آفاق الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية بعد اتفاق طابا واغتيال رابين
كلمات مفتاحية: 
الضفة الغربية
اتفاق طابا 1995
يتسحاق رابين
الاغتيال
الأمن الفلسطيني
الانتخابات الفلسطينية
الاقتصاد الفلسطيني
نبذة مختصرة: 

يشتمل المقال على العناوين الفرعية التالية: آفاق اتفاق طابا بعد اغتيال رابين؛ الآفاق السياسية بعد اتفاق طابا؛ آفاق ونتائج إجراء الانتخابات الفلسطينية؛ آفاق الوضع الأمني في الضفة بعد اتفاق طابا؛ آفاق الوضع الاقتصادي بعد اتفاق طابا

النص الكامل: 

آفاق اتفاق طابا بعد اغتيال رابين

بعد مماطلة استمرت 14 شهراً، أفرج الجانب الإسرائيلي عن الشق الثاني من اتفاق أوسلو. وتوصل الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي إلى اتفاق في طابا تم توقيعه في البيت الأبيض الأميركي يوم 28 أيلول/سبتمبر الماضي. وأثار هذا الاتفاق منذ توقيعه ردات فعل دولية وعربية وفلسطينية وإسرائيلية متباينة. وعلى الرغم من قِصر الفترة الزمنية التي مرت على التوقيع، فإن تفاعلاته كانت قوية وعنيفة، وفاقت التوقعات كافة، وخصوصاً داخل إسرائيل. وعلى الصعيد الدولي، نال الاتفاق من التأييد ما لم ينله أي اتفاق عربي - إسرائيلي أو فلسطيني - إسرائيلي آخر، بما في ذلك اتفاق كامب ديفيد المصري - الإسرائيلي، أول الاتفاقات العربية - الإسرائيلية. أمّا على الصعيد العربي والفلسطيني والإسرائيلي، فقد أضاف الاتفاق قضايا خلافية جديدة إلى القضايا القديمة التي كان مختلفاً بشأنها، وظهر في صفوف جميع الأطراف المعنية مباشرة بالصراع قوى فاعلة تعارضه بشدة، وتتمنى له الوفاة اليوم قبل الغد، وتعمل جاهدة على تعطيل تنفيذه. فأحزاب المعارضة الفلسطينية والعربية رفضته وأدانت توقيعه، وبعضها اعتبره كارثة وطنية، والبعض الآخر اتهم السلطة الفلسطينية بالتفريط والاستسلام.

أمّا في إسرائيل، فقد تداعت أحزاب اليمين وممثلو المستوطنات إلى اجتماع، واعتبروا يوم توقيع الاتفاق يوماً أسود في تاريخ إسرائيل وتاريخ كل يهود العالم، وأقسموا أنهم سيستخدمون كل وسيلة من أجل تعطيل تنفيذه، حفاظاً على "أرض إسرائيل" التاريخية وعلى حق اليهود في استيطان "يهودا والسامرة"، متجاوزين الأعراف والتقاليد الديمقراطية الإسرائيلية، وخارقين القوانين الرسمية. وفي حينها تساهل رابين حيالهم، وعاقب الفلسطينيين بدلاً من معاقبتهم هم في بعض الأحيان، على غرار ما جرى عند وقوع مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، الأمر الذي شجعهم على التمادي في مواقفهم وفي خرق القوانين. وقد اتهموا رابين وبيرس بالخيانة الوطنية، وتوّجوا تحركاتهم الاحتجاجية باغتيال رابين في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1995. ويفترض ألاّ يكون في صفوف الفلسطينيين والإسرائيليين، المؤيدين أو المعارضين لعملية السلام، خلاف على أن اتفاق طابا عمّق الصراع داخل المجتمع الإسرائيلي، وكان بمثابة القشّات القليلة التي قصمت ظهر الجمل، وعجَّلت إنهاء حياة رابين. فالقاتل أعلن صراحة أنه أقدم على اغتيال رابين بأمر من الله، لأن رابين فرّط بأرض الميعاد وأراد التضحية بالمستوطنين وبالمستوطَنات.

وتخطئ كل القوى الدولية والإقليمية الساعية لصنع السلام في المنطقة إذا اعتقدت أن قتل رابين هو أول وآخر عملية اغتيال تُرتكب بحق عملية السلام وبحق أركانها. فالذين خططوا لقتل رابين لن يترددوا لاحقاً في تكرار جريمتهم ضد آخرين، ولا سيما ضد بعض القادة الفلسطينيين، وخصوصاً إذا تم التهاون معهم، كما سبق أن تهاون رابين وقادة حزب العمل مع المستوطنين والقوى المتطرفة. وهناك في الجانب الفلسطيني والعربي من يفكر باللجوء إلى الأساليب ذاتها.

ويخطئ أيضاً كل من يبسّط ويستصغر النتائج والانعكاسات السلبية لعملية اغتيال رابين؛ فالمتطرفون الإسرائيليون، أعداء السلام والتعايش مع العرب، نجحوا في توجيه ضربة استراتيجية إلى عملية السلام قد لا تظهر نتائجها خلال الشهور القليلة المقبلة. وإذا كان من المتعذر الآن تقدير جميع آثار اغتيال رابين في عملية السلام ومستقبلها، فالمرجَّح ما يلي:

1) إن معركة تنفيذ اتفاق طابا كانت قبل مقتل رابين صعبة ومعقدة، داخل إسرائيل وفي العلاقة مع الفلسطينيين. وكان واضحاً للجميع أنها لن تسير في خط مستقيم. وأظن أن لا خلاف في أنها ستكون بعد مماته أصعب وأعقد كثيراً. فليس سرّاً أن وزير الداخلية الحالي إيهود بَرَاك، المرشح لخلافة رابين في وزارة الدفاع، كان متحفظاً من هذا الاتفاق، وكأن هناك أيضاً جنرالات عاملون في الجيش متحفظون إزاء كيفية إعادة انتشار قوات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية. وليس سراً كذلك أن هناك وزراء وشخصيات قيادية في حزب العمل لهم تحفظات واضحة حيال الاتفاقات التي تم توقيعها مع الفلسطينيين، ولا سيما اتفاق طابا. ولئن كان دور رابين الشخصي قادراً على تجميد أو تخفيف دور المعارضة داخل حزب العمل وبين ممثليه داخل الكنيست، فليس من المنتظر أن يتمكن بيرس من احتواء الخلافات السياسية داخل حزبه إلا عن طريق المساومات بشأن تنفيذ السياسة الإسرائيلية الحالية، والبحث عن قواسم مشتركة بين مختلف أجنحة الحزب، الأمر الذي سيؤثر سلباً في تنفيذ اتفاق طابا، ولا يبشر بخير عند بدء محادثات المرحلة النهائية بشأن الحل الدائم والمقدَّر لها أن تبدأ في الرابع من أيار/مايو المقبل. ولا نمس بطاقات بيرس إذا قلنا إنه لا يملك الثقل السياسي والمعنوي الذي كان يتمتع رابين به، وخصوصاً داخل المؤسسة العسكرية. فلقد نُقل عن المفاوضين الفلسطينيين الذين شاركوا في مفاوضات طابا قصص كثيرة ومتنوعة عما اتخذه بعض الجنرالات من مواقف سلبية تجاه الاتفاق، وعن تعاملهم مع بيرس بصورة فجة وجلفة، وقيامهم بتوجيه كثير من الإهانات الشخصية إليه أمام الجميع. ولذا، فمن غير المستبعد أن يستغل الجناح المتشدد داخل الحزب وداخل المؤسسة العسكرية، بقيادة بَرَاك، اتفاق طابا كي يفتعلوا الأزمات مع بيرس ليعطلوا تنفيذ ما يمكن تعطيله من بنود الاتفاق.

2) أعتقد أن الشق الأول من اتفاق طابا، والمتعلق بالانسحاب من المدن والقرى الفلسطينية وبنقل السلطات المدنية، سيتم تنفيذه وفقاً للجدول الزمني الإسرائيلي. أمّا بشأن التوصل إلى اتفاقات مع الفلسطينيين تتعلق بالشق الثاني من الاتفاق ذاته، أي قضايا الانسحاب من المنطقة "ج" ومن مدينة الخليل، وإجراء الانتخابات الفلسطينية، وتولية المجلس المنتخب، وإلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني، فالمرجَّح أن تقع بشأنها خلافات تعطل تنفيذ بعضها، وتعقِّد العلاقات بين الطرفين، ولا سيما أن تنفيذ هذه القضايا سيتداخل مع فترة الانتخابات الإسرائيلية، سواء تم تبكيرها أو إجراؤها في موعدها. وخلال فترة الانتخابات سيضطر بيرس وكل أركان الاتجاه المعتدل في قيادة حزب العمل إلى مراعاة الاتجاه المتشدد بصيغة أو بأُخرى، ومجاراة المتشددين في الشارع الإسرائيلي لكسب مزيد من الأصوات في الانتخابات.

 3) أمّا فيما عنى إمكان التوصل إلى اتفاق بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بشأن قضايا الحل النهائي (القدس، اللاجئون، عودة النازحين، الاستيطان، الحدود، الترتيبات الأمنية النهائية، السيطرة على المياه، الخليل)، فالواضح أنها أصبحت الآن أصعب وأعقد بما لا يقاس مما كان يمكن أن تكون عليه لو أن رابين بقي في قيد الحياة. فبغياب رابين، فقدت إسرائيل الرجل القوي القادر على اتخاذ القرارات الكبيرة والصعبة، وتأمين الدعم الشعبي والبرلماني لقراراته، وفقد حزب العمل القائد المُجمَع حوله والمسلَّم بدوره الريادي. وإذا كانت المصيبة التي ألمّت بحزب العمل تفرض على اتجاهاته كلها خلال الشهور المقبلة التوحد خلف قائد جديد وحول قضايا وافق رابين عليها، فلن يكون سهلاً على بيرس، خليفة رابين، الحفاظ على وحدة حزب العمل عندما تحين ساعة تقديم الاستحقاقات الكبرى المذكورة أعلاه، والتي لم يكن متفقاً بشأنها في عهد رابين. ولعل من المفيد القول إن الفكر الذي كان خلف قتل رابين بسبب اتفاق طابا المتعلق بالانسحاب الجزئي من الضفة الغربية سيعمل بالسبل كلها على اغتيال كل من يفكر في إنهاء الوجود الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة، فضلاً عن التفكير في عودة النازحين وفي معالجة بعض حقوق اللاجئين الفلسطينيين.

الآفاق السياسية بعد اتفاق طابا

قبل دخول البحث في آفاق اتفاق طابا ونتائجه السياسية والاقتصادية والأمنية على وضع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، لا بد من تأكيد أن التقويم الموضوعي لآفاق الاتفاق يفرض على جميع الأطراف الفلسطينية التعامل معه بواقعية. فالمعارضون مطالبون بالإقرار بوجوده كما هو تماماً، والتعامل معه باعتبار أنه صار حقيقة من حقائق العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية، مع حقهم في الاستمرار في وصفه بأنه سيئ ونعته بأبشع النعوت وأقبح الأوصاف إن شاؤوا. فلا مصلحة لأي طرف فلسطيني في تجميله وإخفاء عيوبه ونواقصه وأخطاره على الأرض الفلسطينية وعلى حياة الناس في الضفة والقطاع. فأشد المتحمسين له يعرفون أنه خطوة إضافية على طريق طويلة ومعقدة جداً، وأنه اتفاق جزئي في إطار اتفاق مرحلي، ولا يستطيعون إنكار أنه دون الطموحات الفلسطينية، وأنه جزّأ ومَرْحل الحقوق الفلسطينية التي نص اتفاق أوسلو عليها (فضلاً عن باقي الحقوق الوطنية) وأحيل بعضها على المفاوضات اللاحقة، ولا سيما منها ما يتعلق بكل من الانسحاب، والسيادة على الأرض والمياه، وإطلاق المعتقلين، والممر الآمن بين الضفة والقطاع، وأن النيات الإسرائيلية السيئة التي أظهرتها التجربة السابقة، وأكدتها صيغ نصوص الاتفاق، وما تلا ذلك من تلاعب ومماطلات في تنفيذ الاتفاق من توقيعه، ستحوِّل مدن الضفة الغربية إلى جزر معزول بعضها عن بعضها الآخر، وستعقد العلاقة اليومية التجارية والاجتماعية بينها وبين التجمعات السكانية في الأرياف، وستقود إلى الفصل بين الضفة وقطاع غزة اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. وليس عسيراً على كل من يريد البحث عن الثغرات والسلبيات في اتفاق طابا أن يضيف الكثير إلى ما ذُكر أعلاه.

وفي المقابل، فإن ألد أعداء الاتفاق لا يستطيع رميه بتهمة أنه أغلق أمام الشعب الفلسطيني طريق متابعة الصراع من أجل تحقيق حقوقه الوطنية الكثيرة المغتصبة. لقد وافق الفلسطينيون منذ بداية عملية السلام على مَرْحَلةِ أهدافهم المرحلية التي حددوها لأنفسهم في قرارات المجلس الوطني الفلسطيني، وقبلوا تأجيل البحث في القضايا الرئيسية (اللاجئون، القدس) إلى مفاوضات الحل النهائي، التي يُفترض أن تبدأ في أيار/مايو المقبل. ووافقوا في اتفاق أوسلو على إضافة موضوع الاستيطان والسيادة على الأرض إلى القضايا المؤجلة. والاتفاق الجديد (طابا) راكم قضايا جديدة فوق تلك القضايا المؤجلة. فما لم يستطع المفاوض الفلسطيني انتزاعه أجّله مكرهاً، وأحاله على المفاوضات اللاحقة. ويجب الاعتراف بأن في هذا التأجيل خضوعاً للابتزاز الإسرائيلي وهضماً للحقوق، وبأنه يحمل في طياته أخطار تبديد بعض هذه الحقوق، وفي المقابل، وإنصافاً للحقيقة، يجب الاعتراف بأن تأجيل البحث في هذه القضايا لا يعني من الناحية النظرية ضياعها. فإذا كان للجانب الإسرائيلي تفسيره الخاص لكل القضايا الأساسية المؤجلة، فللفلسطينيين تفسيرهم أيضاً. ولصنع السلام الحقيقي القابل للحياة استحقاقاته، ومن دون دفعها بصورة مسبقة أو متأخرة تتحول العملية الجارية إلى نوع من الهدنة أو التسوية الموقتة أو ما يشبه ذلك.

وأظن أن القيادة الإسرائيلية، وراعيي المفاوضات، والقوى الدولية كلها الطامحة إلى صنع السلام وإشاعة استقرار دائم في منطقة الشرق الأوسط تدرك أن الوصول إلى هذا الهدف يتطلب لا إعطاء الجانب الفلسطيني حقوقه التي عجز عن أخذها في اتفاق طابا فحسب، بل أيضاً انسحاب القوات الإسرائيلية انسحاباً كاملاً ونهائياً من جميع الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتُلت سنة 1967، وإعطاء الشعب الفلسطيني كامل حقوقه الوطنية المشروعة، وفي مقدمها حقه في تقرير مصيره، وحل مشكلة اللاجئين، والاعتذار له عن الظلم التاريخي الذي لحق به على مدى ما يقارب نصف قرن من الزمن. فعدم حل مشكلة اللاجئين، مثلاً، على مدى 45 عاماً لم يُفقد اللاجئين حقوقهم، بل أبقاها معلقة، وأوجد حالة من عدم الاستقرار في المنطقة كلها، وفجّر بين العرب والإسرائيليين خمس حروب كبيرة. وأعتقد أن تقطيع أوصال الضفة الغربية وتحويلها إلى "بنتوستانات"، وفصل غزة عن الضفة الغربية، وعدم إطلاق جميع المعتقلين والمعتقلات، والإبقاء على المستوطنين في قلب مدينة الخليل، كل ذلك يبقي حالة التوتر بين الشعبين قائمة، ويحول الاتفاق إلى صيغة من صيغ الترتيبات الموقتة.

وفي سياق البحث في آفاق اتفاق طابا، لا بد من تأكيد أن رصد آفاق هذا الاتفاق وجميع نتائجه البعيدة على الوضعين الفلسطيني والإسرائيلي عملية ليست هينة، وخصوصاً بعد مقتل رابين، ولا سيما أنه مدار صراع ولم يمض عليه سوى أسابيع قليلة. أمّا نتائجه السياسية والأمنية والاقتصادية المباشرة على الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية وعلى إجراء الانتخابات ودوره في تقريب الفلسطينيين من أهدافهم، فالمرجَّح أن تكون على النحو التالي:

  أولاً: لا يستطيع أشد المعارضين لاتفاق طابا تجاهل أن الاتفاق هز الفكر الصهيوني المتطرف الذي يتعامل مع أراضي الضفة الغربية باعتبارها أرض الميعاد ويسميها يهودا والسامرة، ودَفَعه باتجاه التحول إلى نوع من الأحلام، وجعل مصير المستوطنين والمستوطَنات قضية صراعية بين الأحزاب اليمينية والائتلاف الحاكم، وأنهى بعض الأفكار التي كان بعض الأحزاب اليمينية الإسرائيلية المتطرفة ينادي بها، من نوع ترحيل الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، وتحويل الأردن إلى وطن بديل للفلسطينيين. كما أنه أنهى فكرة الخيار الأردني لحل القضية الفلسطينية على نحو ما كانت تتبناها سابقاً أوساط واسعة في حزب الليكود وحزب العمل وفي الإدارة الأميركية وبعض دول أوروبا الغربية. وتعرف القيادات الإسرائيلية - يمينها ويسارها - أن تنفيذ اتفاق طابا وتفاعلاته اللاحقة يفرضن على إسرائيل آجلاً أو عاجلاً رسم حدودها الدولية مع جيرانها، بما في ذلك الكيان الفلسطيني المجاور لها، وأن تنفيذ هذا الاتفاق سيفرض أمراً واقعاً يقود مع الزمن، إلى التخلي عن فكرة إسرائيل الكبرى، وانتهاء العقلية التوسعية التي تحكمت في السياسة الإسرائيلية منذ قيامها حتى الآن. ولعل هذا الإدراك هو الذي يفسر حالة الهستيريا التي يعيشها الآن المستوطنون وجميع الأحزاب اليمينية الإسرائيلية.

  ثانياً: سيكرس تنفيذ اتفاق طابا سقوط مقولة للبعض مفادها أن في المنطقة أربع دول (سورية، لبنان، الأردن، وإسرائيل) وخمسة شعوب، وأن الشعب الخامس (الفلسطيني) شعب زائد. وسيساهم في تكريس وجود كيان فلسطيني موحد يقوم على أجزاء من الأرض الفلسطينية، ويقيم سلطة فلسطينية تشمل سلطاتها جميع سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وتتمتع بكل مقومات السلطات الحاكمة، بما في ذلك مؤسساتها المدنية التنفيذية والقضائية والتشريعية المنتخبة والمعترف بها عربياً ودولياً (وإن كانت محدودة الصلاحيات)، ويكون لها شرطة مسلحة قوامها الآن 19 ألف رجل، سيصل عدد أفرادها إلى 30 ألفاً عند استكمال تنفيذ اتفاق طابا. وبغض النظر عن الملاحظات كافة التي يمكن تسجيلها بشأن مدى تماسك هذا الكيان، وبشأن دوري السلطة الراهن واللاحق، فالواضح منذ الآن أن هذا الكيان قابل للتحول إلى دولة مستقلة، وأن تنفيذ اتفاق طابا يزيد في هذه القابلية ويقويها، ويسرّع في تحول مؤسساته إلى مؤسسات دولة. والصراع بعد تنفيذ اتفاق طابا لن يدور حول وجود هذا الكيان، بل حول حدوده وحدود سيادته ودوره وعلاقاته بجيرانه. وسينتقل الاعتراف الدولي والعربي بالكيان الفلسطيني من حيزه النظري إلى صيغ سياسية عملية أكثر.

  ثالثاً: سينقل الاتفاق الجديد، في حال تنفيذه، الوضع الفلسطيني برمته إلى محطة جديدة، وسيحتدم الصراع الداخلي حوله، وسيضع الأطراف كافة أمام استحقاقات جديدة. وسيعرِّض السلطة الفلسطينية إلى اختبار حقيقي، وسيمتحن قدراتها على بناء مؤسسات المجتمع المدني وتشغيلها. وستظهر أكثر فأكثر الحاجة إلى الديمقراطية في الحياة السياسية الفلسطينية. وعلى الرغم من جميع النواقص والمخاطر التي يحملها الاتفاق في طياته، فإن زوال كابوس الاحتلال بالتدريج عن كاهل سكان مدن الضفة الغربية وبلداتها الكبرى سيمكّن السلطة الفلسطينية من تعزيز نفوذها وسلطتها في صفوف أبناء الضفة الغربية، وسيدفع في المرحلة الأولى بقطاعات واسعة من السكان، لأسباب متنوعة، نحو الانحياز إلى السلطة وإلى الحزب الحاكم، أي حركة "فتح"، وسيقود إلى تراجع ثقل المعارضة في الشارع الفلسطيني، بما في ذلك ثقل حركة "حماس"، وربما سيتسبب في زيادة التشرذم القائم في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، وأظن أنه سيزيد في الانقسامات في صفوف الفصائل والمنظمات الفلسطينية، ولا سيما تلك المعارضة لعملية السلام. وسيُحدِث داخل الضفة الغربية تناقضات بين مواقف جسمها التنظيمي، الذي سيحاول التعامل مع الواقع والوضع الجديد الناشئ، وبين قياداتها الموجودة في الخارج، والتي يتوقع لمعظمها أن تستمر في رفض الاعتراف بالحقائق الجديدة، وفي رفض تكييف مواقفها وممارساتها مع متطلبات الوضع الجديد.

  رابعاً: إن عبور القيادة الفلسطينية، ومعها الأغلبية الساحقة من كوادر م.ت.ف. المدنية والعسكرية، إلى باقي مناطق الضفة الغربية، وتولي السلطة الوطنية إدارة مجالات الحياة هناك، وتعامل العالم مع هذه السلطة باعتبارها القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني، إن ذلك كله يساعد في تبلور هيكل الكيان السياسي الفلسطيني على الأرض، ويكرس بصورة نهائية وحاسمة انتقال مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية ومركز القرار الفلسطيني من الخارج إلى الداخل، ويحررهما إلى حد كبير من التدخلات العربية الرسمية المتنوعة، وينهي مخاوف القيادة الفلسطينية من عودة الإسرائيليين إلى الخيار الأردني. وإذا كان الانتقال والتحرر ووجود الكيان السياسي تُعتبر موضوعياً إنجازات وطنية، فإن على المفكرين الفلسطينيين معالجة المعضلات الموضوعية التي سترافق ذلك، وأهمها: تقييد علاقة السلطة الفلسطينية مع إسرائيل بعدد من الاتفاقات، وتنامي التدخل الإسرائيلي في بناء أسس الكيان الفلسطيني وفي صوغ توجهاته والتأثير في اتجاهات تطوره، وتدخّل الدول المانحة، وخصوصاً أميركا، في صوغ القرار الفلسطيني، وضمور دور م.ت.ف.، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني كله، وتعرضها، كمؤسسة، للتأكل والاهتراء في وقت ما زال نصف الشعب الفلسطيني يعيش خارج وطنه. كما أن قضايا الأرض والمياه واللاجئين والنازحين والمستوطنات والقدس والحدود لا تزال بلا حلول.

  خامساً: سيحرر الاتفاق، في حال تنفيذه (بعد مضي 27 عاماً من الاحتلال)، 30% من أراضي الضفة الغربية التي احتُلت سنة 1967، ويفترض أن ترتفع النسبة لاحقاً إلى ما يفوق 80%. صحيح أن هذا الجزء صغير، وأن تحريره ليس كاملاً، لكن صحيح أيضاً أن تحرير جزء قليل أفضل للفلسطينيين من بقاء الكل تحت الاحتلال، وأن نصف التحرير أو ربعه أفضل من عدمه، وأن تراكم مثل هذه الخطوات الجزئية وغير الكاملة يوجد وقائع جديدة تقرب الفلسطينيين من تحرير كامل أراضي الضفة والقطاع، وأظنها كفيلة بمنع جيش الاحتلال من العودة إلى شوارع المدن والبلدات التي سيرحل منها. ولعل من المفيد تذكير جميع الذين يصرون على رؤية النصف الفارغ من الكأس فقط بألاّ ينسوا أن رفضهم لهذا الاتفاق، ودعوتهم إلى إسقاطه، يتضمنان من الناحية العملية بقاء هذا الجزء من الأرض الفلسطينية تحت السيطرة المطلقة للاحتلال.

  سادساً: مع تنفيذ الاتفاق، سيتحرر ما يقارب مليون ونصف مليون فلسطيني من أشكال الاضطهاد والإذلال والإرهاب التي مارسها الاحتلال ضدهم على مدى 27 عاماً. ومع استكمال التنفيذ، ستنتقل أوضاع سكان الضفة الغربية إلى حالة جديدة وحياة أفضل لا يمكن إطلاقاً مقارنتها بأوضاعهم في ظل الاحتلال. وأظن أن تحرير بضعة آلاف من المناضلين المعتقلين، وعودة بضعة آلاف أُخرى باسم الشرطة، خير من بقائهم في سجون الاحتلال أو خارج الوطن. ولا يجوز الإقلال من تأثير مثل هذه الخطوات الجزئية في حياة الناس في الضفة الغربية وفي علاقاتهم الإنسانية وأوضاعهم المعنوية، بما في ذلك متابعة النضال من أجل انتزاع باقي حقوقهم الوطنية المغتصبة.

في ضوء ما ذُكر أعلاه، يمكن استنتاج أن اتفاق طابا بنصوصه وتفاعلاته اللاحقة فلسطينياً وعربياً ودولياً، وبالعلاقة بالإسرائيليين، يحسّن جزئياً وضع الفلسطينيين فوق أرضهم، وأن تنفيذ الاتفاق يحسّن موقع قضيتهم في إطار المساعي الهادفة إلى تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي ونشر الاستقرار في المنطقة، ويقوي أوراق الفلسطينيين التفاوضية في المفاوضات اللاحقة، سواء تلك المتعلقة بتنفيذ الاتفاقات التي وقعوها مع الإسرائيليين حتى الآن، أو تلك المتعلقة بالمرحلة النهائية، ويعجل في انحسار الاحتلال وزواله عن الضفة الغربية وقطاع غزة أرضاً وسكاناً، وخصوصاً إذا أحسن السكان استثمار ما يعطيه الاتفاق لهم وأحسنوا إدارة الصراع في فترة تنفيذ الاتفاق، وبالتحديد في مرحلة ما بعد اغتيال رابين. ومن البديهي القول إن جميع هذه التحسينات في وضع الشعب الفلسطيني وقضيته قابلة للزيادة، كما أنها قابلة للمراوحة وحتى للنقصان. ولن تكون الزيادة أو المراوحة أو النقصان بعد تنفيذ اتفاق طابا مرهونة فقط بالعوامل الدولية والإقليمية الخارجية، وإنما سيصبح الأساس فيها إلى حد كبير مدى قدرة الفلسطينيين على النجاح في بناء كيانهم وتعزيز ثقة الشعب به، ومدى قدرتهم على تعزيز مكانته العربية والدولية. وتخطئ السلطة الفلسطينية والاتجاه الفلسطيني الواقعي إذا أشاعا (أو تصرفا) بعد العبور إلى جنين ونابلس وطولكرم وقلقيلية ورام الله والخليل أن السلام قد تحقق، وإذا تراخيا في ملاحقة الحقوق التي نص اتفاق أوسلو عليها ولم يستطيعا تثبيتها، أو أغمضا عيونهما عن متابعة تحصيل الحقوق التي انتزعاها في طابا. فإيجاد مثل هذه الأجواء سيؤدي إلى حالة إحباط في صفوف الشعب الفلسطيني، وسيقود إلى تعطيل وتأخير تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق الجديد، وإلى تبديد بعض الحقوق، وتأخير الدخول في مفاوضات جادة بشأن قضايا الحل النهائي.

آفاق ونتائج
إجراء الانتخابات الفلسطينية

يعطي اتفاق طابا أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة الحق في انتخاب مجلس السلطة الفلسطينية، وانتخاب رئيس السلطة التنفيذية بصورة حرة ومباشرة، ويوفر للعملية الانتخابية رقابة خارجية عربية ودولية.

ومنذ إعلان عزم السلطة الفلسطينية على إجراء الانتخابات وإعلان السلطة موعدها، ونشرها قانون الانتخابات، استقطب الموضوع اهتماماً واسعاً في أوساط الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، واستقطب أيضاً اهتمام أوساط دولية وعربية واسعة، وأصبحت الانتخابات بمثابة القضية المركزية الطاغية على الحياة السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولعل السبب الرئيسي للاهتمام العربي والدولي الواسع يعود إلى الترابط العميق بينها وبين عملية السلام. فمن خلالها سيتقرر الموقف الفلسطيني من موضوع المشاركة الفلسطينية فيها، بدءاً بمؤتمر مدريد وانتهاء بالاتفاقات الفلسطينية - الإسرائيلية التي تم التوصل إليها، وفي ضوء نتائجها سيتقرر الدور الفلسطيني في المفاوضات اللاحقة.

أمّا الاهتمام الشعبي الفلسطيني الواسع بالانتخابات، فأظن أنه لا ينطلق من كونها جزءاً من اتفاقي أوسلو وطابا، بل من كونها تعبيراً عن رغبة أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة في المشاركة المباشرة في بناء نظامهم السياسي، وفي إرسائه على أسس صحيحة، ولأنهم يرون فيها ضرباً من ضروب ممارسة حق تقرير المصير، وإحدى الوسائل الأساسية لتطبيق الديمقراطية في حياتهم، وبداية الطريق نحو تأسيس المجتمع المدني الجديد الذي يطمحون إلى بلوغه. ويرجَّح أن تكون المشاركة الشعبية في الانتخابات واسعة؛ فالأغلبية الساحقة من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة تواقة إلى ممارسة حقوقها الديمقراطية بعد أعوام طويلة من الاحتلال، ولأنها أول انتخابات تشريعية فلسطينية يشارك فيها الفلسطينيون في الضفة والقطاع بصورة موحدة، وبهدف انتخاب مجلس "تشريعي" فلسطيني واحد، ورئيس فلسطيني للسلطة التنفيذية (رئيس الوزراء). وأظنهم لن يدققوا كثيراً في قانون الانتخابات، ولن يستجيبوا لدعوات المقاطعة التي يُتوقع أن يدعو إليها بعض القوى الفلسطينية المعارضة لعملية السلام. فالمهم بالنسبة إلى الناس العاديين هو إجراؤها. وسيتركون مهمة التدقيق في القوانين والأنظمة الانتخابية للأوساط السياسية الرسمية والحزبية الفلسطينية ولمؤسسات المجتمع المدني. أمّا اهتمام فلسطينيي الخارج بالموضوع فيتضمن بعضاً من القلق على المصير الوطني والذاتي، ولا سيما أنهم يعرفون أن نتائجها ستؤثر في مصيرهم ومستقبلهم، وفي مصير م.ت.ف. التي يعتبرونها ممثلهم الشرعي والوحيد بينما هم محرومون من ممارسة هذا الحق الديمقراطي، وممنوعون من المشاركة فيها، ولا يجدون من يجيبهم عن تساؤلاتهم المشروعة بشأنها.

وبصرف النظر عن الملاحظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها بشأن قانون الانتخابات وبشأن التدخل الإسرائيلي في وضع أسسه، والصلاحيات الممنوحة للمجلس ولرئيس السلطة التنفيذية، فإني أعتقد أن النص المتعلق بالانتخابات في اتفاق طابا هو من أهم نصوص الاتفاق، وأن إجراءها ضرورة وطنية ومكسب فلسطيني كبير، سيكون له تأثيره في مجمل الوضع الفلسطيني، بما في ذلك الحياة السياسية والحزبية ومستقبل الكيان الفلسطيني، وفي المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية اللاحقة. ولذا، فإن ممارسة هذا الحق واجب على جميع القوى الفلسطينية وجميع أبناء الشعب الفلسطيني القادرين على الإدلاء بأصواتهم. فالانتخابات تفضي إلى إنشاء مؤسسات تشريعية وتنفيذية فلسطينية تستمد شرعيتها من المصدر الحقيقي للسلطات، وتنهي الطعن والتشكيك الفلسطينيين، والعربيين إلى حد ما، في شرعية تمثيل القيادة الفلسطينية الحالية للشعب الفلسطيني. وانتخاب قيادة للشعب الفلسطيني بصورة ديمقراطية خيرٌ ألف مرة، كما أتصور، من الاستمرار في اعتماد قيادة استمدت شرعيتها عبر النضال وعبر تقادم الزمن على وجودها ومواقعها القيادية. وأظن أن الاعتماد على التاريخ في تثبيت شرعية القيادة لم يعد مقبولاً ولا كافياً، وخصوصاً بعد التطورات الكبيرة كافة التي طرأت على القضية الوطنية وعلى بنى المجتمع الفلسطيني وم.ت.ف. وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية.

إن الانتخابات هي أيضاً الوسيلة الديمقراطية الوحيدة القادرة على تحديد موقف الشعب الفلسطيني من جميع القضايا السياسية والتنظيمية المختلف بشأنها في الساحة الفلسطينية، ومن الاتفاقات التي تم التوصل إليها، بما في ذلك اتفاق طابا. ووجود جسم قيادي فلسطيني يستمد شرعيته من جزء من الشعب الفلسطيني (مليونان ونصف مليون فلسطيني) يعطي القضية الفلسطينية والكيان الفلسطيني وسلطاته التشريعية والتنفيذية بعداً دولياً وعربياً جديدين، ويساهم بقوة في تسريع تطور هذا الكيان إلى دولة مستقلة، ويحفز الشعب الفلسطيني على متابعة النضال من أجل تحويل كيانه السياسي إلى دولة مستقلة وذات سيادة، ويفتح الآفاق أمام الدول العربية والأجنبية الصديقة للمساعدة في دعم هذا التحول، ويقوي مواقف السلطة الفلسطينية في المحافل العربية والدولية، ويعطي الاتفاقات التي تم توقيعها مع الآخرين صدقية كبيرة، ويفرض على القيادة الإسرائيلية وأحزابها السياسية نمطاً جديداً من العلاقة بالمؤسسات الفلسطينية، والتعامل باحترام أكبر مع السلطة الفلسطينية والمفاوضين الفلسطينيين والاتفاقات التي توقعها معهم.

وإذا دقّقنا في مواقف القوى السياسية الفلسطينية من الانتخابات نجدها متباينة، فهناك المتحمسون لها لأسباب وطنية وحزبية، وفي مقدم هؤلاء أبو عمار وعدد من قادة "فتح". وهم حريصون على أن تجرى بصورة حرة وديمقراطية ونزيهة، وواثقون بنتيجتها. وأعتقد أن فوز أبو عمار مرشحاً وحيداً لرئاسة السلطة التنفيذية (الحكومة) بأغلبية كبيرة مسألة محسومة تماماً لاعتبارات وطنية وشعبية وتنظيمية متنوعة. وفي إطار هذا التيار، هناك من له ملاحظات على قانون الانتخابات وعلى توقيتها، ويطالب بإجراء بعض التعديلات في القانون، ويفضل تأجيلها إلى ما بعد استكمال الانسحاب الإسرائيلي من جميع المدن والقرى الفلسطينية، ومنها مدينة الخليل. وهناك تيار آخر يعارضها بشدة، وصار واضحاً أنه سيقاطعها، ويضم هذا التيار جميع القوى الصغيرة المنضوية تحت لواء القوى الفلسطينية العشر المعارضة لعملية السلام. ولا أذيع سراً إذا قلت إن في قيادة "فتح" وداخل السلطة الوطنية من هو غير متحمس لها ويتقاطع في مواقفه مع مواقف هذه القوى، ويتمنى ألاّ تتم. وبغض النظر عن الأسباب الوطنية التي تسوقها هذه القوى لتبرير مواقفها المعارضة للانتخابات، فالواضح أنها تخفي عدم الثقة بالنفس، وتخشى نتائج الانتخابات، ولا سيما أنها ستعطي لكل ذي وزنٍ في صفوف الشعب حجمه ووزنه. وهناك اتجاه ثالث ما زال متردداً في قراره، ومحتاراً بين المقاطعة والمشاركة الرسمية، أو المشاركة غير الرسمية، أي دعم مرشحين من دون تبنّيهم بصورة رسمية. ويضم هذا التيار بصورة رئيسية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بزعامة جورج حبش. وإذا أمعنّا النظر في خلفيات هذه المواقف نجد أن هذا التيار يعيش صراعاً داخلياً؛ فهو من جهة مقتنع بأهمية الانتخابات على الصعيد الوطني والتنظيمي، ويدرك أن عدم المشاركة فيها يعني التصادم مع الموقف الشعبي الفلسطيني والخروج، ولو موقتاً، من الحركة السياسية الفلسطينية الرسمية ومن دائرة الفعل والتأثير في النشاط السياسي اليومي. وهو من جهة أُخرى يجد أن قيادته تخشى من المشاركة لسببين رئيسيين: الأول انكشاف ضعف نفوذها في الشارع الفلسطيني، والثاني تفكك وحدتها الفكرية والتنظيمية، حيث ستجد نفسها مضطرة إلى مراجعة نهجها السياسي المعارض لكل عملية السلام التي انطلقت من مدريد قبل أربعة أعوام، ومراجعة نشاطها العملي الذي سلكته في المرحلة الماضية في مواجهة عملية السلام. أمّا حركة "حماس"، فهي أقرب إلى هذا التيار وتتقاطع معه في كثير من مواقفه، إلا إن تياراً قوياً داخلها يضغط باتجاه المشاركة المباشرة في الانتخابات، وبمرشحين رسميين. ويرجَّح أن ينجح هذا التيار في فرض مواقفه. وفي سياق الحديث عن الانتخابات، لا بد من الإقرار بأنها تطرح مجموعة من الأسئلة الوطنية التي تستوجب التوقف أمامها الآن وبعد الانتخابات. من هذه الأسئلة، على سبيل المثال، دور المجلس المنتخب وسلطته التنفيذية تجاه الشعب الفلسطيني في الشتات. ومنها أيضاً مصير م.ت.ف. كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، وموقع المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة، وحق أعضاء المجلس الوطني واللجنة التنفيذية في الترشيح لعضوية المجلس المزمَع انتخابه.. إلخ. وفي سياق البحث عن الحلول الوطنية لهذه الأسئلة المشروعة، يجب التمييز بين مشروعية طرحها وبين دعوات البعض إلى تأجيل الانتخابات إلى حين الاتفاق على حلها. وأظن أن جميع القوى الفلسطينية تعرف أن إجراء الانتخابات يعني التشييع الرسمي لمرحلة التنظيمات والفصائل العسكرية التي بُنيت على أسس عسكرية وشبه عسكرية، وانتهاء دور معظم القيادات السياسية الفلسطينية التي انتزعت دورها ومواقعها القيادية في ساحة العمل الوطني بجدارة خلال تلك المرحلة، والدخول العملي في مرحلة تكون القيادات فيها منتخبة من الشعب لا مفروضة عليه أو منتخبة من تنظيماتها في أحسن الأحوال، وأيضاً تحوّل التنظيمات الفلسطينية إلى أحزاب سياسية، تستمد قوتها من ديمقراطية علاقاتها الداخلية وعلاقتها بالناس. وبصرف النظر عن مواقف القوى، فإن رفض المشاركة في الانتخابات يعني في الأوضاع والظروف الراهنة رفض تعزيز الديمقراطية في العمل السياسي الفلسطيني، والتمسك ببقاء الأوضاع القيادية على ما هي عليه الآن. ولا مبالغة في القول إن تاريخ إجراء الانتخابات الفلسطينية يمكن تثبيته باعتباره تاريخاً فاصلاً في الأوضاع الفلسطينية الداخلية، وبداية طور جديد في العلاقات. وهذا الطور يفرض على الجميع التعامل بواقعية وبمسؤولية وطنية عالية، والتوجه نحو الحوار الوطني. فالخطأ في هذه المرحلة قد يقود إلى وقوع ما لا تُحمد عقباه على أصحابه، وقد يطال الجميع.

آفاق الوضع الأمني في الضفة
بعد اتفاق طابا

منذ توقيع اتفاق أوسلو وبروتوكولات القاهرة، اعتمدت المؤسسات الإسرائيلية السياسية والعسكرية والأمنية موقفاً موحداً إزاء تنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين. وخلاصة هذا الموقف إخضاع أبو عمار وسلطته المشكَّلة حديثاً للاختبار، وامتحان قدرتيهما على ضبط الأمن في غزة وأريحا. وسهّلت هذه المؤسسات الإسرائيلية توسيع قوات الشرطة ومختلف أجهزة الأمن الفلسطينية، وتدخلت في أدق تفصيلات أنظمة حياتها اليومية. ولم تكترث لكيفية إدارة السلطة للأموال وكيفية توظيفها في مجالات تطوير الصحة والتعليم والثقافة والإسكان والزراعة وباقي فروع الاقتصاد الفلسطيني. وفي حينه، كان الشك في مواقف رئيس السلطة الفلسطينية وفي قدرته على السيطرة على أوضاع غزة طاغياً على تفكير القيادة الإسرائيلية. ولقطع الشك باليقين، أعطت القيادة الإسرائيلية الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية الفرصة والوقت اللازمين للتعرف إلى قيادة وكوادر الشرطة الفلسطينية عن قرب ومراقبة سلوكها، ولا سيما إزاء مسألة التعاون والتنسيق الميداني المشترك في مهمات ضبط الأمن، وفي التصدي للمعارضة الفلسطينية و"مكافحة الإرهاب والإرهابيين".

والآن يمكن القول إن الإسرائيليين أخذوا وقتهم الكافي وتعرفوا بصورة تفصيلية إلى ذهنية ونفسية الأغلبية العظمى من قيادة الشرطة، وإلى نمط تفكيرها ونوعية اهتماماتها، وتأكدوا خلال العام الأخير من أن "المخربين الفلسطينيين" قابلون للتحول سريعاً إلى جنود نظاميين، يتقيدون بجميع الأوامر والتعليمات التي تصدر إليهم، ويلتزمون تنفيذها بصورة دقيقة، بما في ذلك التحرك في دوريات مشتركة والتعاون في مجالات العمل الأمني المشترك. وأظن أن مراكز الأبحاث والدراسات الأمنية الإسرائيلية فوجئت بمستوى الضبط والربط داخل المؤسسة العسكرية الفلسطينية. فعلى الرغم من بعض الإهانات والكثير من الاستفزازات اللذين وجههما المستوطنون الإسرائيليون إلى الشرطة الفلسطينية، وعلى الرغم من المعاناة الكبيرة التي عاناها الشعب الفلسطيني داخل وخارج المناطق الفلسطينية التي تتمركز الشرطة الفلسطينية فيها، فإنه لم يسجَّل على الشرطة الفلسطينية خلال عام ونصف عام من توليها مسؤولية الأمن في قطاع غزة ومنطقة أريحا أية مخالفة أساسية تمس بالمصالح الأمنية الإسرائيلية.

ومما لا شك فيه هو أن نجاح أبو عمار والسلطة وقيادة الشرطة وأجهزة الأمن الفلسطينية في ذلك الاختبار كان عاملاً حاسماً في دفع القيادة السياسية الإسرائيلية نحو إعادة النظر في موقفها من م.ت.ف.، والشروع في التعامل معها باعتبارها قوة غير معادية لإسرائيل وشريكة في صنع السلام وفي إنهاء حالة الحرب والعداء بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وفي شروع القيادات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في تغيير النظرة إلى أفراد الشرطة الفلسطينية من اعتبارهم "قتلة ومخربين" إلى اعتبارهم بشراً وأناساً عاديين، وجنوداً نظاميين يعملون بانضباط في إطار مؤسسة غير إرهابية. ولتقريب الأمر إلى الأذهان وتبسيطه عند الإسرائيليين، اخترعت القيادة الإسرائيلية، في حينه، قصة التمييز بين العسكريين الفلسطينيين الملطخة أياديهم بالدم الإسرائيلي، وبين العسكريين الآخرين، وركزت في الذهن الإسرائيلي أن هناك مقاتلاً فلسطينياً شريفاً ونظيف اليدين، وآخر غير شريف، ويداه ملطختان بالدم الإسرائيلي.

وأعتقد أنه لولا النجاح الفلسطيني في ذلك الاختبار الأمني لما وثق رابين بياسر عرفات ولما أقدم على اتخاذ قراره بالإفراج الجزئي عن القسم الثاني من اتفاق أوسلو. فالثقة بياسر عرفات، والنجاح في الاختبار الأمني، لعبا دوراً أكبر من جميع الأدوار التي قامت بها الدول الراعية والمساندة لعملية السلام، بما في ذلك الإدارة الأميركية، على صعيد التوصل إلى اتفاق طابا، الذي فُتحت بموجبه الطرق والممرات أمام الشرطة الفلسطينية المسلحة للعبور بسلام وأمان إلى مدينة جنين أولاً، وإلى باقي مدن الضفة الغربية وبلداتها الكبرى لاحقاً.

وتدرك السلطة الفلسطينية وقيادة الشرطة أنهما بدخولهما مدينة جنين وباقي المدن الأُخرى تدخلان اختباراً إسرائيلياً جديداً، وأن الشرط الإسرائيلي لتنفيذ الشق الثاني من اتفاق طابا هو نجاح السلطة والشرطة وأجهزة الأمن الفلسطينية في ضبط الأوضاع والسيطرة الأمنية على المدن والبلدات الفلسطينية التي ستتسلمها، وذلك بالتعاون والتنسيق والعمل المشترك مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، لمنع تحولها إلى مراكز نشاط عسكري ضد الإسرائيليين في إسرائيل أو ضد المستوطنات والمستوطنين، الذين يعلنون صباح مساء أنهم سيبذلون كل جهد مستطاع لتعطيل تنفيذ اتفاق طابا وجميع الاتفاقات الأُخرى. صحيح أن العمليات التي نفذتها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" سابقاً لم توقف المفاوضات، ولم تعطل التوصل إلى اتفاق طابا، لكن صحيح أيضاً أن تلك العمليات كان لها تأثيرها في الجدول الزمني، وأعطت الجانب الإسرائيلي ذرائع لتأجيل التوصل إلى الاتفاق، ولفرض قيود والتزامات أمنية قاسية على الطرف الفلسطيني.

ومن الواضح أن السلطة الفلسطينية ستركز عملها في الفترة الأولى من وجودها في مدن وبلدات وقرى الضفة الغربية على مسألتين: الأولى منع أية مظاهر لأي شكل من أشكال ازدواجية السلطة في الضفة الغربية، والثانية ضبط الأمن فيها بشقيه الداخلي والخارجي، أي توفير الأمن الاجتماعي في مناطق ومواقع وجودها، ومنع الأطراف المعارضة لعملية السلام من القيام بأي نشاط عسكري ضد أهداف إسرائيلية داخل إسرائيل أو داخل الضفة الغربية. وهي ستتعامل مع المعارضة وفقاً لسلوك هذه الأخيرة العملي إزاء هاتين المسألتين. وأعتقد أنها لن تضع أية عراقيل جدية أمام النشاط السياسي للمعارضة، بما في ذلك النشاط العلني ضد عملية السلام، وأوسلو، والاتفاق الجديد. وهي لن تتورع في الوقت ذاته عن شن أوسع عمليات اعتقال في صفوف المعارضة، بما في ذلك اعتقال جميع قياداتها وكوادرها إذا تجاوزت هذه القيادات والكوادر الحدود التي تسمح بها ضرورات تطبيق الاتفاق، وبالتحديد إذا قامت، أو حاولت القيام بعمليات عسكرية ضد أهداف إسرائيلية. وبالتدقيق في مواقف بعض أطراف المعارضة الفلسطينية، ولا سيما حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، يمكن أن نستنتج أنهما بإصرارهما على إفشال اتفاق طابا عبر العمل العسكري ضد أهداف إسرائيلية إنما تتجهان نحو التصادم مع السلطة الفلسطينية. وأظن أنهما ستكونان الخاسرتين سياسياً وتنظيمياً في حال وقوع هذا التصادم.

إن دخول الشرطة الفلسطينية مدن الضفة الغربية، وما تركته العمليات العسكرية التي نفذتها المعارضة من نتائج سلبية على الأوضاع المعيشية للناس في قطاع غزة وعلى التوجهات الديمقراطية الفلسطينية، يفرضان على المعارضة الفلسطينية، وخصوصاً حركة "حماس"، التوقف مطولاً ودرس نتائج خط العمل هذا على أوضاعها وعلى علاقاتها بالجمهور الفلسطيني، ولا سيما أنها تعرف أن اختيار الحرب طريقاً لتحقيق الأهداف الوطنية لم يعد وارداً الآن. وبغض النظر عن النيات، فالعمليات العسكرية التي نفذتها المعارضة الفلسطينية ساهمت في تضخم أجهزة الأمن الفلسطينية حتى بلغ عدد أفرادها 30 ألف رجل، وذلك على حساب تقوية وتطوير مؤسسات المجتمع المدني. وسيقود الاستمرار في هذا النهج في المستقبل إلى زيادة عدد أفراد الشرطة والأمن الفلسطينيين أكثر فأكثر.

وإذا كانت وقائع الحياة في مدن وبلدات وقرى ومخيمات الضفة الغربية هي التي ستعطينا في الأسابيع والشهور المقبلة الحكم النهائي والخبر اليقين، فإن الثابت هو أن أسس نجاح الشرطة والأجهزة الأمنية الفلسطينية في السيطرة على المناطق التي ستدخلها متوفرة بنسبة أعلى كثيراً من تلك التي توفرت لها عند عبورها إلى غزة وأريحا. ويمكن القول سلفاً إنها ستنجح في ضبط الأمن فيها لاعتبارات كثيرة: أولها أن أهالي مدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها سئموا حالة فقدان الأمن الاجتماعي، وهم بحاجة إلى شرطة وسلطة غير سلطة الاحتلال، توفران لهم الأمن وتخلصهم من الفوضى العامة ومن الفلتان الأمني، وتوقف التعديات على حرياتهم وممتلكاتهم الشخصية. وثانيها أن الشرطة أخذت الوقت الكافي لإعداد نفسها للمهمة الجديدة، وستدخل وهي تمتلك خبرة عامة في الأعمال الأمنية، وبالتنسيق مع الإسرائيليين في المجال الأمني. وستدخل وهي تمتلك أيضاً معلومات وافية عن الأوضاع الاجتماعية وعن جميع القوى السياسية الفلسطينية، وهي معلومات جمعتها لها مجموعات الأمن الموجودة في مدن وبلدات الضفة منذ بضعة شهور. وثالثها أن الشرطة الفلسطينية تدخل مدن الضفة الغربية من دون مقاومة أحد، وتدخلها وهي تستند إلى قاعدة شعبية تتمثل، في الحد الأدنى، في حركة "فتح" وأنصارها. وأظن أن قوى المعارضة الفلسطينية الموجودة في مدن الضفة ستجد نفسها بعد فترة في وضع لا يمكّنها من الاستمرار في رفع الشعارات ذاتها التي رفعتها سابقاً، ولا الاستمرار في أشكال النضال ذاتها التي اتبعتها منذ انطلاق عملية السلام حتى الآن.

وفي سياق الحرص على الوحدة الوطنية الفلسطينية وعلى تثبيت اتفاق طابا وتنفيذه، تخطئ السلطة الفلسطينية إن هي خضعت لابتزازات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ووافقت على ربط تنفيذ مراحل اتفاق طابا بالمتطلبات الأمنية الإسرائيلية؛ فلمتطلبات أمن الإسرائيليين بداية لكن ليس لها نهاية ولا حدود. ومصلحة السلام تفرض إدراك أن النجاح المتوقع للشرطة الفلسطينية في الضفة الغربية سيبقى موقتاً، وأن الأمن الفلسطيني والأمن الإسرائيلي سيبقيان مهزوزين ومعرضين للانتكاس ما بقي الاحتلال فوق الأرض الفلسطينية، وما بقي المستوطنون يسرحون ويمرحون على هواهم، وإذا لم يتوفر القانون ولم يتم تطبيقه بصورة عادلة على الجميع، وإذا لم تعمل الشرطة الفلسطينية بالقاعدة المعروفة: "الشرطة موجودة لخدمة الشعب"، وإذا لم تتوفر للناس لقمة عيش.

آفاق الوضع الاقتصادي
بعد اتفاق طابا

قبل توقيع اتفاق طابا، أطلق لارسن، منسق أعمال هيئات الأمم المتحدة والمساعدات التي تقدمها الدول المانحة إلى السلطة الفلسطينية، صيحة استغاثة قال فيها إن "البطالة في قطاع غزة زادت عن الـ 55%، وإن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للسكان تدهورت وصارت أسوأ مما كانت عليه قبل دخول السلطة الفلسطينية." وعزا ذلك إلى كثرة أيام إغلاق إسرائيل حدودها في وجه العمال الفلسطينيين، وإلى عدم وفاء الدول المانحة بالتزاماتها في الأوقات المحددة لذلك، وإلى عدم قيام مشاريع اقتصادية في قطاع غزة تستوعب نسبة معقولة من البطالة. وناشد لارسن الدول المانحة العمل على سد العجز في ميزانية السلطة الفلسطينية كي تستطيع دفع رواتب الشرطة والموظفين ومنع انتشار الرشوة في صفوفهم، وناشدها أيضاً الوفاء بجميع الالتزامات الأُخرى، والإسراع في إقامة المشاريع الإنتاجية. وخلال الفترة ذاتها، اتَّهم الرئيس عرفات الدول المانحة بالتقصير في تسديد التزاماتها، وقال إن "خسارة الاقتصاد الفلسطيني خلال عام بفعل أيام الإغلاق والحصار الإسرائيلي فاقت قيمة المساعدات التي قدمتها الدول المانحة للسلطة الفلسطينية." ووجَّه إلى الرأسماليين الفلسطينيين وأصحاب الأعمال نداء دعاهم فيه إلى المبادرة إلى تحمّل مسؤولياتهم الوطنية في بناء الاقتصاد الفلسطيني. وبغض النظر عن الهدف من توقيت إطلاق هذه التصريحات، فهي تعطي صورة حقيقية للأوضاع الاقتصادية المأساوية التي عاشها قطاع غزة بعد أن دخلته السلطة الفلسطينية. وتؤكد جميع الإحصاءات والدراسات الصادرة بشأن الموضوع تراجُع دخل الفرد في الضفة الغربية وازدياد البطالة خلال الفترة ذاتها.

صحيح أن الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية أحسن حالاً منه في القطاع، لكن صحيح أيضاً أن سوق العمل الإسرائيلية كانت، وما زالت، هي المجال الرئيسي لاستيعاب النسبة الكبرى من عمال الضفة الغربية. فقد نجح الاحتلال على مدى 27 عاماً في تدمير بنية الاقتصاد الفلسطيني، وجعله تابعاً ومرتبطاً بصورة وثيقة بالاقتصاد الإسرائيلي، بما في ذلك تشغيل العمال. ومن يدقق في الاتفاقات الاقتصادية الفلسطينية - الإسرائيلية يرى بوضوح إصرار القيادة الإسرائيلية على إبقاء الاقتصاد الفلسطيني مرتبطاً بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي وفصله عن محيطه العربي. وبهذه الاتفاقات، وبالتدمير المبرمج لبنية الاقتصاد الفلسطيني في الضفة والقطاع، زرع الاحتلال مسبقاً أزمة اقتصادية عميقة الجذور في وجه السلطة الفلسطينية قبل عبورها إلى الضفة الغربية؛ أزمة علاجها صعب، ويستغرق وقتاً طويلاً، ويحتاج إلى مساعدات خارجية كبيرة.

ويمكن القول سلفاً إن دخول الشرطة الفلسطينية الضفة الغربية وتولي السلطة الوطنية جميع الصلاحيات المدنية فيها لن يخلصا الناس هناك من الضائقة المالية والاقتصادية التي يعيشونها، بل يتوقع لهذه الضائقة أن تزداد خلال العام المقبل على الأقل، وذلك للاعتبارات التالية:

  أ) استمرار إسرائيل، بحجة الأمن، في سياسة الاستغناء عن العمال الفلسطينيين، وإغلاق حدودها في وجوههم. فبعد انسحاب قواتها من مدن الضفة الغربية، ستزداد شكوكها في العابرين إليها من هذه المدن. وقد بيَّنت تجربة العام الأخير أن تقدم المفاوضات وتحسن العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية لا يعنيان إشراع بوابات العبور الإسرائيلية أمام الألوف من العمال الفلسطينيين العاطلين عن العمل. فمنذ اتفاق أوسلو حتى الآن، قلّصت إسرائيل عدد العمال المسموح لهم بالعبور إلى إسرائيل، وأغلقت حدودها أكثر من نصف أيام العام الماضي، بحسب الإحصاءات الفلسطينية. إذ إن للتقدم في المفاوضات وتنفيذ الاتفاقات تفاعلات عديدة ومتنوعة داخل المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي المنقسمين على ذواتيهما. فهو من جهة يريح بعض القوى، لكنه من جهة أُخرى يدفع بقوى أُخرى نحو المزيد من التطرف والتوتر. ويرجح لهذا النمط من التفاعلات أن يزداد بعد دخول الشرطة الفلسطينية مدن الضفة الغربية. فالتوتر القائم بين المستوطنين والفلاحين الفلسطينيين سيتصاعد في العام المقبل، حيث سيزداد في صفوف المستوطنين القلق على مصيرهم، أمّا الفلاحون الفلسطينيون فسيجدون أنفسهم مجبرين على خوض معارك أقوى، دفاعاً عن أرضهم وممتلكاتهم. ومع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية، سيرتفع التوتر داخل المجتمع الإسرائيلي أكثر فأكثر. وستضطر الأجهزة الأمنية إلى رفع درجة يقظتها وحذرها، وستشدد من إجراءاتها الأمنية، بما في ذلك تقليص نسبة الاحتكاك المباشر بين الشعبين، وتقليص عدد العابرين للعمل في إسرائيل، فضلاً عن الإكثار من أيام الإغلاق بسبب العمليات العسكرية المتوقعة من الآن حتى الانتخابات الإسرائيلية. فالقوى المحلية والإقليمية المتضررة من تقدم عملية السلام لن تألو جهداً خلال هذه الفترة بالذات لتنفيذ ما يمكن تنفيذه من عمليات عسكرية ضد أهداف إسرائيلية في الضفة الغربية وداخل إسرائيل.

  ب) من غير المتوقع أن تقوم الدول المانحة بتغيير طريقة تعاملها مع السلطة الفلسطينية خلال العام المقبل. وسيبقى وفاؤها بالتزاماتها المالية يسير في المنحى ذاته. فوقائع الحياة في مدى عامين من عمر اتفاق أوسلو أكدت أن التوصل إلى اتفاقات فلسطينية - إسرائيلية، وحدوث تحسن في العلاقات لا يعنيان تدفق المساعدات المالية الخارجية آلياً إلى السلطة الفلسطينية، على النحو الذي تشتهيه هذه السلطة، فضلاً عن أن المساعدات التي ستقدمها الدول المانحة في العام المقبل لا تكاد تغطي رواتب موظفي السلطة، الذين سيصبح عددهم أكثر من 60 ألف موظف بعد استكمال ملاكات قوات الشرطة ورفع عدد أفرادها إلى 30 ألفاً. كما أن مساعدات الدول المانحة لن تصل في جميع الأحوال، مهما بلغت، إلى حدود استيعاب البطالة الواسعة في الضفة والقطاع.

  ج) بالتدقيق في التوجهات المالية للمستثمرين الفلسطينيين، السابقة منها والحالية، يتبين أن بعض المستثمرين ما زال متردداً في الاندفاع نحو الاستثمار في الضفة الغربية وقطاع غزة لاعتبارات متنوعة، وأن من تجاوز التردد والخوف على رأس ماله حرص على تجنب المغامرة، وراح يبحث عن الربح السريع، وفضَّل الاستثمار في مجال تأسيس البنية التحتية، والمضاربة بالأراضي والمتاجرة بالعقار. أمّا من توجهوا إلى الاستثمار في مجالات الصناعة والزراعة والسياحة، فعددهم قليل حتى الآن. وبغض النظر عن الحجم الإجمالي للاستثمارات الفلسطينية والعربية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن الدراسات تؤكد أنه لم يستطع تقليص نسبة البطالة في صفوف العمال. ومن الواضح أن مردود أية مشاريع صناعية أو زراعية جديدة في تصحيح الوضع الاقتصادي الفلسطيني سيأخذ وقتاً طويلاً، ولن يظهر في العام المقبل في الأحوال كافة.

أعتقد أن تشجيع رأس المال الفلسطيني والعربي على الاستثمار بات يتطلب إجراء تصحيح سريع للخلل الذي حدث عند إقامة السلطة الفلسطينية (الحكومة)، حيث افتُعلت معارك مع الرأسماليين الفلسطينيين، واتُهموا بأنهم يريدون قطف ثمار تضحيات المناضلين، وغابت رموز رأس المال الوطني الفلسطيني عن تشكيلة السلطة، ولم يفكر أي "روتشيلد" فلسطيني في المشاركة فيها. كما أن تشجيع رأس المال هذا يتطلب رؤية فلسطينية موحدة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية، وسنّ قوانين ثابتة وواضحة تنظم العلاقة بين السلطة والمستثمرين، وإبعاد الرموز غير الموثوق بها التي تولت متابعة العقود الاقتصادية بين السلطة والمستثمرين، وتبديد روائح الرشوة والفساد التي انتشرت في العام الأخير في محيط السلطة الفلسطينية، وتكريس نمط من الرقابة على العمل في المجال المالي والاقتصادي الفلسطيني.

وأظن أنه لا خلاف على أن التوجه إلى بناء المؤسسات الفلسطينية على أساس الكفاءة والاختصاص، وتشغيلها وفقاً للقواعد العلمية الصحيحة، وتعزيز الديمقراطية في الحياة السياسية الفلسطينية، هي الطريق الأقصر نحو النهوض بالاقتصاد الفلسطيني، والنهوض بجميع الأعباء الوطنية الكبرى في مرحلة ما بعد اتفاق طابا.

14/11/1995

السيرة الشخصية: 

ممدوح نوفل: عضو المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي الفلسطيني.