السلطة والتجارة: البروتوكول الاقتصادي الإسرائيلي ـ الفلسطيني
كلمات مفتاحية: 
منظمة التحرير الفلسطينية
بروتوكول باريس 1994
علاقات اقتصادية
الاقتصاد الفلسطيني
الاقتصاد الإسرائيلي
التنمية الاقتصادية
نبذة مختصرة: 

تتمحور الدراسة حول "بروتوكول باريس بشأن العلاقات الاقتصادية بين حكومة دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلة الشعب الفلسطيني"، الموقع في باريس في 29/4/1994. وتشتمل الدراسة على العناوين الفرعية التالية: العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية ـ الفلسطينية عشية البروتوكول؛ نظرة عامة إلى البروتوكول؛ تنويع الشركاء التجاريين؛ النمو الاقتصادي والتنوع؛ تقويم. كما تشتمل على جدولين.

النص الكامل: 

احتل الاقتصاد على مدى العامين الماضيين حيزاً مركزياً في جهود التسوية العربية - الإسرائيلية إلى الحد الذي كان يبدو، في بعض الأحيان، أن هناك محاولة متعمدة لحجب القضايا السياسية. وكمثال للتفاعل العميق بين السياسة والاقتصاد، تم الترويج للتسوية بأنها الطريق التي تؤدي إلى الرخاء الاقتصادي الإقليمي، بينما صُوِّر الرخاء المقرون بإنشاء ترابطات اقتصادية بين الدول بأنه الضمانة لديمومة التسوية. وقد ظهرت هاتان المقدمتان الافتراضيتان مثلاً واضحاً في "إعلان الدار البيضاء" الصادر في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1994، في إثر القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي استغرق انعقادها يومين، بحضور وفود من مسؤولين كبار ورجال أعمال وأخصائيين من الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وأوروبا، والولايات المتحدة، ودول أُخرى.

ويمكن مناقشة صحة هاتين المقدمتين الافتراضيتين، وهما تستحقان تحليلاً منفصلاً خاصاً بهما. ومع ذلك فإن توقع الدعم المتبادل بين السلام والرخاء حاضر بقوة في عملية التسوية الفلسطينية - الإسرائيلية أيضاً. وهي تشكل، بصورة خاصة، أساس تعهد المجموعة الدولية بتقديم 2.4 مليار دولار للمساعدة في إعادة بناء غزة والضفة الغربية. وما تختلف الحالة الفلسطينية - الإسرائيلية فيه اختلافاً أساسياً عن غيرها، مثلاً الحالة الإسرائيلية - الأردنية، هو أنه لا حاجة هنا إلى إنشاء نسيج من الروابط الاقتصادية، ذلك بأن هذا النسيج موجود منذ بداية الاحتلال.

وهذا النسيج، الذي حاكته إسرائيل ليخدم مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، أبقى الاقتصاد الفلسطيني على الدوام في حالة من التخلف والخضوع للاقتصاد الإسرائيلي. وقد حاول الفلسطينيون من غير نجاح، خلال الانتفاضة، أن يفككوا خيوط هذا النسيج عن طريق مقاطعة البضائع الإسرائيلية، ومقاومة دفع الضرائب، وتشجيع الإنتاج المحلي. ولاحقاً، حاول المفاوضون الفلسطينيون إعادة التفاوض بشأن العلاقة الاقتصادية بين الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل. ويتألف أحد الاتفاقين اللذين تم التوصل إليهما من البنود الاقتصادية (ذِكر للمبادئ العامة ومجمل مجالات التعاون) في اتفاق "إعلان المبادئ" الذي وقّعته إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في 13 سبتمبر/أيلول 1993 (المادة 11 والملحق 3، والملحق 4). أمّا الاتفاق الآخر فهو "بروتوكول باريس بشأن العلاقات الاقتصادية بين حكومة دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلة الشعب الفلسطيني"، الموقع في باريس في 29 نيسان/أبريل 1994، والذي تم دمجه لاحقاً بصفته الملحق رقم 4 في اتفاق القاهرة الموقع في 4 أيار/مايو 1994،(1) الذي هو هنا محور هذه الورقة.

إن بروتوكول باريس، الذي يتألف من ديباجة واثنتي عشرة مادة وملاحق تشمل الأعمال المصرفية والتجارة والضرائب والعمالة والتأمين والسياحة، وهلم جراً، يرسم الخطوط العامة لمجالات اتخاذ القرار الذاتي الفلسطيني إضافة إلى القواعد التي ستحكم العلاقة الاقتصادية التي ستنشأ بين المناطق الفلسطينية المتمتعة بالحكم الذاتي وبين إسرائيل. كما أنه يحدد الإطار لتنمية الاقتصاد الفلسطيني والقيود المفروضة على هذه التنمية على مدى الأعوام القليلة المقبلة. أمّا مدى استفادة الفلسطينيين من الفرص، ومدى تخفيفهم من وطأة القيود المفروضة، فسيعتمدان على قدرة السلطة الوطنية الفلسطينية على بناء المؤسسات اللازمة، وإيجاد البيئة القانونية، ووضع السياسات الملائمة. وسيعتمدان أيضاً على الوضع الأمني، وحسن نية إسرائيل، وعلاقات السلطة الوطنية الفلسطينية بالدول العربية الأُخرى.

وعلى الرغم من أن كثيراً من المقالات كُتب بشأن هذا البروتوكول، فإن أيّاً منها لم يحاول، في حدود علمنا، تقديم تحليل مفصل للتأثير الممكن للبروتوكول في الاقتصاد الفلسطيني. وهذه المقالة ترمي إلى هذا الهدف من خلال تفحص الشروط المتضمنة في مواد البروتوكول المتعلقة بمجالي التجارة والعمل، كون الوثيقة برمتها أطول وأعقد من أن تعالج في مقالة واحدة. فالتجارة والعمل يمثلان الشكلين الرئيسيين للتعامل الاقتصادي بين الجانبين، ويؤثران بعمق في مسار الاقتصاد الفلسطيني. وسنتفحص في مساق بحثنا مسائل مثل ما إذا كان نظام الوحدة الجمركية والتجارية الجديد سيخفض العجز التجاري للأراضي المحتلة مع إسرائيل، وينوِّع الشركاء التجاريين الفلسطينيين، ويؤدي إلى النمو الاقتصادي، ويساعد في تكامل غزة والضفة الغربية، ويؤدي إلى استقرار سوق العمل للعمال الفلسطينيين في إسرائيل.

العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية - الفلسطينية عشية البروتوكول

كانت الضفة الغربية قبل أن تحتلها إسرائيل سنة 1967 جزءاً متكاملاً من الأردن سياسياً واقتصادياً. أمّا غزة، من الناحية الأُخرى، فقد كانت تحت الإدارة المصرية، وكانت تربطها علاقات اقتصادية بمصر وأوروبا الشرقية، التي كانت آنذاك الشريك التجاري الرئيسي لمصر. وكانت الروابط الاقتصادية بين الضفة الغربية وغزة، المفصولتين جغرافياً بوجود إسرائيل، غير موجودة البتة.

وتغير الوضع جذرياً بفعل الاحتلال،(2) الذي أعقبه تطويق الضفة الغربية وغزة بوحدة جمركية وحيدة الجانب مع إسرائيل. واستتبع هذه الوحدة الجمركية كنتيجة لا بد منها صادرات من إسرائيل إلى المنطقتين وتدفق للعمالة إلى الجهة المقابلة. لكن، بينما أصبحت اقتصادات الضفة الغربية وغزة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإسرائيل، بقيت المنطقتان منعزلتين إحداهما عن الأُخرى على نحو يذكرنا بأعراض التبعية الكلاسيكية، حيث كانت دول العالم الثالث مرتبطة بأوروبا والولايات المتحدة الأميركية لكن من غير رباط بينها. وفي الوقت نفسه، تضاءلت علاقات الضفة الغربية الاقتصادية بالأردن، وعلاقات غزة الاقتصادية بمصر؛ إذ لم تسمح إسرائيل للبضائع الأردنية بدخول الأراضي المحتلة، بينما حدَّت قوانين المقاطعة العربية لإسرائيل، وبصورة غير مقصودة، من تدفق البضائع من الأراضي المحتلة إلى الأردن وسائر دول العالم العربي.(3)  

يلخص الجدول رقم 1 العلاقة الاقتصادية بين إسرائيل والضفة الغربية وغزة قبل توقيع البروتوكول وبعد ذلك، فقبْل البروتوكول تحكَّمت إسرائيل في العمليات المصرفية في الأراضي المحتلة، كما أن العملة الإسرائيلية أصبحت النقد الرئيسي المتداول قانوناً هناك. وفي الحقيقة، فإن الخدمات المصرفية كانت متدنية جداً، ولم يُنفق سوى القليل من أرصدة التسليف. وبالنسبة إلى التجارة، فإن إسرائيل وضعت تعريفات جمركية انطلاقاً من مصلحتها الاقتصادية، التي لم تكن بالضرورة مفيدة للأراضي الفلسطينية المحتلة. وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى ضريبة القيمة المضافة، التي احتفظت إسرائيل بعائداتها المالية إلى جانب أموال أُخرى.(4) وقد استخدم البنك الدولي تعبيراً ملطفاً لوصف انتزاع إسرائيل مثل هذا الفائض الاقتصادي عندما سماه "ضغطاً مالياً".(5)

لقد ظلت التجارة بين الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل في الأساس نشاطاً من جانب واحد. فالمنتوجات الإسرائيلية والسلع المعاد تصديرها تدفقت إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة من غير أي إعاقة، في حين فرضت قيود كثيرة لا تتعلق بالتعريفة الجمركية (الأمن، السلامة والصحة، الحظر على الواردات) على الصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل، هذا غير الدعم الكبير الذي يتلقاه المنتجون الإسرائيليون. ولم يكن مسموحاً للفلسطينيين بأن يستوردوا إلاّ من خلال إسرائيل. وكانت نتيجة هذه الممارسات كلها خلال أعوام الاحتلال أن رُبطت الأراضي المحتلة بإسرائيل بتركيز غير اعتيادي لشراكة تجارية، وجُعلت في عجز تجاري مزمن وطاغ (انظر الجدول رقم 2).

إلى ذلك، فإن النمو الصناعي والنمو الزراعي كانا خاضعين لثقل سيطرة القوانين والسياسات الإسرائيلية. وقد استخدمت إسرائيل تحكمها في منح التراخيص لعرقلة النمو الصناعي في الضفة الغربية وغزة عن طريق رفضها المتكرر منح التراخيص للفلسطينيين الراغبين في إنشاء مصانع. وعُرقل التصنيع أيضاً بالأسعار المرتفعة الناجمة عن المصادرة المكثفة للأراضي الفلسطينية والقيود المفروضة على استخدامها، وغياب النظام المصرفي الذي يؤمن التسليف، وفقر البنى التحتية والخدمات الداعمة للمشاريع. وهكذا، ظل الإنتاج المحلي قائماً على الخدمات والزراعة، وساهمت الزراعة فيه بنحو ثلث الإنتاج المحلي الإجمالي في الأعوام الكثيرة الماضية (انظر الجدول رقم 2). وقد نما قطاع الزراعة، ويعود الفضل في ذلك بصورة رئيسية إلى استثمارات المزارعين الفلسطينيين في تكنولوجيا الري بالتقطير الناجعة والموفرة للمياه. وعلى الرغم من وجود قطع واسعة من الأراضي في الضفة الغربية، يمكن استصلاحها بسهولة، فإنه لم يحدث أي توسع أفقي بسبب القيود المفروضة على حرية استعمال الفلسطينيين للأرض والمياه، كما سيتم مناقشته أدناه.(6) وقد أصاب التدهور البنية التحتية العامة، ولم تتجاوز الاستثمارات في هذا القطاع، استناداً إلى تقديرات البنك الدولي،(7) 3% من الإنتاج المحلي الإجمالي. وقد وظف الجزء الأعظم من الاستثمار الخاص في مجال الإسكان.

وقد أعاق النقص الإجمالي في مجال الاستثمار إمكان توفير فرص عمل، واضطر نحو ثلث القوة العاملة إلى البحث عن العمل في إسرائيل والمستوطنات. ويساعد تصدير العمالة إلى إسرائيل في تفسير أمرين: أولهما ارتفاع مستوى الدخل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الرغم من مستوى البطالة المسجل، وثانيهما الفارق بين الإنتاج المحلي الإجمالي والإنتاج القومي الإجمالي؛ إذ بلغ معدل الأول أقل من ثلاثة أرباع معدل الآخر في الفترة 1990 - 1992 ومن ناحية أُخرى، فمنذ الانتفاضة، وخصوصاً منذ حرب الخليج سنة 1991، أصبحت العمالة في إسرائيل رهينة تقلبات الرياح السياسية.

لقد تمكنت إسرائيل من إخضاع اقتصادات الضفة الغربية وغزة، لا بسبب سيطرتها العسكرية والمؤسساتية فقط، بل، بدرجة أكثر أهمية، بسبب كون اقتصادها أكبر حجماً وأكثر تطوراً وتنوعاً كثيراً من الاقتصاد الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، فاق معدل الإنتاج المحلي الإجمالي الإسرائيلي معدل الإنتاج المحلي الإجمالي الفلسطيني ثماني عشرة مرة في الفترة 1990 - 1992. وتزود المصانع الإسرائيلية السوق بأصناف كثيرة ومتنوعة من السلع الاستهلاكية، ولا سيما الأدوات البلاستيكية والكهربائية، بينما يتألف الإنتاج الصناعي الفلسطيني الصغير الحجم من منتوجات ذات فائض قيمة متدن، وبصورة أساسية الأغذية المصنعة تصنيعاً بسيطاً، والصناعات اليدوية، والأحذية.

وعلى هذه الخلفية يجب تقويم تأثيرات البروتوكول، وبمعنى ما، مستقبل أداء الاقتصاد الفلسطيني. 

نظرة عامة إلى البروتوكول

يغطي البروتوكول في الأساس القطاعات الاقتصادية الفلسطينية كافة، والدورين الفلسطيني والإسرائيلي، والعلاقات الاقتصادية الفلسطينية بإسرائيل والدول الأُخرى. وستشرف على تطبيقه "اللجنة الاقتصادية المشتركة" (المادة 2)، التي ستقوم بحسم الخلافات ومراجعة أي قضية بناء على طلب أي من الطرفين. كما أنها ستقرر كميات مختلف البضائع التي يمكن للفلسطينيين استيرادها، وتحدد قوانين الاستيراد الأُخرى.

ولا يسمح البروتوكول للفلسطينيين بأن تكون لهم عُملتهم الخاصة (التي تحمل في مضمونها رمز السيادة). وسيبقى النقد الرسمي المعترف به الشيكل الإسرائيلي الجديد. ومع ذلك يمكن، كما هي الحال، التداول بالدينار الأردني والدولار الأميركي. وفي أي حال، ربما ليس الاقتصاد الفلسطيني في موقع يؤهله لدعم عملة قابلة للتحويل في الوقت الراهن. ومهما تكن صحة ذلك، فإن غياب النقد المستقل يحرم السلطة الوطنية الفلسطينية تلقائياً الأدوات التي تجعلها قادرة على وضع سياسة نقدية، ولا سيما فيما يتعلق بتحديد معدلات الفوائد وقيمة العملة. وعليه، فإن الأداء الاقتصادي الفلسطيني سيكون مرتبطاً بالشروط النقدية في إسرائيل، وإلى حد أقل، في الأردن.

ومن ناحية أُخرى، فإن البروتوكول يمكّن الفلسطينيين من ممارسة سيطرة مهمة على العمليات المصرفية، ويسمح لهم بإنشاء "سلطة نقد فلسطينية" (المادة 4 - 1) لهذا الغرض. وهذه السلطة مفوضة وضع سياسات مالية واسعة المدى كانت صلاحية وضعها في يد الحكومة الإسرائيلية: إدارة الاحتياطات الرسمية؛ إجازة المصارف والقوانين المصرفية؛ تسوية حسابات تبادلات العملات الأجنبية مع إسرائيل والأردن. وفي حال نشوء قطاع مصرفي قابل للنمو، فإن هذا الأمر يمكن أن يشكل واحداً من أهم الأدوات غير المتوفرة حالياً لتشجيع التوفير والاستثمار وتسهيل التجارة.

وسيكون في وسع الفلسطينيين، استناداً إلى البروتوكول، تحديد مستويات الضريبة المباشرة وجباية الضرائب. غير أنهم سيكونون مقيدين أكثر عندما يتعلق الأمر بالضرائب غير المباشرة، مثل التعريفات الجمركية وضريبة القيمة المضافة، كما سيتم شرحه أدناه. لكن بينما كانت عائدات الضرائب غير المباشرة تذهب في السابق إلى الحكومة الإسرائيلية، فإنه، استناداً إلى البروتوكول، سيتم تحويلها حالياً إلى السلطة الوطنية الفلسطينية وجبايتها على نحو جزئي من جانب هذه السلطة.

وفي مجال التجارة والعمل، فإن البروتوكول يوضح القوانين التي تحكم الواردات والصادرات بين المناطق الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل، وبين هذه المناطق وسائر دول العالم. والبضائع التي يستطيع الفلسطينيون استيرادها من مناطق أُخرى غير إسرائيل محددة في ثلاث لوائح منفصلة، تحدد أيضاً القيود بشأن الكمية، والمصدر، والمواصفات. ويعالج البروتوكول حرية حركة الصادرات بين مناطق الحكم الذاتي وإسرائيل، وذلك بعد أن تتوفر فيها شروط مستويات الصحة والسلامة وغير ذلك. كما يسمح بحرية حركة العمال، لكنه نظرياً يعطي كلا الطرفين حرية تقييد الدخول [إلى إسرائيل]. 

الواردات

تنظم المادة الثانية من البروتوكول الواردات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة من دول أُخرى غير إسرائيل، بينما تبقى حرية الواردات من إسرائيل إلى الضفة الغربية، كما من قبل، غير معرقلة، ولا يتطرّق البروتوكول إلى كيفية وضع إسرائيل لسياستها التجارية.

يدرج البروتوكول لائحة بأنواع البضائع التي يمكن للفلسطينيين أن يستوردوها من دول أُخرى غير إسرائيل تحت فئات أ 1 وأ 2، و ب (يتم التعامل مع النفط والسيارات بصورة منفصلة). أمّا البضائع التي لا تتضمنها هذه الفئات الثلاث فهي خاضعة لقيود الاستيراد القديمة. وتشتمل الفئتان أ 1 وأ 2 على المنتوجات الغذائية والزراعية (من غير أن تتضمن الفاكهة الطازجة والخضروات)، ومواد البناء الأساسية (مثل الأسمنت والفولاذ)، والأسمدة، والأدوات المنزلية الكهربائية (مثل الثلاجات والغسالات). وسيكون في إمكان السلطة الوطنية الفلسطينية أن تحدد مستويات الجمارك على هذه البضائع استناداً إلى اتفاقية الـ "غات" GATT [الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة] الأخيرة (دورة أوروغواي)، عندما تصبح سارية المفعول في إسرائيل.(8) أمّا مواد البناء (باستثناء الألومنيوم)، والأسمدة، والأدوات المنزلية، فيتعين استيرادها من الأردن ومصر، وبالنسبة إلى باقي السلع من هاتين الفئتين، فمن الأردن ومصر والدول العربية والإسلامية الأُخرى. ويجب ألاّ تكون هذه السلع منتوجات جرى فقط تجميعها في مرحلة الإنتاج النهائية، ويجب ألاّن تقل نسبة المساهمة المحلية (الأردنية والمصرية وغيرهما) عن 30% من قيمة الصادرات. كما يجب أن تخضع هذه السلع لتحديدات كمية محددة من جانب الطرفين "بما لا يتجاوز حاجات السوق الفلسطينية." وبالنسبة إلى كميات مواد البناء والأسمدة والقمح، فقد تم تحديدها مسبقاً في البروتوكول بمستويات تعادل ما قدره 50% من حاجات السوق، والمستويات الأُخرى يتم التفاوض بشأنها تالياً. وستكون الكميات خاضعة لمراجعات مرحلية كي تأخذ في الاعتبار التغيرات في الطلب عليها.

أمّا اللائحة ب فتتألف من السلع الأساسية للنمو الاقتصادي، بما في ذلك المعدات الزراعية (مثل آلات الحصاد والدرّاسات)، وآلات البناء الثقيلة، وآلات حفر الأرض، والآلات والأدوات اللازمة لصناعة النسيج في المصانع والمنازل. ولا توجد قيود تتعلق بالتعريفة الجمركية ومصدر وكمية هذه البضائع التي تعتبر ضرورية لنمو الاقتصاد الفلسطيني.

ويحرر البروتوكول جزئياً سلعاً مثل النفط والسيارات من الوحدة الجمركية الأحادية الجانب. فبحسب البروتوكول، تستطيع السلطة الوطنية الفلسطينية استيراد البنزين من الأردن ومصر (إذا توفر فيه مستوى الشروط الأوروبية والأميركية) بكميات محددة من جانب اللجنة الاقتصادية المشتركة وبيعها من المستهلكين بأسعار أقل من الأسعار في إسرائيل بنسبة 15%. أمّا المنتوجات النفطية الأُخرى، مثل زيوت التدفئة، فيمكن استيرادها  من الأردن، ومن غير قيود على أسعارها. كما يمكن السماح للسلطة الوطنية الفلسطينية بأن تقرر معدلات الرسوم على السيارات، لكن من غير المسموح إدخال سيارات مر على تصنيعها أكثر من ثلاثة أعوام.

أمّا البضائع والكميات التي لم تحددها اللجنة الاقتصادية المشتركة، أو لم يشملها البروتوكول، فستبقى خاضعة لرسوم جمركية، وضرائب، وجبايات أُخرى تساوي على الأقل الرسوم السائدة في إسرائيل. والسلطة الوطنية الفلسطينية مخولة فرض مستويات أعلى، وإلى جانب ذلك، فإنها ستجبي ضريبة القيمة المضافة على الواردات كافة، إضافة إلى السلع المنتجة محلياً. أمّا الحد الأدنى لضريبة القيمة المضافة فسيكون 15% - 16%، أي ما يساوي تقريباً المعدل في إسرائيل، الذي يبلغ 17%.

وسيكون في إمكان الفلسطينيين تحقيق نوعين من الكسب المالي من هذه القوانين الجديدة للواردات: الأول هو أن الضرائب والجباية المستحقة على جميع الواردات من البضائع المخصصة للفلسطينيين بصورة واضحة في المناطق التي تقع في نطاق نفوذ السلطة الوطنية الفلسطينية ستصبح حقاً شرعياً للسلطة الفلسطينية، حتى لو تم استيرادها عن طريق وسيط إسرائيلي. وقد قدر البنك الدولي هذه العائدات على نحو معتدل بما يقارب 8% من الإنتاج المحلي الإجمالي الفلسطيني.(9) لكن بينما يجب أن يمثل هذا من الناحية النظرية كسباً مباشراً، فإن مقدار ما يمكن الحصول عليه فعلاً سيعتمد على قدرة الفلسطينيين على تأسيس شبكة متطورة من المستوردين بالجملة بأسرع ما يكون (الشراء بالمفرّق من المستوردين الإسرائيليين، كما كان السلوك العام من قبل، يجعل من الصعب حصر السلع المبيعة من المناطق الفلسطينية).

أمّا الفائدة المالية الثانية المتعلقة بالواردات فيمكن أن تتأتى من استيراد البضائع من المصادر الرخيصة. ففي حالة النفط والسيارات والبضائع الأساسية في اللائحة ب، يجب أن يكون الأمر واضحاً. إن الرسوم الجمركية الإسرائيلية على بضائع الاستثمار الأساسية الواردة في اللائحة ب تبلغ 21%،(10) وهي نسبة عالية بالنسبة إلى متطلبات النمو في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولذا، فإن إعفاء مثل هذه البضائع من الضرائب الإسرائيلية يمثل مكسباً مهماً. لكن اللائحة ب لا تشمل جميع التجهيزات الاستثمارية الرئيسية: فالكومبيوترات، على سبيل المثال، أو المبيدات الخاصة بالزراعة، ما زالت خاضعة لقوانين الوحدة الجمركية السابقة، بينما ارتفع سعر هذه المواد بحدة في الأعوام الأخيرة، وبقي سعر المحصول يراوح عند المستوى نفسه.(11)

إن العدد الكبير من القيود المفروضة، وخصوصاً على الواردات الزراعية واللائحتين أ 1 و أ 2، يلقي ظلاً كبيراً على المكاسب الممكنة؛ إذ يتعين على كلا الطرفين الامتناع من استيراد "المنتوجات الزراعية" التي يمكن أن تؤثر سلباً في المزارعين لدى الطرف الآخر من غير إلحاق أي إجحاف بالترتيبات الدولية الموجودة (المادة 8 - 12). وبما أن الفلسطينيين ليس لديهم ترتيبات دولية، فإن الفقرة المذكورة تمثل عملياً عائقاً أمامهم أكثر مما أمام الإسرائيليين، ولا سيما أن في وسع الإسرائيليين أن يقوموا بتفتيش الواردات الفلسطينية بينما ليس للفلسطينيين مثل هذا الحق. أمّا مدى تأثير هذا الأمر في الفلسطينيين، فإن من الصعب التحقق منه من غير دراسة مفصلة للمنتوج الزراعي في إسرائيل والتزامات إسرائيل الدولية، وتصادم ذلك مع المتطلبات الفلسطينية. ومع ذلك، فإن حقيقة أن إسرائيل رأت أن هناك حاجة إلى تضمين مثل هذه الفقرة تشير إلى أنها تتوقع خسائر فيما لو اشترى الفلسطينيون أنواعاً معينة من السلع من مصادر أُخرى، وخصوصاً الفاكهة والحليب (لم يجر التفاوض بشأنهما بعد)، اللذين تصدرهما إسرائيل بكميات كبيرة إلى الضفة الغربية وغزة.

إن حصر استيراد الأدوات الكهربائية المنزلية الواردة في اللائحتين أ 1 و أ 2 بالأردن ومصر يمكن أن يمنع الفلسطينيين من التحرك خارج الوحدة الجمركية لشراء هذه المواد. وليس من المرجح أن يتم استيراد كثير من الأدوات من الأردن ومصر بسبب النوعية المتدنية عموماً، وبسبب المتطلبات المحلية من مثل هذه المنتوجات. وبالتالي، فإن معظم الأدوات المنزلية المعمرة سيأتي على الأرجح من إسرائيل، التي ستكسب الرسوم الجمركية التقليدية على هذه الأدوات، البالغة 70%؛ وقد يكون إصرار إسرائيل على تعيين مصدر هذه البضائع ناجماً عن حقيقة أن مثل هذه المواد يشكل 2% من إنتاجها الصناعي.(12)

إضافة إلى ذلك، فإن اشتراط أن تكون نسب التعريفة الجمركية على اللائحتين أ 1 و أ 2 مساوية لنسب الـ "غات" يحرم السلطة الوطنية الفلسطينية حرية وضع مستويات التعريفة الخاصة بها، ويدفعها إلى الانضمام إلى الـ "غات" سواء رغبت في ذلك أم لم ترغب فيه. وفي أي حال، فإنه لا السلطة الوطنية الفلسطينية، ولا المستهلك، من المرجح أن يكسبا أو يخسرا الكثير مالياً من استيراد المواد الغذائية والسلع الزراعية من مصادر أُخرى، نظراً إلى كون التعريفات الإسرائيلية على المواد الغذائية إمّا متدنية، وإمّا معدومة.

ومن الممكن أن يُطرح كثير من التساؤلات بشأن تقييد الكميات المفروضة على السلع في اللائحتين أ 1 و أ 2، الذي لا يقوض كثيراً من إمكانات الكسب فحسب، بل يمكن أيضاً أن يساعد في إغناء تجار الجملة على نحو غير مشروع، وأن يشجع على نشوء تواطؤ بينهم وبين مسؤولي السلطة الوطنية الفلسطينية. أما ربط مستويات الاستيراد المسموح بها بـ "حاجات السوق" فهو إشكالي لعدد من الأسباب، ليس أقلها عدم وجود مسح موثوق به للاستهلاك المنزلي، ولعدم توفر الثقة، بحسب وجهة نظر معظم الخبراء، بالإحصاءات العيانية، ولا سيما بعد الانتفاضة. وحتى حجم السكان في الضفة الغربية وغزة غير مؤكد، وغالباً ما يبدو أن إسرائيل تستدل على حجم استهلاك الضفة الغربية وغزة من الفوارق الناتجة من حسابات متنوعة من تقديرات الإنتاج الإسرائيلي والاستهلاك والتجارة لديها. بالإضافة إلى ذلك، كيف يمكن تحديد مستويات الاستهلاك عندما يتغير الدخل وعندما لا يكون لكثير من السلع أي تقديرات يمكن الاعتماد عليها فيما يتعلق بمرونة الدخل في مقابل الطلب (الذي يقيس استجابة الطلب لتغيرات الدخل)؟ وزيادة على ذلك، فإن اشتراط البروتوكول ألاّ تتخطى الواردات حاجات السوق قد يشجع إسرائيل عل "أن تخطئ" فيما يتعلق بالحد الأدنى، من أجل حماية صادراتها إلى الضفة الغربية وغزة.

وحتى إذا تلاءمت الكميات مع حاجات السوق، فكيف يمكن للمرء أن يضمن، في غياب الحدود، عدم تسرب السلع إلى السوق الإسرائيلية بحثاً عن أسعار أعلى، أو بالعكس، أن تستمر السلع الآتية من إسرائيل في الهيمنة على السوق؟ في الحالة الأولى سيحصد التجار مكاسب غير متوقعة، لكن المستهلك الفلسطيني سيخسر. وفي الحالة الثانية ستتمتع السلع الإسرائيلية بميزة نسبية بفضل الجوار الجغرافي وسهولة إمكان إدخالها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ويتعين على السلطة الفلسطينية أن تقسم الكميات إلى حصص. وتشير الخبرة في أماكن أُخرى من العالم إلى أن من شأن تحويل البيروقراطيين مثل هذه المسؤولية أن يفضي إلى إحداث ما يمكن تسميته مشكلة الـ "مجازفة الخُلُقية" بينهم (13) وفعلاً، فإن هناك تهماً تم إطلاقها ضد قيادة السلطة الفلسطينية لأنها لم تعلن مزاداً علنياً لاستيراد الأسمنت وأجهزة الاتصالات والنفط، ولأنها تفضل تجاراً معينين على حساب الآخرين.(14) 

الصادرات

ينص البروتوكول على أنه سيكون هناك حرية في حركة المنتوجات الزراعية والسلع الصناعية بين الطرفين، من دون ضرائب على الاستيراد ورسوم جمركية إضافية، على أن تكون خاضعة لاستثناءات وترتيبات معينة (المادة 8 والمادة 9). وسيكون في استطاعة الفلسطينيين تصدير سلعهم إلى الدول الأُخرى أيضاً، على افتراض أنه لن تكون أمامهم العوائق السابقة. وفي حدود البروتوكول، سيكون في وسع الفلسطينيين أن يتبنوا سياسات للنهوض بالنمو في حقول التسليف والبحث والمساعدة التنموية، وامتيازات بالنسبة إلى الضريبة المباشرة (ضريبة القيمة المضافة، كما أشرنا أعلاه، حُددت بـ 15% - 16%).

أمّا الصادرات من الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى إسرائيل، فيجب أن تتوفر فيها المعايير المعمول بها في إسرائيل لجهة البيئة والصحة والسلامة العامة. وفوق ذلك، هناك قيود على الكميات من الصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل، مثل الخضروات والطيور الداجنة والبيض. وسيتم خفض هذه القيود بالتدريج إلى أن تنتهي في سنة 1998.

أمّا مدى التأثير الذي سيتركه البروتوكول في الصادرات الفلسطينية والعجز التجاري المرافق، فمن الصعب تخمينه. ففي الصناعة سيعتمد هذا الأمر على نمو التصنيع والتنوع في البنية الراهنة (انظر أدناه). وفي الزراعة، فإن الحصص المعمول بها لحماية الإنتاج الإسرائيلي من المنافسة الفلسطينية تبطل تقريباً أي منافع تصديرية؛ إذ إن 25% فقط من إنتاج الخضروات في الأراضي المحتلة مسموح بتصديرها إلى السوق الإسرائيلية من دون أي قيود.

وبالإضافة إلى ذلك، واستناداً إلى تقديراتنا، فإن الكميات المحددة من المنتوجات المسموح للفلسطينيين بتصديرها إلى إسرائيل (15) هي أقل مما كان يُصدَّر بصورة غير قانونية.(16) وليس من الواضح لنا على أي أساس قَبِل المفاوضون الفلسطينيون هذه الكميات، إلاّ إذا افترضوا أن الصادرات غير القانونية ستستمر، أو لماذا تضع إسرائيل قيوداً على تصدير البطيخ، مثلاً، بينما تقوم هي بتصدير هذا المحصول إلى الأراضي المحتلة. وبينما تحدد إسرائيل الكميات المسموح بتصديرها من البيض والطيور الداجنة لحماية منتجيها،(17) فلا يوجد قيود مقابلة على الفاكهة والخضروات الإسرائيلية لحماية المزارعين الفلسطينيين.(18)

وستكون الصناعة والزراعة الفلسطينيتان في وضع خاسر في مقابل الصناعة والزراعة الإسرائيليتين أيضاً، وذلك بسبب الدعم المالي الحكومي الكبير الذي تقدمه إسرائيل إلى القطاعين. فعلى سبيل المثال، بلغ معدل دعم إسرائيل لقطاعها الزراعي 32% من قيمة منتوج هذا القطاع خلال الفترة 1984 - 1990.(19) وقد اتخذ هذا الدعم شكل قروض بشروط ميسرة، وإعانات مالية حكومية من أجل عوامل الإنتاج (ولا سيما المياه والأرض)، وتمويل للصادرات، وضمان حد أدنى من الأسعار بالنسبة إلى بعض المنتوجات.

وفي المقابل، كان الدعم المقدم إلى قطاع الزراعة الفلسطيني ضئيلاً ومتقطعاً وصادراً عن منظمات غير حكومية أساساً. ومن أجل إعطاء الصادرات الفلسطينية فرصة عادلة للمنافسة، فإن مستويات الدعم لكلا القطاعين الزراعيين يجب أن تكون متكافئة. ويمكن للفلسطينيين أن يحاولوا إيجاد أسواق أُخرى، لكن هذا الأمر لن يكون سهلاً أبداً، وخصوصاً بالنسبة إلى الزراعة في ضوء شروط الإنتاج والتسويق الإقليمية.

تنويع الشركاء التجاريين

إن الاندماج الاقتصادي، أو على الأصح إعادة الاندماج الاقتصادي، مع دول المنطقة لن يكون هيناً. وفقرة الواردات في البروتوكول تفتح مجالاً، على الرغم من القيود المحددة سابقاً. إن القيود التي تنص على حصر استيراد كثير من السلع من مصر والأردن بالتحديد تضيّق المجال أكثر. ومع ذلك، من وجهة نظر اقتصادية، فإنه سيتعين على الأردن أن يصر على معالجة عجزه التجاري مع الضفة الغربية وغزة (انظر الجدول رقم 2). ومن وجهة نظر سياسية، فإن الفلسطينيين سيظلون راغبين في إقامة علاقات تجارية عميقة بالأردن، لا لأسباب جيو - استراتيجية (إن لم يكن لأسباب قومية عربية) فحسب، بل أيضاً كون معظم مجالات التجارة في الأردن في أيدي فلسطينيين أردنيين، ولأن الأردن يوفر مخرجاً رئيسياً نحو سائر دول العالم العربي. ومن شأن الروابط التجارية مع مصر أن توفر توازناً، ولا سيما في ظل العلاقات المستقرة التي تجمع مصر وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية منذ أكثر من عقد من الزمان. كما أن إسرائيل، من جهتها، ستكون راغبة في تقوية الحضورين المصري والأردني في الأراضي المحتلة بسبب تأثيرهما السياسي المعتدل المتوقع هناك. وقد تسعى إسرائيل، من خلال تعزيز الموقع الاقتصادي للأردن في الأراضي المحتلة، لشحن التنافس بين الأردن والسلطة الفلسطينية.(20) وبغض النظر عن الأسباب، فإن المنشأ الوطني للسلع والقيود بشأن الدول المسموح باستيرادها منها، يستبعدان شركاء تجاريين إقليميين آخرين، بل حتى يقوضان إمكان استيراد سلع من مصادر خارج حاجز الوحدة الجمركية، كما تم التطرق إليه سابقاً.

لكن حتى لو كانت أبواب التجارة مفتوحة، فهل سيحدث الاندماج؟ إن التبادل التجاري العربي يشكل عادة أقل من 5% من مجمل قيمة التجارة العربية. والأردن، الذي ربما يكون اقتصاده هو الأكثر اندماجاً في الاقتصادات العربية الأُخرى، يتلقى عادة أكثر من ثلاثة أرباع وارداته من خارج المنطقة العربية.(21) وذلك بسبب النقص في تكامل الإنتاج والتنوع في البنية الصناعية، إلى جانب المشاحنات السياسية العربية الداخلية التي لها نصيب في التأثير. وبشكل مشابه بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن الواردات، ولا  سيما سلع الإنتاج الأساسية والسلع الاستهلاكية المعمرة، ستأتي من الدول الصناعية ومن دول جنوب شرق آسيا، على الأقل في المدى المتوسط. كما سيأتي كثير من المواد الغذائية، وخصوصاً القمح والأرز، من خارج المنطقة.

لكن في حقل الصادرات، كان الأردن ناجحاً في احتلال زاوية خاصة في الأسواق العربية، في السعودية والخليج والعراق؛ ومع أنه حدث انقطاع في ذلك بسبب الأوضاع السياسية، فإن هذا المثال يوضح ماذا يمكن أن يحدث في الأوضاع الطبيعية.(22) بيد أن الضفة الغربية وغزة سيجدان صعوبة أكثر من الأردن في إحداث منافذ على الأسواق، على الأقل في المدى القصير، لأن تكاليف الإنتاج فيهما، المتأثرة إلى حد كبير بالبنية الإسرائيلية للتكلفة، أعلى منها في الدول غير المنتجة للنفط. وسيكون من الصعب أيضاً بالنسبة إلى الفلسطينيين الوصول إلى المواد الأقل تكلفة بسبب القيود المفروضة على الواردات. وكي يكونوا قادرين على المنافسة، فإنه يتعين على المنتجين الفلسطينيين أن يصبحوا أكفاء جداً، وهذه مهمة ليست سهلة في ظل حالة التخلف العامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ومع أن هذا الاندماج الاقتصادي مع الشركاء الإقليميين ذو أهمية قصوى، وتم تأكيده من جانب المحللين، فإننا نعتقد أن الأولوية يجب أن تذهب إلى تكامل غزة والضفة الغربية، اللذين تفصل إسرائيل بينهما. ومثل هذا التكامل، الذي لم يتطرق البروتوكول إليه، إن لجهة تشجيعه أو خلاف ذلك، لن يكون أمراً سهلاً، وسيتطلب الأمر تخطيطاً كثيراً بسبب البنية الإنتاجية المتشابهة في الاقتصادين. كما سيتطلب الأمر إخراج غزة من وضعها الهامشي بالنسبة إلى الضفة الغربية، الذي حجبه بصورة موقتة كونها مقر السلطة الوطنية الفلسطينية.

وبالتأكيد، فإن استخدام العملة نفسها، إذا ما تم ذلك، بالإضافة إلى النظم المصرفية والبيئة القانونية والمنظمة للعملية الاقتصادية، سيساعد، لكن إذا لم يجر تدفق البضائع والخدمات والناس والمعلومات، فإن التكامل لن يحدث. إن الأهمية الحاسمة للتغلب على عدم التواصل بين المنطقتين تبدو واضحة عندما نتذكر أن انشقاق الباكستان سنة 1971 حدث بسبب فقدان التكامل بين الأجزاء الغربية والأجزاء الشرقية من البلد، وبسبب تهميش شرق الباكستان (بنغلادش). 

النمو الاقتصادي والتنوع

إن تطبيق البروتوكول سيعطي الفلسطينيين، وإن كان ليس بأثر رجعي، معظم أموال الضريبة غير المباشرة (المقدرة من البنك الدولي بنحو 8% من الإنتاج المحلي الإجمالي سنة 1991)،(23) والتي كانت إسرائيل تستولي عليها. وهذه الموارد المالية يمكن أن تصبح مصدراً مهماً للاستثمار. وعلى الرغم من أنها ليست جزءاً من البروتوكول، فإن الأموال التي تعهدت الدول المانحة دفعها، والتي هي غير كافية وبطيئة الوصول، ستقدم دفعاً للنمو الاقتصادي.

إن الأموال المقدمة من الدول المانحة مخصصة أساساً للتكاليف الإدارية ولمشاريع البنى التحتية. والنمو الاقتصادي من مثل هذه المبالغ المنفقة يمكن أن يتحقق كنتيجة للطلبات من البضائع والخدمات التي تستلزمها المشاريع، ومن زيادة كفاءة الأجهزة والخدمات التي تعتمد الأنشطة الاقتصادية عليها. وحتى لو كانت مساهمتها في نمو وتنوع البنية الاقتصادية صغيرة، فإن الاستثمار سيحسّن وضع الطرق والاتصالات والخدمات الصحية والمرافق التعليمية، وهي مجالات تلامس صلب الحياة اليومية للسكان.

إن النمو الاقتصادي الطويل الأجل يمكن أن يتأتى من الزراعة والصناعة والخدمات، ولا سيما السياحة. وسنعالج هنا فقط إمكانات الزراعة والتطور الصناعي؛ أمّا السياحة، فعلى الرغم من أنه تم التعامل معها في البروتوكول، فإنها تتطلب معالجة مختلفة.

إن النمو الزراعي يأتي إمّا عن طريق التوسع الأفقي (مساحة الأرض) وإمّا عن طريق التوسع العمودي (التكثيف). وكلا الأمرين يواجه عوائق حادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ فالتوسع الأفقي مكبوح بشدة بسبب عدم إتاحة استعمال الأرض والمياه، على الرغم من وجود أكثر من 170 ألف دونم من الأراضي البور الخالية من عوائق التربة أو العوائق الطبوغرافية في الضفة الغربية، والتي يمكن أن تضاف إلى 90 ألف دونم - 100 ألف دونم المزروعة حالياً. وهذه المساحة لم يتم استصلاحها نتيجة تجميد تزويد الفلسطينيين بمياه الريّ عند مستويات سنة 1967، هذا إضافة إلى مصادرة إسرائيل أجزاء من الأرض لإقامة المستوطنات ولأسباب أمنية مزعومة. وبما أن مسألتي الأرض والمياه تم تأجيلهما - الأرض إلى حين المفاوضات بشأن الوضع النهائي، والمياه إلى أجل غير مسمى، على الرغم من أنه ورد في اتفاق "إعلان المبادئ" ذكر لمفاوضات بشأن المياه خلال المرحلة الانتقالية - فإن التوسع الأفقي ليس وارداً في الحسبان.

أمّا بالنسبة إلى التوسع العمودي، فإن الإمكانات معوقة بسبب الشكوك المحيطة بإمكان وصول الإنتاج الفلسطيني إلى الأسواق. فالسوق الإسرائيلية محمية بالكميات المحددة للصادرات من الإنتاج الفلسطيني التي ينص البروتوكول عليها، وبالدعم المالي الإسرائيلي لمزارعي إسرائيل. وفي الأسواق الإقليمية، سيكون الإنتاج الفلسطيني في وضع غير مؤات بسبب تكاليف الإنتاج الأعلى، الناجمة عن الأجور المرتفعة، والقيود المفروضة على الواردات من الأسمدة والمبيدات، والدعم المالي الحكومي للمزارع في الدول المجاورة، وضآلة الدعم المؤسساتي المؤسفة.

ولئن تحقق تكثيف للإنتاج على الرغم من هذه الحواجز، فسيكون ضمن نطاق محدود، من خلال الزرع في البيوت البلاستيكية التي تتطلب كميات كبيرة من المياه والمبيدات، والتي يمكن أن تخلّف أثراً سلبياً في الصحة ومصادر المياه الجوفية. وبالتالي، فإن وضع القطاع الزراعي، ما لم يتخلص من العوائق الثقيلة أو يتبنى ممارسات غير سليمة بيئوياً، سيبقى على الأرجح مماثلاً لوضعه الراهن.

أمّا الصناعة، القائمة أساساً على صناعات منزلية من النمط الحرفي اليدوي، فمن الممكن أنها تساهم حالياً بأقل من 10% من الناتج المحلي الإجمالي. وتركز الصناعات الآلية في الوقت الراهن على تصنيع المواد الغذائية والنسيج وصنع الصابون. وإضافة إلى ذلك تجري، في غزة بصورة خاصة، عمليات تصنيع بعقود فرعية لمصلحة شركات إسرائيلية تبحث عن تكاليف عمالة رخيصة.

نظرياً، هناك مجال لتوسع صناعي. وأحد السبل للتوسع هو إنشاء صناعات تنتج بديلاً من السلع المستوردة (مثلاً، المنسوجات، والأحذية، ومواد التجميل، والسجائر، والمنظفات المنزلية، ومواد البناء). لكن بينما يوجد أساس وتجربة فيما يتعلق بهذه الفروع الصناعية، فإنه يجدر الإشارة إلى عدد من العوائق. إن طرق الإنتاج العصرية والنوعية الجيدة سيكونان ضروريين كي يكون المنتوج قادراً على المنافسة في السوق المحلية، كما أن صغر حجم هذه السوق سيحدث نمواً في التصنيع المعتمد على الصادرات. وهنا، سيعرقل إمكانَ إيجاد منافذ إلى السوق الإسرائيلية متطلباتُ المعايير الإسرائيلية للسلع والدعم المالي الحكومي للصناعة، مع أنه قد يكون هناك مجال لصناعات الأحذية والنسيج ذات القيمة المضافة المتدنية.

ويعطي البروتوكول السلطة الوطنية الفلسطينية مجالاً لتقديم العون المالي إلى الصناعة. وقد تكون الضريبة على دخل الشركات الوسيلة الرئيسية؛ إذ إن ضريبة القيمة المضافة مقررة مسبقاً. لكن الإعفاءات الضريبية ستحرم السلطة الفلسطينية عائدات ضريبية هي في أمسّ الحاجة إليها، ويجب أن تكون مشروطة بالإنجاز. وقد يكون تنويع الأسواق الإقليمية ممكناً من حيث المبدأ، كما يدل المثال الأردني على ذلك، لكنه يتطلب الحصول على المعدات الأساسية والمواد الوسيطة من مصادر رخيصة.

إن اللائحة ب المتعلقة بالواردات في البروتوكول تعفي الكثير من أنواع المعدات والآلات من حاجز الوحدة الجمركية. لكن باستثناء مجموعة متنوعة من المنتوجات الخشبية، فإن اللائحة لا تشتمل على كثير مما يمكن اعتباره مواد وسيطة، ولا سيما الكيماويات. كما أن المواد المدخلة في الصناعة تعتمد على نوع الصناعة التي ستنشأ، ولا يمكن تصور إعداد قوائم بها مسبقاً.

إن الحاجات الضرورية الطارئة يمكن التفاوض بشأنها طبعاً، لكن من الممكن أن تسبب عملية التفاوض والمصادقة تأخيرات باهظة الثمن، حتى لو افترضنا حسن النيات من الجانب الإسرائيلي (وهو افتراض مشكوك فيه في ضوء تجربة الشهور الخمسة عشر أو أكثر من بدء "إعلان المبادئ"). وهذه الشكوك والتعقيدات قد تزيد في عدم تشجع المستثمرين المحتملين، الذين انجذبوا عموماً نحو قطاعي الخدمات والعقارات، وذلك جزئياً، بسبب عدم توفر خبرة فلسطينية في مجال التصنيع.

العمل

إن نسبة العاملين في إسرائيل [من المناطق المحتلة] تقدر بنحو 40% من العمالة في الضفة الغربية وغزة، وقد ظلت مستقرة نسبياً قبل الانتفاضة واشتملت على 109 آلاف عامل فلسطيني تقريباً في سنة 1987.(24) وقد احتفظت إسرائيل بالحسومات التي اقتطعت من أجور العمال المسجلين رسمياً لتغطية التأمين وبعض المنافع الأُخرى التي يستحقونها.(25) وكان معظم الفلسطينيين يعمل في قطاعات البناء والزراعة والخدمات.

مع الانتفاضة، أدت قرارات منع التجول والإجراءات الأُخرى المتعلقة بالأمن إلى انقطاعات في تدفق العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل. لكن حرب الخليج سنة 1991 كانت هي التي غيرت الوضع جذرياً؛ فقد قامت إسرائيل بإغلاق الضفة الغربية وغزة، مانعة العمال من العبور إليها، فهبطت بذلك مستويات التشغيل، ولم ترجع قط إلى المستويات السابقة على الحرب. وإضافة إلى ذلك، استمر إغلاق الضفة الغربية وغزة فترات طويلة أو قصيرة بصورة متقطعة، عادة عقب هجمات فلسطينية ضد الإسرائيليين داخل إسرائيل، أو جراء مخاوف الحكومة الإسرائيلية من إمكان حدوث مثل هذه الهجمات.(26) وكانت النتيجة هبوطاً حاداً في مداخيل العمال وتأثيراً سلبياً في الاقتصاد الفلسطيني برمته.

ينص البروتوكول على أن "كلا الجانبين سيحاول الإبقاء على تنقل العمالة العادي بينهما" شرط أن يحتفظ كل طرف (بالضرورة إسرائيل) بحقه في "تحديد حجم وشروط حركة العمل إلى منطقته من وقت إلى آخر" (المادة 7). كما تم الاتفاق على أن تقوم إسرائيل بدفع 75% من حسومات ضريبة الدخل إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، لكن لم يتم التطرق إلى الدفع بأثر رجعي.

إن العمالة الفلسطينية في إسرائيل أصبحت "شراً لا بد منه" بالنسبة إلى الطرفين، وإن تكن أقل ضرورة لإسرائيل مما هي للفلسطينيين. وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن العمال الفلسطينيين يقبلون الأعمال التي يأنف الإسرائيليون بصورة متزايدة عن القيام بها. وبالإضافة إلى أنهم عموماً عمال يعتمد عليهم وجدّيون، فإنهم يتلقون أجوراً أقل، ويحصلون على ضمانات وتأمينات صحية ومنافع أُخرى أقل من تلك التي يحصل العمال الإسرائيليون عليها.(27) وحقيقة أن عليهم مغادرة إسرائيل كل يوم بعد انتهاء العمل (على الرغم من أن بعضهم يبقى في إسرائيل ليلاً بصورة غير قانونية)، تقلل من حيث المبدأ التوترات الاجتماعية. ومع ذلك، فإن إسرائيليين كثيرين لا يحبون رؤية العرب يعملون بينهم.

وفي الجانب الفلسطيني، أثار العمل داخل إسرائيل جدالاً في البداية، وأحياناً محاولات مسلحة لوقفه. ومع أن النقص في الأعمال في الضفة الغربية وغزة جعل كثيرين من الفلسطينيين في النهاية يعترفون بالأمر الواقع، فإن العمل في إسرائيل لم يكن من دون ثمن اجتماعي واقتصادي وسياسي. فالاعتماد على الأسواق الإسرائيلية يعني، من جهة أُولى، أن القرارات التي تؤثر في معيشة مئات الألوف من الناس في الضفة الغربية وغزة تُتخذ من حكومة ليس لديهم أي نفوذ فيها. ويبدو أيضاً أن إسرائيل استخدمت مسألة دخول العمال إلى إسرائيل لأهداف سياسية، مثلاً، كي تضغط على الفلسطينيين لتقديم تنازلات خلال المفاوضات الثنائية في واشنطن، وكي تدفع السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ إجراءات حازمة ضد المعارضة الفلسطينية. وأخيراً، بالنسبة إلى الفلسطينيين كمجموعة، فإن الثمن الاجتماعي الذي يدفعونه في مقابل عملهم في الوظائف الوضيعة يمكن أن يكون عالياً. إن التأثير السيكولوجي في العمال، الناجم عن هذا النوع من العلاقة، ومدى تطابقه مع التشويهات التي تولدها العلاقة بين المضطهَد والمضطهِد التي وصفها باولو فرير وفرانز فانون، لم تجر دراستهما بعدُ. وفي أي حال، فإن مثل هذه العلاقة لا يحترم هدف التعايش بين الطرفين.

ومع ذلك، فإن علاقة "العامل ورب العمل" بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يمكن أن تنتهي على نحو مفاجىء من غير ضرر كبير يصيب الفلسطينيين. وينبغي لإسرائيل أن تعترف بالمسؤولية تجاه المكاسب الماضية التي جنتها من العمال الفلسطينيين وتجاه السياسات التي طبقتها في الضفة الغربية وغزة، والتي أدت إلى عدم توفير فرص للعمل هناك. وللأسف، فإن البروتوكول يفتح لإسرائيل ثغرة للهروب من هذه المسؤولية. ولم تتردد إسرائيل في استغلال هذه الثغرة، كما هو واضح من إغلاقها المتكرر للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ توقيع الاتفاق، ومن إعلانها مؤخراً أنها ستسمح لنحو 19 ألف عامل أجنبي، معظمهم من آسيا، بالدخول إلى إسرائيل بدلاً من العمال الفلسطينيين.(28)

تقويم

لقد تشكلت العلاقات الاقتصادية السابقة بين إسرائيل من جهة، والضفة الغربية وغزة من جهة أُخرى، بفعل أوامر السلطة الإسرائيلية الموجهة لخدمة مصالحها. وأي مكاسب تحققت للفلسطينيين كانت غالباً نتائج غير مقصودة. ويعكس البروتوكول الواقع التاريخي، المتمثل في استمرار الاحتلال خلال الفترة الانتقالية، وإصرار إسرائيل على حماية منتجيها والمحافظة قدر الإمكان على النصيب الأكبر في السوق الفلسطينية.

لقد كان من المستحيل تقريباً إنشاء نظامين جمركيين مختلفين من غير ترسيم الحدود السياسية بين الطرفين، وبالتالي، فإن الوحدة الجمركية الوحيدة الجانب والمخففة التي برزت كانت مقررة مسبقاً بفعل اتفاق "إعلان المبادئ": السياسة شكلت الاقتصاد. لكن كان يمكن لأجزاء أُخرى من البروتوكول أن تكون مختلفة. فالقيود على الواردات وضريبة القيمة المضافة كان يمكن أن تكون أخف كثيراً من غير تأثير سلبي في المنتجين الإسرائيليين. وكان يمكن للبروتوكول، على سبيل المثال، أن يطلق الحرية لاستيراد المبيدات وكل، بدلاً من نصف، الكميات المقدر أن الفلسطينيين سيحتاجون إليها. كما كان من الممكن النص على مقدار من المعاملة بالمثل فيما يتعلق بالصادرات الزراعية: حرية التصدير، أو التقيد بكميات محددة، بالنسبة إلى كلا الطرفين، على سبيل المثال، لا تحديد الكميات بالنسبة إلى الفلسطينيين وحرية كاملة لإسرائيل. وكان يمكن لإسرائيل أيضاً أن تقدم "دفعات مقدمة" من المياه والأرض الزراعية لتطوير الزراعة الفلسطينية، وأن تقدم دفعات من الأرض لتخفيف الضغط على أسعار الأراضي من أجل إنشاء مناطق صناعية. وتسليم الرسوم الجمركية، وضريبة القيمة المضافة، والحسومات من أجور العمال الفلسطينيين في إسرائيل، والجبايات الأُخرى [إلى السلطة الوطنية الفلسطينية]، كان من الممكن أن تتم بأثر رجعي. كما أن قدرة إسرائيل على إغلاق سوق العمل في وجه الفلسطينيين كان يمكن التعامل معها بطريقة تنم عن اعتراف بأن التسوية عملية طويلة لا يجوز معها الرد بالإغلاق بعد كل حادث عنف، واعتراف بالمسؤولية الخُلُقية لإسرائيل تجاه الأوضاع المعيشية للسكان الفلسطينيين (ولا سيما أن البطالة العالية المستوى تعرض عملية التسوية نفسها لخطر انهيار). إن هذه الاقتراحات كلها تقع ضمن نطاق اتفاق "إعلان المبادئ"، وكان يمكن أن تضفي على البروتوكول روح السماحة وحسن الجوار اللذين يُفتقر إليهما بشدة.

إن كون الفلسطينيين عجزوا عن الحصول على مثل هذه التنازلات يعكس، إضافة إلى ميزان القوى غير المتساوي، القدرة التفاوضية غير المتساوية للطرفين. فإسرائيل استفادت طبعاً من الحجم الكبير للمعلومات المنظمة والتحليلات المتعلقة بمجريات اقتصادها واقتصاد الضفة الغربية وغزة خلال الأعوام الماضية. وفي المقابل، كان الفلسطينيون يفتقرون إلى المعلومات والدراسات التفصيلية. كما أنهم فشلوا في الاستفادة الكاملة من الخبرة المتوفرة بسبب المركزية المسببة للشلل وتفضيل الولاءات التنظيمية والشخصية على الخبرة التي أثرت سلباً في إدارة المفاوضات. وقد اعترف سمير حليله، عضو الفريق الفلسطيني الذي تفاوض بشأن البروتوكول، بفقدان التشاور، لكنه عزا ذلك إلى ضيق الوقت.(29) ومع ذلك، لو أُخذ في الاعتبار ما كان في كفة الميزان بالنسبة إلى إسرائيل - ولنأخذ اتفاق السلام مع الأردن مثالاً - لاتضح أنه كان يجب على الفلسطينيين أن يضغطوا أكثر.

إن أولئك الذين يحاكمون البروتوكول بمعيار مدى تحرر الاقتصاد الفلسطيني من القيود السياسية والأمنية والاقتصادية الإسرائيلية سيصابون بالخيبة. لكن مثل هذه التوقعات، في أي حال، لا يمكن أن يكون مبرراً في ضوء قيود اتفاق "إعلان المبادئ"، والأعوام الطويلة من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي. إن المعيار الأفضل لتقويم البروتوكول يكمن في الثغرات التي يحدثها في جدار الوحدة الجمركية الوحيدة الجانب، وإمكانات المكاسب المالية الفورية - وهنا يمكن أن تكون خيبة الأمل أقل. لكن استغلال الثغرات الصغيرة المتوفرة يعتمد على كثير من الأمور غير القابلة للسير بدقة: الوضع الأمني الذي يمكن أن يؤثر سلباً في تدفق البضائع والخدمات وأن يزيد في مخاطر الاستثمار؛ قدرة الفلسطينيين على بناء الأطر المؤسساتية والتنظيمية من أجل التخطيط ورسم السياسة؛ حسن النيات الإسرائيلية، ولا سيما فيما يتعلق بالعمالة. وسجل إسرائيل فيما يتعلق بهذه الأمور ليس مشجعاً. وما لم يحدث تغيير وشيك، فإن إعادة بناء الاقتصاد المدمر وتفكيك خيوط شبكة التبعية للاقتصاد الإسرائيلي سيكونان أمرين بعيدي المنال.

 

المصادر:

(1) انظر:

“Israel-PLO Protocol on Economic Relations,” Paris, April 29, 1994, in Journal of Palestine Studies, vol. xxiii, no. 4 (Summer 1994), pp. 103-118.

(2) كُتب كثير بشأن الاقتصاد الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي. إن التلخيص التالي يعتمد إلى حد بعيد على مجمل هذه الدراسات، ومن أجل مزيد من التفصيلات، انظر، بين كتابات أُُخرى:

George Abed, The Economic Viability of a Palestinian State (Washington, D.C.: Institute for Palestine Studies, 1990); George Abed, ed., The Palestinian Economy: Studies in Development Under Prolonged Occupation (London: Routledge, 1988); Meron Benvenisti, The West Bank Data Project: A Survey of Israel’s Policies (Washington, D.C.: American Enterprise Institute, 1984); Osama Hamad and R. Shaban, “One-Sided Customs and Monetary Union: The Case of the West Bank and Gaza Strip Under Israeli Occupation,” in The Economies of the Middle East, edited by S. Fischer et al. (Cambridge, MA: Massachusetts Institute of Technology Press, 1993), pp. 117-148; David Kahan, Agriculture and Water Resources in the West Bank and Gaza (1967-1987) (West Jerusalem: The Jerusalem Post, 1987); Mahmud El-Jaafari, “Non-Tariff Trade Barriers: The Case of the West Bank and Gaza Strip Agricultural Exports,” Journal of World Trade, vol. 5, no. 3 (1991), pp. 15-32; Sara Roy, “The Gaza Strip: A Case of Economic De-Development,” Journal of Palestine Studies, vol. xxvii, no. 1 (Autumn 1987), pp. 56-88; World Bank, Developing the Occupied Territories: An Investment in Peace, 7 Vols. (Washington, D.C.: World Bank, 1993).

(3) وفقاً لقوانين المقاطعة العربية، فإن السلع المنتجة في الضفة الغربية وغزة أو التي استُخدمت في إنتاجها مُدخلات إسرائيلية أو صُنعت في مصانع تم إنشاؤها بعد سنة 1967، ممنوعة من الدخول إلى الأردن. وأحياناً تمتد قوانين المقاطعة العربية لتشمل بضائع أُخرى، ولا سيما بعد أن "فك" الأردن "الارتباط" بالضفة الغربية سنة 1988.

(4) تشمل الأنواع الأُخرى من الفائض الإيرادات المتأتية من كون الشيكل الإسرائيلي الجديد هو العملة الوحيدة القانونية المتداولة ("ضريبة السلطة")، والحسومات المجموعة من الفلسطينيين العاملين في إسرائيل.

(5) World Bank, Developing the Occupied Territories…, op. cit., vol. 2, p. 28.

(6) Sharif Elmusa, “Dividing the Common Palestinian-Israeli Water Resources: An International Water Law Approach,” Journal of Palestine Studies, vol. xxii, no. 3 (Spring 1993), pp. 57-77.                                                                                  

(7) World Bank, Developing the Occupied Territories…, op.cit., vol. 2, p. 2.

(8) حتى ذلك الوقت اعتمد "تعريف بروكسل للقيمة"  (BDV).

(9) World Bank, Developing the Occupied Territories…, op. cit., vol. 2, p. 33.

(10) Karim Nashashibi and Oussman Kanaan, “Which Trade Arrangements for the West Bank and Gaza?” Finance and Development, vol. 31, no. 3 (1994), pp. 10-13. 

(11) مؤشر أسعار المبيدات تضاعف تقريباً بين سنتي 1986 و1992، بينما ازدادت أسعار الخضروات في الضفة الغربية بنسبة 25٪، وفي غزة بنسبة أقل من 10٪. انظر:

State of Israel, Central Bureau of Statistics, Statistical Abstract, 1993.

(12) الإحصاءات مأخوذة من: Nashashibi and Kanaan, op.cit., p. 12.

(13) وفقاً لتصريح أدلى به السيد سمير حليله، عضو الفريق المفاوض بشأن البروتوكول، إلى صحيفة "القدس"، 6/6/1994. لم يكن من المفروض أن توضع اللوائح في متناول التجار.

(14) جوليان أوزان، صحيفة "الحياة"، 1/11/1994.

(15) يستهدف تحديد الكميات الخيار والبطيخ والبطاطا والبندورة. كما أن البيض والطيور الداجنة خاضعة أيضاً لتحديد الكميات.

(16) تصل الكمية المحددة للصادرات من الخيار سنة 1996 إلى 15 ألف طن، بينما تشير تقديراتنا، استناداً إلى استخدامنا نموذج الاقتصاد القياسي، إلى أن صادرات الخيار بين سنتي 1990 و1992 وصلت إلى معدل 19 ألف طن في السنة. كما أن الرقمين المقابلين بالنسبة إلى الصادرات من البطاطا هما 15 ألف طن و 17 ألف طن بالتتالي.

(17) قبل البروتوكول كان تصدير البيض والطيور الداجنة إلى إسرائيل ممنوعاً، لكن الكميات المحددة حالياً لا تؤمن الانتعاش. فالفوارق بين إنتاج البيض واستهلاكه في الضفة الغربية وغزة تفوق إلى حد كبير الكميات المحددة، كما لا يوجد فائض من الدجاج المربى لإنتاج اللحوم. على سبيل المثال، تشير تقديراتنا إلى أن المنتوج الفائض من البيض في الضفة الغربية وغزة وصل إلى 180 مليوناًـ- 190 مليون بيضة سنة 1992، أو ما يعادل تقريباً ستة أضعاف الكمية التي حددها البروتوكول لسنة 1994، وثلاثة أضعاف الكمية المحددة لسنة 1998، عندما ينتهي العمل بنظام الكوتا، ويستطيع منتجو البيض الفلسطينيون التحول من البيض إلى الدجاج اللاحم، لكن هذا التحول سيكون مكلفاً نسبياً.

(18) تبيع إسرائيل كميات كبيرة من الإنتاج الزراعي (غير المواد الزراعية مثل الأسمدة والمبيدات)، ولا سيما الفاكهة والخضروات. وقيمتها سنة 1986 كانت 15% من مجمل الصادرات الزراعية الإسرائيلية. تقديرات لمحمود الجعفري، "الواردات الزراعية للضفة الغربية وغزة"، جزآن في : "البيادر السياسي"، 13 و20/8/1988.

(19) Nashashibi and Kanaan, op. cit., p. 11.

(20) وافقت إسرائيل من جانب واحد على السماح للأردن بتصدير ما قيمته 30 مليون دولار من البضائع إلى الضفة الغربية، كجزء من اتفاق اقتصادي وقعته مع الأردن في 16 آب/أغسطس 1994 (انظر: "صوت إسرائيل"، 16/8 و"الإذاعة الأردنية"، 16/8، كما تم  ترجمة الخبرين في FBIS, August 17, 1994). وبشأن الدوافع الإسرائيلية الممكنة لتعزيز الموقع الأردني، انظر على سبل المثال: David Makovsky, Jerusalem Post, July 22, 1994.

(21) قابل الأرقام المتعلقة بالواردات على مدى الأعوام، كما نُشرت في التقارير السنوية للبنك المركزي في الأردن.

(22) على سبيل المثال، بلغت قيمة الصادرات الأردنية في الفترة 1985 - 1986 إلى هذه الدول نحو 50% من مجمل صادرات الأردن. لكن هذا الرقم انخفض سنة 1992، بعد حرب الخليج، إلى أقل من 25%. انظر التقارير السنوية لسنتي 1988 و1992 الصادرة عن البنك المركزي في الأردن.

(23) World Bank, Developing the Occupied Territories…, op. cit., vol. 2, p. 28.

(24) Ibid., p. 26.

(25) تنفي إسرائيل هذه التهمة، لكنها لم تقدم أي دليل لدعم زعمها. وقد قدرت الحسومات بنحو 250 مليون دولار، غير الفوائد، على مدى 25 عاماً، انظر:

Stanley Fischer, Securing Peace in the Middle East (Cambridge, MA: Harvard University, 1993), p. 84.

(26) من المثير للاهتمام ملاحظة أن عمليات الإغلاق من ابتكار حزب العمل الذي يعارض أيديولوجيا الليكود القائلة إن الأراضي الفلسطينية المحتلة أجزاء مكملة لإسرائيل.

(27) انظر: Fischer, Securing Peace…, op. cit., pp. 69-82.

(28) Clyde Haberman, New York Times, October 31, 1994, p. A11.

(29) في جريدة "القدس"، 6/6/1994.

السيرة الشخصية: 

شريف س. الموسى: زميل باحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومستشار مستقل.

محمود الجعفري: أستاذ اقتصاد مشارك في الجامعة الإسلامية في غزة.