نصفها يعود إلى المواطنين بصورة دعم ومخصصات تساهم في إعادة توزيع الدخل وتنظيم الاستهلاك الخاص. ولقد كان أهم نتائج فرض الضرائب العالية لتمويل التطوير والدعم توسع السوق السوداء في إسرائيل، واتساع الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية، وتضخم الأموال "السوداء" غير المعلن عنها لدى الجمهور.

إضافة إلى ما سبق تفصيله من التدخل المباشر، لا بد من ذكر الأهمية الخاصة لسياسة منح الترخيص لفتح مشاريع جديدة، وترخيص الاستيراد، والمصادقة على طرح مشاريع التوفير التي تبادر المؤسسات المصرفية إليها.

النوع الثاني: إن هذا النوع من التدخل في الاقتصاد يميز دولة إسرائيل من جميع الدول الغربية، وهو يتمثل في ملكية وسائل إنتاج ومشاريع اقتصادية، والمشاركة المباشرة في صفقات اقتصادية، وتقديم خدمات على النحو التالي:

  1. مشاريع تملكها الحكومة مباشرة وتتمتع باحتكار بيع منتوجات وخدمات، مثل خدمات البريد والهاتف والاتصالات الإلكترونية، والموانئ والمطارات والقطارات، وإدارة أراضي إسرائيل، والمصانع العسكرية ومؤسسات الرهان، والكهرباء، والفوسفات والسماد الكيمياوي، واللحوم المجمدة، وغيرها. وعادة ما تكون إدارة هذه المشاريع جزءاً لا يتجزأ من الإدارة الحكومية.
  2. وحدات اقتصادية تابعة للحكومة أقيمت بحسب قانون خاص: مثل مجالس الإنتاج والتصريف الزراعي، ومؤسسة التأمين الوطني، وبنك إسرائيل، ونجمة داود الحمراء، ومجلس التعليم العالي، وسلطة الموانئ، وسلطة الإذاعة، ومجلس تنظيم الرهان في الرياضة، وغيرها.
  3. تشارك الحكومة في ملكية شركات اقتصادية عن طريق امتلك أسهم فيها، وهذه تمارس نشاطها في إطار نظام الشركات العامة وفي إطار قانون الشركات الحكومية من سنة 1975.
  4. تقدم الحكومة دعماً لمؤسسات خاصة تقدم خدمات في مجالات معينة، مثل التعليم والصحة، وجمعيات خيرية، مثل جمعية المحافظة على الطبيعة، ومنظمات الدفاع عن المستهلك، وغيرها. ويحصل بعض هذه المؤسسات على ميزانيته كلها من الحكومة مباشرة أو من أذرعها
  5. يختلف النوع الأخير من التدخل المباشر عن الأنواع المذكورة أعلاه في أن الحكومة لا تملك المشاريع نفسها لكنها تؤثر تأثيراً قوياً ومباشراً في العملية الاقتصادية على مستوى الوحدات والمصالح: فالحكومة تعتبر الزبون الرئيسي لشراء واستهلاك أنواع معينة من المنتوجات والخدمات.

التدخل غير المباشر

تؤثر الحكومة تأثيراً كبيراً في معظم الأنشطة الاقتصادية، لا بوصفها شريكاً أو مالكاً أو مبادراً أو بسبب الدعم الذي تقدمه، وإنما بسبب مسؤوليتها في اتخاذ قرارات حاسمة في الحياة الاقتصادية. ولا حاجة إلى تعداد جميع أساليب هذا التدخل، لكننا نذكر أهمها:

  1. مراقبة الأسعار وتحديد بعضها
  2. سياسة الأجور في سوق العمل؛
  3. سن القوانين المتعلقة بحقوق الملكية، وقوانين التخطيط والبناء، وتعيين استخدام الأراضي، وقوانين حماية البيئة؛
  4. منح التراخيص لاستيراد وتوزيع الوقود، وتراخيص سيارات الأجرة وما شابه، وتحديد الأسعار والأجور؛
  5. منح امتيازات لتقديم خدمات معينة مثل المواصلات؛
  6.  تحديد وتوزيع حصص الإنتاج، وخصوصاً في الزراعة.

إن جميع هذه الأساليب تعمق من تدخل الدولة في العملية الاقتصادية من دون أن تعرض نفسها للنقد والرقابة، ولا سيما من جانب البرلمان.

قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي

من المتعارف عليه أن اقتصاد كل دولة منقسم إلى قطاع عام وقطاع خاص، إلا إن الاقتصاد الإسرائيلي يتميز من أي اقتصاد آخر بوجود قطاع ثالث هو القطاع الهستدروتي.

القطاع الحكومي

تعتبر حصة القطاع الحكومي في الاقتصاد الإسرائيلي عالية، قياساً بالدول الغربية. وقد تضخمت هذه الحصة في العقد الثاني من قيام الدولة، وزادت أكثر في السبعينات، وذلك لثلاثة أسباب:

1 - ضخامة جهاز الخدمات في إسرائيل، الذي ارتفعت مصروفاته في السبعينات بسبب محاولات تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛

2 - توسع القطاع الحكومي بسبب تطوير الصناعات العسكرية، وهي ملك للدولة؛

3 - تردد المستثمرين الخاصين والتباطؤ الاقتصادي بعد سنة 1973.

ويضم هذا القطاع المشاريع والشركات والمصانع التي تملكها الحكومة، والسلطات المحلية، والمؤسسات القومية. وبالنسبة إلى الأُولى، هناك ثلاثة أنواع من المشاريع التي تعود إلى الملكية العامة.

1 - المشاريع الاقتصادية التي تشكل جزءاً من الجهاز العام الذي يمولها من ميزانيته، والتي تتمتع باستقلالية محدودة (مثل القطارات ومشاريع المياه البديلة)؛

2 - السلطات المستقلة، التي يملكها القطاع العام، لكن إدارتها مستقلة (مثل سلطة الموانئ)؛

3 - الشركات الحكومية، وهي شركات تعود ملكيتها إلى الحكومة، لكنها قائمة على شكل شركات محدودة الضمان. وتضمن الحكومة هيمنتها فيها عن طريق ضمان أكثرية أصوات مجلس الإدارة (مثل شركة الكهرباء، وشركة تسيم للملاحة، وبنك ليئومي).

لقد واجه التدخل الحكومي المباشر في النشاط الاقتصادي، وخصوصاً امتلاك المشاريع والشركات، اعتراضات من جانب المبادرين منذ أوائل السبعينات. كما أن الخسارة التي تسببها الشركات الحكومية لميزانية الدولة والتباطؤ الاقتصادي منذ منتصف السبعينات كانا سبباً في التفكير في بيع أملاك حكومية، ولا سيما مشاريع صناعية. وحتى سنة 1977، باعت الحكومة 46 شركة صغيرة. وفي الأعوام السبعة الأولى من حكم الليكود (1977 - 1984)، قامت الحكومة ببيع أسهمها في 20 شركة صغيرة أُخرى. أمّا في فترة 1986 - 1991، فقد عقدت الحكومة 15 صفقة شملت 10 شركات حكومية، لكن هذه الشركات لم تتحول إلى شركات خاصة فعلاً، لأن الحكومة حافظت على سيطرتها في 6 منها. وفي سنة 1986، بدأت الحكومة أيضاً تحويل بعض الشركات الحكومية الكبيرة إلى القطاع الخاص، لأول مرة منذ قيام الدولة. وقد باشرت عملية الخصخصة في شركتين حكوميتين كبيرتين من أكبر 10 شركات، لكنها ما زالت تحتفظ بالجزء الأكبر من الأسهم فيها.[3] ولا تزال الحكومة تملك 161 شركة، تشغل 76 ألف عامل. ومن بين هذه الشركات 10 شركات كبيرة تشغل 87% من هؤلاء العاملين، ويصل مجموع أملاكها إلى 80% من مجموع أملاك الشركات الحكومية.[4]

 القطاع الهستدروتي

يضم مجموعتين كبيرتين من المصالح الاقتصادية: الأُولى مجموعة شركات ضخمة تابعة لـِ شركة العمال (الشركة الأُم) في فروع الصناعة والبناء والتجارة والمصارف. وأمّا المجموعة الأُخرى، فإنها تضم التعاونيات، وهذه تتكون من نوعين رئيسيين: النوع الأول هو المستوطنات التعاونية، مثل الموشافيم والكيبوتسات، والنوع الآخر هو التعاونيات الإنتاجية والخدماتية التي تضم أكبر شركتين للمواصلات في البلد (إيغد ودان).

وكان القطاع الهستدروتي حتى سنة 1967 يوجه اهتمامه إلى إقامة المشاريع والصناعات التي تحتاج إلى العمل المكثف، وذلك لضمان تشغيل العمال، وكان اهتمامه هذا أكبر من اهتمامه بالربح. غير أن التحولات البنيوية في الاقتصاد الإسرائيلي منذ بداية السبعينات أدت إلى تغيير جذري في التوجه، إذ بدأ الهستدروت يستثمر في الصناعات الدقيقة.

وتشكل الهستدروت حتى اليوم قوة اقتصادية ضخمة من حيث استثماراتها واحتكارها بعض أنواع الخدمات وإنتاجها، وكونها مشغلاً كبيراً. فهي تملك مجموعة كور الضخمة، التي تضم شركة سوليل بونيه، وشركة تاديران، ومصانع سولتام، وصحيفة "دافار". وفي الخدمات المصرفية، تملك جزءاً كبيراً من بنك هبوعليم، وتشارك في ملكية بنوك ومؤسسات مالية أُخرى؛ ومن أكبر شركاتها هسنيه، كبرى شركات التأمين. كما أن الهستدروت تشارك في الاستثمار في شركة كلال وشركة تسيم وسايتكس. وقد أشرنا إلى امتلكها شركتي إيغد ودان، واحتكارها فرع المواصلات العامة في جميع أنحاء البلد. وفي التجارة تملك الهستدروت شركة همشبير، وشركة تنوفا، ودور نشر، وغير ذلك.[5]

نتيجة هذه الاستثمارات، تشغل الهستدروت نحو ربع القوى العاملة في إسرائيل، وتنتج مستوطناتها 86% من الإنتاج الزراعي، وتعتبر مؤسساتها المالية أكبر قوة تسليف في البلد.

نتائج تدخل الحكومة والهستدروت في الاقتصاد

إن الأهمية الخاصة لتدخل الحكومة والهستدروت في الاقتصاد لا تكمن فقط في ضخامة الاستثمار وتوجيه العملية الاقتصادية، بل بالأساس في احتكار بعض فروع الإنتاج والتوزيع والخدمات، وفي خنق المبادرة الخاصة، وجعل المبادرين تابعين لقرارات سياسية لا تمت إلى الجدوى الاقتصادية بصلة.

وخصوصية التدخل الحكومي في الاقتصاد لا تكمن في المبدأ نفسه، لأن هذا المبدأ مقبول اليوم في جميع الدول في سبيل تحقيق أهداف اجتماعية. أمّا في إسرائيل، فالوضع يختلف تماماً؛ إذ إن النظام السياسي يسيطر سيطرة كاملة على الاقتصاد. فتطور الاقتصاد الإسرائيلي كان متلازماً مع تعميق التدخل السياسي، وتجاهل قوى السوق واعتبارات الجدوى الاقتصادية، وتفضيل فروع معينة، وحتى مشاريع ومصالح اقتصادية معينة، على أُخرى. وكانت الاعتبارات السياسية هي المهيمنة على قرارات توزيع الموارد. ولقد تأثرت العملية الاقتصادية، وخصوصاً طريقة توزيع الموارد، بنوع الائتلاف الحكومي: فالوزير في إسرائيل هو عبارة عن إقطاعي مطلق الصلاحيات في توزيع ميزانية وزارته، وهو يحاول أن يخصص أكبر حصة منها لمنتخبيه أو لزعمائه، إلى درجة تعارض سياسات مختلف الوزارات من دون وجود استراتيجيا موحدة.

ولقد سبب هذا الوضع ربط الحصول على موارد اقتصادية بالولاء السياسي وبقوة التأثير. فالأفراد والجماعات والشرائح الاجتماعية الذين لا يملكون القوة والقدرة على التأثير لا يستطيعون الحصول على موارد. وعدم وجود الموارد هو في حد ذاته سبب للضعف السياسي. وسنبين لاحقاً نتائج هذا الوضع على تحقيق مبدأ المساواة الاجتماعية وعلى تطور الاقتصاد الإسرائيلي.

سياسة التطوير وتشجيع الاستثمار

نتيجة سيطرة الحكم المركزي والهستدروت والمؤسسات اليهودية القومية على الموارد الاقتصادية، استطاعت الدولة أن تتحكم في التطور الاقتصادي وتوجيهه على النحو الذي يخدم أهدافها السياسية والأمنية.

ولقد بدأت الحكومة تشجيع المبادرات الخاصة منذ أواسط الخمسينات، ثم قامت بسن قانون تشجيع الاستثمار سنة 1959.[6]  وتم تعديل القانون بعد ذلك مرات عدة، لكن من دون المس بجوهره. فهو يقرر أسلوب التشجيع الرئيسي الذي يستند إلى تقديم الأرصدة والضمانات المالية للمستثمرين بأسعار وتكاليف منخفضة. ويصنف القانون الاستثمارات بحسب معيارين أساسيين: المنطقة التي يقام المشروع فيها، وغاية الإنتاج (التصريف المحلي أو التصدير). وقد تم تقسيم البلد إلى ثلاث مناطق استثمار رئيسية: منطقة مفضلة (أ)، ومنطقة مفضلة (ب)، وجميع المناطق الأُخرى. ولم يحدد القانون معايير واضحة لتصنيف التجمعات السكنية بحسب مناطق التطوير وإنما منح الوزير المعني في مختلف فروع التطوير صلاحية تحديد هذا التصنيف ونسبة التسهيلات التي يحصل المستثمرون عليها.[7]

ولقد ميز القانون بين أربعة أنواع من المشاريع الاقتصادية (بحسب المنطقة، ونوع المشروع، وغاية الإنتاج)، وحدد نوع المنح والقروض والتسهيلات الأُخرى التي يحصل المستثمر عليها. لكن التشجيع لم يتوقف عند الحدود التي يقررها هذا القانون؛ فالمشاريع الصناعية تتمتع بالتسهيلات التي يمنحها قانون تشجيع الاستثمار في الصناعة من سنة 1969. وأمّا الفروع الاقتصادية، فتتمتع بتسهيلات مختلفة بحسب قانون الاستيطان من سنة 1967، وقانون الجليل من سنة 1988، والبند 11 من نظام ضريبة الدخل، والبند التاسع من قانون ضريبة التحسين.[8]

وتمنح هذه القوانين تخفيضات في الضرائب لنحو 60% من المستوطنات الواقعة في مناطق التطوير. وأمّا مدن التطوير، وعددها 26 مدينة، فتحصل على تخفيضات، وأحياناً على إعفاءات، بحسب جميع هذه القوانين.

تضمن هذه القوانين تشجيعاً كبيراً في معظم الفروع الاقتصادية، ولا سيما السياحة، والبناء، والإنتاج السينمائي والتلفازي، والخدمات الهندسية والتكنولوجية، والبحث العلمي. وهي تميز بصورة خاصة المشاريع التي تنتج للتصدير.[9] هذا بالنسبة إلى المساعدات المباشرة، لكن الحكومة قدمت مساعدات وتسهيلات غير مباشرة لا تقل أهمية، وأحياناً تفوق المساعدات المباشرة أهمية، مثل: منح امتيازات للتصرف في الأراضي، وتشييد البنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية، ودعم منتوجات معينة، وشراء منتوجات بعض المشاريع.[10]  ويضاف إلى هذا كله الاستثمار الحكومي في البحث العلمي التطبيقي، وفي التعليم والتدريب المهني والتكنولوجي، وفي الإسكان وتشجيع ذوي المهارات والخبرات التكنولوجية على السكن في مناطق التطوير.[11]

وقد أدت هذه السياسة إلى حصول بعض المشاريع الاقتصادية على منح ومساعدات تزيد عن 50% من تكاليف إنشاء المشروع، إضافة إلى مساعدات التشجيع بعد إنشائه ومباشرته العمل والإنتاج.[12]  لكن التشجيع لم يتوقف عند هذا الحد: فالسياسة المالية للحكومة أضافت مبالغ كبيرة لأرباح المستثمرين بسبب منح القروض من دون ربطها بجدول الغلاء. وقد تسبب التضخم المالي في السبعينات في إلغاء جزء كبير من هذه القروض. هذا بالإضافة إلى أن الضرائب المستحقة لم تكن مرتبطة بجدول الغلاء حتى سنة 1982.[13]

وأدت سياسة تشجيع الاستثمار في مختلف الفروع الاقتصادية، ما عدا الزراعة، إلى تحويل أملاك وموارد عامة من ملكية الدولة إلى الملكية الخاصة، تمتع بها عدد من المستثمرين والمستثمرين الوهميين. وبذلك تشكلت شريحة من المبادرين على حساب الدولة، وبتشجيعها تحولت في السبعينات إلى شريك للحكومة والهستدروت في المشاريع الاقتصادية الضخمة وذات صوت مسموع ونفوذ كبير في اتخاذ القرارات وتوجيه السياسة.[14] أمّا في الزراعة، فقد كان تأثير الحكومة أكثر عمقاً من الفروع المذكورة. ذلك بأن الحكومة في إسرائيل تملك 94% من الأراضي والثروة المائية وصلاحية تحديد فروع الإنتاج وتحديد الحصص للمزارعين. وبما أن المزارعين في البلد منظمون في معظمهم في حركات الاستيطان، فإن تأثيرهم كمجموعة مصلحة في اتخاذ القرار كان كبيراً جداً. ولقد جاء الجزء الأكبر من الاستثمار في تطوير الزراعة من مصادر حكومية أو من مؤسسات الاستيطان، وخصوصاً الوكالة اليهودية.

وقامت الدولة بوضع خطط التطوير الزراعي، وخصصت لتنفيذها الأراضي والمياه والموارد المالية وحصص المياه (بواسطة سلطة المياه) وحصص الإنتاج التي حددتها مجالس الإنتاج والتصريف، إضافة إلى الاستثمار الضخم في البحث العلمي المختص بمجال تطوير الزراعة.

السياسة الاقتصادية تجاه الأقلية العربية

لا يمكن في أية دراسة للمجتمع الإسرائيلي أو لمجالات محددة فيه، تجاهل وجود الأقلية العربية، لأن هذا التجاهل يحد من فهم كثير من العمليات السياسية والاقتصادية. وفي المجال الأخير بالذات، لعبت قوة العمل العربية دوراً مهماً في الاقتصاد الإسرائيلي، إضافة إلى أن وضع العراقيل أمام مشاركة العرب في العملية الاقتصادية مشاركة كاملة وعلى قدم المساواة يشكل ظاهرة مهمة ذات تأثير في تطور الاقتصاد.

وقد تأثرت الأقلية العربية أكثر من غيرها من فئات المجتمع الإسرائيلي من نوع النظام الاقتصادي، وسيطرة الدولة على الموارد، وعدم وجود معايير واضحة لتوزيع هذه الموارد، ووضع صلاحية اتخاذ القرار في أيدي الوزراء والموظفين.

وفي وسعنا اختصار السياسة الاقتصادية تجاه الأقلية العربية على النحو التالي:[15]

  1. مصادرة الموارد الاقتصادية، وخصوصاً الأرض والمياه؛
  2. استثناء القرى والمدن العربية من مناطق التطوير المفضلة؛
  3. التمييز في دعم المشاريع الاقتصادية، وعدم المساهمة في تطوير بنية تحتية ملائمة؛
  4. المماطلة في المصادقة على الخرائط الهيكلية للمدن والقرى العربية؛
  5. التمييز في تطوير التعليم المهني والتكنولوجي؛
  6. التمييز في ميزانيات السلطات المحلية ولا سيما ميزانيات التطوير؛
  7. التمييز في سوق العمل بواسطة استخدام معايير مختلفة فيها تمييز مسبق، مثل مكان السكن، والخدمة في الجيش.

كانت نتيجة هذه السياسة منع العرب في إسرائيل من تطوير اقتصاد في مستوى اقتصاد القطاع اليهودي، وعدم استخدام الموارد المادية والبشرية بصورة كافية، وإهدار طاقات كثيرة.[16]

 خطط ومراحل التطوير

عرضت الحكومة على الكنيست خطتها الأُولى في التطوير الاقتصادي سنة 1949. ثم شرعت في إقامة الشركات الاقتصادية بالتعاون مع الهستدروت ومشاركتها. وكان الهدف من إقامتها تحقيق الأهداف القومية: الأمن، البنية التحتية، توزيع السكان، تطوير مدينة القدس بوصفها العاصمة، وتوجيه الاستثمار الخاص.

وأدت هذه المبادرة إلى نشاط اقتصادي واسع، وزيادة طلب القطاع العام على البضائع، وزيادة الاستيراد أكثر من متطلبات الأمن والهجرة من دون زيادة في التصدير. إلا إن الرقابة الحكومية المشددة على المبادرات الخاصة أدت إلى خنق هذه المبادرات. ولذلك فإن هذه السياسة أوصلت البلد، وفي فترة قصيرة، إلى جمود اقتصادي وإلى تطور سوق "سوداء" واسعة.

بدأ هذا التوجه في التغير منذ أواسط الخمسينات. فبعد توقيع اتفاقية التعويضات مع ألمانيا سنة 1954، أخذت الدولة تشجع المبادرات الخاصة وتوجه استثماراتها، لكنها احتفظت لنفسها بالدور الرئيسي في تطوير الاقتصاد. ونتيجة هذا التحول في السياسة الاقتصادية وتدفق الأموال من الخارج (التعويضات من ألمانيا ومساعدات الولايات المتحدة والجباية اليهودية)، الذي لم تشهد مثيلاً له أية بلاد أُخرى مقارنة بعدد السكان، دخل البلد مرحلة من النمو السريع. إذ أدى التشجيع الحكومي للمبادرة الخاصة إلى توسع الاستثمار، والازدهار في جميع الفروع: ففي الأعوام الخمسة والعشرين الأُولى من قيام الدولة، حققت أعجوبة اقتصادية ليس لها مثيل، باستثناء فترة قصيرة (1965 - 1967). وفي الفترة كان معدل الزيادة السنوية في الإنتاج القومي 10%، وفي التصدير 18%، وفي الاستهلاك الشخصي 9%.

وبعد حرب سنة 1967، وحتى سنة 1972، شهد البلد فترة ازدهار وتسارعاً في وتيرة النشاط الاقتصادي، وتوسعاً في هذا النشاط، وزيادة عالية في الإنتاج المحلي وفي الاستيراد. وقد ساهمت في هذا الازدهار الزيادة الكبيرة في الجباية اليهودية والقروض الأميركية. وكانت نتيجة هذا النمو السريع ازدياد الإنتاج القومي في فترة 1953 - 1973 ستة أضعاف، وبمعدل سنوي لم يسبق له مثيل، في حين تضخم سكان الدولة ضعفين. وهكذا استطاعت إسرائيل سنة 1970 أن تحقق دخلاً قومياً يعادل الدخل القومي لدولة مثل مصر، بينما كان عدد سكان مصر عشرة أضعاف عدد سكان إسرائيل. وفي هذه الفترة تضخم الاستهلاك الشخصي والعام خمسة أضعاف، بمعدل 4,7% في العام للفرد الواحد، وتضاعفت مصروفات الأمن 18 مرة. أمّا التصدير، فقد ارتفع في الفترة 1955 - 1967 بمعدل 15,7% في العام، بينما ارتفع الاستيراد بمعدل 9,7%، وفي الفترة 1968 - 1972 زاد الأول بمعدل 11,4% سنوياً وزاد الثاني بمعدل 11,4%.[17]

نتيجة هذا التطور السريع، استطاعت إسرائيل أن تحقق مستوى عالياً من النضج الاقتصادي يتمثل في مستوى عال من التصنيع، ومستوى حياة عال، وقاعدة اقتصادية عريضة منحت الدولة قدرة كبيرة على المراوغة السياسية والعسكرية والاجتماعية، وحولتها إلى عنصر مركزي في المنطقة، وبثت لدى الإسرائيليين شعوراً جماعياً وفردياً بالعظمة.

وعقب حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، تغيرت الأوضاع الداخلية والخارجية تغيراً جوهرياً أدى إلى تحول معاكس تماماً في العملية الاقتصادية، وأدخل البلد في أزمة اقتصادية في المدى البعيد. ومن أهم هذه التغيرات في الأوضاع:

1 - تضخم المصروفات على جهاز الأمن، بحيث ارتفعت من 10% من الإنتاج القومي إلى 30%.

2 - أزمة اقتصادية عالمية قللت من تدفق الأموال إلى البلد على نحو واضح.

3 - الارتفاع السريع في أسعار النفط.

4 - عدم الاستقرار السياسي.

منذ بداية سنة 1974، دخل الاقتصاد الإسرائيلي أزمته الصبة والطويلة؛ فقد بدأت مرحلة تباطؤ اقتصادي استمرت أعواماً طويلة وظهرت فيها مظاهر تراجع النمو والازدهار، وحتى التوقف الكامل. فمعدل النمو السنوي هبط إلى أقل من 5% في فترة 1973 - 1979، ولم يصل في فترة 1976 - 1977 إلى 2%. وكان التضخم في الاستهلاك الشخصي في هذه الفترة بمعدل أعلى من معدل النمو في الإنتاج القومي، وهو ما زاد فائض الاستيراد زيادة كبيرة. كما شهدت سوق العمل ارتفاعاً في نسبة العاطلين عن العمل من 3% إلى 6%. وكان أهم مظاهر التحول في الاقتصاد الإسرائيلي الارتفاع الجارف في نسبة التضخم المالي: ففي الفترة السابقة حتى سنة 1967، كانت هذه النسبة 4% - 6% سنوياً، وارتفعت إلى 10,5% في فترة 1968 - 1973. وقفزت نسبة التضخم إلى 42% سنة 1973 وإلى 56,2% سنة 1974، ثم هبطت هبوطاً بسيطاً سنة 1975 - 1976، وعادت إلى الارتفاع بوتائر أسرع منذ سنة 1977، بحيث تجاوزت 100% سنة 1979.[18]

وقد اضطر الوضع الاقتصادي الجديد حكومة حزب العمل إلى اتخاذ خطوات مختلفة لوقف التراجع، لكن من دون جدوى:

1 - إقلال استثمارات القطاع الحكومي؛

2 - إصلاح في ضريبة الدخل سنة 1974 أُلزم، بموجبه، كثير من الدفعات المرافقة للأجور بالضريبة؛

3 - تخفيض العملة الإسرائيلية تخفيضاً زاحفاً.

لكن هذه الإجراءات لم توقف التدهور الاقتصادي، فتسارعت وتيرة التضخم المالي، واستمرت البطالة في الارتفاع. كما أن العجز في ميزان المدفوعات استمر في الارتفاع. وقد استطاعت الدولة حتى هذه الأزمة سد العجز عن طريق المدخول من جباية المؤسسات اليهودية والتحويلات المالية الخاصة. لكن هذا المدخول أصبح يشكل نسبة قليلة من العجز، ولذلك لجأت الدولة إلى تمويله من الهبات والقروض الأميركية بحيث تعدت حصتها نصف تمويل العجز في ميزان المدفوعات الجاري. وهكذا ترسخت تبعية الدولة للولايات المتحدة واشتدت.

وحاولت حكومة إسرائيل في هذه الفترة إحداث تغيير جوهري في مفهوم العمل الاقتصادي لدى الإسرائيليين. فحتى الآن، كانت المعايير التي تتحكم في الاقتصاد سياسية واجتماعية لا معايير الجدوى الاقتصادية والربح. وهدفت محاولات الإصلاح إلى ترسيخ هذه المفاهيم الاقتصادية المتعارف عليها في السوق الحرة. ومنذ هذه اللحظة، أصبحت السياسة الاقتصادية تموج وتتراوح بين قطبين: الأول هو محاولات ترسيخ المفاهيم والمعايير الجديدة في الحكم على نشاط الدولة والأفراد، والآخر هو المبدأ الذي يقول إن المشكلة ليست في المفاهيم السائدة وإنما في حقيقة تدخل الدولة في الاقتصاد، ولذلك فإن الحل هو في تخفيف هذا التدخل والتحول إلى اقتصاد السوق الحرة.[19] إلا إن الواقع هو أن الدولة كانت في هذه الفترة تفعل العكس تماماً: إذ إن تطوير الصناعات العسكرية أدى إلى تعميق وتوسيع دور الحكومة في الاقتصاد وزيادة حصتها في قطاع الصناعة بالذات. وتعمق هذا الدور أيضاً بسبب محاولات الإصلاح في توزيع الدخل على مختلف الشرائح الاجتماعية، وخصوصاً عقب ظهور الحركات الاجتماعية بين اليهود الشرقيين (مثل حركة الفهود السود)، التي طالبت بتوزيع موارد المجتمع بصورة أكثر عدالة ومساواة. واضطرت هذه المطالبة حكومة إسرائيل إلى إجراء إصلاحات في نظام مخصصات التأمين الوطني سنة 1975، وإلى زيادة التزاماتها بتوسيع وتعميق الخدمات الاجتماعية للطبقات الفقيرة. وفي حين كانت الحكومة تحول استثماراتها من المجالات الإنتاجية إلى المجالات الاستهلاكية وتزيد في التزاماتها نحو الجمهور، كانت أيضاً تعاني خسارة أموال كثيرة كانت قد قدمتها للمبادرين والمستثمرين في هيئة قروض. فهذه القروض لم تكن مرتبطة بالدولار أو بجدول الغلاء، الأمر الذي أدى إلى تأكلها، بل إلى إلغائها بسبب التضخم المالي المتسارع.

انقلاب سنة 1977: تعميق الأزمة

كان هدف التحول إلى اقتصاد السوق والإقلال من تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي من أبرز بنود برنامج حزب الليكود. وقد وجد هذا الهدف آذاناً صاغية وتجاوباً على خلفية الأزمة الاقتصادية منذ سنة 1973. ولذلك، فقد ساهم مساهمة كبيرة في إحداث الانقلاب السياسي وصعود هذا الحزب إلى الحكم. لكن تحقيق هذا الهدف اصطدم، منذ اللحظة الأُولى، بمصلحة الحزب في البقاء في سدة الحكم، وبمعارضة شديدة في صفوف القيادة. فالتحول إلى السوق الحرة كان يعني أيضاً تقليص الخدمات الاجتماعية للطبقات الفقيرة. وتتشكل هذه الطبقات على الأكثر من اليهود الشرقيين الذين يشكلون أيضاً القاعدة السياسية العريضة التي أوصلت حزب الليكود إلى الحكم. وقد اعتبر دافيد ليفي نفسه ممثلاً لهذا الجمهور، ولذلك فقد عارض بشدة أي تقليص في الخدمات أو في دعم الحاجات والمنتوجات الاستهلاكية الأساسية.[20]

كانت الخطوة الأُولى هي تلك التي نفذتها حكومة الليكود الجديدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1977. فقد اتخذ وزير المال آنذاك، إرليخ، قراراً بتخفيض سعر الليرة الإسرائيلية بنسبة 47%، إضافة إلى خطوات أُخرى. لكن الاقتصاد الإسرائيلي استمر يعاين معدل التضخم المالي المرتفع، والذي تعدى نسبة 100%. من هنا جاءت الخطوة الثانية التي شرع في تنفيذها وزير المال الثاني في حكومة الليكود، يغئال هوروفيتس، والتي شملت ما يلي:

1 - إلغاء الدعم لحاجات ومنتوجات استهلاكية أساسية؛

2 - الحد من تضخم الاستهلاك العام والمدني؛

3 - بداية ربط القروض للمستثمرين بجدول غلاء المعيشة؛

4 - الإقلال من الدعم الخفي وغير المباشر في منح الضمانات.

وفشلت هذه السياسة في تحقيق أهدافها، وأدت إلى نتائج عكسية تماماً، وذلك لعدة أسباب:

1 - استمرار الجهاز الحكومي وجهاز الحكم المحلي في التضخم بدلاً من التقلص؛ ومن هنا، فقد أضيفت أعباء جديدة على المصروفات العامة؛

2 - ازدياد عدد المطالبين بحصص من "الكعكة الوطنية" بفعل دخول أحزاب جديدة إلى الائتلاف الحكومي؛

3 - ازدياد ضغوط الشرائح الاجتماعية، التي كانت تعاني عدم المساواة في توزيع موارد المجتمع للحصول على حصص أكبر من هذه الموارد، وخصوصاً قبيل انتخابات الكنيست العاشر سنة 1981؛

4 - بسبب الأزمة التي بدأت منذ سنة 1973 وزيادة القروض، تضاعفت الديون الخارجية ثلاث مرات، وشكلت عبْأً ثقيلاً على ميزانية الدولة في بند إعادة هذه الديون المستحقة؛

5 - زيادة المصروفات على توسيع الاستيطان في المناطق المحتلة.

وأدت هذه الأسباب والعوامل إلى تعميق الأزمة الاقتصادية بصورة عامة، بيد أن الأزمة الأعمق والأشد التي عانتها إسرائيل كانت أزمة جذرية نتجت من علاقة الدولة بالاقتصاد: فالجمهور الإسرائيلي اعتاد أن يتوقع قيام الدولة بضمان دخل ورفاهية مادية بغض النظر عن نشاطه وفعاليته الاقتصادية وأدائه وربحه، على اعتبار أن العمل الاقتصادي ليس هدفاً في حد ذاته وإنما هو وسيلة لخدمة أهداف قومية واجتماعية. لكن الأزمة الاقتصادية أضعفت قدرة الحكومة على توفير الأمن الاقتصادي للمواطن وصموده أمام قوى السوق. وهكذا، اضطرت حكومة الليكود بالذات إلى استخدام موارد الدولة لضمان الولاء السياسي بواسطة توجيه الاستثمار من المجالات الإنتاجية إلى الاستهلاك، ورفع مستوى الحياة. وقد أدخل هذا التوجه الاقتصاد في محنة صعبة ودائرة سحرية: توقف الاستثمار في الفروع الإنتاجية، وسوء أوضاع التنافس في السوق العالمية، وارتفاع مديونية الدولة في حين تزداد ضغوط الشرائح الاجتماعية الفقيرة، والفئات السياسية المشاركة في الائتلاف الحكومي وضغط الانتخابات البرلمانية التي تهدد بفقدان الحكم.

في هذه الأوضاع، اضطرت حكومة الليكود إلى تغيير وزير المال وتعيين يورام أريدور، المشهور بتخطيط وتنفيذ "اقتصاديات الانتخابات"، بدلاً منه. وفي بداية سنة 1981 (سنة الانتخابات للكنيست العاشر)، بدأ تنفيذ سياسة اقتصادية جديدة تتلخص في الخطوات التالية:

1 - رفع نسبة الضرائب؛

2 - رفع نسبة الدعم للحاجات الأساسية؛

3 - رفع قيمة العملة الإسرائيلية بمعدل 5% شهريً لتخفيض التضخم المالي.

ولم تكن هذه الخطوات أنجح من سابقتها في تحسين وضع الاقتصاد. فسياسة حزب الليكود في توسيع الاستيطان بسرعة، ودفع التعويضات للمستوطنين في سيناء عقب توقيع معاهدة السلام مع مصر، وجر الدولة إلى المغامرات العسكرية (حملة الليطاني سنة 1978 وغزو لبنان سنة 1982)، كل هذا زاد في مصروفات الدولة بنسبة عالية، وأدى إلى الارتفاع المسبب للدوار في التضخم المالي الذي وصل إلى 450% سنة 1984.

الاستقرار الاقتصادي

بعد انتخابات الكنيست الحادي عشر وتعادل المتنافسين الرئيسيين، العمل والليكود، في النتائج، أُلِّفت في إسرائيل حكومة وحدة وطنية أخذت على عاتقها مهمتين رئيسيتين: إخراج الجيش من لبنان، وتخفيض نسبة التضخم المالي. وفي تموز/يوليو 1985، أقرت الحكومة اتخاذ سلسلة من الخطوات الاقتصادية. ولم تؤد هذه الخطوات إلى إجراء تغيير بنيوي جذري في الاقتصاد الإسرائيلي، لكنها استطاعت أن تخفض التضخم إلى 20% سنوياً. وقد ساهم في نجاح السياسة الجديدة ثلاثة عوامل رئيسية: الحصول على هبة خاصة من الولايات المتحدة بلغت 1,5 مليار دولار، وهبوط أسعار النفط في العالم، وانخفاض سعر الدولار بالنسبة إلى العملات الأوروبية. وقد استطاعت الحكومة، بقرار رسمي وطريقة اصطناعية، المحافظة على الاستقرار الاقتصادي وتثبيت التضخم المالي حتى الآن. وشملت هذه السياسة تعميق جباية الضرائب، وتخفيض الدعم للمنتوجات الاستهلاكية الأساسية، ورفع الفوائد البنكية، ورفع نسبة البطالة في القوى العاملة.

وأدت هذه السياسة إلى تباطؤ اقتصادي ابتداء من سنة 1987 بسبب ارتفاع قيمة العملة الإسرائيلية نسبة إلى الدولار. ونظراً إلى توقع الجمهور إجراء تخفيض في قيمة العملة، سارع إلى شراء مبالغ كبيرة من الدولارات. لكن هذا الإجراء تأخر حتى نهاية سنة 1989. في هذه الأثناء، كان بعض قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي، ولا سيما الزراعة والبناء، يعاني جرّاء الإضرابات المتكررة التي سببت انقطاع أعداد كبيرة من عمال المناطق المحتلة عن العمل في إثر اندلاع الانتفاضة في نهاية سنة 1987.

وقد بدأ الاقتصاد الإسرائيلي يعالج هذه الظاهرة بالسماح بتشغيل عمال أجانب تزايدت أعدادهم منذ بداية الإغلاقات التي تفرضها حكومة إسرائيل على المناطق المحتلة. وتزامنت هذه العملية مع الهجرة من روسيا، التي بدأت في نهاية سنة 1989، وتزايدت بصورة كبيرة فيما بعد. وكما يبدو، فإن قرار إغلاق المناطق والاستغناء عن العمال الفلسطينيين كان منذ البداية (نهاية سنة 1990) قراراً اقتصادياً وسياسياً استراتيجياً. وفي الواقع، استطاع الاقتصاد الإسرائيلي أن يستغني فعلاً عن هؤلاء العمال، وأن يجني أرباحاً أعلى من استخدام العمال الأجانب الذين وصل عددهم إلى نحو 70 ألف عامل، في حين يصل عدد عمال المناطق في إسرائيل إلى 50 ألف عامل، بعد أن كان عددهم 110 آلاف عامل سنة 1987.

وشكلت الهجرة الكبيرة (أكثر من نصف مليون مهاجر) ضغطاً على الاقتصاد الإسرائيلي وعلى سوق العمل. لكن يمكن الاستنتاج بحسب تطور الأمور حتى الآن أن سوق العمل استوعبت الهجرة على الرغم من ارتفاع نسبة البطالة إلى 12% تقريباً، بعد أن كانت قبل الهجرة في حدود 6%. ومن جهة أُخرى، فإن الضمانات التي حصلت إسرائيل عليها من الولايات المتحدة مكنتها من استيعاب المهاجرين بسهولة نسبية، إضافة إلى الاستثمار الكبير في تطوير البنية التحتية في الأعوام الأخيرة. ومن الجدير ذكره أن القطاع الخاص ساهم في استيعاب المهاجرين من روسيا لأول مرة في تاريخ البلد. وهذا التحول هو جزء لا يتجزأ من التغيير الذي يمر البلد به حالياً في هذا المجال. فالقطاع الخاص يمارس ضغوطاً كبيرة للحصول على حصة أكبر في الاقتصاد، وإنهاء احتكارات القطاع الحكومي والقطاع الهستدروتي في بعض المجالات، والتخفيف من تدخل الحكومة في العملية الاقتصادية.

ومن الملاحظ أن البلد دخل مرحلة جديدة من انفتاح السوق الإسرائيلية أمام الاستيراد، وخصوصاً استيراد الكماليات، ومن الاندماج في السوق العالمية إنتاجاً واستهلاكاً.

وعلى الرغم من بعض مؤشرات التغيير في الحياة الاقتصادية، فإن إسرائيل ما زالت بعيدة عن لحظة الانتقال إلى نظام اقتصادي ليبرالي؛ فجزء كبير من مواردها لا تزال الحكومة تتحكم فيه وتخصخصه بطرق عديدة ومعايير غريبة، والنظام الاقتصادي ينشط في ظل النظام السياسي.

لقد حقق الاقتصاد الإسرائيلي في مسيرة تطوره إنجازات مختلفة، وخصوصاً في مجال الصناعات العسكرية المتطورة، والصناعات الإلكترونية، والزراعة، وفي البحث العلمي التطبيقي. ومن الملاحظ أن هذه الصناعات ما زالت في أغلبيتها الساحقة جزءاً من القطاع الحكومي، وتتطور بتوجيه وتمويل السلطة المركزية. وليس في الإمكان الحكم ما إذا كان يمكن لهذه القطاعات أن تحقق إنجازات أفضل لو كانت جزءاً من استثمارات القطاع الخاص. من جهة أُخرى، يلاحظ أن بعض قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي لا يزال متخلفاً تكنولوجياً، ويعتمد على العمل المكثف. وتبرز هذه الظاهرة بصورة خاصة في بعض فروع الزراعة والنسيج والبناء. والقطاع الأخير يعتبر أكثرها تخلفاً: فعلى سبيل المثال، تصل نسبة البناء المصنع في إسرائيل إلى 15% فقط، بينما تصل في دول اسكندنافية إلى 85%. ويستثمر في كل متر مربع من البناء ضعفا ساعات العمل التي تستثمر في دول صناعية متقدمة. وعموماً، لقد حقق الاقتصاد الإسرائيلي مستوى من التطور أعلى مما حققته دول العالم الثالث، لكنه أقل من المستوى الذي حققته الدول المتقدمة.

ووصل الاقتصاد الإسرائيلي إلى وضع يمكن أن نصفه بالاختناق أو الاحتقان. وهو وضع يفرض على السلطة السياسية إجراء تغيير في بنيته قبل الدخول في أزمة حادة على مستوى علاقة الفرد وشرائح اجتماعية مختلفة بالمجتمع والسلطة. وهذا الوضع هو نتيجة تراكم آثار هيمنة السياسة على الاقتصاد. ويطالب الكثيرون بوضع حد لهذه الهيمنة لأنها لم تعد مبررة، ولأنها أصبحت عبْأً ثقيلاً على المجتمع. فقد كان لها نتائج بارزة وعميقة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعلى الرغم من صعوبة الفصل بين هذه النتائج، فلا بد من وضع الحدود بينها توخياً للدقة والوضوح. وفيما يلي نجمع هذه النتائج في المجالات الثلاثة المذكورة:[21]

النتائج الاقتصادية

أدت هيمنة النظام السياسي في الاقتصاد إلى إعاقة تطوير بنية تحتية ملائمة لبناء اقتصاد إنتاجي وخدماتي متطور. وقد بدأت هذه المشكلة تبرز منذ أعوام طويلة، ولا سيما في مجال شبكة المواصلات ووسائل الاتصال. وبالطريقة نفسها، أعاقت هذه السياسة التطور التكنولوجي والتطور الإداري اللذين ظهرا للعيان منذ السبعينات. وكانت هذه الحقيقة سبباً رئيسياً لصعوبة التكيف مع التطورات والمستجدات، وخصوصاً في حالات الأزمة الاقتصادية وفي قضية الاندماج والتنافس في السوق العالمية.

ولا تزال الحكومة في إسرائيل تتمسك بملكية مشاريع ومصانع وشركات أصبح ثابتاً أنها ليست ذات جدوى اقتصادية، وأن استمرار وجودها يستند إلى الدعم الحكومي فقط. وهذا الوضع يتسبب منذ قيام الدولة في خسارة وإهدار موارد اقتصادية كان في الإمكان استخدامها على وجه أفضل، وخصوصاً في تشييد البنية التحتية. وهناك على الأقل احتمال أن تكون هذه المصالح ذات جدوى، وأن تجني أرباحاً، وأن تساهم في الانتعاش الاقتصادي فيما لو امتلكها وأدارها مستثمرون في القطاع الخاص.

إن إحدى نتائج النظام القائم منذ قيام الدولة هي تحويل جزء من الموارد العامة إلى أيدي المبادرين في القطاع الخاص. وقد أوجد هذا النظام تبعية متبادلة بين شريحة صغيرة من المبادرين والمستثمرين المنتفعين من احتكار تحويل هذه الموارد وبين شريحة من الموظفين الإداريين في الجهاز الحكومي، ذات تأثير في اتخاذ القرار، وبمشاركة سياسيين في مختلف الأحزاب. وهؤلاء جميعاً يشكلون شريحة واحدة ذات مصلحة مشتركة في عدم إعطاء فرصة لمبادرين ومستثمرين جدد لدخول السوق الإسرائيلية. إن هذه الظاهرة، واحتكار بعض مجالات النشاط الاقتصادي من جانب الحكومة والهستدروت والمجمعات الاقتصادية الكبرى، أديا إلى غياب التنافس الحقيقي في السوق. ومن هنا انتشرت ظاهرة تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج. كما أن هذا الوضع لم يتح لإسرائيل أن تستوعب رؤوس أموال ومستثمرين من خارج البلد. والنتيجة النهائية لاحتكار استخدام الموارد واحتكار السوق هي إهدار كثير من طاقات المبادرة، وضياع كثير من قوى الإنتاج.

خلاصة

تميز الاقتصاد الإسرائيلي حتى الآن بدرجة عالية من المركزية وتدخُّل الحكومة المباشر في العملية الاقتصادية، لا على المستوى العام فقط، بل أيضاً على مستوى عقد صفقات وتنفيذ مشاريع وملكية مصالح كبيرة وصغيرة. وكان هذا التدخل متأثراً بقوى سياسية واقتصادية، محلية وعالمية، وبأيديولوجيا الأحزاب الحاكمة وضغوط أمنية واجتماعية. ومن الممكن اعتبار أن هذا التدخل كان مقبولاً ومجمعاً عليه في المجتمع الإسرائيلي فترة طويلة، لكن منذ بداية السبعينات، أخذ يظهر في المجتمع جيل جديد غير راضٍ عن هذا النظام، ويفضل أن يعطى الفرصة للمبادرة من خلال سوق حرة. وكان هذا الموقف مدعوماً من اليمين الإسرائيلي حتى تسلُّمه زمام الحكم سنة 1977. إلا إنه لم يبذل أية محاولة جادة لتغيير الواقع، واستمر في التحكم في الاقتصاد والتدخل في نشاطه نظراً إلى ما تحويه هذه السيطرة من قوة سياسية وموارد مهمة تشكل دعامة لكل حزب حاكم. غير أن حزب الليكود نفسه أنتج شريحة جديدة من المبادرين الذين لم يعودوا يكتفون بما تقدمه السلطة، ويفضلون نظاماً اقتصادياً مفتوحاً. وهكذا بدأت تتصارع في البلد قوى متناقضة في مصالحها:

في الجانب الأول، نجد النخبة السياسية التي هي نفسها من إنتاج الجهاز الحزبي ونظام توزيع الموارد، وتساندها فئات اجتماعية وسياسية تتمتع بامتيازات خاصة في الحصول على الموارد العامة. وفي الجانب الآخر مبادرون ومستثمرون وشريحة واسعة من الطبقة الوسطى غير راضية عن نوع مستوى الخدمات التي يقدمها الجهاز الحكومي. وقد انضم إلى هذا الجانب شخصيات سياسية تطالب بالانفتاح في كل أجهزة الدولة، وتؤمن بأهمية القدرات الشخصية والفردية في المجالين السياسي والاقتصادي بدلاً من الأجهزة الحزبية والحكومية الجامدة.

وما زالت النخب المنتفعة من النظام الحالي تتمترس وراء ادعاءات ومزاعم ذات أهمية كبيرة في حياة الإسرائيليين ووعيهم؛ فهي تزعم أن الوضع الأمني لدولة إسرائيل لا يسمح بأن تترك مسألة توفير متطلبات الأمن وتزويد البلد بسلع وخدمات أساسية لتنافس قوى السوق الحرة. وفي مصلحة هذه النخب الادعاء بأمر أساسي هو أن إسرائيل استطاعت في ظل هذا النظام أن تواجه الضغوط الخارجية وأن تنجح في تنفيذ المهمات القومية الجماعية. فقد استغلت هذه النخب المساعدات الخارجية في إقامة قاعدة اقتصادية عريضة، واستثمرت في إنتاج طاقات بشرية ومهارات فنية تتميز بمستواها العالي، وتشكل الدعامة الأساسية في التصدي للتحديات.

طبعاً يمكن بسهولة تفهم الادعاءات المقابلة القائلة إن هذا النظام قد فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق الوعود بالمساواة والعدالة الاجتماعية، وإنه أهدر طاقات مادية وبشرية كثيرة بسبب تدخل الدولة وقوة أجهزتها. لذلك، فإن هذا النظام يضع مسألة تحقيق الديمقراطية موضع التساؤل.

ولقد استطاعت القوى المطالبة بالتغيير في أن تمارس ضغوطاً كبيرة على السلطة المركزية، وخصوصاً أن كثيراً من ادعاءات النخب الحاكمة بشأن مسألة الأمن انهار في الأعوام الأخيرة. ونتيجة لذلك، تُلاحَظ بوادر التحول إلى السوق الحرة. ومن الممكن أن نلاحظ أن الصراع بين الجانبين، المطالب بالتغيير والمعارض له، يشتد يوماً بعد يوم. ونعتقد أن سبب اشتداد هذا الصراع هو دفاع النخب المنتفعة من الوضع الحالي عن مصالحها هي. فهناك اليوم مجموعات مصلحة قوية تراكمت قوتها المادية والسياسية بالاعتماد على النظام القائم، وهي ليست مستعدة للتنازل بسهولة عن امتيازاتها وأسباب قوتها. هذا بالإضافة إلى أن عملية التحول والتغيير ليست سهلة بسبب تعقيد النظام وعدم مرونته. ونرى أن هذه الجماعات والنخب لا تستطيع مواجهة الضغوط إلى ما لانهاية، لكنها لا ترغب في التنازل عن امتيازاتها، ولذلك فقد يكون الحل المفضل لها تحويل الضغوط المفروضة عليها إلى الخارج.

لقد وجدت هذه النخب هذا الحل من خلال عملية السلام، وإقامة علاقات اقتصادية بالدول العربية تمكن المبادرين والمستثمرين من تحقيق غاياتهم، وجني الأرباح، من دون المساس بالنظام واستمرار سيطرة النخب الحاكمة على الموارد الاقتصادية وعلى أجهزة الخدمات. إن هذا الحل يحقق مصالح الجهتين في وقت واحد، إضافة إلى أنه يخفف الأعباء الناتجة من الوضع السياسي في المنطقة، وخصوصاً في مسألة الأمن. وفي سبيل ذلك، كان لا بد في البداية من إيجاد حل للقضية الفلسطينية، مع ضمان امتيازات ومصالح إسرائيل الأمنية والاقتصادية، وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة في نصوص وروح الاتفاقات التي عقدت حتى الآن بين إسرائيل والفلسطينيين.

 

[1] أ. نويباخ، أ. صدقا، أساف رزين، "تحديات الاقتصاد الإسرائيلي: الهجرة، النمو والاندماج في العالم" (بالعبرية) (تل أبيب: مكتبة معاريف والمعهد الإسرائيلي الدولي، 1990)، الجدول 27، ص 206.

[2]المصدر نفسه، ص 236.

[3] مزيد من التفصيلات بشأن موضوع خصخصة الشركات الحكومية في: ش. أكشطاين، ب. زيلبار فارب، وشمعون روزبيتس، "عملية خصخصة الشركات الحكومية في إسرائيل" (بالعبرية)، "الفصلية الاقتصادية"، العدد 1، 1993، ص 31 - 47.

[4] تقرير سلطة الشركات الحكومية لسنة 1995، القدس. أكبر الشركات الحكومية هي: رفائيل - الصناعات الجوية، تاعاس، شركة الكهرباء، شركة بيزك، كيمكاليم، إل عال، شيكم، تسيم، مكوروت ومصفاة البترول.

[5] تفصيلات وافية بشأن الاقتصاد الهستدروتي في:

  1. .Shalev, Labour and the Political Economy in Israel (N.Y.: Oxford University Press, 1992)

[6] إسرائيل، مركز الاستثمارات، "قانون تشجيع الاستثمارات لعام 1959" (بالعبرية) (القدس، 1973).

[7] أ. الكناد، "تشجيع مناطق التطوير بواسطة تسهيلات الضرائب" (بالعبرية)، "الفصلية الإسرائيلية للضرائب"، المجلد 14، العدد 54، 1984، ص 166 - 170.

[8] المصدر نفسه، ص 168.

[9] يهوديت بوك، "ضريبة الأملاك في فترة 1964 - 1978"، "الفصلية الإسرائيلية للضرائب"، المجلد 12، العدد 45، 1980، ص 56 - 60.

[10] Israel, Ministry of Finance, Investment Authority, Israel Investor’s Annual (Jerusalem, 1975), pp. 72-74.

[11] ر. زيلبربيرغ، "توزيع السكان في إسرائيل في فترة 1948 - 1972" (بالعبرية)، وزارة المال، سلطة التخطيط الاقتصادي (القدس، 1973)، ص 30 - 38.

[12] أرييه برغمان، "الصناعة وسياسة التصنيع في إسرائيل - قضايا أساسية 1965 - 1985" (بالعبرية)، بنك إسرائيل، شعبة البحث (القدس، 1986)، ص 12.

[13] يعقوب كوندور، "اقتصاد إسرائيل" (بالعبرية) (تل أبيب والقدس: دار شوكن، 1984)، ص 238.

[14] Y. Ben-Porath (ed.), The Israeli Economy: Maturing through Crises (Cambridge, Massachusetts and London: Harvard University Press, 1986), p.15.

[15] لمزيد من التفصيلات بشأن هذه السياسة، أنظر:

  1. .Haidar, The Arab Population in Israeli Economy (Tel-Aviv: International Center for Peace in the Middle East, 199

[16] عزيز حيدر، "معيقات التطور الاقتصادي في القطاع العربي" (تل أبيب: المركز اليهودي - العربي للتطوير الاقتصادي، 1993).

[17] بشأن تطور الاقتصاد الإسرائيلي حتى أواخر السبعينات، ولمزيد من المعطيات، أنظر: يعقوب أرنون، "اقتصاد في دوار" (بالعبرية) (تل أبيب: الكيبوتس الموحد، 1981).

[18] راجع المصدر نفسه.

[19] راجع الفصل السابع من: أبيبه أبيب، "المجتمع الإسرائيلي: مجتمع في حالة صيرورة" (بالعبرية) (تل أبيب: وزارة الدفاع، 1990).

[20] يائير أهروني، "الاقتصاد السياسي في إسرائيل" (بالعبرية) (تل أبيب: عام عوفيد، 1991)، ص 83.

[21] بشأن هذا الموضوع، راجع: أبيب، مصدر سبق ذكره؛ أهروني، مصدر سبق ذكره.

السيرة الشخصية: 

عزيز حيدر: أستاذ في دائرة علم الاجتماع والإنسان، جامعة بيرزيت.