بعض مشكلات الحد من التسلح في الشرق الأوسط: تحليل إقليمي
كلمات مفتاحية: 
التسلح
الشرق الأوسط
القوى الإقليمية
الحد من التسلح
نبذة مختصرة: 

يحاول المقال التركيز على المشكلات والعقبات التي تواجه الحد من التسلح في منطقة الشرق الأوسط. وهو يعالج الموضوع تحت العناوين الفرعية التالية: تعدد الأقطاب وتعدد الجبهات؛ المناخ السياسي؛ التفاوت في ميزان القوى العسكرية؛ القوتان العظميان والقوى الإقليمية. ويخلص المقال إلى أن الحجج التي ساقها الكاتب لا تستلزم أن الحد من التسلح في الشرق الأوسط محكوم عليه بالإخفاق.

النص الكامل: 

تطورت تجربة الحدّ من التسلح كنتيجة ثانوية للترتيبات الأمنية بين الكتلة الشرقية والغرب خلال الحرب الباردة. إن فكرة الحدّ من التسلح نفسها راسخة الجذور في الظروف التي كونت المناخ الذي ظهرت هذه الفكرة فيه. وسنحاول في هذا المقال التركيز على المشكلات والعقبات التي تواجه فكرة الحد من التسلح.

إن التباين في وقائع الشرق الأوسط ووقائع تجربة الشرق والغرب يظهر الصعوبات التي تنطوي عليها محاولة تطبيق الحد من التسلح في المنطقة. إن خصوصية الوضع في الشرق الأوسط تستلزم اللجوء إلى تصورات وطرق جديدة لمعالجة مشكلات الأمن. ذلك بأن محاولة استعمال وتطبيق النماذج والسياسة ذاتها قد تكون بلا جدوى، بل ربما خطرة في بعض الأحيان. والدرس الذي يجب استخلاصه من تجربة الاتفاقات المتعددة الأطراف هو أنه لا بد من صوغ مقاربة جديدة للتعامل مع المخاوف الأمنية التي تساور دول المنطقة وشعوبها. ولا مناص من أن يستغرق ذلك وقتاً، كما أنه لا يمكن أن يتحقق إلاّ من خلال الممارسة. وليس من شأن الآمال الكبار المعقودة على طريقة "الحل السريع" لمشكلة الحد من التسلح في المنطقة إلاّ أن تقود إلى الإحباط وإلى مزيد من عدم الاستقرار. والمهمة الحيوية، اليوم، هو إدخال خيار السلام والطرق غير العسكرية لحل الخلافات إدخالاً فعالاً لا لبس فيه إلى الثقافة السياسية في المنطقة، بحيث يُدرك هذان الأمران باعتبارهما الخيار الوحيد القابل للحياة والتنفيذ. أمّا الترتيبات الكفيلة بتهذيب وتوطيد نظام كهذا، بما فيها الحد من التسلح، فيجب أن تنبثق من الطرق المحلية لعمل الأشياء. إن تأمل الفوارق بين تجربة الشرق والغرب والوضع في الشرق الأوسط سيبرز العقبات التي قد تعترض الحد من التسلح في المنطقة مستقبلاً. 

تعدد الأقطاب وتعدد الجبهات

إن الفارق الأساسي بين الحدِّ من تسلُّح القوى العظمى والحد من التسلح في الشرق الأوسط هو عدد الفرقاء المعنيين. فالحدُّ من تسلح القوتين العظميين كان ذا قطبين، بينما الحدُّ من التسلح في الشرق الأوسط يجب تنفيذه في منطقة متعددة الأقطاب في جوهرها. ومن شأن هذا أن يعقِّد المشاورات والمفاوضات بشأن الحد من التسلح بحيث يصبح من الضروري التوصل إلى نتائج يقبل بها عدد كبير نسبياً من الدول، وأن يُؤخذ في عين الاعتبار إدراك كل دولة المخاطر التي تهددها وحاجاتها الدفاعية وأوضاعها السياسية الداخلية.

ومما يزيد الأمور تعقيداً أن كلاً من هذه الدول تواجه في الواقع مخاطر ممكنة على أكثر من جبهة. كان على الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أن ينظرا في التهديد الذي يمثله كل منهما للآخر في الساحتين القارية والأوروبية، بينما يترتب على كل دولة في الشرق الأوسط أن تنظر في التهديدات التي يمثلها كل بلد من البلاد التي تحيط بها. من ذلك أن على السوريين أن ينظروا لا في الخطر الإسرائيلي عليهم فحسب، بل أيضاً في الخطرين العراقي والتركي واحتمالات نشوء مخاطر من لبنان والأردن. ومن شأن نظرة سريعة إلى التاريخ الحديث العهد أن تبين أن إدراك مخاطر كهذه ليس من قبيل المخاوف المَرَضية.

لذلك كان لا بد لمفاوضات جدية للحد من التسلح في هذا الإطار من أن تُشْرِكَ عدداً كبيراً من الدول التي تشغلها شواغل عديدة من كثرة الجبهات وتنوع الترابطات. ومن شأن هذه المهمة أن تكون شاقَّة مثبطة للهمم، ولا سيما متى أخذ المرء في عين الاعتبار عدم التوازن في الحجم والقوة بين مختلف الدول.

وثمة تعقيد آخر من القبيل نفسه، وهو مسألة من يدخل في مفاوضات كهذه ومن يستثنى منها. فمن البيِّن الواضح، مبدئياً على الأقل، أن لا بدَّ لترتيبات الحد من التسلح في الشرق الأوسط من أن تشمل الجميع إذا أُريدَ لها أن تكون فعَّالة وشاملة. وهذا لا يطرح فقط مشكلة تحديد المنطقة - وهي مشكلة مستعصية على الحل - بل يطرح أيضاً مشكلة أُخرى، وهي مدى ما يمكن في الواقع عزل هذه المنطقة عن غيرها من المناطق والبلاد. من ذلك أنه لا بدَّ من ضم إيران وتركيا في أي نظام للحد من التسلح في الشرق الأوسط. لكن كيف تستطيع إيران الدخول في اتفاق للحد من التسلح مع العرب وإسرائيل من دون أن تأخذ في الاعتبار باكستان نووية إلى الشرق والقوى النووية في آسيا الوسطى شمالاً، وهذا بقطع النظر عن عدم الاستقرار في باكستان ونزعة روسيا إلى إعادة تأكيد الذات؟ وبالمثل، كيف تستطيع تركيا أن تكون طرفاً في اتفاق للحد من التسلح مع سورية والعراق من دون أن تنظر إلى اليونان وبلغاريا في الغرب وإلى روسيا في الشمال؟ فإسرائيل تبدي مخاوفها من "القنبلة الذرية الإسلامية" في باكستان. من الواضح أن إشراك جميع هذه الدول الخارجية في نظام شرق أوسطي للحد من التسلح سيجعل فكرة النظام المحلي [للحد من التسلُّح] بلا موضوع.

المناخ السياسي

لم تكن الولايات المتحدة في حالة حرب مع الاتحاد السوفياتي يوم بدأ الفريقان اتفاقات الحد من التسلح ولا حين أبرماها. حتى حين كانت الحرب الباردة على أشدها بين الجبارين، كان هذان في حال السلم أساساً. لم يكن بينهما أي خلاف مركزي على الأراضي، وإن كانا يتنازعان مناطق النفوذ ويعتدي أحدهما أحياناً على مناطق نفوذ الآخر. كان الصراع، باختصار، أيديولوجياً، أمّا الأقاليم المتنازع فيها فكانت الكرة الأرضية نفسها، ولا شيء سوى ذلك. كانت مسألة الشرعية أيديولوجية ولم تكن مسألة شرعية قانونية أو شرعية أمر واقع. كان كل من الجانبين معترفاً بالجانب الآخر، وكان بينهما علاقات طبيعية، وإن محدودة، كالتي تكون بين الدول، كما كان بينهما روابط اقتصادية وثقافية. وفي هذا المناخ، وبعد فترة طويلة من التفاعل، خاض الجانبان خلالها الحرب معاً ضد عدوٍّ مشترك، بدأ الجباران يناقشان ترتيبات أمنية تعود بالنفع على الجانبين وتتضمن الاتفاقات على الحد من التسلح.

إن من شأن نظرة خاطفة إلى الشرق الأوسط أن تظهر بوضوح أن لا وجود لمناخ كهذا بين دول المنطقة. حتى الآن لم توقع إلاّ مصر والأردن اتفاقات صلح مع إسرائيل. أمّا العراق، فقد خرج لتوِّه من حربين خلَّفتاه منبوذاً عالمياً ومستعدياً معظم الدول في المنطقة. وأمّا إيران، فيعاملها جيرانها معاملة يغلب عليها الارتياب والخوف. وأمّا تركيا فقد حكمت المنطقة كلها مدة أربعمئة عام وهي لا تزال تُعدُّ قوة استعمارية سابقة.

والخلافات في شأن الحدود تعم المنطقة. ولا يقتصر الأمر على النزاع العربي - الإسرائيلي المركزي المتفجر، بل ثمة نزاعات بين إيران والعراق، بين سورية وتركيا، بين العراق والكويت، بين العربية السعودية وقطر، بين إيران والإمارات العربية المتحدة، بين الأردن والعربية السعودية، بين مصر والسودان، إلخ. وليست هذه النزاعات هاجعة كلها ولا ملجومة؛ بل إن بعضها اتخذ شكل المجابهة العسكرية وستظل كلها عرضة لذلك. والنظرة السائدة في المنطقة أن ما من دولة فيها مستعدة للتخلي عن الخيار العسكري، أو للقبول بالرقابة الخارجية عليها ما دام أن ما تعتبره جزءاً من أراضيها لا يزال تحت الحكم الأجنبي.

وقضية الشرعية مهمة أيضاً. فدول كبرى كثيرة في الشرق الأوسط تنظر إلى سواها باعتبارها غير شرعية. وهي وإن كانت إحداها مستعدة لقبول الأُخرى فعلاً، وأحياناً رسمياً، فهي ليست مقتنعة دائماً بوجود الدولة الأُخرى أصلاً. فالقوميون العرب الذين ظلُّوا، حتى وقت قريب، أصحاب النظرة السائدة في المنطقة يعتبرون في معظمهم الحدود الحالية للدول العربية مصطنعة ومفروضة - أي، باختصار، غير شرعية -. والشواهد على ذلك كثيرة ولا حاجة إلى ذكرها. وقد أدى هذا الموقف في الماضي إلى عدة نزاعات عسكرية، وما زالت احتمالات مزيد من الصراعات قائمة. والحلول الدبلوماسية للخلافات على الأراضي وعلى الشرعية، وإن تمت على أساس التفاوض في الماضي، فهي لم تعمِّر طويلاً.

إن ضيق نطاق التفاعل السياسي بين دول المنطقة، ولا سيما تلك المتورطة في خلافات ونزاعات مزمنة، يساهم أيضاً في ترسيخ جو الارتياب حيال مفاهيم الأمن الجماعي كمفهوم الحد من التسلح. ولا مبالغة في القول إن الاتفاقات الجادة على الحد من التسلُّح تحتاج إلى مناخ سياسي معين من شأنه، وإن لم يكن مناخ انسجام بالضرورة، أن يفضي إلى نجاح هذه الاتفاقات. وإلاّ، فإن الصعوبات في وجه التوصل إلى اتفاق والالتزام به ستزداد وتتفاقم. فمن مواطن الضعف المهمة في المقترحات السابقة للحد من التسلح أنها لم تكن مندمجة في عملية سياسية أشمل نطاقاً.

التفاوت في ميزان القوى العسكرية

عندما بدأت القوتان العظميان التفاوض بشأن ما عقدتاه من اتفاقات للحد من التسلح في أوائل الستينات، كان التوازن قائماً بينهما. وسواء كان التوازن توازن الرعب أو نظرية التدمير المتبادل المؤكد، أو التكافؤ في القابلية للعطب (كما تبين من اتفاق الصواريخ الباليستية المضادة للصواريخ)، فقد كان ثمة نوع من التوازن. وقد ولَّد إدراك هذا التوازن الاقتناع بأن الحفاظ عليه يضمن أفضل النتائج للطرفين، وأدى، تالياً، إلى سلسلة من اتفاقات الحد من التسلح. فالترابط بين فكرة توازن القوى والحد من التسلح ترابط جوهري.

لا وجود لهذا التوازن في الشرق الأوسط. بل ثمة على الضد من ذلك اختلال بنيوي في التوازن عصيّ على التصحيح. فمن جهة يتمتع العرب بتفوق كمي في الموارد على إسرائيل، ومن جهة أُخرى تتمتع إسرائيل بتفوق نوعي على العرب. فإسرائيل تستطيع الانتصار في الحروب على العرب، وقد انتصرت في جميع الحروب التي خاضتها ضدهم، لكنها لا تستطيع إلغاء الخطر العربي المحتمل بسبب التفاوت في ميزان الموارد الكمي. من جهة أُخرى، يستطيع العرب، نظرياً، أن يشكلوا خطراً محتملاً على إسرائيل، لكنهم لا يستطيعون أن يغلبوها في الحرب بسبب تفوقها النوعي (الأسلحة، الطاقة البشرية، المجتمع، التحالفات، إلخ). وهذا التفاوت لا ينقاد للأنظمة الإقليمية للحد من الأسلحة انقياداً ذا جدوى؛ فإسرائيل لن تتخلى عن تفوقها النوعي، ولِمَ تراها تفعل ذلك، والعرب لا يستطيعون إلغاء تفوقهم الكمي في الموارد.

ومن التعقيدات الأُخرى للبعد العسكري في الشرق الأوسط موضوع استيراد الأسلحة. فخلافاً للجبارين اللذين يصنعان منظومات الأسلحة الخاصة بهما، يعتمد الشرق الأوسط اعتماداً يكاد يكون كلياً على استيراد الأسلحة. وباستثناء إسرائيل التي تملك صناعة عسكرية محلية لا يستهان بها لكنها تعتمد مع ذلك على الاستيراد لضمان بقائها، وباستثناء مصر والعراق، لكن بدرجة أقل، فإن دول المنطقة كلها تعتمد اعتماداً كلياً على استيراد الأسلحة من الخارج. وهذا يخلق واقعين: أولهما أن التفاوت العسكري/التكنولوجي البنيوي في المنطقة يتعزَّز لمصلحة إسرائيل، وثانيهما أن مسألة مصدِّري الأسلحة تزيد في عدد اللاعبين.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي وارتباطه العسكري الوثيق ببعض العرب، غدا المحور العسكري التكنولوجي الأميركي - الإسرائيلي مسيطراً على الشرق الأوسط. والحفاظ عليه يلبي حاجة إسرائيل الوطنية الحيوية لكنه لا ينقاد إلى نظام متوازن وجاد للحدِّ من التسلح في المنطقة.

إن ما يقوم مصدرو الأسلحة به من دور مركزي يستلزم الاتفاق فيما بينهم على الحد من تدفق الأسلحة إلى المنطقة. نظرياً، يجب أن يكون ذلك شرطاً ممكناً وضرورياً للحد من الأسلحة. لكن المصالح والحسابات السياسية والمالية المتنافسة للمصدِّرين تجعل اتفاقاً كهذا عسيراً وشبه مستحيل من حيث التنفيذ. فالشرق الأوسط أهم الأسواق بالنسبة إلى هذه الصناعة التي تجني مليارات الدولارات وتستخدم الملايين في أنحاء الأرض، ولا سيما في وقت انخفضت المشتريات العسكرية المحلية في الدول المنتجة. ويجب ألاّ يستهان أيضاً بالنفوذ السياسي والاقتصادي الذي يرافق مبيعات الأسلحة في منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية. والحد من التسلح في الشرق الأوسط قد يغلق مصانع في الدول المصدرة، ويزيد في العجز في ميزانها التجاري، ويستجرُّ البطالة.

والأسلحة النووية عامل آخر من عوامل اختلال معادلة التوازن. نظراً إلى وجود عدد كبير من الأسلحة الذرية في مسرح العمليات الأوروبي والترابط الواضح جداً بين استعمال الأسلحة التقليدية والنووية، فقد كان الاعتبار الجدي للمواجهة العسكرية بين حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو ضئيلاً. وكانت حظوظ الغلبة لأي من الطرفين في الحرب هزيلة. لذلك غدت الحرب احتمالاً بعيداً، ولم يكن أي من الطرفين ينظر جدياً في استعمال القوة العسكرية ضد الآخر. أمّا في الشرق الأوسط، فإن التفاوت يظل قائماً ما دام إسرائيل هي البلد الوحيد الذي يملك أسلحة ذرية. وليس من شأن صعوبة حمل إسرائيل على توقيع معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية ولا من شأن ما يترتب على ذلك من محاولات الدول الأُخرى الحصول على أسلحة نووية أن يشكلا خطوات في اتجاه الحد من التسلح في المنطقة.

ويساهم انتشار أسلحة الدمار الشامل الكيمياوية والبيولوجية في زيادة القلق والمخاوف. ذلك بأن هذه الأسلحة، وإن كانت اقتُنيت من أجل غاية التوازن مع قدرات إسرائيل النووية (وهو توازن محدود وغير كاف)، فإن استخدامها ضد دول لا تملك قدرات نووية ولا أسلحة للدمار الشامل ليس مغرياً فحسب... ففي الشرق الأوسط جدال بشأن ضرورة اشتمال المعاهدة على الأسلحة التقليدية وغير التقليدية في ترتيب موحد جامع، أو إمكان تحقيقها من خلال خطوات صغيرة متراكمة. فإن كانت الأولى، فمن الواضح أن دولاً مثل إسرائيل ستقاوم إدخال الأسلحة الذرية في المعاهدة، كما أن الدول العربية سترد بالإصرار على استثناء الأسلحة الكيمياوية والصواريخ المتوسطة المدى. وإن كانت الثانية، فإن احتمال نشوء سباق تسلح في المجالات غير المشمولة بالاتفاقات سيكون مرجحاً. من ذلك أن اتفاقات الحد من التسلح بين الشرق والغرب حررت في الولايات المتحدة موارد أعيد استخدامها في برنامج حرب النجوم والصواريخ "أم أكس" (التي لا تشملها اتفاقات الحد من التسلح على اختلافها). وقد أفضت هذه التطورات إلى إدراك الاتحاد السوفياتي أن عليه إمّا التنكر للاتفاقات التي عقدها ومواجهة انهيار جميع التفاهمات والاتفاقات بين الشرق والغرب - والمنافسة في المجالات التي يملك فيها مزية نسبية؛ وإمّا ترك الصراع أصلاً لأسباب اقتصادية وتكنولوجية، ومواجهة الهزيمة. وجملة القول إن مفاهيم وتعريفات الحد من التسلح ليست من الأمور التي انعقد الإجماع على القبول بها.

في الحرب الباردة كان ثمة إدراك لوجود توازن ما في القوى، وكان هدف الحد من التسلح الحفاظ على هذا التوازن من غير حاجة إلى البحث عن المعايير التي تقوَّم بها الحاجات الدفاعية لكل من الكتلتين. أمّا في الشرق الأوسط، وفي غياب أي توازن في القوى، فإن الحاجة ماسة إلى المعايير التي تحدد بها ماهية المصالح الحيوية، ومدى صحة إدراك المخاطر، وماهية الحاجات الدفاعية المشروعة، وكيفية قياس فعالية مختلف الأسلحة، وكيفية مقارنة الأسلحة البديلة. وإلاّ، فإننا سنواجه بازاراً من المخاوف المَرَضِية والأحكام الذاتية الدائرة على ذاتها. وثمة مجال آخر للإبهام والالتباس يكمن في التكنولوجيات ذات الاستعمال المزدوج وكيفية التعامل معها.

القوتان العظميان والقوى الإقليمية

لقد كان الحد من التسلح بين القوتين العظميين ممكناً لأنهما أقوى كتلتين في العالم. كان لكل منهما أيديولوجيا شاملة يحاول ترويجها على نحو تنافسي. وقد تم التوصل إلى اتفاقات الحد من التسلح في أوروبا، وفي ذروة الحرب الباردة، لأن توازن القوى كان قائماً في مسرح العمليات ذاك أصلاً. وأتاح ذلك للجانبين قدراً كافياً من الاطمئنان الوجودي ليواصلا التنافس في أماكن أُخرى. ولذلك، فإن الحد من التسلح لم يحيِّد خلافاتهما ونزاعاتهما أو يتوقف عند التعليق عليها؛ بل اقتصر على استبعاد مسرح عمليات محدَّد من الساحة العسكرية. نتيجة ذلك تخلَّصت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي من هاجس الإفناء المتبادل ليتزاحما في مناطق أُخرى على مستويات معينة وبواسطة حلفاء إقليميين، كما في جنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط، وأنغولا، والقرن الإفريقي وأفغانستان.

إن دول الشرق الأوسط لا تنتمي إلى كتلتين متميزتين تحقَّق التوازن بينهما على جبهة محددة. يضاف إلى ذلك أن ليس لها المصالح أو القوة أو الأيديولوجيا للوصول إلى مناطق أُخرى من الكرة الأرضية من أجل الزعامة السياسية و/أو العسكرية و/أو الهيمنة. وحروبها المباشرة أو غير المباشرة تحدث في المنطقة ذاتها التي توجد هي نفسها فيها. لذلك كان من العسير جداً التوصل إلى اتفاقات للحد من التسلح تسمح بمجابهات عسكرية أدنى مستوى فيما بينها. والواقع أن هذه الحروب والمجابهات العسكرية التي تجري بالوكالة في الشرق الأوسط بوساطة وكلاء من المنطقة نفسها إنما هي من أسباب عدم الاستقرار التي يرجى من نظام الأمن الإقليمي الشامل، بما في ذلك الحدُّ من التسلح، أن يعالجها.

الحدُّ من التسلح لا يؤدي، في حد ذاته، إلى حل الخلافات والنزاعات السياسية. بينما الحرب والدبلوماسية تؤديان إلى ذلك. وقد استعملت الأداتان بفعالية في تجربة القوتين العظميين، وذلك بالتضافر مع الحد من التسلح في المسرح الأوروبي. ولن يكن الحد من التسلح في الشرق الأوسط فعالاً ما لم يحيَّد البعد العسكري. والإقدام على ذلك من دون حل القضايا البارزة ثم الرجاء بأن تتمكن الدبلوماسية وحدها من حل النزاعات والقضاء على الريب والأحقاد المتأصلة إنما هو تحدٍّ جاد. ذلك لأنه إذا ما عجزت الدبلوماسية عن الحل، ولم يكن ثمة ساحات خارج الشرق الأوسط تسوى فيها النزاعات، فإن اتفاقات الحد من التسلُّح تصبح هشة وعرضة للانهيار. فقد كانت الحروب الأطرافية التي خاضها الجباران بوساطة وكلاء محليين بمثابة صمام الأمان لاتفاقات الحد من التسلح.

ونظراً إلى كونهما قوتين عظميين، فإن الولايات المتحدة (ومعها أوروبا الغربية)، ومثلها الاتحاد السوفياتي (ومعه أوروبا الشرقية) لم يكونا بحاجة إلى تدخل طرف ثالث. والواقع أنه لم يكن ثمة من طرف ثالث أقوى منهما وقادر على التدخل وحماية مصالحه أو محاولة مساعدة أي من الطرفين. لذلك كانت الخلافات والاتفاقات تسوَّى ثنائياً. وفي حال الخلافات، كانت الهيئات الدولية تمثل منابر رمزية لتسجيل النقاط الأخلاقية. لم يكن ثمة طرف ثالث يُستدعى للمساعدة. وقد ساهم هذا العزل عن القوى الأُخرى في تعزيز فعالية الاتفاقات واستقرارها.

أمّا في الشرق الأوسط، فإن وجود أطراف ثوالث يعقِّد الأوضاع. وعلى الرغم من أن مفاهيم الحد من التسلح والحاجة إلى نظام أمني في الشرق الأوسط تأتي أحياناً من أطراف ثوالث تقوم في أكثر الأحيان بالحث على الاتفاقات الأمنية والسعي لعقدها، فإن دور هذه الأطراف ليس سليماً دائماً. فهذه الأطراف ليست أقوى من الدول المحلية فحسب، بل إن لها مصالحها الخاصة وأولوياتها التي تحرص على حمايتها، كما أنها تقوم بدور فعال في شؤون المنطقة. وهي أيضاً الحَكَم في الاتفاقات المحلية وملزمة بحماية حلفائها. فمن الأعراف الشائعة لدى دول الشرق الأوسط أن تستعين بالقوى الخارجية وتستنجد بها عند اندلاع النزاعات الإقليمية؛ إذ لم ينشب أي نزاع في تاريخ الشرق الأوسط الحديث إلاّ تدخلت القوى الخارجية فيه. ولذلك، كانت الاتفاقات المحلية شديدة التأثر بالاعتبارات الخارجية، وهذا عامل يساهم في هشاشتها، ولا سيما في أوقات التوتر الدولي، أي حين ينحاز الفرقاء المحليون مع حلفائهم الدوليين ويشكلون كتلاً متزاحمة.

والأطراف الخارجية تخلُّ بالتوازنات الإقليمية وتقود إلى اتفاقات غير مستقرة. فالتوازن بين العراق والكويت، مثلاً، مختل لمصلحة الكويت بسبب تحالفها مع الولايات المتحدة. فإذا ما تغيرت التحالفات، وهي تتغير بانتظام مقلق في الشرق الأوسط (باستثناء إسرائيل والولايات المتحدة، والعربية السعودية والولايات المتحدة)، فإن التوازنات المحلية ستختل، كما أن جميع اتفاقات الحد من التسلح المبنية على البنى القديمة ستتأثر تالياً. ولذلك فإن اتفاقات الحد من التسلح المستقبلية في الشرق الأوسط ستعبِّر عن التحالفات القائمة يوم عقدت تلك الاتفاقات. وكل تغير في هذه التحالفات سيؤثر، في أرجح الظن، في استقرار الاتفاقات وسيقود إلى توترات جديدة. وسيكون وقع ذلك أشد ما يكون في ترتيبات الحد من التسلح المعقودة بين الدول الضعيفة نسبياً وبين شركائها الأقوى منها. إن دول الشرق الأوسط أشد تأثراً بمثل هذه التغيرات التي تفرض مزيداً من الضغوط على اتفاقات الحدّ من التسلح، بينما كانت التغيرات في التحالفات بين الدول الواقعة في جوار القوتين العظميين أو على أطرافها لا تشكل تهديدات حقيقية لتوازن القوى العام المؤثر في اتفاقاتهما للحد من التسلح، أو كانت مما يمكن احتواؤه.

واتفاقات الحد من التسلح في الشرق الأوسط أشد تأثراً بالاعتبارات السياسية. فإلى حين انهيار الاتحاد السوفياتي، ظل يحكم سياسةَ الجبارين ضربٌ من الاستمرار. ولم تكن التغيرات السياسية الداخلية في كلا البلدين تمسُّ أساس اتفاقاتهما ومعاهداتهما. السلاسة في اتباع سياسة معيَّنة ونقاط التركيز تغيرت فعلاً بتغير الإدارات، لكن المنحى الأساسي في الحد من التسلح استمر. والحال قد لا تكون على هذا المنوال في الشرق الأوسط، حيث التغيرات السياسية وتعاقب الحكومات لا يحدث بهدوء وبلا انقطاع. فالتغيرات المفاجئة في الأنظمة و/أو التحالفات قد تؤدي إلى تآكل وتلاشي الالتزامات التي التزمت إحدى الدول بها حيال الحد من التسلح. ومعاهدات السلام قد تبقى بعد التغيرات السياسية المفاجئة في الأنظمة، ولا سيما متى كانت مشفوعة بتدابير أمنية صارمة وفعالة، لكن اتفاقات الحدِّ من التسلح قد تذهب ضحية أسباب متنوعة، لا تصدر كلها عن النيات العدائية بالضرورة. ويزيد في تعقيد هذا الأمر الدور الذي يقوم به العسكر في بعض دول الشرق الأوسط، حيث ترتبط الحاجة إلى اقتناء الأسلحة وتعديل المذاهب العسكرية بأسباب داخلية محض.

خاتمة

هل تستلزم الحجج السابقة أن الحد من التسلح في الشرق الأوسط محكوم عليه بالإخفاق؟ هل هو من المحتوم على المنطقة أن تنزلق في سباق التسلح المستمر وعدم الاستقرار من دون وازع ولا كابح؟ كلا، على الإطلاق. فالحجج المعروضة أعلاه إنما تبيِّن العقبات والصعوبات التي ستعترض المحاولات الجادة لإنشاء نظام إقليمي للحد من التسلح. فالصعوبة تكمن في المفاوضات الأولية على الاتفاق الإقليمي للحد من التسلح، أو على نظام للأمن الإقليمي، بعبارة أدق.

من الواضح أنه لا بد لمعاهدات السلام التي يجري التفاوض بشأنها من أن تشتمل على شروط أمنية ملزمة إلزاماً صارماً تقتضي تعديلات ثنائية في الأسلحة وتكييفات. وهذه نقطة انطلاق جيدة، وشبكة الترابطات التي تخلقها ستضمن تنفيذها. لقد نجحت في الماضي الترتيبات الأمنية الثنائية بين سورية وإسرائيل في الجولان وبين مصر وإسرائيل في سيناء. إن لنظير هذه الترتيبات كل حظوظ النجاح في المستقبل، ولا سيما إذا ما أسست على تدابير محددة بدلاً من الاعتماد على حسن النيات فحسب.

وما يجب تلافيه هو المنظومات الكبرى التي تشرك عدداً كبيراً من الفرقاء المتباينين من حيث الوزن السياسي والاقتصادي والعسكري، والتي تستلزم تدابير للتثبُّت معقدة تنطوي على كثير من الريب. الخطر الذي يستتبعه انتهاج هذا السبيل هو الانهيار التام لهذه المنظومات في الشرق الأوسط.

ومن المداخل الأُخرى إلى الحد من التسلح التزام الأطراف الإقليميين التزاماً واضحاً وصريحاً بالاتفاقات الدولية التي تتحكم في انتشار بعض الأسلحة واستعمالها. ومن شأن التزام كهذا أن يولد الثقة الجوهرية لخلق مناخ يفضي إلى اتفاقات أُخرى أكثر تحديداً.

إن من شأن إعلان النيات غير العدوانية ونبذ التصريحات العدائية الملتهبة أن يساهما أيضاً في خلق مناخ أفضل. وإذا ما شُفعت هاتان الخطوتان بإجراءات صغيرة لتوطيد الثقة المتبادلة، كالخط الساخن والاتفاقات على التحليق العالي وسوى ذلك من الإجراءات المشابهة، فإنها ستخلق بدايات لمنطقة يعمها مزيد من السلام.