يتحدث الزهار، القائد البارز في حركة "حماس" في غزة، عن عدد من الأمور: الانتخابات الفلسطينية؛ علاقة الحركة بـ م.ت.ف. والسلطة الفلسطينية؛ العلاقة مع الغرب، صدامات 18/11/1994 بين السلطة والحركة؛ العلاقات مع حركة "فتح".
جرى هذا الحوار مع الدكتور محمود الزهّار خلال عدة فترات متعاقبة. وكان عليّ في كل مرة أن أقصد بيته الكائن في حي الرمال الجنوبي، وأحياناً عيادته الخاصة، كما يفعل الكثيرون من الصحافيين، بعد أن تحول بيت الرجل محجاً للوقوف على آخر التطورات، التي كانت تتلاحق من دون انقطاع طوال شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، وكانت حركة "حماس"، التي يمثلها الزهّار في غزة، النابض الرئيسي الذي يحرك هذه التطورات.
تم الجزء الأول من هذا الحديث في مساء اليوم الأول نفسه، الذي قامت "كتائب عز الدين القسّام"، وهي الذراع العسكرية لحركة "حماس"، بتنفيذ هجومها الصاعق في قلب مدينة القدس بعملية قُدّر لها أن تكون فاتحة سلسلة من الهجمات القاسية والمتلاحقة التي نفذتها "الكتائب" فيما بعد. ثم استُكمل الحديث في مناسبات متقطعة كان آخرها عقب المواجهات الدامية التي حدثت يوم الجمعة الأسود في 18 تشرين الثاني/نوفمبر والتي نقلت النزاع المستتر والكامن بين سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية و"حماس" إلى طور جديد، بدا الطرفان فيه أنهما يذهبان إلى نوع من الصراع المكشوف، أو الحرب الأهلية.
ووجدت الدكتور الزهّار طوال هذه المرحلة العصيبة والمشحونة بالتوتر رجلاً متوازناً وهادئاً. يعطي انطباع الثقة بالنفس والشعور بأنه يملأ الموقع الذي يشغله محاوراً وقائداً ميدانياً. وعدا عن كونه متحدثاً ومثقفاً، كسائر زملائه من قادة "حماس" في الخارج والداخل، فإنه يبدو أحياناً، وبحكم الدور الذي يؤديه ربما، غير قادر على إخفاء هذا الميل الذي يظهره بصورة أقرب إلى طراز القادة السياسيين المحترفين؛ حيث تبرز مواهبه المتفردة والشخصية باعتباره رجلاً سياسياً صلباً، إلى جانب ألمعيته كقائد تكتي في الميدان.
وأتيحت لي الفرصة أن ألاحظ الزهّار في أوقات شديدة الكآبة والضيق، حين كان يتوجب عليه إجراء مشاورات جانبية مع زملائه في قيادة "حماس"، ومتابعة المفاوضات مع الوفد الوسيط مع السلطة، وبين هذا وذاك، معاينة مريض وكتابة وصفة طبية للعلاج. وأيضاً متابعة هذا الحوار... والرد على مكالمات هاتفية لا تتوقف.
وقد شرح الدكتور الزهّار في مستهل لقائنا الأول الفلسفة التي يقوم تكتيك "حماس" عليها والقاضية بتفريغ دائرة الضغط المتبادل بين السلطة و"حماس"، بجعل ثقل هذا الضغط ينصبّ على إسرائيل. وهو التكتيك الذي استخدمته "حماس" طوال شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 1994 بالطرْق المتلاحق على رأس إسرائيل، وأدى في النهاية إلى حشر إسرائيل والسلطة الفلسطينية في مأزق مشترك.
وكشف في جانب آخر عن أن إسرائيل لا ترفض من ناحية المبدأ إشراك "حماس" في الانتخابات، وأن رسائل غير مباشرة وصلته عن قبول إسرائيل هذه المشاركة، لكنه رأى في ذلك محاولة لاستدراج "حماس" بهدف ترويضها، ومن ثم إدخالها المسار الذي أدى في النهاية إلى جعل منظمة التحرير الفلسطينية تنتقل من المخطط العام إلى البرنامج، ومن التصور الشامل والكبير إلى الوقوع في التفصيلات. وقال إن الفارق هنا هو أن تصورنا العام هو الأكثر توافقاً مع مسار التاريخ وقوانين الطبيعة.
وفي الاستراتيجيا، هذا الدرس الآخر، لا نرى حكمة أو فائدة في استعمال الصراع مع الوطنية الفلسطينية العلمانية بحكم الضرورة. ولن نعطيها نحن هذه "الدفشة" التي يمكن أن تؤجل بانقضائها. ولذلك فمسألة عدم دخول المواجهة، أو عدم الذهاب إلى الحرب الأهلية، تجد لها مفهوماً مؤطراً، وهو أنه لا ينبغي أن يكون التدخل الإداري بديلاً من الانتخاب الطبيعي. لكننا نبدأ هذا الحوار من النقطة التي كانت، ولا تزال هي الشاغل، وإن لم تكن هي القضية الأكثر حرارة. وهذا هو نص الحديث.
س- يبدو الموقف محيراً ومربكاً إلى حد ما. إسرائيل ترفض مشاركة "حماس" في الانتخابات، وأنتم بدوركم ترفضون هذه المشاركة. كيف يمكننا أن نفسّر توافقكم مع الإسرائيليين بشأن هذه النقطة؟ هل إن دوافعكم مبدأية فقط، وذلك من منطلق رفضكم للعملية السياسية ككل، أم لأنكم لا ترغبون في التراجع عن موقف سابق، أم أنكم تخشون دخول الانتخابات لئلا ينكشف الوزن الحقيقي لكم؟ ثم ألا يعطيكم مثالاً الجزائر والأردن استنتاجاً ما، بغض النظر عن النهاية التي أفضت الانتخابات إليها في المثال الأول؟
ج الموضوع مختلف تماماً عن الجزائر والأردن، وحتى عن مصر. الأرض هناك غير محتلة، والسلطات الموجودة عليها، سواء انتخبها المواطنون أو لم ينتخبوها هي بوجه عام شرعية. لكن السلطة الفلسطينية هنا جاءت بناء على اتفاق، والجهة التي اتفقت مع السلطة الفلسطينية هي إسرائيل التي هي قوة احتلال. وبالتالي، فإن القوة المسيطرة فعلاً والمتحكمة في مصير الأرض هي إسرائيل. وهنا الوضع غير موجود في الجزائر ولا في مصر أو الأردن. في الأردن تستطيع دخول الانتخابات، تعرض هناك "بضاعتك" على الناس، فإن حصلت على 51% من الأصوات فإن هذا يخولك حق تطبيق شريعة الإسلام وخطك السياسي من دون أي اعتبار لأية جهة أُخرى. لا يوجد هناك ما يلزمك تغيير موقفك السياسي، لأنك هناك تدخل الانتخابات على أساس برنامجك وشعاراتك. أما هنا، هل تستطيع أن تفعل ذلك؟ هل نحن مستقلون تماماً وقادرون على اختيار سياستنا في ظل سيطرة إسرائيل الواقعية على الأرض؟
هناك المسألة الثانية. قد تبدو إسرائيل أنها لا تؤيد دخول "حماس" الانتخابات. لكنها في الحقيقة تريد ذلك، لكن ضمن شروط إسرائيلية معينة. والذي يحدث واقعاً هو شبيه بالتالي: هم يقولون للسلطة لن نسمح لـ "حماس" بدخول الانتخابات، وهذا يعني أن علينا أن نبحث عن طريقة لإرضاء إسرائيل لإزالة الفيتو الذي تضعه علينا. لكن في الوقت نفسه، ثمة من يتصل بي. صحافي أجنبي يقول إنه تحدث مع أمنون شاحاك الذي بلّغه أنه لا يعترض على دخول "حماس" الانتخابات لكن بشرط محدد مفاده هو ألا تقول "حماس" في حال فوزها في الانتخابات إن إسرائيل تقول: أولاً، لن تمكّن حماس من المشاركة في الانتخابات، ثم تقول، يمكن السماح لها بدخول الانتخابات لكن شرط الالتزام بالاتفاق إذا انتصرت. والخطوة الثانية، ليس شرطاً أن توافق "حماس" على اتفاق أوسلو كي تدخل الانتخابات، لكن عليها أن تمتنع من إلغاء هذا الاتفاق إذا انتصرت. باختصار، وهذه هي الخطوة الثالثة، إن إسرائيل تريد في الجوهر أن تدخل "حماس" فخ اللعبة السياسية من خلال الانتخابات؛ أي اللعبة ذاتها التي أدارتها مع المنظمة في أعوام السبعينات.
س - استدراج "حماس" للمرور في الطريق نفسها التي تم عبرها ترويض منظمة التحرير الفلسطينية؟
ج - نعم. الطريق والمداخل نفسها: إننا [أي إسرائيل] مستعدون للاعتراف بالمنظمة ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني إذا اعترفت بإسرائيل، ووافقت على إقامة دولتين. وبقية القصة معروفة. إذ أصبحت المنظمة في موقف مهدد وضعيف حتى قبل إجراء المفاوضات. لكن "حماس" لن تستدرج إلى الطريق نفسها. لقد اقترحنا تصوراً خاصاً للانتخابات. وهذا هو مفهومنا:
من الناحية النظرية، ثمة ثلاثة أنواع من الانتخابات. ثلاثة مفاهيم: النوع الأول من الانتخابات ليس له علاقة بالحكم الذاتي. وهو انتخابات غير سياسية، وإنما شعبية تجري على مستوى الغرف التجارية، والبلديات، والنقابات، المهنية... إلخ. وهذا النوع من الانتخابات كنا، وما زلنا، نشارك فيه، وليس له علاقة بموقفنا من السلطة.
النوع الثاني هو انتخابات محددة لسلطة الحكم الذاتي، سواء كانت اشتراعية أو تنفيذية إدارية. نحن لن نشارك في هذه الانتخابات لأنها تدخل تحت عنوان واضح هو سلطة الحكم الذاتي، والإجابة عنها هي "لا" تماماً. لكن الانتخابات التي نركز عليها ونطالب بها - وهي النوع الثالث من الانتخابات - هي انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني لا علاقة لها بالحكم الذاتي؛ يشارك فيها الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، ويدخلها كل تنظيم سياسي في ظل برنامجه وشعاراته.
إن الالتباس الذي يحدث إذن، هو عندما نقول لا ونعم: "نعم" لانتخابات تمثيلية للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، و"لا" لانتخابات الحكم الذاتي، سواء على المستوى الاشتراعي أو التنفيذي. لماذا تقول "حماس" لا للنوع الأول من الانتخابات؟ لأنه لن يكون هناك نتيجة إلا واحدة من اثنتين: إما أن نكون أغلبية وإما أن نكون أقلية. إذا كنا أغلبية، ودخلنا على أساس الحكم الذاتي، فسنكون ملزمين بتنفيذ هذه السياسة، لأنك أساساً خطبت هذه العروس بناء على هذا الاتفاق، وبالتالي ستجد نفسك تطبق هذا الاتفاق. والنتيجة الثانية، أي إذا كنا أقلية، فإننا بدخولنا اللعبة ومشاركتنا فيها سنعطي الاتفاق شرعية لأن إفرازاتها عندئذٍ ستكون شرعية.
ولذلك - وآمل أن أكون قد أوضحت هذا الالتباس الذي ذكرته في سؤالك - هناك تناقض جذري في كل جزئية بين موقف "حماس" وموقف إسرائيل من هذه المسألة. بعض الناس كان يحلو له أن يقول إن إسرائيل استطاعت أن تستخدم قوة "حماس" لتضعف منظمة التحرير الفلسطينية. والآن يتضح أن هذا كان تضليلاً فاضحاً. إن إسرائيل لا تستطيع أن تتوافق وأن تتعايش مع فكرة تدميرها، أو مع إضعاف الموقف الذي يقبل بدولتين (يقصد إضعاف المنظمة التي تطرح هذا البرنامج).
س - كان الحديث يدور حول التقاء مصالح التقاءً محدداً وغير مباشر، أو بصورة أدق، حول استراتيجية رابين السابقة بشأن "فرق تسد".
ج - لا. إسرائيل تعلم بأن "حماس" هي البديل الحضاري والجذري، لا منها فحسب وإنما من النمط والطريقة الغربيين كليهما. وثانياً، لأنه لم يكن قط من مصلحة "حماس" في الفترة السابقة إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية. فإضعاف المنظمة، من وجهة نظرنا، هو إضعاف لأحد الأجنحة المهمة الموجودة في تاريخ الشعب الفلسطيني والحاملة تجربة مناقضة لـ "حماس"، والتي ينبغي أن تفشل وتفلس تماماً من تلقاء ذاتها، لتتحول قناعات الناس نحو "حماس".
س - يعني هذا أنكم تتبنون المقاربة التي تقول بالتعاقب التاريخي، أي بضرورة التآكل النهائي لتجربة الوطنية العلمانية الفلسطينية، شرطاً لنجاحكم؟
ج - نعم. وحتى تستنفد جميع إمكاناتها وفرصها. وهذه التجربة عشناها في الإسلام. المشكلة أن من لا يستطيعون استيعاب ذلك هم المتعجلون، لا الذين يعتبرون أن الوقت هو جزء من العلاج. المتعجل هو الذي يحاول أن يقتل المنافس حتى لا يبقى على الساحة إلا هو، لكن موقف "حماس" غير متعجل. نحن ننظر إلى هذه التجربة على أنها ستفشل. وما دامت كذلك، فلا يجب أن يكون ثمن فشلها صراعاً، وإنما الوقت فقط. هل لو قامت حرب بين الاتحاد السوفياتي وأميركا كانت ستعجل زوال الشيوعية؟ كلاّ، في تصوري، لكن أن تترك التجربة الشيوعية تستنفد دورها، لتُعطى فرصتها بالكامل بكل طاقتها، وأن تستنفد كل ما لديها، فإنه عندئذٍ كان يمكن أن تذوي وتنتهي تلقاء ذاتها. لو كانت الحرب ساخنة بين روسيا وأميركا، وكان هناك صراع محتدم على مجمل المسرح العالمي، لما كان ممكناً أن تنتهي الشيوعية، لأنها تكسب في مثل هذا الوضع. لقد أدام الصراع أَجَل الشيوعية بدلاً من يقصر في عمرها.
س - تقارنون ضمنياً بين حتمية فشل الوطنية العلمانية وفشل الشيوعية. هل تقصدون بذلك أن الوطنية الفلسطينية، التي هي أحد أشكال القومية العربية - لأن هذه هي هويتها الفكرية - ليس لها مستقبل؟ أي هل أن الوطنيات العلمانية العربية ليس لها أي مستقبل؟
ج - نعم. لا يوجد مستقبل. لماذا؟ لأنه أولاً ينبغي أن ننظر إلى أية تجربة أمامنا في بُعدها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لو أخذنا فكرة القومية العربية من حيث بُعدها الإقليمي، نجد أنه في تاريخ العرب لم يكن هناك شيء اسمه القومية العربية. ولو حذفنا الإسلام من تاريخ العروبة فإنه لا يبقى في العروبة شيء إلاّ داحس والغبراء، وعنتر وعبلة، وحاتم الطائي... إلخ.
س - أي أن الإسلام هو الذي أعطى القومية العربية المحتوى؟
ج - نعم. الإسلام هو الذي أعطى القومية العربية بُعدها الحضاري. مثلاً القومية العربية بصيغتها الحديثة كيف نشأت؟ نشأت من أناس تعلموا في مدارس وجامعات غربية ومعظمهم من المسيحيين. كانوا يبحثون عن بديل من الإسلام، فوجدوا ذلك في القومية العربية كفكرة. أرادوا تطبيق هذه الفكرة على الواقع، فلم يجدوا برنامجاً اقتصادياً سوى الماركسية. وبعد أن فشلت التجربة الماركسية في الاتحاد السوفياتي ما هو البديل؟ ثم إن هذه الأرض لا تنبت الماركسية فيها لأنها بطبيعتها أرض متدينة... فما هو هذا المحتوى؟
س - هل يعني هذا، بتركيزكم على أولوية البعد الحضاري والثقافي، أنكم تنظرون إلى الخريطة العالمية للصراع على أساس الانقسام الثقافي؟ أي هل أننا أمام صراع يتقدم فيه ما هو خصائص ثقافية وروحية للشعوب، ويتراجع فيه ما هو اختلاف قومي وإثني وحتى جغرافي. وبالتالي، هل هذا سبب كافٍ يجعلني قادراً على تفسير يقينك أن الوطنية العلمانية والقومية لم تعد هي الشكل المعبّر عن حقيقة الصراع، وبالتالي، هذه هي علة موتها التلقائي؟
ج - أولاً، إذا اتفقنا على أن الصراع حضاري، فإن هذا يشمل ثلاثة عناصر أو مكونات: الإنسان، والأرض، والمادة. إنسان + أرض + إمكانات. أولاً الأرض: إذا ألقيت حجراً في بركة ماء، تحدث دائرة، ثم دائرة أُخرى، ودائرة ثالثة، ودوائر متتالية. هذه الدوائر لا تنفي أن الحجر الذي أُلقي هو في بركة الماء. وبالتالي، أنا ساكن في حي الرمال، وحي الرمال في غزة، وغزة في فلسطين، وفلسطين في دائرة عربية، والعالم العربي دائرة في العالم الإسلامي. بعبارة أُخرى، الخطأ وقع عندما أراد بعض الناس أن تكون دائرة بديلة من دائرة؛ دائرة صغيرة بديلة من دائرة كبيرة؛ أي اعتبار القومية دائرة بديلة من دائرة الأمة الإسلامية الأكبر.
تعال لنرَ ما هو مذهبنا. نحن نوسع الدائرة بدلاً من أن نصغرها. هذا ما نفعله وندعو إليه، في حين تقوم الوطنية العلمانية بتصغير الدائرة لحصرها في القطرية بعد التخلي عن القومية العربية والإسلام. ثم أصبحت الدائرة منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد ذلك حركة "فتح" فقط. نحن نسير في الاتجاه المعاكس؛ أي إننا نخرج من الدائرة الضيقة والصغيرة، إلى الدائرة الكبرى والعالمية، التي هي الإسلام. والإسلام هو البضاعة الرابحة. وصوغ الإنسان هو مبدأ الكل. صوغه بصورة جديدة ومحصنة تماماً، لأنه العنصر الأساسي...
س - أي من الحصانة تبدأ قوة "حماس". ولهذا السبب كنتم الأكثر قدرة على الاستفادة من التجربة الصهيونية؟
ج - لا لم نستفد منهم. نحن استفدنا من تجربة محمد عليه الصلاة والسلام، الذي بدأ في الإنسان يعلمه الآية ويقول له إذهب وطبقها. ولذلك عاش النبي 23 عاماً بعد النبوة، عمل في 18 عاماً منها في التربية. يعني نحن نحصّن الإنسان ضد أمراض المجتمع كما نحصّن المريض ضد مرض الحصبة.
والأرض: نحن لا نقول إن فلسطين أرضنا فقط. الأرض الإسلامية هي التي يقف الإسلام عليها، وعندما يقول مسلم هذه أرضي تصبح حدودنا. ما هي حدود الدولة الإسلامية؟ لو قالت أميركا الآن طواعية إنها دولة إسلامية فهي ستصبح حدودنا. الطواعية شرط أساسي، لذلك لا يوجد في تاريخنا حرب استخدمنا فيها السيف لنشر الإسلام.
والمادة: إن الإنسان مسؤول عن المادة كيف أنفقها. أن توزع الأرض حتى تتوفر لكل الموازين، وتمايز كامل في جميع الصفات والأفكار. إذا اليهود يفرقون على الشمال افرقوا على اليمين. التمايز في كل شيء.
س - في الوقت الذي تضعف الثورة التقانية من الحدود بين الأمم، تتحدثون أنتم عن التمايز عن الآخرين. إلى أي حد تنظرون إلى زوال الحدود الآخذ بالاستسلام بالتدريج أمام قوة ثورة المعلومات والاتصالات، بأنه يتوافق، أو يتعارض مع نظرياتكم، بشأن الأرض والتمايز؟
ج - ونحن عندنا وسيلة الحمار والجمل في عصر المواصلات القديم. كان عندنا مفهوم واضح بشأن وحدة الأرض والتمايز ووحدة الموقف. خليفة واحد في بغداد أو دمشق كان يحكم العالم الإسلامي. وفي عصر التقانة يصبح هذا الحكم أسهل. إن الثورة التقانية تخدم وحدة الإسلام والتقريب بينه. هذا على مستوى الحركة الإسلامية العالمية التي ستصبح دولة واحدة. لكن أيضاً على مستوى تقريب وجهة نظرك من الناس الذين يخافون منك لأنهم يصبحون أكثر فهماً للإسلام. وعندما تستطيع أن تتحدث وتصل إلى الجميع، فإنك لن تجد بطرساً ناسكاً آخر يجيش جيوشاً لتحرير بيت المقدس (الإشارة إلى الحروب الصليبية).
ومع ذلك، فالصورة لها وجه آخر. الآن في أوروبا هناك انبعاث للقوميات. السوق الأوروبية المشتركة في صراع مع أميركا. وبين فرنسا وبريطانيا ألا يوجد صراع؟ وألا تنعكس الأحداث الداخلية على وضع أوروبا؟ باختصار، ثمة وضع متناقض. هناك نمو رهيب في تقانة الإنتاج، وصناعة السيارات، والصواريخ، ووسائل الاتصال. ما هو الهدف من وراء كل ذلك؟ وهو أيضاً نمو غير طبيعي لأنه غير مسيطر عليه. ولأنه كذلك، هو لا يخدم الغرب، لكنه ربما يخدمنا نحن. إن الشواهد كلها تثبت أن هذا الطراز الغربي للحياة قد وصل إلى حافة الفشل والمأزق. وليس هناك جواب يمكن تقديمه بشأن اغتراب الإنسان سوى الجواب الإسلامي. في خلال أحاديثي مع إسرائيليين كانوا يقولون لي: إلى أن تأتي ساعة دمارنا دعنا نتفاهم على التعايش. يدركون في أعماقهم أنهم زائلون. الحركة الإسلامية تكسب. وفي العالم العربي، يوجد الشارع في جهة والوطنيات العلمانية في جهة أُخرى. أول راية سقطت راية اليمن الجنوبي. وتأتي راية السودان. الآن تسقط جميع الرايات على محور الفشل مع إسرائيل. مشروعنا إذن مسألة وقت ليتحقق.
س - لكن هذا يعني أن قدرنا نحن الشعبين الموجودين في حوض المتوسط ألا نتصالح أبداً؟
ج - هذه النقطة واضحة. ليس بيننا وبين الغرب خصومة. الذي بيننا وبين الغرب كالذي بين المريض والطبيب. هل الطبيب يشعر بأنه خصم للمريض؟ وهل المريض يذهب إلى غرفة العمليات الجراحية بصدر رحب أم بالإكراه؟ هل المريض يشرب الدواء المر أم أنه يعتبر نفسه يتعالج ومضطراً. نحن لم نكن في يوم من الأيام أعداء للغرب. نحن عندما فتحنا جزءاً من بلاد الغرب وأقمنا الدولة الإسلامية، فتحنا بواباتنا وجامعاتنا للغرب كي يتعلم ويتحضر. لم نكن ننظر إلى الغرب نظرة العداء بل نظرة الطبيب الذي يشخص المرض. وهذا المرض الذي يعانيه الغرب يحتاج إلى عملية جراحية؟
س - لكن المفارقة أنهم يقولون بدورهم الكلام نفسه، أي أننا شعوب مريضة في الشرق، ويرون أنفسهم أطباء. ألا ترى في هذا الاعتقاد المتبادل، عندنا وعندهم، بشأن الرسالة التي يحملها كلانا للآخر، ووصفة الطبيب الذي ينتدبه الوجود والتاريخ، ما يدعو إلى اعتقاد ثالث بأن كلا الطرفين مصاب بمرض اسمه العلاقة مع الآخر؟
ج - دعهم يقولون ما يريدون، فالديمقراطية ليست سوى شكل آخر ومبتكر من الديكتاتورية. ثم أريد أن أقول لك شيئاً آخر. إن الغرب لم يصنع أية أعجوبة جديدة في التاريخ، بحديثه عن هذه البضاعة الوحيدة التي يملكها، وهي فاسدة في أية حال. لأن الإسلام كان أسبق من الغرب في هذه الديمقراطية التي جعلت عمر يحكم ويأمن وينام.
س - لكن كيف سنأمن وننام من هنا. من أين نذهب من هنا في غزة بعد أحداث يوم الجمعة 18 تشرين الثاني/نوفمبر؟ ماذا عن علاقتكم بالآخر هنا؟
ج - هناك خطان واضحان بدأت تتضح معالمهما تماماً في الآونة الأخيرة، خط يدفع باتجاه المواجهة والتصعيد بأي ثمن، تقوده السلطة وأدواتها، وهي اتفاقات أوسلو وإفرازاتها، والعلاقات الموجودة بين الأجهزة الأمنية في المنطقة ومجموعات من العملاء اندست بين الصفوف... ضغوط سياسية في إسرائيل والعالم، ولا سيّما من الولايات المتحدة الأميركية. وهذه جميعها تضع معادلة واضحة: السلام أو "حماس". وخط آخر يدفع الأمور نحو إعطاء السلطة فرصة إنْ كانت جادة لتحكم الشارع وفقاً لهذه التجربة، على الرغم من علم أصحاب هذا الخط الثاني بأن هذه السلطة ستفشل. والسلطة نفسها تعلم بأنها ستفشل. ولذلك رأيناها تستبق الأحداث، كما كانت إسرائيل تفعل، فكلما كانت إسرائيل تصاب بالخلل في الداخل، حملها ذلك على شن الحرب على جيرانها في الخارج.
س - لكن ما هي استراتيجية "حماس" في التعامل مع هذا الخط إذا كان المقصود هو الذهاب إلى الحرب الأهلية؟ هل يمكن الحديث عن استراتيجية مضادة تتبناها "حماس"، إذا افترضت الموافقة على هذا التحليل؟
ج - استراتيجية "حماس" يمكن تلخيصها على النحو التالي: أولاً استنفاد جميع الوسائل لضبط النفس، وعرض هذه السياسة على الجمهور. يجب أن يشعر الجمهور، وعلى نحو مؤكد، بأن "حماس" قامت بضبط نفسها زيادة عن اللزوم. كما يجب أن يشعر العالم بأن "حماس" مارست هذا الضبط للنفس. إن العالم كله يعرف أنه لو أن إسرائيل هي التي فعلت ذلك (يقصد أحداث 18 تشرين الثاني/نوفمبر) لكانت "حماس" انتقمت منها شر انتقام. أي أن هذا الضبط للنفس ليس مبنياً على أساس من الشعور بالضعف، بل لأن المعادلة المفروضة تتضمن ذلك. إن الحرب الأهلية بالنسبة إلى "حماس" خط أحمر لا ينبغي الوصول إليه مهما كلف الثمن. لكن لهذه الاستراتيجية القائمة على ضبط النفس بعداً آخر أيضاً، إذ يجب أن تؤدي سياسة الاحتواء التي نمارسها، إلى جعل الخلافات الداخلية بين السلطة وفروعها تتفاعل. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا بإبقاء "حماس" جانباً. إننا نرى بؤرة الصراع في المستقبل بين السلطة و"صقور فتح". وستكون النتيجة كارثة على الطرفين. لقد سلف الصقور - فتح - عرفات ديْناً، وسيطالبون فيما بعد بثمن هذا الموقف. لنرَ ما الذي سيحدث. وأخيراً، فإن الاستراتيجيا التي تنتهجها "حماس" بضبط النفس تجد قبولاً ورضى عند الجمهور. ومعروف أيضاً أنه كلما ضبطنا أنفسنا أمعن الطرف الآخر بالعربدة. وأنت تعرف، كما يعرف الجميع، أنه بسبب هذه العربدة قامت الانتفاضة. إن استراتيجية "حماس" تتلخص، ببساطة، في ترك الطرف الآخر يتخبط في أخطائه؛ ترك السلطة تستنفد وسائلها كافة. جرَّبوا الاعتقال وفشل، ويجربون الآن التصعيد، وسنتركهم يفشلون.
س - كيف تحللون استراتيجية عرفات؟
ج - استراتيجة عرفات تعتمد الآن على توتير الوضع ودفعه لى الدوامة، وتوحيد صفوف "فتح"، وتصوير المعادلة فيما بعد بأنها صراع بين "فتح" و"حماس"، والسلطة طرف فوق هذا الصراع، لإدارة اللعبة من أعلى، وذلك لإبعاد النظر عن الأزمات التي تعيشها هذه السلطة، على خلفية فشلها الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي.
س - هل تستطيع أن تربط بين ما يحدث والتحضير للانتخابات؟
ج - نعم ثمة محاولة للهروب من الانتخابات. ولا أتصور أن تتم الانتخابات. الإسرائيليون يتحدثون عن إعادة نشر قواتهم لا عن انتخابات.
س - يقال إن غزة كانت عبر التاريخ مدينة عاصية على الحكم. هي وصور فقط من سببا الضيق للإسكندر. والمسيحية وجدت بصعوبة طريقها إلى الغزيين في بداية انتشارها كديانة. والإسرائيليون خرجوا منها بما يشبه الهروب، ولا يفكرون في العودة إليها. هل مفاتيح غزة صعبة على أي حاكم؟ وهل تشعرون بأن هذا الأمر ينطبق على عرفات؟
ج - صعب على غزة أن يحكمها ظالم. إن شعبها تميّز عبر تاريخه الطويل بقوة المراس وبالشعور بالحرية. وفي الوضع الحالي لا تستطيع غزة القبول بالعيش تحت الظلم، لأنها عاشت طوال الاحتلال في الظلم. لكن الذي حدث هو أن الذين خرجوا من قوقعة الخوف هم الشعب كله، وكل قوة عبر التاريخ جاءت بالظلم لشعب حر، يتألم للظلم، ويحس به لم تستطع قهر هذا الشعب. لقد عانينا أصناف الظلم كلها، ومن المستحيل أن نستوعب أي ظلم جديد. ولذلك فإن الأمر يعتمد على عرفات نفسه وعلى موقفه.
س - هل تشعرون بأن هناك مصلحة في بقاء عرفات ووجوده، في حسابات "حماس" الاستراتيجية؟
ج - الأمر يعتمد عليه. فإذا اعتمد سياسة الوفاق فوجوده في مصلحة الطرفين. لكن إذا اعتمد النهج الذي اعتمده في لبنان - التفكيك - فأعتقد أن الجو سيكون مهيأ وخصباً لنمو هذه الظاهرة - ظاهرة لبنان. ولذلك فإن الأمر في يد عرفات.
س - قال لي الدكتور نبيل شعث ذات مرة إن عرفات يتحدث في مجالسه الخاصة عنكم بطريقة ودية ودافئة. فكيف تنظرون إلى الرجل على هذا المستوى الشخصي؟
ج - الحقيقة إنني لا أحمل تجاهه أية ضغينة. لكنني أشفق عليه من الشرنقة المحيطة به، وهي للأسف الشديد اختيار غير موفق. لو استثمر الرجل ما لديه من رصيد، ودفع باتجاه الخير لتقلص الكثير من الظاهر السلبية المحيطة بالسلطة. وأنا يبقى في نفسي شيء من الأمل. لدي رغبة في المحاولة، عندما تهدأ الخواطر والنفوس، رغبة في أن أحاول العزف على وتر موجود في كل إنسان، هو وتر المحبة. أنا لا أتصور أن هناك إنساناً حاقداً أو سيئاً، أو أنه يعيش حياته كلها على الكراهية. باختصار، ليس هناك بعد شخصي للنزاع. لقد تحدثنا معه. وهو رجل خبير بنوعية الرجال، ويعرف ما إذا كنا صادقين في الرغبة في حل المشكلات أم لا.
س - هل أنت مؤمن في قرارة نفسك بأنه يمكن التعايش بين سلطتين على الأرض، هما في الوقت نفسه في وضع من التنافس؟
ج - متأكد أنه يمكن. لكن يجب أن نضع بذرة التعايش في تربة صالحة. لا يمكن أن نضع الملح والسكر في تربة واحدة ونأمل بأن ينبت الزرع. للأسف توجد شرنقة سيئة محيطة بعرفات.
س - البعض يطرح فكرة المشاركة كحل لصيغة من التعايش تكون مقبولة. مشاركتكم في القرار أيضاً؟
ج - نحن على استعداد للمشاركة في الإدارة، لا في الوزارة؛ أي نحن على استعداد للمشاركة في البناء الذي يخدم الشعب، لكن لسنا على استعداد لتحمل وزر القضية السياسية. إذا استطعنا أن نجد معادلة بين عدم المشاركة في صوغ القرار السياسي المتعلق بسلطة الحكم الذاتي وبين ضرورة أن نكون في موقع الخدمات والبناء التحتي، فمن الممكن أن يكون هناك تعايش وتوافق. لكن أنت تعلم بأن هناك قطاعات ضخمة محيدة في "فتح" نفسها، ولم يتم الاستعانة بها. هناك قيادات جيدة في "فتح" موجودة في تونس تم استبدالها بأشخاص أقل التزاماً وأقل خبرة. وهذا مقياس للطريقة التي تتم بها الأمور. لقد خلقوا شرنقة عديمة الفائدة، عدا عن كونها سيئة، وهي أساس المشكلة.
س - كيف ترون إلى علاقتكم بـ "فتح"؟
ج - السلطة عندما جاءت أرادت أن تفكك "فتح" وتستبدلها بالسلطة، والجهاز العسكري، ووضعت بعض رموز "فتح" في مجالات هامشية، كالارتباط، والإدارة المدنية. وهذا يسبب بعض الإحباط في "فتح". وظلت طائفة مهمشة تنتظر اللحظة الملائمة للتعبير عن ذاتها. وجاءت هذه اللحظة المواتية يوم الجمعة 18 تشرين الثاني/نوفمبر، عندما أثبتت السلطة عجزها عن التصدي للجماهير، فاستغلت هذه الفئة الفرصة لتأخذ لها موقعاً جديداً، ولتقول لعرفات إن سلطتك لا تحميك، وإنما "فتح" هي القادرة على حمايتك. المشكلة الآن هي أن عرفات أحضر الخصم المقبل، حيث سيبرز الصراع في المستقبل بين "فتح" المهمشة التي برزت بعد يوم الجمعة وبين "فتح" المسؤولة في السلطة، وبين "الفتحين" معاً والسلطة، و"فتح" الخارج المقبلة في فترة قريبة و"فتح" الداخل. ولذلك فإن السؤال هو: ماذا بعد عرفات؟
س - دعنا ننظر إلى المسألة التي تواجهونها على النحو التالي: نسلم بأن هذا النزاع أدى في محصلة إلى سقوط سلطة عرفات؛ وأنتم، كحركة "حماس"، مرفوض في المعادلة الإقليمية والدولية أن تملأوا هذا الفراغ، وأن تكونوا السلطة، فما هو البديل من عرفات إذاً؟
ج - المشكلة هي أننا نفكر دائماً بالقبول الدولي، لا بالقبول الشعبي للسلطة. أن أكون قابضاً على الدولة، والدول العربية والأجنبية راضية عني، كما في الجزائر، والشعب عدو للسلطة، هذه معادلة، أو أن يكون الشعب مع السلطة والعالم ضدها، هذه معادلة أُخرى، فاختر أيهما الأفضل؟ هل المشكلة أن تكون متوافقاً مع شعبك؟ هناك السودان مثال، العالم كله ضد السودان، لكن ماذا يفيد السودان لو كان كل العالم معها، والشعب والناس ضد السلطة الحاكمة؟ إنهم يبحثون عن الحروب الأهلية، والجزائر مثال، وهناك أيضاً أكثر من مثال. إذا شعر الناس بأن السلطة تعمل مصلحتها، فإن الناس سيقفون إلى جانبها. لا شك في أن في السودان غلاء فاحش، لكن لم يحدث أي اضطراب، لأجل هذا السبب، فإن المسألة الأساسية هي من أين تستمد الحكومات صلاحياتها وشرعيتها: هل من الإرادة العامة للشعب أم من الرضى الدولي والأميركي عنها؟ هذا هو السؤال.