مقتطفات من وقائع ندوة نُظمت في دمشق في 11/12/1995، تناول النقاش فيها عدة محاور رئيسية، منها: اتفاق أوسلو وكيفية التعامل معه ومع نتائجه وإفرازاته؛ الكيان الفلسطيني الجاري تشكيله والعلاقة بين السلطة الفلسطينية والمعارضة؛ أهداف التسوية السياسية وآثارها المستقبلية الممكنة.
نظمت "مجلة الدراسات الفلسطينية"، ندوة شاركت فيها مجموعة من المثقفين الفلسطينيين المقيمين في سورية، من العاملين في حقل الفكر السياسي، وينتمي بعضهم إلى فصائل سياسية رئيسية في الساحة هناك.
شارك في الندوة الباحثون والصحافيون التالية أسماؤهم: أحمد برقاوي (مستقل)، حمد الموعد (مستقل)، داود تلحمي (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين)، راسم المدهون (مستقل)، رافع الساعدي (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة)، صابر محيي الدين (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، عدنان عبد الرحيم (مستقل)، علي فياض (مستقل)، فضل شرورو (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة)، ماهر الشريف (حزب الشعب الفلسطيني)، ماجد كيالي (مستقل). وشارك فيها من مؤسسة الدراسات الفلسطينية: أحمد خليفة.
وشارك في الإعداد للندوة وتحريرها: يونس السيد وعلي الكردي.
وقد تناول النقاش عدة محاور رئيسية، منها:
- اتفاق أوسلو وكيفية التعامل معه ومع نتائجه وإفرازاته؛
- الكيان الفلسطيني الجاري تشكيله، والعلاقة بين السلطة الفلسطينية والمعارَضة؛
- أهداف التسوية وآثارها المستقبلية الممكنة.
وفيما يلي مقتطفات من النقاش:
ماجد كيالي: سأتقدم بملخص لورقة العمل الأولية التي وزعت عليكم، تحضيراً للندوة، تحت عنوان: "الأزمة الفلسطينية الراهنة: أسبابها، إشكالاتها، التساؤلات التي تطرحها". تبدأ الورقة بفرضية تتعلق بدخول الحركة الوطنية والقضية الفلسطينية مرحلة نوعية جديدة مع اتفاق أوسلو الموقَّع في واشنطن (13 أيلول/سبتمبر 1993). وقد جاء الاتفاق محصلة تغيرات كبيرة في البيئتين العربية والدولية مع مطلع التسعينات؛ فقد انهار الاتحاد السوفياتي، وباتت الولايات المتحدة الأميركية تهيمن على النظام الدولي الجديد. وعلى الصعيد العربي وقعت حرب الخليج الثانية، ونجم عنها انعكاسات سلبية كبيرة، تجلت بانفراط الحد الأدنى من عقد التضامن العربي، وأدت أيضاً إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الإسرائيلية - العربية.
في إطار هذه التداعيات وموازين القوى والأوضاع غير المؤاتية فلسطينياً وعربياً، فرضت الولايات المتحدة صيغة مؤتمر مدريد في أواخر سنة 1992، لاستثمار هيمنتها وتفردها دولياً وإقليمياً من أجل إعادة ترتيب أوضاع المنطقة لضمان مصالحها السياسية والاقتصادية الاستراتيجية وفق مشروع النظام الشرق الأوسطي. وكانت هذه الترتيبات تحتاج إلى نزع فتيل الصراع العربي - الإسرائيلي، وإيجاد حل ما للقضية الفلسطينية وفق التصورات الأميركية التي أتاحتها التطورات الجديدة، من دون الإخلال بالاعتبارات والمصالح الأساسية لحليفتها إسرائيل.
وقد اعتبرت أطراف واسعة، حتى في أوساط مؤيدي الاتفاق، اتفاق أوسلو اتفاقاً ناقصاً ومفروضاً ومجحفاً، وأنه لا يعبّر عن مضمون المساومة التاريخية التي تمثلت في البرنامج المرحلي أو في إعلان "الاستقلال الفلسطيني"، وأنه لا يتلاءم مع المعايير والمعطيات السائدة عربياً ودولياً. وقد نجم عن الاتفاق الأمور والمشكلات التالية:
- ظهور كيان سياسي فلسطيني ناشئ، ومن جهة أُخرى استمرار وجود حركة وطنية ترى أنها لم تحقق أهدافها بعد، ولا سيما أن هذا الكيان لم يُجِب عن الأسئلة المطروحة على العمل الوطني الفلسطيني.
- ظهور مرجعيتين للشعب الفلسطيني: واحدة في الداخل تتمثل في السلطة الفلسطينية، وأُخرى في الخارج تتمثل في م.ت.ف.، مع ملاحظة التأكل الواضح في المكانة السياسية والتمثيلية لمنظمة التحرير ومؤسساتها، والذي يطرح إشكاليات جديدة في النظام السياسي الفلسطيني.
- عمّق الاتفاق أزمة العمل الفلسطيني على أساس استقطابين مركزيين، وذلك بين مؤيدي الاتفاق من جهة ومعارضيه من جهة أُخرى. وقد ساعد في ذلك التناقض الناشئ بين مشروع الكيان والبناء المجتمعي وبين نزعة استمرار مشروع التحرر الوطني.
- تضاف إلى هذه التعقيدات حقيقة طابع الصراع في بُعده الإسرائيلي - الفلسطيني، وهو طابع غير متكافئ أصلاً، لأن إسرائيل قامت أساساً لمواجهة محاولات التحرر والنهوض العربيين، فتم صوغها على قياس الوضع العربي حتى تتمكن من القيام بوظيفتها السياسية هذه، بدعم من الدول الاستعمارية الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية. ذلك بأن فلسطين لم تكن سوى القاعدة الجغرافية - السياسية - الاستراتيجية الملائمة لقيام إسرائيل كياناً استيطانياً - إحلالياً - عنصرياً، وامتداداً وحليفاً للمصالح الغربية في المنطقة. وهذه المسألة تشكل أحد أهم تعقيدات وتقييدات القضية الفلسطينية. وبالنسبة إلى الاتفاق الفلسطيني - الإسرائيلي، فقد جاء في الإطار العام لتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي، ويمكن اعتباره اللبنة الأولى للترتيبات الجارية في المنطقة، ومن ضمنها مشروع النظام الشرق الأوسطي.
- طبعاً، ليس اتفاق أوسلو وغيره من الاتفاقات الفلسطينية والعربية نهاية المطاف بالنسبة إلى العملية التحررية ضد المشروع الإسرائيلي؛ فالصراع سيستمر بصورة أو بأُخرى، وبأدوات ومجالات جديدة حتى يتم تجسيد الحقوق الفلسطينية، وحتى يتخلى الكيان الإسرائيلي عن طابعه الاستيطاني - العنصري ودوره السياسي - الوظيفي في المنطقة.
إن غاية هذه الندوة العلمية الحوارية هي المساهمة في النقاش الفلسطيني الراهن، وتحقيق التفاعل عبر الحوار من أجل الإجابة عن المشكلات والتساؤلات المتعلقة بمستقبل عملية التسوية وتأثيرها في مختلف الأطراف، والموقف اللازم اتخاذه من اتفاق أوسلو وغيره من الاتفاقات، وتحديد سبل الخروج من المأزق الراهن بما يضمن تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني، والحفاظ على حقوقه ومصالحه الوطنية الراهنة والمستقبلية.
وما هو مطروح للنقاش أولاً، ما يلي:
- اتفاق أوسلو: هل أصبح أمراً واقعاً أم أن إمكان إسقاطه لا يزال قائماً، وكيف؟ ما هو الموقف المطلوب إزاءه، وهل يمكن التمييز بين الموقف الأساسي من الاتفاق (رفضاً أو قبولاً) وبين مستويات في مقاومته أو التعاطي مع نتائجه وإفرازاته؟
اتفاق أوسلو: الموقف منه وإشكالات التعامل معه
عدنان عبد الرحيم: ينبغي التمييز بين مسألتين، الأولى إمكان إسقاط الاتفاق، والأُخرى هي: هل في وسع المعارضة القائمة إسقاطه فعلاً؟ الجواب عن السؤال الأول هو بالإيجاب؛ إذ لا يوجد أي اتفاق سياسي لا يمكن تقويضه وإسقاطه في إطار أوضاع موضوعية وذاتية محددة. لكن الجواب عن السؤال الآخر لا يمكن أن يكون إيجابياً في إطار الأوضاع الذاتية والموضوعية للقوى الفلسطينية والعربية المعارضة حالياً لاتفاق أوسلو. إذ إن هذه المعارضة تصطدم في سعيها لإفشال اتفاق أوسلو بوضع فلسطيني وعربي ودولي متماسك وقوي جداً يكرِّس من خلال هذا الاتفاق، وغيره من الاتفاقات مع دول عربية أُخرى، السيطرة الأميركية على المنطقة العربية، والإجهاز على النضال الوطني للشعب الفلسطيني، وتخليد السيطرة الاقتصادية للتحالف الغربي على الثروات العربية وأسواق الوطن العربي، وهيمنة أنماط الحياة والثقافة الغربية على المجتمعات العربية.
أمّا عدم الإفراط في التفاؤل بقدرة المعارضة الفلسطينية على إسقاط اتفاق أوسلو، فيرجع إلى عدة عوامل، أهمها:
- ضعف نفوذ قوى المعارضة الفلسطينية في أوساط الجماهير الفلسطينية، وبصورة خاصة داخل الأرض المحتلة. فالجماهير تشكك في صدقية القوى المعارضة، كون قطاعات كبيرة منها تنتمي إلى المدرسة السياسية نفسها التي تخرجت القيادة الفلسطينية فيها، ويعاني معظمها الأمراض السياسية التي تشكو القيادة الفلسطينية منها.
- اختلاف مواقف تنظيمات المعارضة الفلسطينية ووجهات نظرها حيال اتفاق أوسلو، وكون الحلول المطروحة لإسقاط اتفاق أوسلو غير موحدة لدى المعارضة، وتنطوي على تهم متبادلة بين أطرافها بإيصال الوضع الفلسطيني إلى مشارف أوسلو. ويحلو لأطراف المعارضة إدانة الاتفاق بوصفه "حلاً منفرداً" فلسطينياً أضعف من قدرة الأنظمة العربية المنخرطة في عملية التسوية على تحصيل الحقوق الوطنية الفلسطينية والعربية، متجاهلة أن مؤتمر مدريد كان في الأساس إطاراً سياسياً لجملة من الحلول المنفردة على المستويين الفلسطيني والعربي. كما يحلو لبعض أطراف المعارضة العودة إلى طرح برامج العصر الذهبي للمقاومة القائمة على الكفاح المسلح حتى تحرير كامل التراب. ولا شك في أن الخلافات العميقة القائمة بين تلك الأطراف، من حيث التشخيص والحلول، لا تساعدها في بلورة برنامج سياسي وتنظيمي وعسكري للتصدي للاتفاق. وكي تقوم المعارضة الفلسطينية بدور إيجابي في التصدي للاتفاق، لا بد من أن تعمل على إعادة ثقة جماهير شعبنا بها، واعتماد برامج عمل سياسية نضالية وواقعية في الوقت نفسه، والبحث عن لغة سياسية جديدة لمخاطبة تلك الجماهير. ولست في صدد إعداد وصفة سريعة لبرنامج عمل وطني لتأمين استمرار النضال الفلسطيني، فذلك يتجاوز طموح هذه المداخلة.
داود تلحمي: إذا كان من المقصود باتفاق أوسلو قيام سلطة الحكم الذاتي في غزة وأريحا ومن ثم في مناطق أُخرى من الضفة الغربية المحتلة، فلا شك في أن هناك واقعاً جديداً على الأرض قد تشكل بفعل هذا الاتفاق. لكن مشروع أوسلو أبعد من ذلك؛ فوراء هذه الصيغة، التي تركز على ما سُمي المرحلة الانتقالية، رؤية لسقف الكيان الفلسطيني وموقعه ووظيفته في إطار النظام الإقليمي الجديد تجعل الموقف من الاتفاق بصورة أساسية موقفاً من مجمل هذه الرؤية. ومن هذه الزاوية، فإن إسقاط الاتفاق أو إسقاط مسار أوسلو يصبحان شرطاً ضرورياً لكسر السقف المحدد للحل الفلسطيني المطروح في سياقه، ولدور وظيفة الكيان أو السلطة الفلسطينية في إطاره، ولقيود التبعية وسلاسل الاتفاقات الاقتصادية والأمنية. أي أن إسقاط اتفاق أوسلو، بهذا المعنى، يصبح الشرط الضروري لفتح آفاق تقرير المصير الحقيقي والاستقلال الفلسطيني والشرط الضروري لصون وحدة الشعب، والقضية الفلسطينية، وحق اللاجئين والمشردين من الشعب في العودة إلى وطنهم. إنها بالتأكيد عملية نظامية مركّبة وطويلة نسبياً لا تتحقق بالضربة القاضية ولا بخبطة انقلابية، ولا بأحلام العودة المستحيلة إلى الوراء. فإسقاط الاتفاق يتم بإظهار استحالة تحقق الاستقرار والأمن المنشودين من خلال الرؤية الأميركية - الإسرائيلية المطروحة لسقف الحل، وبمواصلة المواجهة الشعبية مع هذه الرؤية بتجلياتها الملموسة على الأرض: أدوات الاحتلال وأجهزته وتقييداته؛ المستوطنات؛ القيود الأمنية والاقتصادية؛ إلخ، إلى جانب نضال فلسطينيي الشتات لصون حقهم في العودة. ولا شك في أن هذه المواجهة ستتعاطى بالضرورة مع وقائع متغيرة على الأرض لا يمكن تجاهلها ولا يمكن مواصلة العمل وكأنها غير موجودة، أو كأن شيئاً ما لم يتغير.
أمّا المجتمع الفلسطيني، فإن بناءه وصونه وتطوير ما تم إنجازه من مكتسبات تحت الاحتلال، وعلى الرغم من هذا الاحتلال، ولا سيما بفعل الانتفاضة الشعبية، كل ذلك سيتواصل، لكن في أوضاع صراعية ذات سمات جديدة ناجمة عن تشكل سلطة الحكم الذاتي تحت سقف الاتفاقات مع الاحتلال، ومع بقاء الاحتلال نفسه وامتداداته الاستيطانية. وما بدا واضحاً في العامين الأولين من عمر اتفاق أوسلو هو أن سلطة الحكم الذاتي الناشئة هذه تُدفع وتُشجع من قِبل إسرائيل لممارسة دور قمعي لتجليات المجتمع المدني التي نشأت، ولبناء نموذج سلطوي استبدادي على غرار الكثير من الأنظمة في منطقتنا وفي مجمل العالم الثالث. ومن هنا، فإن مواصلة بناء المجتمع المدني لا يمكن أن تتحقق إلا في جو صراعي مع هذا الوضع الناشئ، وينبغي ألا يتخذ هذا الجو طابعاً عنيفاً في التعاطي مع التناقضات الفلسطينية الداخلية، في الوقت الذي ينبغي أن يُحافظ على الخيار العنفي في التعاطي مع الاحتلال وتجلياته ما دام المحتلون يرفضون الجلاء الكامل عن الأراضي المحتلة والإقرار بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
فضل شرورو: لقد أصبح اتفاق أوسلو، في هذه المرحلة، أكبر من اتفاق ورقي وأقل من أمر واقع مسلم به. هو في المرحلة الوسيطة التي تحمل فيروس إسقاطه من تلقاء ذاته وبمساعدة من المحيط؛ إذ إن التسوية الشاملة لم تتم فصولاً بعدُ. وهي مرحلة يغلب فيها العامل الداخلي على العامل الخارجي، الذي له دور الفعل المساعد بحدوده المعروفة. والقول إن اتفاق أوسلو أصبح، هو وما بعده وما بني عليه، أمراً واقعاً هو قول مجاف للحقيقة والواقع، أو هو بتعبير أدق، قول يستبق الأحداث، بل يستبق استكمال التنفيذ. لقد تم احتضان اتفاق أوسلو وما تلاه، بسطوة القطب الواحد، وبتأييد واسع من دول التأثير الدولي، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، لكنه مع ذلك كله لم يصبح أمراً واقعاً. والفرصة لا تزال قائمة أمام الطرف الفلسطيني، ما دام اتفاق أوسلو لم يصبح بعدُ أمراً واقعاً من ناحية، وما دام قد تجاوز غزة - أريحا من ناحية أُخرى، كي يعيد حساباته معتمداً على أمرين قد لا يتوفران في كل حين:
- الأمر الأول: التعنت الصهيوني ومطالبه الغالية الثمن، ومنها إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني لقاء المضي في تنفيذ ما اتفق عليه؛
- الأمر الثاني: تعثر المسارين السوري واللبناني، وإمكان عودة الطرف الفلسطيني إلى التنسيق مع سورية ولبنان.
وهذا يفسح في المجال واسعاً أمام حوار فلسطيني من شأنه، في ظل الأوضاع الراهنة وعلى قاعدة التمسك بحق شعبنا في العودة، أن يفضي إلى نتائج تاريخية.
إن استمرار المقاومة أمر لا مناص منه ما دام حق العودة لم يتحقق. والمقاومة ليست مجرد حالة عناد، بل هي في الأصل وسيلة للوصول إلى أهداف جاءت الأوضاع الدولية والعربية والذاتية لتختصرها، راهناً، في حق العودة.
وبالنسبة إلى موضوع الوحدة الوطنية، فإنه لا يمكن وصف الحالة الراهنة للأزمة الفلسطينية في شقها الذاتي بأنها محاولة من المعارضة لفرض موقفها على الطرف الفلسطيني الآخر. عموماً، يُعدُّ الاتفاق السياسي شرطاً للوحدة الوطنية لا لدى الشعب الفلسطيني فحسب بل أيضاً لدى جميع الشعوب التي ناضلت من أجل حريتها وتحررها. أمّا في وضعنا الراهن، فإن مسألة صون حقوق الشعب العربي الفلسطيني، المعترف بها دولياً، هي التي تشكل عائقاً دون قيام وحدة وطنية. وقد تكون هذه الحالة أكثر تعقيداً، لكنها يمكن أن تكون في العمق المدخل لإطار تفاهم لا يلغي الاختلاف، لكنه لا يغلق الأبواب أمام وحدة موقف تجاه العدو. ونعتقد أن المدخل إلى إعادة صوغ تفاهم وطني فلسطيني هو الاتفاق على التعهد بالحفاظ على حقوق شعبنا ومصالحه في حاضره ومستقبله، والتي في طليعتها حق الشعب العربي الفلسطيني في الحفاظ على وحدته وتماسكه فوق كل الأرض الفلسطينية وفي الشتات. وحق شعبنا في العودة وتقرير المصير. هذه الحقوق لا يمكن أن تكون موضع اجتهاد، وأي تناول غير صريح لها يبعث المخاوف من أن هناك نية لتجاوزها. إن مثل هذا الاتفاق لا يعني، كما ذكرنا، أن يفرض طرف موقفه على الطرف الآخر، أو إلغاء جميع الخلافات بين الأطراف الفلسطينية، لكنه يشكل بداية موقف موحد تجاه العدو، وبغير ذلك، فإن ما أفرزه اتفاق أوسلو من مشكلات جديدة لِـ "النظام الفلسطيني" لا يقتصر فقط على بروز التناقض بين مصالح بناء الكيان من جهة واستمرار المشروع الوطني التحرري من جهة أُخرى، بل أيضاً بروز تهديدات جدية وخطرة على وحدة شعبنا ومستقبله.
إن الضرورة تفرض على الأطراف أن تشكل جبهة في مواجهة العدو، تعيد حسابات ما أُبرم وما هو في قيد التنفيذ، وتشير صراحة إلى الأضرار التي لحقت بالقضية الفلسطينية والأخطار التي لا تزال تواجهها، وتحسن توظيف العراقيل التي تواجه التنفيذ، وتتوجه إلى إعادة اللحمة مع المحيط العربي، وخصوصاً التنسيق مع الطرفين السوري واللبناني، بما يحسن التحضير لما يسمى مفاوضات المرحلة النهائية، شرط أن يكون واضحاً لدى الجميع أن التكيف لا يعني، في أية حال من الأحوال، إلا المزيد من الإصرار على جوهر أهداف شعبنا في تحرر أرضه وإنسانه.
ماهر الشريف: بعد التوصل إلى اتفاق طابا وبدء عملية إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، أصبح الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وضعاً مركّباً إن صح القول. فمن جهة، ستبقى أجزاء مهمة من الأرض الفلسطينية، حتى في حال تحقق الانسحاب الإسرائيلي الكامل من المدن الفلسطينية الست، تحت الاحتلال، كم ستظل السيطرة للحكومة الإسرائيلية في مجالي الأمن والسيادة؛ ومن جهة أُخرى، ستكون هناك سلطة وطنية فلسطينية مسؤولة عن جميع المجالات الأُخرى المرتبطة بشؤون المواطنين. وهذا الوضع المركّب يوجد تداخلاً في المهمات الوطنية التحررية والمهمات الاجتماعية الديمقراطية، وسيمثل سمة مميزة للنضال في المرحلة المقبلة. وبسبب هذا التداخل، لم يعد معيار الحكم على السلطة الفلسطينية موقفها من الاحتلال فحسب، بل أُضيف إليه معيار آخر هو طبيعة أدائها لمهماتها في ميدان تسيير شؤون المواطنين وضمان مصالحهم. ويمكن الافتراض أن النجاح في مهمات بناء الكيان سيترك تأثيراً مباشراً في النضال من أجل التخلص من الاحتلال، وسيعزز مواقف المفاوض الفلسطيني عندما ينتقل بعد أشهر قليلة، كما هو منتظر، إلى مفاوضات الحل النهائي.
وفي الواقع، فإن أداء السلطة الوطنية الفلسطينية خلال المرحلة السابقة لم يكن في المستوى المطلوب قط، بل إن سلبيات كثيرة طغت عليه، نجم بعضها عن عوامل موضوعية، ونجم بعضها الآخر عن عوامل ذاتية. والأهم من ذلك كله أن هذه السلطة لم تنجح إلى الآن في اختبار الديمقراطية، ولا سيما بعد أن برزت في ممارساتها مسلكيات تميزت بالتضييق على الحريات وعدم احترام حقوق الإنسان في التعبير والتنظيم.
إن النضال من أجل تجاوز هذه السلبيات كافة وتحسين أداء السلطة هو مهمة وطنية من الدرجة الأولى في المرحلة المقبلة، نظراً إلى الارتباط الوثيق القائم بين بناء الكيان والتخلص من الاحتلال.
والخطوة الأولى على هذه الطريق تتمثل في ترسيخ الديمقراطية، وضمان سيادة القانون، ووقف التعديات على الحريات. وهذا بدوره سيوفر مناخاً ملائماً للاستثمار (وسيساعد في جذب رؤوس الأموال الفلسطينية الموجودة في الشتات، والمقدرة بنحو عشرين مليار دولار). وإذا كان ترسيخ الديمقراطية يحتل مثل هذه الأهمية، فما هي آلية تحقيق ذلك؟
يبدو لي، جواباً عن هذا السؤال، أن الانتخابات المقررة لمجلس الحكم الذاتي هي الآلية الوحيدة المتوفرة في الأوضاع الراهنة. صحيح أن شروط هذه الانتخابات ليست بالشروط المثلى، وأن قانونها المقترح يعاني نواقص كثيرة، فضلاً عن أن صلاحيات المجلس المنتخب ستكون محدودة في الميدان التشريعي، ولا سيما في كل ما يتعلق بالسيادة على الأرض، ومع ذلك، فإن هذه الانتخابات ستكون أول تجربة انتخابات سياسية عامة يمارسها الشعب الفلسطيني، أو قطاعات واسعة منه، لتثبيت حق من حقوقه الوطنية والشروع في تكريس تقاليد ديمقراطية له. وبغض النظر عن النواقص كلها، فإن هذه الانتخابات ستساهم في ضمان الفصل بين السلطات، وستمنح المجلس المنتخَب دوراً في مراقبة أداء السلطة التنفيذية ومحاسبة هذه السلطة، كما ستضمن لهذا المجلس فرصة الإشراف على أداء المفاوض الفلسطيني عند دخوله مفاوضات الحل النهائي.
ويمكن الافتراض أن مجلساً تمثيلياً منتخباً من الشعب سيوسع قاعدة القوى المشاركة في المفاوضات، وسيحرر المفاوض الفلسطيني من قيد اعتبارات المكان والمكانة ومصادر التمويل، وسيجعله في وضع مريح أكثر يسمح له، مستفيداً من التجربة السورية في التفاوض، بالتمسك الحازم بهدف ضمان انسحاب إسرائيل الشامل، بما في ذلك الانسحاب من القدس الشرقية، وإزالة المستوطنات، وإيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، باعتباره أساس التوصل إلى الحل النهائي في المسار الفلسطيني - الإسرائيلي. وإلى جانب تمسكه الحازم بهذا الهدف، ينبغي للمفاوض الفلسطيني أن يسعى في المرحلة المقبلة لزيادة التنسيق مع كل من سورية ولبنان، والقيام بدور أكثر فاعلية في مجال ربط التطبيع بالتقدم في مسارات التفاوض الثنائية، وزيادة الاهتمام بالدور الأوروبي، لا في المجال الاقتصادي فحسب، وإنما أيضاً في المجال السياسي، بما يمكنه من أن يوظف لمصلحته ظواهر الاستقلال النسبي التي تبرز في السياسة الأوروبية تجاه الولايات المتحدة.
صابر محيي الدين: نعم، لقد أصبح اتفاق أوسلو أمراً واقعاً، وإمكانات إسقاطه باتت صعبة جداً، وتكاد تكون مستحيلة في الأوضاع الراهنة، لأن قوى جبارة، دولياً وإقليمياً ومحلياً، تدعمه وتقف خلفه بكل طاقاتها وإمكاناتها. ومع ذلك، فإن هذه الحقيقة المرة يجب ألاّ تؤثر في معايير تحديد الموقف من الاتفاق، باعتباره اتفاقاً مجحفاً وظالماً، ويفرّط بالحقوق والمصالح الأساسية للشعب الفلسطيني. كما أنه لا بد من أن يكون مثل هذا الاتفاق، مع إفرازاته السياسية، محل رفض ومقاومة من قِبل جميع القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية الثقافية والاجتماعية الفلسطينية التي تدعي النضال من أجل إحقاق الحقوق التاريخية والمصالح الوطنية الفلسطينية الآنية والمستقبلية. وأية محاولة للتمييز بين الاتفاق (بأطره واشتراطاته السياسية والقانونية المعروفة) وبين إفرازاته السياسية، ستكون بالتأكيد محاولة للتكيف مع الاتفاق ذاته، بصرف النظر عن الذرائع والتبريرات التي يمكن إيرادها لتسويق الموقف أو تعليله أو تزيينه.
وعلى سبيل المثال، نحن الآن أمام استحقاق انتخابات مجلس الحكم الإداري الذاتي، كأحد الإفرازات السياسية لاتفاق "إعلان المبادئ" وترجماته المحددة في اتفاق طابا. فهل تشارك القوى والأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية الرافضة للاتفاق في الانتخابات، التي تحاول سلطة عرفات تصويرها بأنها التعبير الديمقراطي عن إرادة الجماهير الفلسطينية؟ الجواب: لا للمشاركة في الانتخابات، ونعم لمقاطعتها لأنها أحد الإفرازات السياسية للاتفاق وحلقة من حلقاته المترابطة، تجري بموجبه ومرفقة باشتراطاته، وهدفها تحرير الاتفاق ذاته وإضفاء الشرعية عليه وعلى سلطة عرفات - الأداة المطبقة له. لذلك، فإن الاعتقاد بإمكان الجمع بين مقاومة الاتفاق والتعاطي مع إفرازاته هو اعتقاد مغلوط فيه، ويفتقر إلى المنطق والمعقولية السياسية.
أمّا بالنسبة إلى مسألة مشاركة الجميع مشاركة إيجابية في تطوير بنى المجتمع الفلسطيني، فالأمر هنا مختلف تماماً. إذ إن النضال ضد الاتفاق وملحقاته وإفرازاته السياسية لا يعني أبداً عدم انخراط جميع القوى والأحزاب والشخصيات السياسية والثقافية والاجتماعية الفلسطينية في البنى المؤسسية للمجتمع الفلسطيني، كالبلديات والاتحادات الشعبية والنقابية والمؤسسات التعليمية والمهنية والثقافية والصحية والزراعية والخدماتية، وتبنّي مصالح القطاعات الشعبية والدفاع عن حقوقها ومطالبها، والاندفاع لحمل لواء الديمقراطية والنضال ضد جميع أشكال الهيمنة والتسلط وسياسة الاستقلال والإفساد. فالجمع بين النضال ضد المحتلين الإسرائيليين، من أجل تحرير الوطن واستقلاله، وضد اتفاق أوسلو، وفي سبيل إقامة مجتمع ديمقراطي، أصبح ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها في ظل المتغيرات والأوضاع الجديدة.
علي فياض: بعد عامين على توقيع اتفاق أوسلو يصعب الزعم أن هذا الاتفاق لم يصبح أمراً واقعاً سياسياً ومادياً، لكن هذا الواقع لم يتشكل بقوة الإقناع والمنطق والخيار الحر، بل بقوة الدفع الخارجية الهائلة. لقد استمد قوته الواقعية من ثقل الأداة العسكرية والأمنية والهيمنة السياسية والجبروت المادي الذي فرض التسوية، ففرّخت لنا اتفاق أوسلو.
أمّا صعوبة إسقاط أوسلو فإنها لا تكمن في أنه تحول أمراً واقعاً، فثورات العالم كلها تقوم عادة ضد الأمر الواقع لتغييره، بل إنها تكمن في الخلل الفادح في ميزان القوى المقرون بالعجز الذاتي. لذلك، لا بد من القيام بعملية معقدة مركّبة تشتمل على عمليات نوعية وتحريض وحشد وتنظيم وعمل عسكري مختار لاستنهاض العامل الذاتي. وفي تقديري إن تلك العملية مستحيلة من دون إطار جبهوي وطني تقوده قوة سياسية ثورية طليعية.
ما زلت رافضاً للاتفاق المذكور (أوسلو)، لكني لا أرى تعارضاً بين الرفض السياسي القاطع للاتفاق وبين التعاطي مع، أو استثمار، بعض نتائجه على الأرض بما لا يشكل اعترافاً بالاتفاق وتكريساً له، ولا سيما أن الاتفاق أسفر عن إيجابيات ملغومة تحتاج إلى التعامل معها بحذر. صحيح أن المرء لا يستطيع إنكار الإيجابيات الناتجة من الاتفاق، لكن الصحيح أيضاً أن القيادة الفلسطينية قدمت في مقابلها ثمناً باهظاً، وأحدثت خللاً استراتيجياً.
راسم المدهون: سأنطلق من السؤال: هل أصبح اتفاق أوسلو أمراً واقعاً، أم ما زالت إمكانات إسقاطه قائمة؟ مع نفي هذا الإمكان، أعتقد أن الأهم من طرح هذا السؤال هو تفحص موضوع مختلف تماماً يتعلق بمدار الخلاف بين الفصائل والأحزاب الفلسطينية تاريخياً وبعد أوسلو. وهنا أعتقد أن الخلاف الذي كان يدور سابقاً بين مؤسسات سياسية تعيش في المنفى بدأ يتخذ أشكالاً أُخرى في ظل عملية تكوّن بنى مجتمعية جديدة داخل المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع. وهذه النقطة مهمة لأنها تتصل بنقطة أُخرى تتمثل في السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن التعامل مع الحقائق الجديدة بأدوات سياسية وتنظيمية قديمة؟ أعتقد أنه توجد في المجتمع الفلسطيني بذور حقيقية لبنى وأشكال اجتماعية وسياسية وتنظيمية تعيش حالة طلاق شبه كامل، إن لم نقل كاملاً، مع البنى السياسية والتنظيمية لمرحلة ما قبل أوسلو. وأعتقد أن الرغبة الشخصية لا يمكن أن تكون هي الحكم فيما يختص بماذا نريد. على سبيل المثال: سيجد المواطن الفلسطيني نفسه في قطاع غزة متردداً كثيراً في أن يؤيد الكفاح المسلح أو لا يؤيده في ضوء الواقع الاقتصادي الذي يقول إن على هذا المجتمع أن يتحاشى موضوع إقفال القطاع أمام العمال الذين يعملون في إسرائيل. أيضاً، هذه السلطة الجديدة، وما ستقيمه من مؤسسات وبنى اجتماعية، سيفرضان بدورهما مجموعة من المصالح ذات علاقة مباشرة بمصالح الناس المادية والاجتماعية، بغض النظر عن موقفهم من أوسلو سلباً أو إيجاباً. هذه وقائع فرضتها الأوضاع الجديدة. هل هذا الاتفاق يضع اشتراطات نهائية وأبدية على مجتمعنا الفلسطيني؟ أعتقد أن هذا غير وارد في التاريخ، لا بالنسبة إلى المجتمع الفلسطيني ولا بالنسبة إلى أي مجتمع آخر. هذا موضوع شائك. ويظل الأساس بالنسبة إلينا: ماذا نفعل تجاه مجتمع يتشكّل؟ صحيح أننا لسنا راضين تماماً عن الطريقة التي جاء بها وكيف جاء، ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أنه بات أمراً واقعاً، وعلينا أن نتعاطى معه بغض النظر عن رغباتنا الذاتية.
والسؤال الرئيسي الذي يجب طرحه هنا: هل نحن في تعاملنا مع ما يجري نعيد ما حدث سنة 1948، أي أننا نناضل ونتعامل مع المستقبل بأدوات الماضي؟ أقول: نعم، نحن نتحدث عن المستقبل بلغة الماضي، وإذا بحثنا عن المشكلة الحقيقية للمعارضة الفلسطينية في الخارج نجد أن مشكلتها تكمن هنا. الحنين إلى الكفاح المسلح التاريخي هو حنين غير واقعي، لأنه يفتقر إلى أدواته الفلسطينية والعربية والدولية. هو اشتراط تاريخي بواقع موضوعي، بالأوضاع العربية الملائمة ما أمكن. إذن، إن للموضوع علاقة بسقوط أو بقاء فكرة الحل العسكري في مواجهة إسرائيل، لا على الصعيد الفلسطيني فقط، بل على الصعيد العربي أيضاً. الفلسطينيون لم يقولوا في يوم من الأيام أنهم قادرون لوحدهم على تحرير فلسطين، ولا يوجد إمكان لذلك.
هناك نظام سياسي فلسطيني في قيد التشكل حالياً، ومفتوح على الاحتمالات كافة. ويجب على القوى المعارضة لاتفاق أوسلو أن تكون منخرطة في المجتمع بجميع تلاوينه ومؤسساته وفئاته، لأن هذه الفئات على اختلافها موجودة في النهاية تحت سلطة الحكم الذاتي.
أعتقد أن الموقف من أوسلو شيء، والحفاظ على الوطن المعنوي للشعب الفلسطيني، منظمة التحرير الفلسطينية، شيء آخر تماماً. فالمنظمة، عدا عن كونها وطناً معنوياً، هي الإطار الوحيد القادر على أن يحول دون تحوّل الشعب الفلسطيني إلى جُزر معزولة. ولذا، من المهم جداً أن نحافظ على م.ت.ف. بغض النظر عن الموقف من أوسلو. ويجب الفصل تماماً بين سلطة الحكم الذاتي وبين سلطة منظمة التحرير. وقد لاحظتم أنه كان من أول اشتراطات رابين، ومن بعده بيرس، ما فحواه: خلّصونا من الميثاق وخلّصونا من المنظمة.
حمد الموعد: لقد أوجد الاتفاق أمراً واقعاً على الأرض، على شكل مؤسسات وأطر. هذا شيء لا يمكن أن ننكره، سواء كان الموقف ضد الاتفاق أو معه. وبالنسبة إلى الفلسطينيين في المناطق المحتلة سنة 1967، يجب التمييز بين الموقف من الاتفاق وبين التعاطي مع إفرازاته.
هناك قضايا: التعليم، الصحة، الشرطة، المياه، الزراعة، البلديات، قضايا كثيرة جداً، ورفض التعاطي مع معطيات الواقع الجديد يعني أن يعيش أصحاب هذا الشعار في اللامجتمع.
من ناحية أُخرى، إن اتفاق الحكم الذاتي اتفاق مفتوح على آفاق فيها اتجاهان رئيسيان ومتناقضان. فالاتفاق يمكن أن يؤدي، من الناحية النظرية، إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، كما قد يؤدي إلى إعادة إنتاج الاحتلال بأرخص الأثمان وبتخطيط دولي. وهناك إمكان احتراب فلسطيني - فلسطيني داخلي قد يجعل من إسرائيل قوة إنقاذ، ويعيد إنتاج الاحتلال بتفويض دولي.
وفيما يتعلق ببنية المجتمع الفلسطيني الموجود داخل مناطق الحكم الذاتي، هنالك واجب وطني على القوى السياسية الفاعلة، وهو أن تشكّل قوة ضمانة، قوة صد، قوة ثالثة، كي لا يقع الشعب الفلسطيني بين حجري الرحى: سلطة تعيد إنتاج أسوأ أنواع السلطات العربية، ومعارَضة تجيد قتل الشعوب والسلطة. وبالتالي، إذا أردنا أن ندافع عن الديمقراطية الفلسطينية، علينا أن نسعى لبناء مجتمع مدني فلسطيني.
إن الواقع الموضوعي يشير إلى أن الاتفاقات الراهنة لن تستطيع إنهاء القضية. وبالتالي، فإن الأمر الآخر المطلوب بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، حفاظاً على حق العودة وحفاظاً على تماسكه، هو إحداث تغيير بنيوي في أطر العمل الفلسطيني، وبعض الأطر وجِد لهدف معين استنفد أغراضه، وعلينا الإقرار بالواقع. أمّا أن نتحدث عن ديمومة وسرمدية، فهذا مناقض لمنطق التاريخ - قد تقتضي الحياة استمرارية م.ت.ف.، وقد تقتضي الحياة إيجاد إطار ملائم آخر يكون إلى جانب الكيان الفلسطيني أو السلطة الفلسطينية، أو الدولة، وليس المهم اسم هذا الإطار، بل كيف يؤدي عمله.
أحمد برقاوي: الشعب الفلسطيني موزّع في ثلاثة تجمعات أساسية: فلسطينيو الـ 1948 في إسرائيل؛ فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة؛ فلسطينيو الشتات.
والسؤال هو: هل يمكن لهذا الشعب أن يكون ذا أهداف موحدة في نضاله السياسي؟ وهل يمكن للأهداف الموحّدة أن تحول دون أن يكون لكل تجمع من هذه التجمعات مهمات مرتبطة بواقعه أم لا؟
إذا ما نظرنا الآن إلى أوسلو، فإنه نوعاً ما حل لمشكلة الضفة الغربية وقطاع غزة أساساً، على أمل بأن يقوم كيان يفضي إلى دولة. لذلك، فإن مهمات النضال داخل الضفة الغربية وقطاع غزة ستختلف بالضرورة عن مهمات نضال فلسطينيي الشتات وفلسطينيي الـ 1948.
وإذا كان فلسطينيو الـ 1948 ناضلوا جاهدين من أجل اكتساب جملة من حقوق الإنسان في ظل دولة عنصرية، فهذا حق من حقوقهم النضالية. وفي المقابل، إن ما حدث الآن من خلال أوسلو لا يلزم فلسطينيي الشتات بالضرورة لأن هدفهم الأساسي هو العودة. السؤال: هل يمكن الاحتفاظ بحق العودة شعاراً سياسياً بالنسبة إلى فلسطينيي الشتات؟ نعم، يمكن الاحتفاظ بهذا الحق ما دامت مشكلة فلسطينيي الشتات لم تحل.
يواجه فلسطينيو الشتات خيارين خطرين: خيار التوطين من جهة، وخيار التعويض من جهة أُخرى. وأمام خيار التوطين عقبات شديدة لا حاجة الآن إلى ذكرها. أمّا خيار التعويض، فليس أمامه عقبات شديدة، لكنه خيار أخطر كثيراً من خيار التوطين. لماذا؟ لأنه سيكون سابقة لا مثيل لها في التاريخ: شعب أخذ لقاء وطنه مبلغاً من المال. هنا يجب أن يكون من مهمات الحركة السياسية الفلسطينية في الخارج توفير شروط المناعة لدى الشعب كي يقاوم الأشكال المتنوعة الرامية إلى سلبه حقاً من حقوقه التاريخية، هو حق العودة. إن أشكال التعابير السياسية أيضاً مرتبطة بالشروط المتنوعة وبالتغيرات التي ستحدث في المنطقة العربية، ولا أعتقد أن المنطقة العربية استقرت بعد.
بالنسبة إلى فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، ستكون المهمة الآن مختلفة عن إسقاط أوسلو، ذلك بأنهم يُحكمون لأول مرة من قِبل سلطة فلسطينية. إن هذه السلطة الفلسطينية، الآتية، بمعنى من المعاني، بطرق غير ديمقراطية، تحاول جاهدة أن تقضي على أشكال المجتمع المدني التي نشأت رغماً عن أنف الاحتلال، أو بفضل الاحتلال - بأي معنى بفضل الاحتلال؟ لا بمعنى أن إسرائيل أنشأتها، بل بمعنى أن المقاومة لهذا الاحتلال وفرت مجالاً من حرية التعبير الذاتي أتاح وضع أساس لمجتمع مدني. وهنا يواجه فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة مهمة الحفاظ على المجتمع المدني وتطويره إزاء هذه السلطة التي تتعامل حتى الآن مع الداخل تعاملها مع الخارج سابقاً.
في إطار هذا التنوع الفلسطيني، هل يمكن إيجاد لحمة توحِّد الشعب الفلسطيني؟ أعتقد أن مشكلة الشتات لا تلغي إطلاقاً مشكلة الانتماء. الانتماء سيظل حاضراً بأشكال متعددة. من هنا، علينا أن نفكّر جاهدين الآن في كيفية إيجاد أشكال التعبير السياسية الملائمة لكل تجمع من تجمعات الشعب الفلسطيني. والسؤال هنا هو: هل م.ت.ف. الآن هي الصيغة الملائمة أم لا؟ في الحقيقة، يمكن أن تبقى م.ت.ف. بصفتها تعبيراً عن فلسطينيي الشتات أكثر مما هي تعبير عن فلسطينيي الداخل، وقد تستغربون هذا الأمر. نعم، يمكن أن يبقى الميثاق الوطني تعبيراً عن فلسطينيي الشتات، كما يمكن أن تُنشأ مؤسسة سياسية أُخرى إذا ما انحدرت م.ت.ف. إلى إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني.
ماجد كيالي: لم يكن ثمة داع أصلاً إلى وضع مسألة إسقاط الاتفاق في معرض النقاش، لأن هذا الإمكان غير ممكن في إطار الأوضاع والمعطيات الراهنة.
إن الكلام على العمل ضد الاتفاق هو حق مشروع. لكن مع التقدير لجميع المنطلقات التي تنطلق منها المعارضة التي تعتبر أن الاتفاق لم يتضمن عناصر مهمة مثل: وقف الاستيطان، وعودة القدس، وغير ذلك، فإن الموقف الأساسي يجب أن ينبع، بتقديري، من رفض المشروع الصهيوني، لأن الاتفاق هو أحد تجليات هذا المشروع، وليس فقط من أنهي تضمن إجحافاً ببعض عناصر القضية الفلسطينية، هذا أولاً.
ثانياً، على الرغم من موقفنا هذا، فإنه يجب إدراك أن الاتفاق ما كان له أن يتضمن بُعداً فلسطينياً لولا حضور الشعب الفلسطيني ونضالاته طوال المرحلة الماضية، وهذا ما يجب أن تعيه المعارضة. ومن ناحية أُخرى، فإن بعض أصحاب الاتفاق ومؤيديه يعتبر أن هذا الاتفاق هو نهاية للصراع مع المشروع الصهيوني، وأن إسرائيل تغيّرت وتخلت عن وظيفتها العنصرية - الاستيطانية - العدوانية، وأننا انتقلنا من مرحلة التصارع إلى مرحلة التعايش. هذا كلام سابق لأوانه، وغير دقيق في رؤيته وتحليله للمشروع الصهيوني ومستوى تطور إسرائيل ودورها في هذه المرحلة. العملية الصراعية ستستمر وإن بأشكال وطرق جديدة.
ثالثاً، جرى الحديث عن مستويات مختلفة في الموقف من أوسلو، وهذا صحيح. فالمسألة، في رأيي، ليست على نحو: إمّا إسقاط الاتفاق وإمّا التعامل معه. هناك عدة مستويات في ظل الأوضاع الصعبة والمختلفة للشعب الفلسطيني، ولا سيما أننا لا نستطيع إسقاط الاتفاق لكونه معطى دولياً وإقليمياً لا اتفاقاً فلسطينياً - إسرائيلياً فحسب. وهكذا، فإنه يجب التمييز بين:
أ - مستوى مقاومة مختلف التجليات الجديدة للمشروع الصهيوني، على الصعيدين الفلسطيني والإقليمي، ومقاومة المشروع الشرق الأوسطي بجميع الوسائل الممكنة والملائمة.
ب - مستوى التعامل مع الواقع الناتج من الاتفاق على قاعدة تغييره لمصلحة الأهداف الفلسطينية، إذ لا يمكن تجاوز مليونين من الشعب الفلسطيني موجودين تحت سلطة الحكم الذاتي، وهذا الواقع يجب التعامل معه بغض النظر عن الرغبات والمواقف. فهناك فارق بين تحليلنا لأبعاد الاتفاق وأخطاره وبين أشكال ومستويات المقاومة له. إذا كنت أرفض الاتفاق وأرفض التعامل معه، فهذا لا يعني أنه لم يعد موجوداً. هذا كلام غير منتج في المعادلات السياسية.
جـ - مستوى البناء على الواقع القائم. هناك كيان. هل نعمل على إسقاطه، أم نعمل على تحويله إلى دولة فلسطينية؟ هناك تبعية سياسية أمنية اقتصادية، ما هو الموقف؟ هل ينبغي أن يكون تكريس هذه التبعية، أم العمل على إيجاد مسار لفك الارتباط مع الكيان الصهيوني، وربط هذا الكيان بالإطار العربي؟ هذه المستويات يجب التمييز بينها في الفكر السياسي الفلسطيني على قاعدة رفض الاتفاق ومقاومة مختلف تجلياته.
الكيان والمشروع التحرري الوطني والوحدة الوطنية
ماجد كيالي: ننتقل الآن إلى السؤالين المهمين التاليين المطروحين في جدول الأعمال في الساحة السياسية الفلسطينية:
- أفرز الاتفاق مشكلات جديدة للنظام الفلسطيني، وأبرز التناقض بين مصالح بناء الكيان من جهة ومصالح استمرار المشروع الوطني التحرري - الصراعي من جهة أُخرى: هل يمكن العمل على تحقيق تكامل بين المصلحتين الوطنيتين من دون الإجحاف بإحداهما لحساب الأُخرى، ولا سيما في هذه الأوضاع الصعبة؟
ثم كيف يمكن للفكر السياسي الفلسطيني إيجاد مقاربة سياسية لإعادة صوغ الوحدة الوطنية وتجاوز الاشتراطات السياسية المستعصية بين السلطة والمعارضة في هذه الأوضاع السياسية والاجتماعية الاستثنائية للشعب الفلسطيني، مع الأخذ في الاعتبار المصالح الآنية والمستقبلية لهذا الشعب؟
ماهر الشريف: سأقدم اجتهادات بشأن كيفية تجاوز حالة الاستقطاب الحادة القائمة في الساحة الفلسطينية، والانتقال للتركيز على مهمات المستقبل.
أصبح اتفاق أوسلو، ولا سيما بعد إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي وبدء انسحابه من مدن الضفة الغربية الست، أمراً واقعاً، بمعنى أنه صار يتجسد عبر حقائق مادية على الأرض يصعب التراجع عنها. والمهم الآن أن يتركز الجهد الوطني الفلسطيني على مهمات المرحلة المقبلة، وفي الأساس على مهمتين متشابكتين هما: مهمة ترسيخ أسس قيام كيان فلسطيني ديمقراطي، ومهمة النضال من أجل التخلص النهائي من الاحتلال الإسرائيلي. وفي الواقع، فإن القوى الوطنية الفلسطينية كافة، وبغض النظر عن موقفها المبدئي من اتفاق أوسلو، معنية مباشرة بإنجاز هاتين المهمتين. ووصولاً إلى ذلك، سيكون أمام هذه القوى أن تواجه استحقاقين: الأول يتمثل في انتخابات مجلس الحكم الذاتي، والآخر يتمثل في مفاوضات الحل النهائي.
فيما يتعلق بالاستحقاق الأول، أعلنت قوى وطنية كثيرة مقاطعتها الانتخابات لاعتبارات عدة، يأتي في مقدمها اعتبار أن المشاركة فيها ستعطي شرعية سياسية لاتفاق أوسلو وما تمخض عنه من نتائج. هذا في حين أكدت قوى أُخرى، اتخذ بعضها في السابق موقفاً متحفظاً تجاه نهج المفاوض الفلسطيني، عزمها على المشاركة في هذه الانتخابات، إلى جانب القوى المشاركة في السلطة. وإذا كانت الانتخابات المقبلة ستمثل فرصة تعبر من خلالها قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني عن مواقفها من الاتفاقات المبرمة ومن مستقبل كيانها الوليد، فإن مقاطعة هذه الانتخابات ستكون أيضاً شكلاً من أشكال التعبير عن هذه المواقف، ويمكن أن تجيَّر في خدمة النضال من أجل ترسيخ الديمقراطية والتعددية واحترام الرأي الآخر داخل الكيان الفلسطيني. ويمكن للمرء أن يتصور نشوء تحالف في المستقبل بين القوى الحريصة على هذه القيم من داخل المجلس المنتخب وخارجه. وليس هذا فحسب، بل يمكن لهذا التحالف أن يقوم بدور لا يستهان به في ميدان التفاوض بشأن الحل النهائي.
غير أن ذلك كله لن يكون كافياً ما لم يتم الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج؛ هذه الوحدة التي لا تزال منظمة التحرير الفلسطينية تجسدها، والتي من المفترض أن يتعزز النضال من أجل أن تكون هي مرجعية سلطة الكيان الفلسطيني الوليد، وأن تكون هي المشرف الأول على مفاوضات الحل النهائي.
ويبدو لي أن الحفاظ على م.ت.ف. كهيئة تجسد هذه المعاني كلها لا يمكن أن يتم في ظل استمرار حالة الانقسام في داخلها ومقاطعة ممثلي بعض القوى لاجتماعات لجنتها التنفيذية. وربما توفر المبادرة التي طرحها رئيس الدائرة السياسية في م.ت.ف.، فاروق القدومي، فرصة ينبغي عدم تفويتها لإعادة اللحمة إلى م.ت.ف.، وتفعيل دورها بعيداً عن الخلاف السياسي، أو على الرغم منه.
وعند الحديث عن منظمة التحرير الفلسطينية ومستقبلها، ينبغي أن نراعي التحولات البنيوية التي أخذت تطرأ على الحركة الوطنية الفلسطينية في الأعوام الأخيرة، إذ نشهد تحولاً في اتجاه تجاوز صيغة الفصائلية كبنية لهذه الحركة، يعززه توجه نلمسه في الداخل أساساً نحو إقامة أحزاب وحركات سياسية جديدة. ومع أن هذه الأحزاب والحركات لا تزال في طورها الجنيني، فإنها مؤهلة - في حال تطورها ونجاحها في التعبير عن مصالح فئات اجتماعية واسعة - لإدخال تغييرات نوعية على النظام السياسي الفلسطيني الذي ولد في النصف الثاني من الستينات.
وفيما يتعلق بالانتخابات، فإنه على الرغم من جميع الشروط والثغرات القائمة في شروط الانتخابات وفي آليتها وقانونها، فإنه ستتوفر من خلالها لأول مرة للشعب الفلسطيني، أو لقطاعات من هذا الشعب، فرصة للتعبير الحر. سيُنتخب مجلس لأول مرة، وسيكون لهذا المجلس دور في الإشراف على السلطة، ودور في الإشراف على مفاوضات الحل النهائي. ما الذي أضعف موقف المفاوض الفلسطيني في مفاوضات الحل الانتقالي؟ في اعتقادي أنه كان هناك، بالإضافة إلى العوامل الذاتية، أي النزعة الفردية والهيمنة والاستئثار، عوامل موضوعية. كانت هناك رغبة في ظل الأزمة، وتحديداً أزمة الموقع، في إيجاد موطئ قدم داخل الوطن. وكان هناك اعتبار آخر، هو رغبة القيادة في الحفاظ على مكانتها كقيادة للشعب الفلسطيني. ودخل عامل ثالث مترابط مع ما سبق، وهو مصادر التمويل، وهنا وقعنا أسرى الممولين من الدول الغربية. المجلس الذي سينتخب قريباً، والذي يجب أن ندفعه جميعنا، معارضة وغير معارضة، كي يلعب دوراً في الإشراف على مفاوضات الحل النهائي، سيكون متحرراً من جميع هذه العوامل التي أضعفت موقع المفاوض الفلسطيني. سيكون متحرراً من عامل المكان والمكانة. ثانياً: في ظل ترسيخ الديمقراطية والفصل بين السلطات، ستتوفر أجواء وبيئة للاستثمار، لجذب رؤوس الأموال الفلسطينية التي إذا دخلت بفاعلية فإنها ستحررنا كثيراً من الارتهان للمساعدات الخارجية. إن التركيز الرئيسي الآن، كقوى معارضة وكقوى في السلطة، يجب أن يكون على مهمات المستقبل. وينبغي ألاّ يبقينا اتفاق أوسلو في الماضي، على الرغم من جميع ملاحظاتنا بشأن هذا الاتفاق. التحدي المطروح أمام الوطنيين الفلسطينيين كافة هو كيف ننظر إلى المستقبل وإلى مهمات هذا المستقبل.
فضل شرورو: قد تبدو عملية التمسك بجوهر أهداف شعبنا في عودته وتحرره وتقرير مصيره تعابير من بقايا الخطاب السياسي القديم. لكن إسقاط هذه الأهداف، والقبول بما هو متسير، هما الاستسلام في حد ذاته أمام مشروع صهيوني يتمسك بجوهر أهدافه على الرغم من تغير أسلوبه. لقد وقعت أضرار لا يمكن حصرها بعد أوسلو وطابا، والمهم بالنسبة إلينا كوطنيين هو المسارعة إلى لجم الأضرار ومحاولة التقدم على أسس جديدة.
إن هذا لا يتم بالتشبث بالزمان الذي كان قبل أوسلو، لكن التشبت بجوهر النضال أمر آخر. إنه عدم مصادرة المستقبل، وعدم إغلاق الباب أمام توظيف حالة عدم شمول التسويات للمنطقة برمتها.
إن الوحدة الوطنية مسألة تهم الكل لا المعارضة فقط، بل يجب أن تهم الطرف الذي أنجز أوسلو، مثلما تهم المعارضة. لكن الذي يحدث الآن هو الزعم أنه إذا كانت المعارضة وطنية، فعليها أن تلغي طروحاتها وتلتحق بأوسلو وإفرازاته. وهذا لا يساعد في الوصول إلى مشروع له سمات المشروع الوطني.
عندما تكون مسؤولية الوصول إلى جبهة مواجهة وطنية أمام العدو الذي تكيّف مع معطيات المرحلة واقعة على عاتق الجميع، المعارضة وطرف أوسلو، فإنه من هذه النقطة بالذات يكون الانطلاق.
ولا أريد أن أكرر. فنحن أمام فرصة تاريخية لن تلغي الاختلافات القائمة، ولكنها يمكن أن تؤسس لمجابهة المرحلة الأخطر، مرحلة المفاوضات المتعلقة بالمرحلة النهائية. وهنا اقترحت خطوطاً عريضة أولية لمشروع مجابهة لا يتضمن إلا الحقوق التي يؤمن الشعب الفلسطيني بها، ولا يشترط إلغاء الآخر، الطرف الذي وقع أوسلو.
لكن الأمر لا يتعلق بنا فحسب، فهل يتقبل طرف أوسلو هذا المشروع أو غيره؟ إن طرف أوسلو لا يقبل إلاّ صيغة الإلحاق والالتحاق. وهنا تكمن القضية الأساسية. بقيت نقطة، وهي أن الاكتفاء بمناقشة أداء السلطة وبانتقادها على هذا الأمر أو ذاك، لا يؤدي إلى إيجاد حلول للوحدة الوطنية بقدر ما يشغلنا عن هذه الوحدة. ثم إن المشاركة في الانتخابات، أو عدم المشاركة من دون وضع ذلك في إطاره الصحيح، من شأنهما أن يؤديا إلى الغرق في أوسلو من دون البحث الجاد في مسألة لجم الأضرار والاستعانة بالأوضاع المحيطة، وأقصد بها المسارات التي لم تنجز، ومن دون البحث الجاد في ربط المرحلة النهائية بعمق العمل العربي الذي يتيح لنا المطالبة مرة أُخرى بالعودة وعدم التوطين.
علي فياض: من الظلم الفادح تحميل الطرفين الفلسطينيين معاً مسؤولية الأزمة الوطنية الراهنة. فالأزمة في تقديري ناتجة من قيام الطرف الفلسطيني المتنفذ وحده بانتهاك أسس ودعائم الوحدة الوطنية المذكورة وبتجاوز قرارات الإجماع الوطني. لكن بعد اتفاق أوسلو، اختلف الوضع تماماً؛ فالوحدة الوطنية لم تعد عملية إرادية ذاتية ممكنة، لأن الاتفاق موضوعياً ضرب الوحدة الوطنية، واستحقاقات الاتفاق تمنع قيام الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني بأسره. المسألة ليست إرادية، لأن الخلل لم يصب الأطر والفصائل بقدر ما أصاب الأسس الوطنية والقواعد السياسية للوحدة. أمّا الوحدة الوطنية المتاحة في الأوضاع الحالية، فهي فقط وحدة على سكة أوسلو لا غير.
إن المشروع الكياني في قيد الإنجاز يتعارض بأسسه ووظيفته ومهماته مع المشروع التحرري، بل إنه يقوم بالنتيجة على حسابه لا إلى جانبه، كما يعتقد البعض. فالمشروع التحرري الفلسطيني الذي انطلق من محطته الأُولى بقوة الدفع الذاتي، ثم ارتبط بالمشروع التحرري العربي، أفرز برنامجه التسووي المرحلي - الذي عززته الانتفاضة الشعبية - في أحضان المشروع التسووي العربي الرسمي. أمّا المشروع الكياني الحالي، فإنه يشكل تراجعاً عن المشروع التحرري وبرنامجه التسووي، ويمثل قطعاً مع المشروع القومي التسووي الإقليمي، ويستمد قوته وشرعيته من صفقة بائسة، لكن ملزمة، تمت بين طرفين غير متكافئين على الإطلاق.
وفي التطبيق، لم تعد المسألة إرادية ذاتية يستطيع عرفات التراجع عنها إن أراد، بل إلزامية جبرية تحكمها نصوص وموازين قوى. وبقدر ما ينجح الطرف الفلسطيني في تصفية المشروع الأساسي ميدانية، ينجح في أن يحصل من المركز على صلاحياته وامتيازاته السلطوية التي ستبقى دون حدود السيادة الكيانية الوطنية المنشودة.
إن صيغة سؤالكم تحاول القول: لا بأس، لِمَ لا نستثمر المشروع الكياني بحدوده الدنيا المتوفرة باتجاه التأسيس لاستكمال المشروع التحرري في ظل أوضاع متغيرة؟ وأعتقد أن نقطة ضعف هذا التصور تكمن في افتراضين غير مدققين:
الأول: إن العامل الذاتي الفلسطيني طرف فاعل مقرر في إدارة العملية التسووية.
الثاني: إن المشروعين الكياني والتحرري يسيران في اتجاه واحد، يتوافقان فيتكاملان.
أذكّر هنا بأن الطرف الفلسطيني دخل إلى حلبة التسوية باعتباره أداة محلية ذات قيمة استعمالية عالية، وتتكثف قيمتها في القدرة على القيام بتصفية المشروع التحرري، وفك الارتباط بالعمق العربي، وكسر الحواجز النفسية بأقل الخسائر المترتبة على مركز التسوية، وبالتالي، فإن الكيان الذاتي المنقوص هو ما يمكن تحصيله من هذه الصفقة غير المتكافئة.
وإذا كان تسويق الإدارة الفلسطينية بوظيفتها الجديدة في الشارع الفلسطيني والعربي يستدعي الإغراق في المشاهد المسرحية والإفراط في الرموز السيادية الشكلية، وخصوصاً أننا كشعب فلسطيني نعاني العقدة الكيانية والنقص السيادي المؤسساتي، فإن الأمر لن يستمر طويلاً، لأن المشروع الكياني مرشح لفقدان بريقه الوطني وزخمه الاحتفالي وصدقيته الاستقلالية بعد إتمام الانسحابات الكرنفالية من المدن، والولوج إلى مفاوضات الحل النهائي، حيث الاختبار الأصعب.
إن التأسيس على ما هو موجود حالياً (الحكم الذاتي) لقيام كيان فلسطيني مستقل يفترض، أول ما يفترض، القدرة على الانفكاك من شروط أوسلو نفسها. وهذه العملية غير الإرادية تتجاوز الذاتي الراهن إلى الموضوعي المتخيَّل، كافتراض تغييرات سياسية درامية، أو تفجير التناقضات الإسرائيلية نحو حرب أهلية، أو نكوص المشروع الشرق الأوسطي، أو انهيار التحالف الأميركي - الإسرائيلي. وفي ذلك كله مراهنة على الغير وعلى الخارج وعلى الموضوع. وفي المقابل، فإن المشروع التحرري سيجد نفسه كلما تقدمت مراحل التسوية محاصراً أكثر بالعجز الفصائلي والتضييق العربي الرسمي، أمنياً وجغرافياً وسياسياً، وبالمطاردات والتضييقات السلطوية الفلسطينية، وبالحملات الإسرائيلية - الأميركية المتواصلة.
وفي ضوء ما تقدم، فإن الدعوة إلى التكامل بين المشروعين (الكياني والتحرري) تصبح ضرباً من الأوهام. ليس ذلك فحسب، بل إن محاولة الجسر بين المشروعين، فضلاً عن التكامل بينهما، تبدو أبعد عن المنطق وأقرب إلى المستحيل.
هل يعني ذلك أن كل شيء انتهى ولا جدوى من المحاولة؟
ذلك صحيح جزئياً ومرحلياً إذا لم تتمكن القوى السياسية الفلسطينية المعارضة من الخروج من أزمتها الراهنة، واستنهاض القوى الفاعلة والإمكانات الكامنة لإنجاز المهمة المزدوجة أو المهمتين المتكاملتين التاليتين: الأولى، في الداخل - القيام بعملية تحضيرية تعبوية واسعة لبناء القواعد السياسية والأطر التنظيمية الملائمة، وتفعيل المؤسسات المدنية والثقافية والاجتماعية، مع تطعيم العملية بجرعات مختارة من العنف الثوري المدروس مكاناً وزماناً، لإيجاد وتعزيز جبهة معارضة واسعة وفعالة تستوعب القوى الحية في الداخل. والثانية، في الخارج - القيام بحملة سياسية تنظيمية ثقافية إعلامية واسعة في مناطق الشتات، وعلى المستويين الإقليمي والدولي، لإثارة قضية اللاجئين، وإثارة حق العودة وإبقائه حياً، وتكريس الهوية، وتعزيز الانتماء لدى الشعب في الشتات، وتعزيز الشكل التمثيلي الأكثر ملاءمة (م.ت.ف. أو غيرها) القادر على جسر العلاقة بين الداخل والخارج، والحفاظ على التنسيق والانسجام بينهما، وإعادة الاعتبار إلى المشروع الوطني الفلسطيني في أوضاع إقليمية ودولية غير جامدة، ولا بد من أن تتغيّر.
وهنا نعتقد أن مصير عملية التسوية في مجملها مرهون بتطور عاملين رئيسيين:
1 - مدى استمرار تفرد وهيمنة الولايات المتحدة على المسرح الدولي والإقليمي، وقدرتها على لجم التناقضات المتفاقمة داخلها وداخل المعسكر الإمبريالي (الرأسمالي)، وإمكاناتها في كبح الأقطاب الدولية المنافسة.
2 - إمكان تحول الرفض الشعبي الكامن لدى الأغلبية المقهورة، فلسطينياً وعربياً، إلى حركة معارضة واسعة وفاعلة، أو إلى سلسلة انفجارات وتفاعلات محلية وإقليمية، غير مسيطر عليها سلطوياً أو إسرائيلياً أو أميركياً.
راسم المدهون: لا أعتقد أن ثمة تعارضاً بين المشروع التحرري الفلسطيني وبين أوسلو، ولا أظن أن حركة وطنية ناضجة وتعرف تماماً ما تريد، يمكن أن يأخذها أحد على حين غرة، كما قال ماركس عن لويس بونابرت. ما حدث هو أن هذه الحركة الوطنية، بحجم قدراتها على الفعل، وحجم تحالفاتها العربية، ثم بحكم وضع حركة التحرر العربية، ووضع حركة التحرر الدولية، هي التي أفرزت اتفاق أوسلو.
إن اتفاق أوسلو ليس وليد رغبة ولا وليد مؤامرة خارجية. هذه نقطة. النقطة الأُخرى هي أن اتفاق أوسلو أوجد مهمات جديدة، والسؤال من الآن فصاعداً هو: هل نحن مع كيان ننمي ما فيه من إيجابيات، أو مع كيان مهمتنا أن نشمت بنواقصه، وهذا من أسهل ما يكون؟
يأتي موضوع الوحدة الوطنية، والسؤال هو الوحدة الوطنية بين من ومن؟ إني أوجه شكري إلى الذي قال إن المطلوب هو وحدة الشعب لا وحدة الفصائل، بمعنى أن الفصائل هي أوعية سياسية تنظيمية وليدة مراحل معينة، وبالتالي، من الممكن أن تتغير، وهي بالضرورة ستتغير، بغض النظر عن الرغبات. طبعاً عندما نتحدث عن أشكال تنظيمية جديدة فليس بالضرورة أن يتغير اسم هذا التنظيم أو ذاك. يمكن أن يظل حاملاً الاسم الذي يريده. لكن المضامين التي ستكون هي بالتأكيد مضامين مختلفة تماماً عن السابق.
وبالنسبة إلى الكلام على أن هذه السلطة مستبدة، أعتقد أن هناك استبداداً عربياً شاملاً من المحيط إلى الخليج. وبالنسبة إلى الكلام على أن وضعنا يجب أن يكون أفضل، فهذا صحيح، ويمكن فعلاً أن يكون الوضع أفضل إذا تكلمنا كما تكلم ماهر الشريف، أي إذا وضعنا رقابة صارمة على هذه السلطة وتصرفاتها. لكن الموضوع الديمقراطي ليس مطروحاً فقط على السلطة، والسؤال الحقيقي هو: ما مصير الديمقراطية في الساحة الفلسطينية ككل؟ ما هو دور الرأي والرأي الآخر في الساحة الفلسطينية ككل؟ وأخيراً، أعتقد أن ما يمنع الاستسلام الكامل في المرحلة المقبلة هو المسألة الثقافية بدرجة أساسية، بمعنى، عدم التسليم بالتفسير الصهيوني للصراع العربي - الإسرائيلي، وكل ما دون ذلك يدخل في باب التكتيكات.
عدنان عبد الرحيم: [....] بالنسبة إلى التساؤل عن إمكان استمرار النضال الفلسطيني والتكامل بين عمل السلطة الفلسطينية والكيان الفلسطيني، أقول إنه في السياسة لا يوجد شيء اسمه أحكام مطلقة. لا شك في أن الإسرائيليين والأميركيين يطمحون إلى اعتبار أن هذا الكيان هو الحل النهائي للقضية الفلسطينية، ولديهم حل للفلسطينيين خارج الأرض المحتلة، هو التوطين أو التعويض. والخطورة هنا لن تأتي فقط من ناحية الإسرائيليين، إذ إنه بمقدار ما تتقدم التسوية فإننا سنلمس ضغوطاً عربية للقبول بهذه المسألة. فهل هناك تفكير جدي لمقاومة هذه الضغوط الناجمة عن مسار التسوية نفسها؟ وأود أن أفهم كيف نريد التصدي لذلك؟ بالبلاغة اللفظية، بالقراءات السياسية، أم بتعزيز صمود الشعب الفلسطيني وزيادة تماسكه؟ كيف؟ أبهذه الطريقة التي تمارس المعارضة الفلسطينية بها الوقوف ضد أوسلو؟ نستطيع أن نقول ما نريد في أي برنامج، لكن المهم هو كيف سننفذ هذا البرنامج في إطار وضع عربي نعرف مواصفاته تماماً؟
بالنسبة إلى الآراء التي أبداها زميلنا علي بشأن الوحدة الوطنية والسلطة والكيان، أنا أعرف أن الإسرائيليين يريدون أن يقولوا لنا: اكتفوا بهذا الكيان وعفا الله عما مضى! لكن هل هذا هو منطق السلطة الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ أشك في ذلك، لأني لا أعتقد أنها لا تريد أن تحقق طموحات أكبر للشعب الفلسطيني، حتى من منطلق ذاتي. ثم إن الحب من طرف واحد لا يكفي، فما هي المسافة التي ستقطعها القوى المعارضة لاتفاق أوسلو بالاتجاه المعاكس، بمعنى اللغة السياسية التي تريد أن تتفهم وأن تتعامل مع واقع جديد غير مخلد، خاضع للتغيير وخاضع للنضالات؟ أنا أقول إن هناك إمكاناً، وهناك مسافة موجودة للتعامل بين المعارضة وبين السلطة الفلسطينية، وأنا لا أستطيع أن أتقبل فكرة القطيعة لأني لا أستطيع أن أتصور كيف يمكن المناداة بوحدة وطنية فلسطينية إذا كان هناك مثل هذه القطيعة الكاملة. يجب على المعارضة أن تتعامل مع الواقع، ومع هذه الكتل البشرية التي كان زوال الاحتلال بالنسبة إليها شيئاً إيجابياً، وعبرت عن فرحتها بذلك.
وبالنسبة إلى ما قيل عن الأشكال السياسية الجديدة، والمضامين السياسية الجديدة، فأنا لا أرى في الدعوة إلى تغييب أو إلى حفر قبر م.ت.ف. في هذه المرحلة إنجازاً إيجابياً، بسبب غياب أي بديل موحد على المستوى السياسي للشعب الفلسطيني خارج هذا الإطار. إن البعض تعامل مع م.ت.ف. كما لو أنها ملك شخصي لرئيسها، وهذا ليس صحيحاً، فمنظمة التحرير تراث لنا جميعاً. ومن هذا المنطلق أعتقد أن بقاء م.ت.ف.، حتى كهيكل سياسي يعاني ضعفاً، أفضل من غيابها في هذه المرحلة. ثم إن قوة م.ت.ف. تنبع من التنظيمات الموجودة فيها، ومن فعالياتها السياسية والعسكرية. وسبب ضعفها ليس اتفاق أوسلو فقط بل ضعف باقي التنظيمات المنضوية فيها أيضاً.
أمّا فيما يتعلق بطبيعة التعامل مع السلطة على مستوى الانتخابات وغير الانتخابات والبنى، فأقول إن "عفة ونصف عفة أمر لا يجوز"؛ أريد أن أشارك في البنى الأساسية وفي البناء، لكن لن أشترك في الانتخابات! يوجد تناقض هنا، وفي نهاية المطاف، ليس كل الذين يدخلون الانتخابات موافقين بالضرورة على سياسة الحكومة.
وأخيراً، بالنسبة إلى فلسطينيي الشتات، أقول إنه إذا كنا ننوي تأسيس نواة لمعارضة جدية في المستقبل، والحفاظ على حقوق الفلسطينيين الموجودين في الشتات، فإنه ينبغي البدء بالعمل على تحسين أحوالهم المعيشية والحياتية وبزيادة وعيهم وتربيتهم. هذا ما يجب التفكير فيه بشكل جدّي بدلاً من تصارع البرامج.
داود تلحمي: من وجهة نظري، ما زلنا نعيش مرحلة تحرر وطني ما دام العدو لم يسلم بمبدأ الجلاء عن الأرض المحتلة، وحق الشعب في تقرير المصير، فضلاً عن قضية اللاجئين، التي هي أصعب وأكثر تعقيداً. وبالتالي، تتضح هنا الطبيعة المتناقضة للسلطة الفلسطينية ولمشروع الحكم الذاتي الذي يجلس عملياً على كرسيين ولا يستطيع أن يستوي على أي منهما. هناك في الواقع محاولة للدخول في مرحلة بناء ما اصطُلح على تسميته كياناً، وفي الوقت نفسه هناك محاولة لدفع الأمور بصورة أو بأُخرى باتجاه إنجاز المشروع الوطني التحرري الذي كان محدداً ومتفقاً عليه كبرنامج وطني لمنظمة التحرير. هذا الوضع المتناقض هو الذي جعل المجال مفتوحاً أمام الاحتلال لممارسة شكل مفضوح ومكشوف من الابتزاز الدائم تجاه السلطة، التي يتعاطى معها وكأنها رهينة يمكن ممارسة جميع أشكال الضغوط عليها إذا ما تجاوزت الحدود المتفق عليها، أو تساهلت في القيام بالوظيفة المطلوبة منها في إطار الاتفاق بين الطرفين. لنأخذ أيضاً قضية الانتخابات ونضعها في سياقها الصحيح، لئلا تبدو لنا شكلاً من أشكال تقرير المصير أو قمة من قمم الممارسة الديمقراطية.
لم تكن فكرة الانتخابات ترمي في الأساس (كما طُرحت من قِبل الإسرائيليين) إلى إعطاء الشعب الفلسطيني فرصة للممارسة الديمقراطية. لقد هدفت، في البداية، إلى ضرب التمثيل الموحد للشعب وتقسيمه من خلال التركيز على شعب الداخل. كان الهدف الأساسي منها سابقاً هو محاولة إجهاض الانتفاضة الفلسطينية عبر شكل من أشكال التعبير الشعبي الفلسطيني في الأراضي المحتلة بمعزل عن وحدة الشعب وبمعزل عن مطالب الانتفاضة؛ أي: الانتخابات في مقابل وقف العنف. فلذلك، وعلى الرغم من الاختلافات التي حدثت في إطار اتفاق أوسلو عما طُرح سابقاً من اختلافات، أكانت نحو الأفضل أم نحو الأسوأ، فإن ذلك لا يغير من جوهر الفكرة التي تقف وراء عملية الانتخابات من قِبل التحالف الأميركي - الإسرائيلي. هذه الانتخابات ليست ممارسة لحق تقرير المصير.
الأميركيون والإسرائيليون ما زالوا متمسكين برؤية معينة للحل النهائي مختلفة عما يظنه بعض المراهنين على تطوير الصيغة الراهنة، وهي لا تنطوي على الدولة الفلسطينية المستقلة. إن الأميركيين والإسرائيليين يعتبرون الدولة الفلسطينية المستقلة عنصر عدم استقرار وتهديداً لكلا الدولتين المجاورتين للأراضي الفلسطينية المحتلة، أي لإسرائيل والأردن. إن قيام دولة فلسطينية مستقلة يؤدي إلى مشكلات كبيرة يمكن أن تتطور إلى حد مزعج ومؤذ لكلا الدولتين. ولذلك، ما زال التفكير ينصب على صيغة قد تسمى في النهاية دولة، أو تُعطى بعض السمات الشكلية للدولة، لكنها ستكون على الأغلب صيغة مسيطراً عليها ومحشورة في المشروع الثلاثي الأردني - الإسرائيلي - الفلسطيني. والشعب الفلسطيني في مناطق الـ 1948، وهو زهاء المليون نسمة، سيكون أمامه بالضرورة، في حال قيام دولة فلسطينية مستقلة، تفكير في طرح حقوق وطنية له ليس فقط كجزء من شعب في دولة أُخرى خارج حدود الدولة الإسرائيلية التي يعيش فيها، وإنما أيضاً كجزء من شعب يقيم على أرض وطنه التاريخي. وهذه القضية مؤرقة طبعاً بالنسبة إلى الإسرائيليين، لأنها تعيد طرح قضية الدولة الثنائية القومية في حال تطور الطرح من المطالبة بالحقوق المدنية والمساواة إلى المطالبة بالحقوق الوطنية على قاعدة أن الشعب الفلسطيني في هذه المناطق جزء من الشعب الفلسطيني ككل؛ والمناطق التي يعيش فيها في مناطق له تاريخياً، وبالتالي، من حقه أن يطالب، على سبيل المثال، بحكم ذاتي تحديداً في هذه المناطق. وهذه قضية يأخذها الإسرائيليون من الآن في حساباتهم.
وقضية الوحدة الوطنية تقتضي في المرحلة الراهنة، بصراحة، الاتفاق على برنامج حد أدنى مشترك. ليس هناك إمكان لأية وحدة وطنية، إلا إذا كان هناك اتفاق على برنامج موحد، يجمع بين جميع فئات الشعب باتجاه هدف واحد. هذا كان الوضع عندما كانت منظمة التحرير تناضل من أجل الأهداف المعروفة: حق تقرير المصير والاستقلال والعودة. أمّا الآن، فالوحدة الوطنية باتت هدفاً نضالياً، ووحدة ليست على قاعدة التوفيق بين مشروعين متناقضين، وإنما على قاعدة إعادة بناء وحدة الشعب على أساس الاستمرار في النضال لتحقيق الأهداف نفسها التي كانت تحملها منظمة التحرير، أي تقرير المصير والاستقلال والعودة، لأن هذه الأهداف ما زالت هي الأهداف التي يسعى الشعب الفلسطيني لها.
لا شك في أن سلطة الحكم الذاتي تسعى من داخل إطار مشروعها لتوسيع هامشها، وتسعى على الأقل للوصول إلى شيء أكثر مما هو مرسوم أو مفروض من قِبل الطرف الأقوى في هذه المعادلة. لكن وضح خلال العامين الأخيرين أنه كلما حاولت هذه السلطة أن تخرج من حدود الاتفاق واجهت ضربات حازمة وواضحة من قِبل الطرف الإسرائيلي، الذي يذكّرها بأنها ليست في وضع يمكنها من أن تفرض وجهة نظرها أو من أن تخرج عما هو متفق عليه.
أخيراً، إن كل ما نقوله بشأن اتفاق أوسلو وبشأن الوضع الراهن والمشروع الأميركي - الإسرائيلي، لا يمكن أن ينسينا الدور الفاعل للشعب الفلسطيني في هذه العملية كلها، وهو الدور الذي سيضع الكثير من الاستعصاءات أمام هذا المشروع وأمام هذه الرؤية الأميركية - الإسرائيلية، والذي سيؤمّن المراكمة بالنقاط للوصول إلى صيغ تعيد فتح الآفاق باتجاه الاستقلال الوطني، وحق تقرير المصير، وإبقاء قضية اللاجئين وصونها كقضية عادلة وتستحق أن تلقى الاستجابة الضرورية مع قاعدة حق العودة.
صابر محيي الدين: أنا أعتقد أنه يستحيل إيجاد مقاربة سياسية لإعادة صوغ الوحدة الوطنية الفلسطينية في ظل الاتفاقات المعقودة بين سلطة عرفات والكيان الصهيوني. فاتفاق "إعلان المبادئ"، وسلسلة الاتفاقات اللاحقة، عكسا حالة الانهيار السياسي التام في أوساط القيادة النافذة في منظمة التحرير الفلسطينية.
لقد تخلت هذه القيادة، بموجب الاتفاقات، عن برنامج حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، وقامت باستبداله ببرنامج الحكم الإداري الذاتي. وتواصل السعي في الأوضاع الراهنة لتنفيذ التزامها تجاه العدو بشطب ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية. ومن دون الخوض في التفصيلات، أشير إلى أن أية قراءة سريعة لبنود الاتفاقات، بأطرها واشتراطاتها، ستقود إلى إظهار عشرات النقاط التي تبين حجم المخاطر التي تنطوي عليها، وحجم الأضرار الجسيمة التي تلحقها بنضال شعبنا وقضيتنا الوطنية والقومية. ألا تعني هذه الحقائق والمعطيات الحسية الملموسة انسحاب القيادة المهيمنة في منظمة التحرير الفلسطينية من خندق العمل الوطني الفلسطيني، وانتقالها فعلاً إلى مواقع جديدة تساهم من خلالها بتصفية القضية الوطنية الفلسطينية، بصرف النظر عن النيات الطيبة والاجتهادات التي يحشدها البعض لتبرير الاتفاقات وملاحقها؟
إن فصائل وقوى المعارضة الوطنية الفلسطينية لا تستطيع تجاهل هذه الوقائع، ولا تجاوز هذه المعطيات التي تشير جميعها إلى مدى تناقضها مع مصالح الشعب الفلسطيني الآنية والمستقبلية. إن الصعوبات والتعقيدات والأوضاع الموضوعية والاستثنائية التي يعيشها الشعب الفلسطيني لا تبرر لليمين الفلسطيني المنحرف القبول بالاتفاق المذل، والتخلي عن الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، كما أنها لا تبرر للقوى الديمقراطية والوطنية القبول بالأمر الواقع والإقبال على العمل من أجل إعادة صوغ الوحدة الوطنية الفلسطينية في ظل تخلي القيادة النافذة عن برنامج الإجماع الوطني، وفي ظل غياب الأساس السياسي الوطني الواضح والمحدد.
ولدي عدة نقاط أو ملاحظات إضافية:
- إن غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية بين أصحاب اتفاق أوسلو ومعارضيه لا يعني السماح للتناقضات والخلافات الفلسطينية - الفلسطينية ببلوغ مستوى الاقتتال، بل يجب أن تحرص جميع القوى دائماً على تجنب تحقيق أهداف العدو الصهيوني.
- إن غياب الوحدة الوطنية في المستوى السياسي لا يعني في أية حال تغييبها في المستويات الأُخرى على صعيد البناء المجتمعي... إلخ. وحيثما يمكن خوض النضال المشترك ضد المحتلين وسياساتهم، كم حدث في المعارك التي خيضت من أجل عروبة القدس ودفاعاً عن الأرض التي حاولت إسرائيل مصادرتها، ومن أجل تحرير المعتقلين والأسرى... إلخ.
- إن فرضية وجود قوى سياسية فلسطينية تؤمن بإمكان العمل من أجل بناء كيان سياسي فلسطيني من جهة، والاستمرار في الوقت ذاته في النضال لتحقيق المشروع الوطني التحرري من جهة أُخرى، لا سند لها في الواقع وغير ممكنة. فبينما ترى القيادة الفلسطينية المنحرفة أن مرحلة التحرر الوطني الفلسطيني انتهت، ترى القوى الوطنية والديمقراطية والإسلامية الفلسطينية أننا لا نزال نعيش مرحلة التحرر الوطني الفلسطيني على الرغم من المتغيرات والوقائع الجديدة على الأرض.
وفي الملموس نجد أن القيادة النافذة والمهيمنة في منظمة التحرير الفلسطينية تسعى وتعمل في الأوضاع الراهنة لبناء كيان سياسي فلسطيني بالانطلاق من اتفاقاتها المبرمة مع العدو الصهيوني فحسب، وتتصدى لأي فصيل يدعو ويعمل لمواصلة الكفاح ضد المحتلين الإسرائيليين وسوائب المستوطنين.
أمّا المعارضة الوطنية الفلسطينية بأحزابها وفصائلها وقواها الوطنية والديمقراطية والإسلامية، فإنها تقوم بمهمات مزدوجة؛ فهي تواصل النضال من أجل حرية الوطن واستقلاله، وتواصل في الوقت ذاته النضال ضد الاتفاقات المعقودة مع العدو، ومن أجل المساهمة في بناء المجتمع الديمقراطي الفلسطيني.
ذكر عدد من الزملاء أنه بصرف النظر عن رأينا، لا يجوز لنا أن نتحدث عن إسقاط الكيان الوليد. أنا أزعم أنه لا أحد في الساحة الفلسطينية، لا في صفوف المعارضة ولا في صفوف المثقفين، فرداً كان أو جماعة سياسية، يتحدث عن إسقاط هذا الكيان. إن خطاب المعارضة الرئيسي يتركز على إفشال وتعطيل اتفاقات أوسلو - القاهرة بالاتجاه الذي يمكّن من إيجاد أوضاع جديدة تمكّن مجموع القوى والشعب الفلسطيني من توفير المناخات التي تضغط على إسرائيل باتجاه تطبيق قرارات الشرعية الدولية.
وبشأن قضية مواجهة المعارضة الحاضر والمستقبل بأدوات قديمة، والحديث عن الكفاح المسلح باعتباره أصبح شكلاً قديماً لم تعد الأوضاع الراهنة مؤاتية له، أعتقد أن جميع قوى الثورة الفلسطينية، أكانت مع أوسلو أم ضد أوسلو، ترى أن مركز ثقل النضال الوطني الفلسطيني، وحتى مركز القرار الوطني الفلسطيني، أصبحا في الداخل، والذي لم ينقل قراره إلى الداخل يستعد لنقل هذا القرار إلى الداخل. وأوضاع ممارسة الكفاح المسلح كشكل من أشكال النضال ضد المحتلين الإسرائيليين أيسر في الداخل منها في الخارج. وأعتقد أنه لم يعد هناك من يعول كثيراً على القيام بعمليات ذات وزن أو ذات تأثير أو ذات شأن، انطلاقاً من الخارج. ورؤية أطراف الثورة الفلسطينية، كما أعتقد، تغيرت إزاء هذه المسائل.
وهناك نقطة أُخرى تتعلق بسلوك المعارضة الوطنية الفلسطينية أود توضيحها. فالمعارضة لا تخشى المشاركة في "دنس السلطة"، كما قيل. فلا أحد يمانع في المشاركة في المؤسسات دون رتبة وزير، ولا في أن يتخذ أي كان موقعه في مؤسسات سلطة الحكم الذاتي، لأن هذا الأمر كان قائماً قبل سلطة الحكم الإداري الذاتي. إن القوى الوطنية الفلسطينية كانت قبل اتفاق أوسلو تشارك في البلديات والنقابات والمؤسسات النقابية والمهنية وفي المؤسسات التربوية والتعليمية والصحية... إلخ.
ماجد كيالي: إن العملية الوطنية الفلسطينية عملية معقدة وتختلف تماماً عن غيرها. فنحن لا نواجه احتلالاً عادياً، ولا استعماراً استيطانياً عادياً (فرنسا في الجزائر، حكم الأبارتيد في جنوب إفريقيا)؛ المشروع الصهيوني يهدف إلى تغييب الشعب الفلسطيني وتشريده وتصفية قضيته. يجب توضيح قضية مهمة وهي أن العملية الوطنية الفلسطينية ليست موجهة فقط باتجاه واحد، أي ضد العدو الصهيوني. فبسبب خصوصيتها، فإن لهذه العملية وجهين مترابطين متكاملين: الوجه البنائي، ويتضمن مواجهة محاولات التغييب، وتعزيز حضور الشعب الفلسطيني، وحتى يكون هذا الشعب حاضراً يجب أن يكون موحداً. لا عمل وطنياً فلسطينياً بلا وجود شعب فلسطيني موحد عبر مؤسسات ورموز. والمقصود بالوحدة الوطنية، لا وحدة الأطر السياسية فقط، فهذه المنظمات يمكن أن تتوحد ويبقى الشعب منقسماً بحكم التمايزات والتفاوتات في الأوضاع والمصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين مختلف تجمعاته، إنما الوحدة الوطنية تفترض وحدة الشعب، وحدة أطره الشعبية، ووحدة رموزه ومؤسساته. وم.ت.ف. عبّرت في المرحلة الماضية عن وحدة هذا الشعب وهويته وكيانه السياسي، فهل استنفدت المنظمة أغراضها؟ سؤال مطروح، ويتطلب جواباً مقنعاً. وفي أساسه السؤال: كيف نحافظ على وحدة الشعب الفلسطيني، لأن العملية البنائية (بناء المؤسسات والمرتكزات الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والثقافية والصحية... إلخ)، ومن ضمنها ما يجري في الأرض المحتلة، جزء من العملية الوطنية الفلسطينية. أمّا الوجه الآخر للعملية الوطنية فهو الجانب الصراعي ضد مختلف تجليات المشروع الصهيوني (وهذه مسألة معروفة). نحن اليوم أمام واقع جديد؛ المسألة ليست فقط تحليل الواقع، وإنما العمل أيضاً على تغييره وتطويره.
رافع الساعدي: لديّ بعض الملاحظات وبعض التساؤلات في ضوء ما ورد:
سؤال أول: هل حققت هذه الندوة أهدافها؟
هناك مقولة فلسفية معروفة تؤكد: "ليس المهم تفسير العالم بل المهم تغيير العالم."
نحن هنا نقوم بتفسير الأحداث... تفسير الواقع... أعتقد أن المطلوب هو تغيير الواقع.
قليلة هي المداخلات التي تحدثت عن المستقبل... عن البدائل المطلوبة في الورقة أصلاً... عن الحلول... عن الخطط الاستراتيجية، إضافة إلى أني أعتقد أن العناوين الكبيرة المطروحة لا يمكن تغطيتها بندوة تدوم يوماً واحداً... أرى أن كل عنوان فيها بحاجة إلى ندوة خاصة.
إني أدعو إلى التدقيق في المصطلحات التي ترمي إلى المزيد من تمزيق الشعب... وأضيف أن موقف التجمع الفلسطيني في سورية هو المقياس لموقف جماهير شعبنا في الشتات بصورة صادقة.
أيضاً... هل حقاً أن المشروع الصهيوني توقف؟ إن الشعار الصهيوني السابق يقول "حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل" ربما استبدل بشعار "من المحيط إلى الخليج"، من موريتانيا إلى عُمان.
شخصياً، أرى أن ما يسمى "المسيرة السلمية" سيحقق المطامع الصهيونية في المنطقة العربية عبر الاجتياح الاقتصادي الصهيوني المخيف.
لقد جرى حديث عن الجماهير، وابتعاد الجماهير، وموقف الجماهير. أعتقد أننا نظلم الجماهير عندما نتحدث نيابة عنها، وهي التي قدمت قوافل من الشهداء.
ماذا نسمي اندفاعة الجماهير لتشييع جثمان الشهيد المجاهد فتحي الشقاقي، ومن قبل خليل الوزير، أو شهداء مخيمات حلب واللاذقية قبل أيام. ماذا نسمي انتفاضة نابلس وعملية الفهد الأسود الأخيرة؟
إن ما نشاهده هو استفتاء جماهيري واسع يؤكد إرادة الشعب وإرادة الجماهير في الصمود والمقاومة.
إذن، أين تكمن الأزمة؟
جرى الحديث عن فرحة الجماهير في الداخل جراء إعادة انتشار الجيش الصهيوني. نعم هناك فرحة، لكنها فرحة تشبه فرحة الحَمْل الكاذب لمن ليس لديه مولود، وهذه هي حال الشعب الفلسطيني، ثم تأتي الصدمة أضعاف تلك الفرحة عندما تتكشف الحقائق.
أحمد خليفة: أود التعليق على بضع نقاط وردت في النقاش الذي دار حول المحورين الأول والثاني.[1]
- ذكر الأخ أحمد برقاوي أنه من الممكن أن تكون هناك أهداف ومهمات مختلفة للتجمعات الفلسطينية المختلفة: في الشتات، في الضفة والقطاع، وفي إسرائيل. في الحقيقة، إن الحل الجاري، كما هو مخطط له، هو حل للقضية الفلسطينية برمتها، ولن تقبل إسرائيل بأن يكون حلا للضفة والقطاع فقط. وأعتقد أننا نحن أيضاً ينبغي ألاّ نقبل بحل ناقص يتوجه إلى حل مشكلة جزء فقط من الشعب الفلسطيني، لأن ذلك ينطوي على مخاطر كثيرة تهدد وحدة الشعب والقضية. كما يجب أن نعتبر أن الكيان الفلسطيني الجاري تشكله هو هم أساسي للجميع، والشعب الفلسطيني بأكمله هم أساسي للكيان، وأن نصرَّ على تكامل أهداف وعملية التحرر الوطني الفلسطينية. هذا مع ضرورة أخذ خصوصية وحساسية وضع فلسطينيي 1948 في الاعتبار.
- بالنسبة إلى موضوع الوحدة الوطنية الفلسطينية، يبدو أن الأمر بحاجة إلى مزيد من النقاش. سأبدأ من عند الأخ صابر، الذي قال إن الوحدة الوطنية في هذه المرحلة مستحيلة لأن السلطة الفلسطينية تفترض أن مرحلة التحرر الوطني انتهت وبدأت مرحلة البناء. هذا الافتراض غير موجود لدى أحد، والسلطة ومؤيدوها لا يعتبرون أن مرحلة التحرر الوطني انتهت. فالقضايا الأساسية لم يبحث فيها ولم يتفق عليها حتى الآن، ولا تزال السلطة تقول إن أمام الشعب الفلسطيني معركة صعبة مع إسرائيل من أجل تحقيق أهدافه الأساسية. هناك بالتأكيد خلاف بشأن الأهداف، وهناك ألف مأخذ ومأخذ على السلطة وعلى الطريقة التي تدير بها المفاوضات، وقد يتضح أن تحقيق الوحدة الوطنية أمر مستحيل، لكن يجب أن نكون دقيقين في وصفنا للواقع حتى لا نغلق إمكانات تقارب بناء على تصورات ليست دقيقة تماماً. وقال الأخ داود إن مشروع الحكم الذاتي يجلس على كرسيين ولا يستطيع أن يستوي على أي منهما، بمعنى أن هناك محاولة للدخول في مرحلة بناء الكيان، ومحاولة أُخرى في الوقت نفسه لدفع الأمور باتجاه إنجاز المشروع الوطني التحرري، وهذا يوضح الطبيعة المتناقضة للسلطة الفلسطينية. إذا كان القصد من هذه الصورة البلاغية القول إنه لا يمكن الجمع بين عملية بناء الكيان وعملية التحرر الوطني، فإنني أود القول إن الجمع ممكن، وإنه ينبغي ألاّ نقيم تعارضاً بين مرحلة التحرر ومرحلة البناء. ففي المحصلة، معركتنا مستمرة، والأرض التي أخذناها لم تقدم هدية لنا، بل كانت هناك عوامل - ليس هنا مجال الدخول فيها - أرغمت الإسرائيليين على الانسحاب منها، وعلى هذه الأرض يمكننا أن نحاول بناء الكيان، وأن نحاول تقويته، وأن نحاول الاستفادة منه في استكمال التحرر. وهنا لا بأس في أن نتعلم درساً من عدونا. فالحركة الصهيونية شهدت في العقود الأولى لنشوئها خلافاً بين الحركة العمالية الصهيونية، التي دعت إلى خوض معركة الاستيطان والبناء ومعركة الاستيلاء على فلسطين في آن واحد، وبين الحركة التصحيحية، التي دعت إلى تأخير هدف البناء وتقديم هدف الحصول على دولة. وكان من أسباب نجاح الحركة الصهيونية في إقامة إسرائيل وهزيمة الفلسطينيين والجيوش العربية سنة 1948 قوة "مجتمع" المستوطنين الذي بنته الحركة العمالية الصهيونية في فلسطين.
- بالنسبة إلى الانتخابات الفلسطينية، أود أن أشير إلى أن المجلس الذي سينتخَب ليس هو ما أرادته إسرائيل في تصورها الأصلي له، كما أنه ليس المجلس الذي نريده ونتمناه. والمآخذ عليه لا تقل خطورة عن المآخذ المسجلة على الكيان وعلى الاتفاقات المعقودة حتى الآن إجمالاً. وسواء صحت الدعوة إلى المشاركة في الانتخابات أو إلى مقاطعتها، فإنه يجب عدم التعامل مع الأعضاء المنتخَبين في المجلس على أساس أنهم أدوات في يد سلطة أو مشروع تصفوي للقضية الفلسطينية، بل السعي لمحاولة تجنيدهم في خدمة بناء مجتمع ديمقراطي، وفي تصحيح أداء السلطة الفلسطينية في مجال البناء ومفاوضات الحل النهائي.
- وأخيراً، بالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، أعتقد أن الحديث عن بدائل منها سابق جداً لأوانه، وغير واقعي، وينبغي أن يكون إصلاح أوضاعها في أعلى سلم اهتمامات الشعب الفلسطيني بقطاعاته وفصائله كافة.
* عُقدت الندوة في دمشق بتاريخ 11 كانون الأول/ديسمبر 1995.
[1] المداخلة هي محصلة دمج مداخلتين في نهايتي المحورين الأول والثاني. وقد اختصرت النقاط وأُعيد صوغها من قِبل المشارك نفسه في التحرير النهائي للندوة.