عشية اندلاع الانتفاضة "في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين في كانون الأول/ديسمبر 1987، لم يكن وجود منظمة إسلامية ونشاطها في المناطق المحتلة يستقطبان الكثير من الاهتمام، ولم يؤجج الكثير من العواطف. غير أنه كُتب في الأعوام القليلة التي تلت ذلك التاريخ، الكثير الكثير عن "حماس" والأصولية الإسلامية في السياسة والمجتمع الفلسطينيين. ويستند الجزء الأعظم مما هو مكتوب، أكان صحافياً في طابعه أم أكاديمياً، إلى قدرٍ محدود من المعلومات التي يعاد إنتاجها باستمرار، ومن ثم يُعاد توضيبها والتركيز عليها، بهدف تعزيز ما يبدو انجذاباً عالمياً نحو الحاجة إلى وجود "إمبراطورية شر" جديدة. وفي حين أن النظام الشيوعي تلاشى ليصبح من ذكريات بعيدة ليس إلاّ، فإنه كان لا بد من إيجاد أمر ما، ولعله من نتاج الخيال، ليأخذ مكان تلك الإمبراطورية. وفي الوقت ذاته، كان من الضروري أن يُصار إلى ربط ظواهر عدة، متفاوتة في الظاهر، تشمل، فيما تشمل، الثورة الإيرانية، و"حزب الله" اللبناني، والأفغان العرب، والحرب الأهلية الجزائرية، والقنبلة الذرية الإسلامية، والنظام الإسلامي في السودان، وانفجار طائرة لوكربي، واختفاء النظام الماركسي في اليمن الجنوبي، وأمراء الحرب في الصومال، وانفجار مركز التجارة العالمي في نيويورك، والإرث الإسلامي الباقي من تفتيت الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا.
إن الاهتمام الواضح بالتيار الإسلامي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو تعبير يشمل حركة المقاومة الإسلامية (حماس") و "الجهاد الإسلامي"، و "حزب التحرير الإسلامي"، ليس نتاج إدراك متعاظم لأساليب عمل الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الناتجة من ذلك، كما أنه ليس جزءاً من البحث عن الوسائل الكفيلة بتحقيق تقرير المصير الوطني الفلسطيني. بل إنه في الجوهر مظهر من مظاهر اهتمام متعاظم في الغرب بما يبدو خطراً عالمياً يظهر في صورة أصولية إسلامية انقلابية شاملة تتحدى الانتصار المعلن للغرب في الصراع العالمي الذي انتهى منذ فترة وجيزة. أما المعنى المتضمن فهو مجرد مشكلة مصادر الطاقة. ولا جدال في أن النظرة إلى الإسلام لم تكن دوماً هكذا. بل على العكس، فمنذ أمد ليس ببعيد كان يُنظر إلى الحركة الإسلامية في أفغانستان بأنها حليف وصديق في الصراع الدائر لاحتواء الحكم الشيوعي وتقويضه. ولم تكن لفظة "المجاهدين" تثير أية ريبة. فقد تم استقبال زعمائهم في البيت الأبيض من جانب رئيس الولايات المتحدة بالذات. ولم يكن يُنظر إلى الإسلام بأنه العدو أو بأنه يمثل خطراً على المصالح الغربية، والواقع أنه لم يكن يمثل مثل هذا الخطر. وكان يُنظر إلى الحكومات الإسلامية في غرب آسيا بأنها مصادر قوة ثمينة.
ولعل انتصار الثورة الإسلامية في إيران هو الذي كان يشكل نقطة انعطاف تاريخية إذا ما عرضنا الماضي. فحتى ذلك الحين كانت الحركات الإسلامية في حد ذاتها تهتم اهتماماً رئيسياً بالصراع ضد الحركات القومية واليسارية المحلية وضد ما كان يبدو الخطر الداهم، أي الشيوعية بمظاهرها كافة، كالسوفياتية والصينية والكوبية وأنصارها المحليين. وعند منعطفات كثيرة كان خبراء الاستراتيجيا في الغرب والحركات الإسلامية ذاتها يشتركن في الرأي حيال كتلة من المصالح تربط الأمم الغربية والإسلامية بعضها بعضاً. وفي أقل تقدير، كان كلاهما يشارك في الإيمان بإله واحد وبقدسية المُلْكية الخاصة. لذا، من الحيوي ألاّ نسمح للهلع السائد حالياً إزاء صعود الأصولية الإسلامية بأن يحجب عنا الحقيقة، وهي أن الحكومات التقليدية الموالية للغرب في العالم العربي، أي الحكومات السعودية والمصرية والأردنية والكويتية (وإسرائيل بطريقتها الخاصة)، هي التي ساندت جميع المجموعات الأصولية تقريباً التي تهدد الآن الاستقرار في المنطقة (ويطلب منا أيضاً أن نعتقد أنها تهدد الاستقرار العالمي). فقد ظن السعوديون وغيرهم أنهم، ومن خلال مساندة هذه الجماعات الأصولية ضد الأحزاب والحركات العربية الراديكالية الوطنية واليسارية، يستطيعون إنجاز هدفين: أولهما اكتساب مقدار من الشرعية الشعبية، وثانيهما حشد القوى التقليدية والمحافِظة لدعم أنظمتهم.
ولا حاجة إلى القول إن الوضع القائم في العالم العربي على درجة عالية من انعدام الاستقرار، وإنه يفتقر إلى أية شرعية شعبية؛ فالحكومات كلها، ومن دون استثناء، مستهدفة بالهجوم من الداخل. إن نهاية الاتحاد السوفياتي، الذي كان مصدر الرعب التقليدي، لم تغيّر الوضع القائم قط، بل لعل هذه النهاية ركّزت الأضواء على التناقضات الداخلية، وسلبت النُخبَ الحاكمة تبريراتها الطويلة الأمد. وقد قال البعض إن إحدى الوسائل الرئيسية لقيام الديمقراطيات هي حاجة النُخب الحاكمة، لدى سعيها للإمساك بالسلطة، إلى توسيع رقعة حكمها من خلال "تقاسم اللوم". هذه هي "التجربة الديمقراطية" التي يصار إلى تنفيذها حالياً في الأردن. لكن في الحالات الأُخرى كافة تقريباً، ترفض النُخب الحاكمة مجرد التفكير حتى في تحسين الصورة الخارجية. وفي الكثير من الدول العربية تواكب عملية الإضعاف السياسية اليأس الاقتصادي الذي هو نتاج معدلات مرتفعة من ازدياد السكان، وتعاظم البطالة، أو العمل ما دون الطاقة، والضغط الذي لا يلين من جانب الوكالات المالية والدولية والهادف إلى تقليص الإنفاق الحكومي وإنهاء الدعم الحكومي للضرورات الاستهلاكية الأساسية، وتسليم الاقتصاد إلى أواليات السوق.
وخلال الشتاء الطويل لأعوام الحرب الباردة، كان غياب الديمقراطية، كما طُلب منا أن نعتقد، هو الثمن الذي كان على الغرب أن يدفعه لتفادي عدم الاستقرار في الأنظمة الصديقة وصعود الأنظمة المناصرة للسوفيات. فالأقليات الحاكمة التي حصرت السلطة والثروة في أيديها كانت تدين بوجودها إلى ذاك الإحجام عن مساندة التغيير أو حتى، في بعض الحالات، عن مجرد السماح به. فقد كان ثمة تخوف من أن تغييراً كهذا من شأنه أن يؤدي إلى تغيير اجتماعي سريع وإلى سقوط النُخب المتخندقة في السلطة. ومع أن هذا المنطق لم يعد قائماً، فإن المخاوف من انعدام الاستقرار العالمي لدى مجيء الديمقراطية ما زالت قائمة. ويبدو أن طبيعة التغيير ذاتها والمنحى الذي قد تنحاه هما الخطر الحقيقي. إن تطبيق أنظمة ديمقراطية من الحكم قد يشكل خطراً لا على المصالح المادية للأقليات الحاكمة حالياً فحسب، بل أيضاً على الأنظمة الاقتصادية والسياسية الراهنة التي تربط النظام الدولي بعضه بعضاً. إن الخطر يكمن في حاجات الجماهير ورغباتها وتطلعاتها، وهي الجماهير التي تشكل الجزء الأعظم من سكان المعمورة الذين لا يستطيعون، على الرغم من "نهاية التاريخ"، تأمين معيشتهم الاقتصادية، ناهيك بالمشاركة في مهرجان الاستهلاك الذي يمر أمام أعينهم. إن صعود الحركات "غير العقلانية"، والأصولية الدينية جزء ملحوظ منها، هو نتاج هذه الحقيقة الراهنة. لذا. فإن "تقاسم اللوم" دواء مهدئ قد يكسب بعض الوقت، كما هي الحال في الأردن، وقد يقود أيضاً إلى تدمير نظام الدولة الهش، كما حدث في الجزائر. ويبقى هنالك أمر واضح للعيان، ومثال الحركة الإسلامية في المناطق المحتلة من قبل إسرائيل أبلغ دليل على صحة ذلك، وهو أن العوامل الاقتصادية والسياسية هي التي تؤدي إلى بروز الأيديولوجيات، لا العكس.
لقد ظهرت حركة المقاومة الإسلامية، "حماس"، على المسرح عقب الانتفاضة الشاملة، التي اجتاحت في كانون الأول/ديسمبر 1987 المناطق المحتلة. وبدا في الظاهر أن حركة "الإخوان المسلمين" هي التي أوجدتها وسيلة لحشد الدعم ومنافسة الجماعات الوطنية واليسارية التي طالما كانت العلاقات بها عدائية. غير أن الدوافع الحقيقية لقيامها تكمن، في الغالب، في الخطر على قاعدتها الشعبية المتمثلة في جماعات إسلامية هامشية، مثل "الجهاد الإسلامي". فبعد انفصالها في وقت مبكر عن حركة "الإخوان المسلمين" في قطاع غزة، كان مؤسسو حركة "الجهاد الإسلامي" متأثرين بالثورة الإسلامية في إيران وبقوة المجاهدين الأفغان. فهاتان الحركتان كانتا هما المثال المحتذى الذي حل مكان حركة "الإخوان المسلمين" في مصر، وهي الحركة الأم التي استمرت في السيطرة على مختلف فروع الحركة في أرجاء العالم العربي. وكان هذا نوع جديد من الإسلام المقاوم والراديكالي والمقاتل، وهو إسلام وضع مسافة بينه وبين دول النفط العربية الغنية والمحافِظة التي كانت تقوم بدور المدافع العلني عن الإسلام. هذا الإسلام الراديكالي كان يحتقر تلك الأنظمة، مع ما يواكب ذلك من بعض الغيرة بسبب ثرواتها الطائلة والشعور بالاستعلاء حيال "تخلّفها". وعلى عكس "الإخوان المسلمين"، كانت حركة "الجهاد الإسلامي" بمثابة مؤامرة. وكان أعضاؤها النشيطون يمارسون المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، فتسلموا مشعل النضال المسلح من الجماعات المنضوية تحت لواء منظمة التحرير منذ انهيار المنظمة بعد سنة 1982. وفي الفترة التي سبقت سنة 1988، كان من شأن أعمال العنف التي قام أعضاء "الجهاد الإسلامي" بها، والتي لم تكن تشبه النضال المسلح، أن تؤدي على الرغم من ذلك إلى إحداث التعاطف مع الحركة الإسلامية ككل، الأمر الذي شجع "الإخوان المسلمين" على الاقتداء بهم. وهكذا، سرعان ما تطورت "حماس" لتصبح حركة سياسية متكاملة طغت على المنظمة الأم، ووجدت من الملائم لها أن تؤسس جناحها السري الخاص بها، أي كتائب [عز الدين] القسّام، للمشاركة في "الكفاح المسلح".
إن التحول الذي طرأ على صورة الإسلاميين العلنية أمر يثير الدهشة؛ إذ طالما كان يُنظر إليهم بأنهم جزء لا يتجزأ من المعسكر الموالي للأردن في الأراضي المحتلة. وكانت حركة "الإخوان المسلمين" قد ربطت نفسها بالهاشميين منذ الأيام المبكرة للاحتلال الأردني للضفة الغربية. وفي البدء كان الأمر بمثابة ردة فعل طبيعية لدى العناصر التقليدية والمحافظة حيال السلطة، لكن سرعان ما أضيف إليه العداء للمعسكر القومي ولجمال عبد الناصر في مختلف أطوار عهده، كقومي واشتراكي وعلماني، وفوق هذا وذاك، بوصفه الشخص الذي اضطهد حركة "الإخوان المسلمين" في مصر. وبعد إعلان الحظر على الأنشطة السياسية كافة في الأردن عقب الانقلاب الملكي سنة 1957، أضحى النظام يعتمد اعتماداً متزايداً على حركة "الإخوان المسلمين"، وهي الكتلة السياسية المنظمة والوحيدة التي منحته الاعتراف والدعم. وفي إبّان هذه الفترة بكاملها، كانت زعامة الحركة تأتي في الغالب من بين صفوف الزعامة الدينية، وكانت بالتالي تشمل موظفين دينيين يخدمون بوصفهم موظفين أردنيين. وفي الفترة التي تلت سنة 1967 كان الأردنيون والإسرائيليون ينظرون إليها نظرة التقدير. ففي الصراع الناجم بشأن التمثيل الفلسطيني بين الأردن ومنظمة التحرير، منحت الحركة دعمها للأردن، كما ساهمت في الحفاظ على النفوذ الأردني في الأراضي المحتلة. وفيما يختص بالاحتلال نفسه، اتخذت الحركة الإسلامية موقفاً مترفعاً حيال النشاط السياسي العلني، وأحجمت عن أي نشاط مناهض للاحتلال، إنْ في الجامعات أو في المجتمع الأوسع. وكان أعضاؤها منكبّين على الدعوة إلى إصلاح المجتمع الفلسطيني من الداخل وعلى مناهضة الاتجاه العلماني السائد لدى المجموعات التي تنضوي تحت لواء منظمة التحرير، وعلى الحد من قوة اليساريين، ناشري الكفر والإلحاد والفساد والأفكار المستوردة. وكانوا يرون أن هدفهم الرئيسي يكمن في العمل التربوي والاجتماعي وفي تعزيز الوعي الديني لدى الشعب. أما مناهضة الاحتلال فلم يكن وارداً في جدول أعمالهم. وهذا ما يفسّر سياسة التسامح إجمالاً (وقد يسمّيها البعض التشجيع) التي مارستها السلطات الإسرائيلية، وذلك بالمقارنة بسياسة القبضة الحديدية ضد حركة "الجهاد الإسلامي". أما أجهزة الأمن الإسرائيلية، فإنها لم تلتفت إلى ناشطي حركة "حماس" إلاّ بعد فترة لا باس فيها من اندلاع الانتفاضة. فأعلنت الحظر على تلك الحركة في حزيران/يونيو 1989، وذلك على الرغم من بروز أدلة منذ أواسط الثمانينات على أن نمطاً جديداً من العضوية الشابة والأكثر نشاطاً يتطور في صفوفها.
وعلى الرغم من جذورها الضاربة في حركة "الإخوان المسلمين"، التي هي جزء من التراث الأردني، فإن "حماس" حركة جديدة. ولعل من الأصح أن نَصِفها بأنها وليدة الاحتلال؛ إذ إنها برزت إلى الوجود خلال الانتفاضة، وشرك ولادتها ونموها وتوسعها هو حسها الوطني الذي اكتشفته حديثاً، والتزامها القضية الوطنية الفلسطينية. وهذا الأمر ينعكس على عضويتها. إن أعضاء حركة "الإخوان المسلمين" وحركة "حماس" يمثّلون صنفين مختلفين من الناس؛ فأعضاء حركة "الإخوان" وأنصارهم كانوا أساساً من الموظفين الدينيين، ومن المحافظين والمنعزلين والخانعين للسلطة، ومن الذين يهتمون بدواخل أنفسهم ويحجمون عن التورط أو الالتزام السياسي. أما أعضاء "حماس" وأنصارهم النشيطون، فهم في الغالب من شباب الشوارع النشيطين، وهم من الوطنيين الشباب الذين يبحثون عن إطار تنظيمي يسمح لهم بممارسة أنشطة مناهضة للاحتلال، بعد أن أصابهم الإحباط جراء ما يرون أنه تخلٍ من قِبل م.ت.ف. عن التزام الدولة المستقلة والنضال المسلح ضد الاحتلال. وفي الوقت ذاته، فإنهم يختلفون عن الجيل السابق من الإسلاميين بأنهم على درجة أعلى من التعليم، ومن بينهم عدد لا باس فيه من أصحاب المهن، ولا يرون أنهم ملتزمون أي تحالف مع الهاشميين، وهم مستعدون وراغبون في التعاون مع المجموعات الفلسطينية الأُخرى، بغض النظر عن موقعها في الساحة السياسية، ويمنحون الأولوية للقضية الوطنية. وقد ذهب بعض المراقبين إلى التعليق على "الطابع غير الإسلامي" للجماعات التي تجد نفسها مشدودة إلى صفوف الحركة.
ولا جدال في أن جدول أعمال حركة "حماس" وطني أكثر مما هو إسلامي. فمن المستحيل تقريباً تحديد طبيعة البرنامج الإسلامي الذي تناضل لتنفيذه. غير أنه من الواضح أن مشاركة الحركة في الانتفاضة كانت تهدف، وقد نجحت فعلاً، إلى اكتساب الاعتراف بـ "حماس" فصيلاً فلسطينياً شرعياً. وخلافاً للفصائل الفلسطينية الأُخرى، فإن التيار الإسلامي لم يكن يملك شرعية وطنية قبيل الانتفاضة؛ فالانتفاضة وحدها هي التي أتاحت لـِ "حماس" أن تومِّن لنفسها وجوداً، وهو وجود سيستمر بلا ريب في المستقبل الذي سيلي الانتفاضة. ومن دون "حماس"، ما كان للتيار الإسلامي، على الأرجح، أن يتمتع بشرعية وطنية. غير أن هذه الشرعية لم تُكتسب جراء نشاط وطني ولا بسبب مقدار أكبر من القبول لدعوة دينية عند جيل فلسطيني أكثر نشاطاً وأكثر إحباطاً في الوقت ذاته. إن برنامج "حماس" السياسي في جوهره برنامج منظمة التحرير القديم، أي التحرير "من النهر إلى البحر". لكن، في حين أنه كان على المنظمة أن تعمل خمسة وعشرين عاماً، تخللتها محطات كثيرة، لتخضع أخيراً لخطة حكم ذاتي محدود فرضتها إسرائيل، فإن "حماس"، التي لم تبرز إلى الوجود إلا منذ سنة 1988، أظهرت واقعية سياسية أتاحت لها أن تذهب إلى أبعد كثيراً. إن سياستها حيال عملية السلام الراهنة مبهمة عن سابق تصور وتصميم، وقد اتخذ زعماؤها موقفا متسامحاً ومرناً بعد دخول عرفات إلى غزة. أما تصريحات زعماء الحركة في الآونة الأخيرة. فهي تنم عن الرغبة في التزام قوانين الشرعية الدولية، الأمر الذي يعني الاعتراف الفعلي بإسرائيل، بينما تخطو في الوقت ذاته بعض الخطوات المترددة باتجاه العملية الدبلوماسية من خلال الحديث عن إمكان التوصل إلى هدنة. وفي الوقت ذاته، فإن "حماس"، ونتيجة للتحالف مع فصائل المعارضة التي مقرها دمشق، تحافظ على مظهرها الخارجي كمعارض ثابت لعملية السلام المتدرجة. وثمة الآن أمر واحد لا يرقى شك إليه هو أن "حماس"، كحركة سياسية، أضحت جزءاً لا يتجزأ من الوضع السياسي الفلسطيني.
غير أنه من الضروري ألاّ نبالغ في تأكيد مقدار التغيير والتحول اللذين واكبا الولادة الجديدة لـ "الإخوان المسلمين" على شكل حركة المقاومة الإسلامية.
إن "حماس"، كما يتبيّن من ميثاقها، ترغب في أن تصور نفسها بأنها جزء من تراث نضالي طويل يعود إلى حركة القسّام التي نشطت سنة 1935. وفي المجال الأيديولوجي، تبقى أيديولوجيتها مشبعة بعداء فظ وجاهل للسامية، وهو عداء ينبع مباشرة من الفكر الأوروبي اليميني خلال القرن التاسع عشر، يضاف إليه قراءة تاريخية للعلاقات العدائية بين النبي محمد والجوالي اليهودية في شبه الجزيرة العربية في فجر الإسلام. أما ميثاقها، فهو ينم عن عقلية تبدو أنها تستوطن عالماً آخر من الحقائق، بينما يبدو هذا الميثاق غارقاً في هلوسات تتلاءم مع الهلوسات الواردة في "أساطير البارون مونشهاوزن" (Münchausen)؛ فاليهود يوصفون بألفاظ تذكر بالديانة المانوية، فهم قادرون على كل شيء "وبالأموال فجروا الثورات في مختلف بقاع العالم، لتحقيق مصالحهم وجني الثمار، فهم مَنْ وراء الثورة الفرنسية والثورة الشيوعية ومعظم ما سمعناه ونسمع عن ثورات هنا وهناك. وبالأموال كوّنوا المنظمات السرية التي تنتشر في مختلف بقاع العالم، لهدم المجتمعات، وتحقيق مصالح الصهيونية، كالماسونية، ونوادي الروتاري، والليونز وغير ذلك... وبالأموال تمكنوا من السيطرة على الدول الاستعمارية، ودفعوها إلى استعمار كثير من الأقطار... فهم مَنْ خلف الحرب العالمية الأولى، حيث تم لهم القضاء على دولة الخلافة الإسلامية... وأنشأوا عصبة الأمم المتحدة ليحكموا العالم... وهم مَنْ خلف الحرب العالمية الثانية حيث جنوا الأرباح الطائلة... وأوعزوا بتكوين هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لحكم العالم." (المادة 22).
إن دراستيْ هشام أحمد وزياد أبو عمرو للحركة الإسلامية هما كمن يوفر القمح لطاحونة خبراء الاستراتيجيا في الغرب، الذين يبحثون عن براهين تدعم نظرياتهم بشأن خطر الأصولية الداهم. غير أن أحمد رشاد يقدم للقارئ رواية متعاطفة تكاد تكون دعائية. وبين هذه الدراسات الثلاث، فإن دراسة أبو عمرو أكثرها شمولاً؛ فهي تشمل "حماس" و "الجهاد الإسلامي" معاً، بينما تحاول أن تضع هاتين الحركتين ضمن الحركة الإسلامية الأوسع. فالفصول التي يعقدها لـ "الأخوان المسلمين" ولـ "حماس"، والتي تشكل معاً لب الكتاب، تحيّر القارئ بدلاً من أن توضح له الحقيقة. وذلك بسبب إدخال إشارات طويلة إلى تاريخ حركة "الإخوان المسلمين" وأيديولوجيتها في مصر وفي غيرها من البلاد، من دون أن يوضح المؤلف علاقة هذه الأمور كلها بموضوعه، إذا كان ثمة من علاقة أصلاً. أما الفصل المعقود لـ "الجهاد الإسلامي"، فهو أكثر تماسكاً، ويقدم للقارئ رواية تاريخية متسلسلة، يشوبها بعض النواقص الواضحة، وتستند إلى القليل من المعلومات الموثوقة التي كانت متاحة لنا قبل بضعة أعوام بشأن منظمة كانت في جوهرها سريّة. والكتاب ترجمة إلى الإنكليزية لدراسة سبق للمؤلف أن نشرها باللغة العربية سنة 1989، ولم يضف إليها سوى القليل وسدَّ الكتاب عند صدوره أول مرة نقصاً من خلال تجميع المعلومات التي كانت متاحة. لكن، ومنذ تلك الآونة، طرأت تغييرات درامية. وبالإضافة إلى ضرورة أخذ هذا الأمر في عين الاعتبار، أصبح من الواجب أن يُعالج الموضوع بالمزيد من التحليل.
أما كتاب هشام أحمد، فهو، بالمقارنة، على مستوى الحدث الراهن، ويغطي أحداثاً آخرها مجزرة الخليل. كما أنه يتضمن ترجمة بالإنكليزية للنص الكامل لميثاق "حماس". غير أن المؤلف عرضة للمبالغات الكبيرة، والكتاب حافل بالأغلاط وعدم الدقة. والعيب الأوضح هو غياب المصادر العربية في كتاب نشره في القدس باحثٌ لغته الأم هي العربية. فالمزاعم الواردة في وسائل الإعلام الإسرائيلية (وهي أقرب إلى التضليل منها إلى التقارير الصحافية) والتي تبقى بلا دليل على صحتها، يجري الاستشهاد بها من دون أي نقد، كالزعم أن إيران تدرب وتمول "حماس" والناشطين في حركة "الجهاد الإسلامي". ويقال لنا أيضاً إن بعض الأعمال، كتفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك، "يخدم أهداف حركات كحماس"، وذلك بالضبط بسبب "الدعاية السلبية" التي تتولد منها؟!! وبالإضافة، فإن المؤلف، على ما يبدو، قد وقع ضحية النظريات العظمى، كأن يقول لنا إنه، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتوابعه، كاليسار العلماني، "احتلت حماس مركز الصدارة على المسرح وكأنها المسيح المنتظر.
وعلى الرغم من حجمها الصغير، فإن دراسة أحمد رشاد الموجزة تقدم للقارئ رواية تحليلية للحركة الإسلامية؛ فالدراسة متوازنة، ومفيدة، ومتميزة في أسلوبها. وعلى الرغم من أن المؤلف لا يخفي عواطفه الشخصية، فإنه صريح العبارة وجريء الرأي في تقويمه للانتفاضة وللتيار الإسلامي معاً. وخلافاً لغيره من الذين يدافعون عن التيار الوطني أو الإسلامي، فهو يفسّر للقارئ بكل وضوح بأن "أرجاء المجتمع الفلسطيني كافة أصيبت بالدهشة من جراء حدّة التظاهرات التي اندلعت في غزة ومن ثم انتشرت..." في كانون الأول/ديسمبر 1987. وعند الحديث عن تأسيس "حماس" يقول المؤلف بصراحة تامة إن "الزعامة الأصلية.. كانت ترزح تحت وطأة عار العمالة الفعلية لإسرائيل منذ أن عمد الإخوان المسلمون إلى تأجيل تحرير فلسطين إلى وقت لاحق." ولدى اندلاع الانتفاضة شعر أعضاء "حماس" بضرورة تثبيت أنفسهم "ثواراً وعلى المرتبة نفسها من الوطنيين." ويوجه النقد إلى ميثاق "حماس" الذي صدر في آب/أغسطس 1988، فيرى أنه "لا يتضمن أية تفصيلات بشأن أية قضية." كما يرى أن في الصورة الشائعة حول قوة "حماس" العسكرية الشيء الكثير من المبالغة. فالعمليات التي جرت فعلاً، بمبادرةٍ من "الدوائر الداخلية بين ناشطي كتائب القسّام قليلة العدد ومتباعدة الأزمان." والذي يحدث في العادة أن بعض الأفراد من المتعاطفين مع "حماس" يقوم بهجمات فردية، ويزعم أنه إنما يفعل ذلك باسم "حماس". ويصل المؤلف إلى القول إن الحركة في هذه الحالات "لا تعترف بمسؤوليتها ولا تنكرها" أبداً. والمؤلف على حق حين يقول إن هذا من شأنه أن يقوّض شرعيتها في أعين الفلسطينيين. ومع أن المؤلف لا يقلل من شأن الاختلافات بين فصائل المنظمة بقيادة عرفات وبين الوطنيين الدينيين، فإنه يصف المواجهات العنيفة التي تندلع بين حين وآخر بأنها كثيراً ما تكون نتاج "ثأرات شخصية لا صراعات بين فصائل" ويقوم بها شبّان يصعب على زعامة كلا الفريقين السيطرة عليهم. ويشير، وبحق، إلى أن الشروح القائمة بين الإسلاميين والوطنيين كثيراً ما كانت في الماضي موضع مبالغة، ولم يؤخذ في عين الاعتبار الكثير من الاجتماعات والمباحثات المشتركة التي جرت لتعزيز التفاهم المشترك والتنسيق. وفي صدد حديثه عن اتفاق غزة وأريحا أولاً، يشدد المؤلف على أن "حماس" كانت، ولا تزال، حريصة على تفادي الصراع في الصفوف الفلسطينية، وأنها لن تكون البادئة بالمواجهة مع السلطة الفلسطينية الوليدة، وأنها، وتماشياً مع نهجها البراغماتي، ستشارك، على الأرجح، في انتخابات مجلس الحكم الذاتي المقبلة. وهذا يعود في الغالب إلى غريزة الحركة للبقاء في قيد الحياة، وهي غريزة حسّاسة جداً، الأمر الذي يلقي الظلال على مزاعمها، والتي يساندها المؤلف، وهي أن الحركة، ومن خلال رفضها المشاركة في عملية السلام، إنما تنطق بلسان الأكثرية الساحقة من الفلسطينيين. غير أن المؤلف يبدو، عندما ينتقل إلى الحديث عن حرب الخليج الثانية، أنه وقع ضحية التفسيرات الصحافية؛ إذ ليس من الصحيح إطلاقاً القول إن المنحى الإسلامي اتخذ لنفسه موقفاً مغايراً لموقف سواه في الحركة الوطنية الفلسطينية. ويقال أن هذا الموقف أكسب زعامة الحركة "شهرة في مجال الحنكة والحكمة السياسية." لذا، فقد حافظت على صدقية خسرتها منظمة التحرير، ناهيك بالصلات المالية التي كانت تنعش الحياة. والصحيح هو أن الحركة استسلمت بدورها لإغراء صدّام حسين، ولم يكن في وسعها أن تقاوم إغراء الوقوف تحت الراية العراقية التي زيّنها حديثاً شعار "الله أكبر". أما دول الخليج التي أوقفت دعمها المالي لمنظمة التحرير، فقد كانت جزءاً رئيسياً من الضغوط التي مورست على عرفات لحمله على الإذعان لسلام استسلامي. وإذا كانت أموال الخليج ما زالت تُمنح للتيار الإسلامي، فالسبب ليس التزام الحركة معارضة عملية السلام المتدرجة، ولا وعدها بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، بل لأن الأمر لا يعدو كونه استمراراً للاستراتيجيا ذاتها. كذلك، وفي محاولة تذكّرنا بما كان المتعاطفون مع المنظمة يقومون به في السبعينات والثمانينات، يتوجه المؤلف إلى وسائل الإعلام الغربية وإلى الدوائر السياسية التي "تعرضت لسيل من المعلومات المغلوط فيها بشأن حماس"، ومصدرها، طبعاً، المصادر العسكرية الإسرائيلية، يضاف إليها "الموالون لعرفات". ولنبذ صورتها الإرهابية والعدائية، للغرب، سعت "حماس" منذ سنة 1991 لعقد حوار مع الأمم الغربية، وخصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية. وفي هذا الحوار، وصفت الحركة نفسها بأنها "حركة وطنية ناشطة:. والحق أن "حماس" لا يمكن لها إلاّ أن تكون معادية للغرب أيديولوجياً وعملياً. إن معارضتها الكلامية لمشروع الحكم الذاتي المحدود والمتدرج تضعها في مصاف العدو المفضَّل. ويختار المؤلف، وفي صدد تقويم مبالغ فيه لقوى "حماس" وشعبيّتها، أن يفسّر قرار المنظمة بالدخول في اتفاق مع إسرائيل بأنه نتاج الرغبة في إزاحة التحدي الإسلامي لسلطة المنظمة. ولا يخامره شك في أن السلطة الفلسطينية العتيدة سيكون مصيرها الفشل. عندها يتحول الفلسطينيون إلى الحركة الإسلامية، غير أنه عندما يحدث ذلك فإنما يحدث "بالضرورة جرّاء التعاطف الأيديولوجي." وإذا حدث ذلك فعلاً، فالأمر من شأنه أن يقلب الحركة الإسلامية رأساً على عقب. فالخطابة قد تستمر دينية، غير أن العمل السياسي سيكون وطنياً في جوهره العميق.
* الكتب المراجعة:
H.H. Ahmad, HAMAS, From Religious Salvation to Political Transformation: The Rise of Hamas in Palestinian Society (Jerusalem: Passia, April 1994);
Abu Amr, Islamic Fundamentalism in the West Bank and Gaza: Muslim Brotherhood and Islamic Jihad (Indiana University Press, 1994);
Rashad, Hamas: Palestinian Politics with an Islamic Hue (Springfield, Virginian: United Association for Studies and Research, Occasional Paper Series, No. 2, December 1993).