يذهب الكاتب إلى أنه جرى تبديل الميثاق الوطني الفلسطيني، كما جرى خرقه من قبل المجلس الوطني الفلسطيني والقيادة السياسية لـ م.ت.ف. وهو يعرض المواقف المختلفة التي تبلورت في سياق الجدل بشأن مصير الميثاق. ويخلص إلى أن الحاجة إلى ميثاق عصري يستوعب معطيات الواقع المتحقق ويستشرف حاجات المستقبل هي التي توجب وضع ميثاق جديد، بدلاً من حذف المواد التي تطالب إسرائيل بحذفها من الميثاق القائم.
حال الجسم السياسي الفلسطيني مع الميثاق الوطني الفلسطيني يشبه حال الأُسرة التي أهملت قريباً لها أعواماً طويلة؛ تجاهلت واجباتها نحوه، وفتكت بما شاءت لها أهواؤها الفتك به من حقوقه، واستوى في الفتك بهذه الحقوق الذين يظهرون الالتزام حيالها والذين لا يقيمون لها وزناً. فلمّا تراكمت العلل على القريب وظهر أعداء للأُسرة شاؤوا الإجهاز عليه، صاح الصائحون: قريبنا في خطر فلنتضافر لإنقاذه!
تبديل الميثاق
لقد تبنى المجلس الوطني الفلسطيني في دورة انعقاده الرابعة سنة 1968، ميثاقاً وطنياً مكوناً من ثلاث وثلاثين مادة. هذا الميثاق تبناه المجلس بالإجماع. وكان المجلس يضم، فضلاً عن المستقلين، ممثلين معتمدين لكل من التنظيمات الشعبية والفصائل الفدائية المنضوية حتى الآن تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك باستثناء ممثلي الحزب الشيوعي الأردني (الفلسطيني فيما بعد)، الذين تأخر قبولهم في المجلس بدعوى تعارض برنامجهم السياسي مع الميثاق، هم الذين دعوا إلى حل للقضية الفلسطينية في هدي قرارات الأمم المتحدة، فتبنوا قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947 وأيدوا القرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي سنة 1967.
وبتبنيه الميثاق الوطني، أحل المجلس هذا الميثاق محل الميثاق السابق الذي حمل اسم الميثاق القومي الفلسطيني. وكان المجلس قد تبنى الميثاق السابق في دورة انعقاده الأُولى سنة 1964، أي قبل تبنيه الميثاق الوطني بأربعة أعوام فقط، وذلك عشية تأسيس م.ت.ف. على يد الفريق الذي تزعّمه المرحوم أحمد الشقيري، أول رئيس للجنة التنفيذية للمنظمة ولمجلسها الوطني. وقد أسقط المجلس من الميثاق الجديد فقرات كثيرة ذات مغزى مهم وردت في الميثاق السابق، وكان بين الفقرات المسقطة واحدة نصت على أن م.ت.ف. "لا تمارس... أية سيادة إقليمية على الضفة الغربية في المملكة الأردنية الهاشمية ولا قطاع غزة ولا منطقة الحمة." وأضاف المجلس إلى الميثاق الجديد فقرات أُخرى ذات مغزى مهم، فكان منها الفقرة التي أكدت أن الكفاح "المسلح الفلسطيني هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين." ولا شك في أن الانتباه إلى حقيقة إقدام الفلسطينيين على تبديل ميثاقهم الأول بعد أربعة أعوام فقط من وضعه يشكل سابقة ملهمة، لأنها السابقة التي تبين أن تبدل الأوضاع يمسح قداسة ميثاق قائم، ويوجب وضع آخر جديد، وأن ممثلي الشعب الفلسطيني، وهم إجمالاً ممثلو القوى التي يتألف المجلس الحالي منها، لم يتهيبوا إزاء الاستجابة لتأثير هذا التبدل، ومن شأنهم، إن بقيت لهم حصانتهم، أن يفعلوا الشيء ذاته كلّما اقتضى الأمر ذلك.
خرق المجلس للميثاق
بعد تبنّي المجلس للميثاق الوطني، لم يستقم الالتزام بنصوصه زمناً طويلاً؛ ففي كل مرة أوجبت التطورات فيها خرق الميثاق، تم خرقه من دون تردد، ومن دون أن يصار ضجيج فعّال حول قداسة الميثاق. والذين اعترضوا على الخروق المتعاقبة لم يظهروا حزماً متصلاً في الدفاع عن النص أو المضمون المخترقين، ولم يرهنوا تعاونهم مع خارقيهم بشرط العودة إلى الالتزام بالنص أو بالمضمون.
لقد تم الخرق الأول لمضمون الميثاق الوطني، وحتى لنصّه، في وقت مبكر، بعد ثلاثة أعوام من تبنيه، حين ضم المجلس إلى عضويته الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني المرحوم فؤاد نصار، من دون أن يبدل الحزب دعوته إلى حل قضية فلسطين في ضوء قرارات الأمم المتحدة أو موقفه من القرار رقم 242، أي من دون أن يتخلى الحزب عن دعوته إلى حل للقضية يشتمل على الإقرار بوجود إسرائيل، التي يعدّ الميثاق وجودها باطلاً. والخرق الثاني المهم تم بعد ثلاثة أعوام أُخرى، حين صادق المجلس الوطني بالإجماع على البرنامج السياسي المرحلي (عارضه أربعة أعضاء فقط)، سنة 1974. وقد نصت المادة الثانية من البرنامج ذي المواد العشر على أن م.ت.ف. "تناضل... بكافة الوسائل، وعلى رأسها الكفاح المسلح، لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها." وبهذا، أحل البرنامج عبارة تحرير الأرض الفلسطينية محل عبارة تحرير فلسطين، الواردة في الميثاق، غير متهيب إزاء الفارق الكبير في النص والمضمون بين العبارتين، وجعل الكفاح المسلح وسيلة من الوسائل لا الوسيلة الوحيدة، مخالفاً نص الميثاق ومضمونه مخالفة سافرة. وهذا البرنامج هو الذي استند رئيس اللجنة التنفيذية ياسر عرفات إليه فور إقراره من المجلس، حين تحدث الزعيم الفلسطيني أول مرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974، فعرض أفكاراً ومشاريع تتجاوز الميثاق وتخرقه، وكان من هذه الخروق إعلان رئيس اللجنة التنفيذية أمام الهيئة الدولية دعوته الشهيرة إلى دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها العرب جنباً إلى جنب مع "كل اليهود الذين يعيشون الآن في فلسطين." فبهذه الدعوة، تخطى عرفات نصوصاً صريحة في الميثاق الوطني، فأحل الدعوة إلى الدولة الديمقراطية محل الدعوة إلى تحرير فلسطين، وأعطى لجميع اليهود الإسرائيليين حق المواطنة فيها، مع أن المادة السادسة من الميثاق قصرت هذا الحق على "اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها."
أمّا الخروق التي توالت بعد ذلك فهي أكثر من أن نلم بها جميعها في حديث غير مخصص لهذا الموضوع، وقد يكفي أن نشير إلى آخرها وأهمها: قرار المجلس الوطني سنة 1988 بالموافقة على المؤتمر الدولي لحل قضية فلسطين في ضوء قرارات الأمم المتحدة، ومبادرة السلام الفلسطينية الشهيرة، ووثيقة إعلان الاستقلال، وقرار الموافقة على المشاركة في مفاوضات مؤتمر مدريد الذي يشكل تطبيق القرار رقم 242 سقفاً لتصورات الأطراف العربية بشأن نتائجه.
نعيد هذه الوقائع إلى الأذهان لأنها تظهر كيف أن المجلس الوطني الفلسطيني خرق الميثاق الوطني بصورة متعاقبة، وكيف أنه فعل ذلك، بالإجماع، في معظم الحالات، وبأغلبية ساحقة في الحالات الأُخرى. وإذا صح أن مسؤولية الفصائل المسلحة أو السياسية عن الخروق قد تفاوتت في الدرجة، فإنه لصحيح أيضاً أنه ما من واحدة منها إلا أيدت خرقاً كبيراً واحداً أو أكثر بقناعة تامة، وأيدت خروقاً أُخرى تحت ضغط الظروف القاهرة والحاجة إلى صيانة وحدة م.ت.ف. فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومثلها الجبهة الديمقراطية والصاعقة وفصائل أقل شأناً، أيدت جميعها برنامج النقاط العشر، وأيدت وثيقة إعلان الاستقلال التي استندت بين ما استندت إليه إلى قرار التقسيم. والذين من هؤلاء اعترضوا على المبادرة السلمية وقرار المشاركة في مؤتمر مدريد لم يوقفوا مساهمتهم في عمل هيئات م.ت.ف. إلا بعد أن حاد ناس المؤتمر الفلسطينيون عن طريق مدريد إلى مسرب المفاوضات السرية المجتزأة الخطرة في أوسلو. وهؤلاء جميعاً، لم يظهروا تشبثهم الحازم بالميثاق الوطني إلا بعد أن أملت إسرائيل على مفاوضيها الفلسطينيين في أوسلو مطلب تعديله.
القيادة تبزّ المجلس
أمّا خروق القيادة السياسية لـ م.ت.ف.، المنتخبة تكراراً من المجلس الوطني بالإجماع، للميثاق فقد فاقت خروق المجلس له، وإن لم تواجهها وهي تخرقه المرة تلو الأُخرى إلا أوهن المقاومة من الآخرين. وهذه المقاومة لم تحل دون استمرار القيادة في خرق الميثاق، حتى حين اتسمت ببعض الشدّة منذ توقيع اتفاقات أوسلو. ومن المشكوك فيه أن تحول المقاومة الجارية الآن دون إتمام ما تتوخى القيادة إتمامه بشأن الميثاق، إلا إذا ابتكرت الحصافة الفلسطينية مخرجاً يرضى الجميع به.
هنا ينبغي القول إن إقدام القيادة السياسية لـ م.ت.ف. على توقيع اتفاقات أوسلو المتعاقبة يشكل أوسع الخروق الفلسطينية للميثاق الوطني وأكثرها استعصاء على الرتق. فقد عنى توقيع هذه الاتفاقات خرق جميع مواد الميثاق الوطني ذات الصلة بالأمور الرئيسية في الشأن الوطني الفلسطيني كله. وبتوقيع الاتفاقات، لم يبق قائماً من الميثاق إلا بعض مواده الإنشائية غير ذات المغزى الكبير. وقد تفاقم أمر هذا الجزء حين أعطت القيادة لنفسها حق إبرام الاتفاقات من دون العودة إلى المجلس الوطني، صاحب الصلاحية الأُولى في هذا الشأن. فبهذا، لم يخرق الميثاق، وحده، ولا النظام الأساسي لـ م.ت.ف. وحده، بل إنه أُغفلت صلاحيات المجلس الوطني الصريحة. ونُحّيت الحاجات الأساسية لتعاون القوى المتعددة التي تمثل مختلف قطاعات الشعب الفلسطيني في إطار المنظمة، والمتطلبات التي لا يستقيم تحالف هذه القوى من دونها. ولا شك في أن الالتزام بحذف مواد بعينها من الميثاق، هي في واقع الأمر أهم مواده، يشكل أخطر ما في الأمر.
يقال هذا، من دون أن ننسى أن النزاهة تقتضي قول شيء آخر أيضاً. فالقيادة التي خرقت الميثاق لم تفعل ذلك فجأة أو في الخفاء، وقد سبق لرئيس هذه القيادة أن أعلن قبل أعوام أن الميثاق الوطني لم يعد ذا موضوع، وأن السلوك الفلسطيني قد تجاوزه واقعياً. وتكرر هذا الإعلان مراراً، قبل المبادرة السلمية، وقبل المشاركة في مؤتمر مدريد، وقبل أوسلو. وثمة شيء آخر تقضي النزاهة بقوله؛ فالقيادة التي أبرمت اتفاقات أوسلو من دون عودة إلى المجلس الوطني، لم تقدم على إلغاء الميثاق على مسؤوليتها، بل تشبثت بضرورة عرض الأمر على المجلس الوطني ذاته، واستفادت من رغبة الجانب الإسرائيلي الصريحة في أن يتم إلغاء المواد المطلوب إلغاؤها من قبل المجلس ذاته، فتركت الأمر لهذا المجلس. والمعروف، نظرياً على الأقل، أن المجلس سيّد نفسه، وهو يملك حق مساندة القيادة أو خذلها، وبهذا، يعود هذا الأمر الرئيسي إلى أصحابه. وربما كان هذا بالذات، في مقدم الأسباب التي أجّجت نار الجدل بشأن الميثاق. لقد أملت إسرائيل مطلب حذف مواد بعينها من ميثاق الفلسطينيين الوطني بعد أن كان هؤلاء قد خرقوا هذه المواد وغيرها فعلاً. فتذكر الذين أهملوا قريبهم وأسلموه لمهالك على مدى أعوام طويلة أن قريبهم في خطر.
البحث عن حل
في سياق الجدل بشأن مصير الميثاق الوطني، تبلورت عدة مواقف، متفاوتة أو متباينة. هذه المواقف تبلور منها حدّان متطرفان: أحدهما يفضي إلى ضرورة الرضوخ للإملاء الإسرائيلي وحذف المواد المطلوب حذفها. ودعاة هذا الحل هم الذين توجههم قناعتهم بأن القبول بأي شيء أفضل من التشبث بكل شيء أو لا شيء. وهم لا يجدون أي بأس في الاستجابة للإملاء الإسرائيلي انطلاقاً من الاعتقاد أن المواد المطلوب حذفها قد جرى خرقها تباعاً على أيدي الفلسطينيين أنفسهم قبل أن تكون إسرائيل قد اعترفت، أساساً، بوجود الشعب الفلسطيني أو بوجود منظمة التحرير التي تمثله؛ والحد الآخر يفضي إلى الإبقاء على الميثاق على حاله، ورفض الاستجابة للإملاء الإسرائيلي بما هو رفض أيضاً، لاتفاقات أوسلو. وقد انخرط في جملة الدفاع عن الميثاق ناس من الذين لم يستريحوا للخروق السابقة، وآخرون ممن أيدوا واحداً أو أكثر منها، وظلت معارضة اتفاقات أوسلو هي الهامش المشترك الذي ضم الجانبين.
والحقيقة أن هذين الموقفين الحدّيين، كليهما، لا يحظيان بترحيب صريح من الجمهور. وقد اعترض على كل منهما كثيرون من النشطاء داخل الساحة الفلسطينية. وكشفت المناقشات الجارية عن وجود أغلبية تأبى أن تقتصر خيارات الشعب الفلسطيني على واحد من اثنين فقط، يفضي أحدهما إلى تبديد حقوقه ويفضي الآخر إلى إبقائها معلقة في الفراغ. وفاقم الأمر أن الخيار الأول يعني الاستجابة لإملاء إسرائيلي مهين وضار، وأن الخيار الآخر يعني التشبث بنص عفا عليه الزمن. هذه الأغلبية ضمت، كما هو جليّ، ناساً من الذين سلموا باتفاقات أوسلو مثلما ضمت ناساً من معارضيها. وقد عنى هذا، في جوهره، أن أغلبية الجمهور الفلسطيني قد تقبلت تعديل الميثاق الوطني أو تبديله من منطلق الاستجابة للتطورات الموضوعية والذاتية المتحققة فعلاً، إلا إنها تأبى أن يتم ذلك في سياق الاستجابة للإملاء الإسرائيلي، وحده، وعلى نحو يغيب فيه التمييز بين الواقعية السياسية والاستسلام للعدو.
والأمر هنا ليس أمر تشبث بمبدأ يتصل بحس الكرامة الوطنية وحده، بل أمر حسابات واقعية، أيضاً. ففي إلغاء مواد بعينها من الميثاق في سياق الاستجابة للإملاء الإسرائيلي تنازل مجاني عن مسائل لها صلة بالتصور العام للحقوق الوطنية الفلسطينية في وضعها الراهن ووضعها المستقبلي، أيضاً. وفي الإلغاء تنازل أيضاً عن الفهم الصحيح حتى للحقائق التاريخية الصرفة، ما تطابق منها مع الحقائق السياسية الواقعية وما تعارض. وهناك، مثلاً، المادتان التاسعة عشرة والعشرون في الميثاق؛ تنص أُولاهما على أن قرار تقسيم فلسطين وقيام إسرائيل باطل من أساسه؛ وتنص أُخراهما على أن تصريح بلفور وصك الانتداب البريطاني الذي اشتمل على التعهد بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين باطلان. فلو صوّت ممثلو الشعب الفلسطيني على إلغاء هاتين المادتين، فسيعني التصويت ضمن ما يعنيه أن إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ثم قيام إسرائيل فيها، كانا أمراً مشروعاً. وهذا يستتبع إضفاء شرعية فلسطينية على ما اقترن بإنشاء الوطن القومي اليهودي وقيام إسرائيل من اغتصاب كامل لحقوق الشعب الفلسطيني، وممتلكاته المادية، وإرثه الروحي، فيسقط حق الشعب الفلسطيني الشرعي باستعادتها كلها أو بعضها، أو يضعفه على الأقل. وهناك المواد الخاصة بالكفاح المسلح، فلو جرى التصويت على إلغاء المواد التي تظهر أهمية الكفاح المسلح ومشروعيته، فمعناه أن يسقط الفلسطينيون بأنفسهم حقاً تصونه القوانين الدولية ذاتها. وهناك فارق بين أن يتوقف طرف احتُلت أرضه عن ممارسة الكفاح المسلح لسبب أو لآخر وأن يلغي هو نفسه الحق إلغاء سافراً. وحذف الفلسطينيين لحقهم في الكفاح المسلح، أي في استخدام العنف المشروع حين تقصر الوسائل الأُخرى عن تحرير الوطن المحتل، يشكل تنازلاً مجانياً آخر، وهو تنازل من جانب واحد، لأن إسرائيل تستند في المقام الأول إلى قوتها المسلحة، وتستخدم العنف السافر لإرغام الشعب الفلسطيني على القبول بالأمر الواقع غير الشرعي، كله أو معظمه. وما من أحد، حتى في الجانب الإسرائيلي، يقول إن الفلسطينيين قابلون بالأمر الواقع لاقتناعهم به.
في ضوء ما تقدم كله، فرضت التعقيدات وعجز طروحات القابلين بالمطلق والرافضين بالمطلق البحث عن مخرج لا يفنى معه غنم القابلين بأوسلو ولا تموت قضية المتشبثين بالحقوق الوطنية المشروعة، ولا يُرغم معه ممثلو الشعب الفلسطيني على التمسك بميثاق تجاوزته التطورات وأكل الدهر عليه وشرب كثيراً.
ميثاق جديد
هذا الحل ليس حلاً وسطاً، بل هو حل ملائم. وقد حفزت على البحث عن هذا الحل مواقف إسرائيل التي تأبى أن تقدم من جانبها التنازلات الملائمة لتنازلات الفلسطينيين عن الجزء الأكبر من حقوقهم. ولو أن إسرائيل قرنت مطالبتها بحذف ما يزعجها من مواد الميثاق الفلسطيني بإقرار منها بتطلعات الشعب الذي تعتدي عليه لهان الأمر. وما الذي تتطلع أغلبية الشعب الفلسطيني إليه: الانسحاب الإسرائيلي؛ إقامة دولة مستقلة على أرض الضفة وقطاع غزة، أي على خمس الأرض الفلسطينية التي يحددها الميثاق الوطني وينص على أنها وحدة إقليمية لا تتجزأ؛ التزام إسرائيل قرارات الشرعية الدولية في هذا الشأن، وفي شؤون اللاجئين وحقوقهم والقدس العربية ومصيرها. إن إسرائيل لا تأبى، فحسب، الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، بل تعلن تشبثها بما يغايرها تماماً: لا انسحاب كاملاً من الأرض المحتلة سنة 1967، ولا حل لمشكلة اللاجئين إلا بتوطينهم حيث هم، أو في أوضاع أسوأ من الأوضاع التي يكابدونها، ولا تراجع عن إلحاق القدس العربية بإسرائيل، ولا حق لشعب فلسطين في مدينتهم الكبيرة هذه.
لقد كان كاتب هذه السطور بين المبادرين إلى الدعوة إلى الحل الذي يشار إليه هنا، وهو حل (= مخرج) يقوم على أساس الدعوة إلى تبني ميثاق وطني جديد يحل محل الميثاق القائم، ويتضمن البنود التي تعكس بنصوصها ومضامينها التطورات التي طرأت منذ سنة 1968، سنة وضع الميثاق الوطني، وتستجيب لمتطلبات المرحلة الجديدة.
إن الحاجة إلى ميثاق عصري يستوعب معطيات الواقع المتحقق ويستشرف حاجات المستقبل هي التي توجب، في المقام الأول، وضع ميثاق جديد، بدلاً من حذف المواد التي تطالب إسرائيل بحذفها من الميثاق القائم. والفارق بين حذف هذه المواد ووضع ميثاق جديد يعادل الفارق الكبير بين الرضوخ للمطلب المملى بقوة العدوان، والإرادة التي تتوخى الاستمرار في العمل لإزالة آثار هذا العدوان. ولما كان من الصحيح، بالنسبة إلى الذين يعجبهم هذا وإلى الذين يسوؤهم، أن اتفاق أوسلو مثّل شيئاً مهماً في سياق التطورات التي نتحدث عنها، فمن الممكن أن يصاغ الميثاق الجديد على نحو تغيب معه المواد التي يوجب هذا الاتفاق حذفها.
إن هذا الاقتراح تسوغه عوامل كثيرة جرت الإشارة أعلاه إلى عدد منها. ويمكن أن نشير بصورة خاصة إلى مسوغين شديدي الأهمية: أولهما أن وضع ميثاق جديد يجنّب ممثلي الشعب الفلسطيني التعرض لمزيد من التنابذ والانقسام اللذين لا بد من أن يشتدا إذا اقتصر الأمر على مطالبة المجلس الوطني بالاستجابة للإملاء الإسرائيلي، والآخر هو أن الآثار السلبية التي تترتب على وضع ميثاق جديد لا ترد فيه مواد بعينها هي أقل بما لا يقاس من الآثار السلبية للتصويت على حذف هذه المواد حذفاً.
ففي العمل على صوغ ميثاق جديد، يمكن لمؤيدي اتفاقات أوسلو ومعارضيها أن يجدوا الكثير مما هو مشترك في تصوراتهم للمستقبل المطلوب. أمّا العمل على حذف المواد فلا ينجم عنه إلا تكريس الانقسام وتوسيعه. أمّا إغفال ذكر مادة في الميثاق الجديد فإنه لا يعادل في سلبيته التصويت الصريح على حذفها من الميثاق القائم. وإذا اشتمل الميثاق الجديد على نص يكرس الرغبة الفلسطينية في حل لقضية فلسطين مستند إلى الشرعية الدولية وقراراتها، فإن وجود هذا النص يشكل نفياً كافياً للتهم التي تروجها إسرائيل وتستند إليها في دعاوتها ضد الميثاق الوطني، ومطالبتها بحذف بعض مواده.
لقد حظي اقتراح وضع ميثاق جديد بتأييد متواصل ومتزايد في أوساط فلسطينية متعددة ومختلفة الانتماءات، ولا تزال دوائر الاهتمام به في اتساع مستمر. والآن، يُكتب هذا الكلام قبل أن توجه الدعوة إلى المجلس الوطني للانعقاد، وقبل أن تسوّى المشكلات التنظيمية والسياسية والإجرائية المتصلة بهذه الدعوة. وعلى الرغم من صعوبة التنبؤ بما ستنتهي مداولات المجلس الوطني إليه، إنْ عُقد، فمن الجليّ أن وضع ميثاق جديد يشكل مساهمة إيجابية متعددة الوجوه، ولا ينطوي على أية سلبية خطرة.
وقد أظهرت ردات الفعل الصادرة عن الجانب الآخر انقساماً في الرأي داخل الجسم السياسي الإسرائيلي الصهيوني إزاء الدعوة إلى وضع ميثاق جديد: فهناك الذين يتشبثون بأن يحذف الفلسطينيون المواد المطلوب حذفها، من دون مواربة؛ هؤلاء يتوخون لا مجرد إذلال الشعب الذي يقهرونه بالقوة الظالمة، بل يريدون بالقوة ذاتها حمل هذا الشعب حملاً على القبول عملياً ونظرياً بمزاعمهم جميعها بشأن ما فعلوه وما ينوون فعله؛ هؤلاء يريدون العنب كله والإمعان في إذلال الناطور. وهناك الذين يهتمون بعنف الإقرار الفلسطيني بوجود إسرائيل وتكريس التوجه إلى التسوية، ولا تهمهم بعد ذلك مشاعر الناطور، سلبية كانت هذه المشاعر أم إيجابية. وهناك، طبعاً، قبل هؤلاء جميعاً وبعدهم، أولئك الذين لا يرضيهم شيء.
غير أن المواقف الإسرائيلية، المواتي منها للدعوة إلى وضع ميثاق جديد وغير المواتي، ينبغي ألاّ يكون لها التأثير الحاسم في القرار الفلسطيني بهذا الشأن. ومن المؤكد أن أخذ هذه المواقف في الاعتبار أمر مطلوب في سياق تقصي الظروف المحيطة كافة. إلا إن القراءة الفلسطينية لهذه الظروف، والعمل على تطويعها لمواءمة اقتراح معقول، هما اللذان يحددان مآل الميثاق.
لقد ذكّر الاستهداف الإسرائيلي للميثاق أهله بواجباتهم نحو ميثاقهم، وما دامت العلل قد فتكت به حتى قبل أن تستهدفه إسرائيل، فلماذا لا يتم تجديده؟!