"غزة ـ أريحا" بعد عودة الرئيس: بدايات التجربة
كلمات مفتاحية: 
اتفاق غزة - أريحا 1994
الضفة الغربية
قطاع غزة
منظمة التحرير الفلسطينية
الفصائل الفلسطينية
المعارضة السياسية
نبذة مختصرة: 

رسالة من القدس تصف المناخات السياسية والنفسية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد نحو شهرين من تسلم منظمة التحرير الفلسطينية زمام السلطة في مناطق الحكم الذاتي في القطاع وأريحا. كما تصف حالة الترقب وانتظار التغييرات المرتقبة لواقع الأوضاع الحياتية، وحالة الفصائل الفلسطينية الرئيسية الموالية والمعارضة.

النص الكامل: 

بعد شهرين من تسلم منظمة التحرير الفلسطينية زمام السلطة في مناطق الحكم الذاتي في قطاع غزة ومنطقة أريحا، لا تزال ملامح النفوذ المفترض أن تتمتع هذه السلطة به في طور التبلور، بينما لا يزال الفلسطينيون (المؤيدون والمعارضون على السواء) في حالة ترقب وانتظار للتغييرات المرتقبة لواقع الأوضاع الحياتية، ولا سيما الأوضاع الاقتصادية التي كافحوا من أجل تغييرها طوال سبعة وعشرين عاماً.

ومع أن الوقت ما زال مبكراً لإصدار حكم على هذه التجربة الفلسطينية الفريدة، بسبب ما يواجه عملية تكريس وجود السلطة الفلسطينية من صعوبات وعقبات سياسية ومالية جدية، يبدو حتى الآن أنها تعرقل فرض شخصية السلطة الوطنية على الشارع الفلسطيني، فإن من شأن استمرار ذلك أن يحكم بالفشل على هذه التجربة الفريدة، لا سيما في ظل انعدام العمل المؤسساتي الذي كان نموذج عمل منظمة التحرير في المنفى، إضافة إلى إحساس فلسطينيي الداخل بأن دورهم في إدارة السلطة واتخاذ القرار تراجع وازداد تهميشاً، وما زال ثانوياً مثلما كان قبل عودة كوادر منظمة التحرير إلى الكيان الفلسطيني الجديد. إذ استحوذ معظم العائدين على الصفوف الأولى، بينما وقف "الصامدون"، الذين كانوا دائماً الذراع التنفيذية لسياسة قيادة م. ت. ف. وخططها في الخارج، في الصفوف الثانية نواباً. ولم ينجح الطرفان، الداخل والخارج (إن جاز التعبير)، في الاندماج حول برنامج موحّد يجمعهما من أجل بناء الكيان الفلسطيني الوليد.

وقد يحتاج الطرفان إلى شهور طويلة من التآلف قبل الانتقال إلى مرحلة التحالف بعد الأعوام المديدة من الانقطاع القسري الذي فصل الجانبين عن التعامل اليوم في تفصيلات الشؤون الداخلية، وهذا يحتاج بالضرورة إلى مشاركة الجانبين في وضع وتنفيذ خطط البناء الهيكلي للدولة.

ظل الفلسطينيون منذ سقوط الأراضي الفلسطينية في أيدي الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967 يحملون باللحظة التي يرحل فيها هذا الاحتلال لتحل السلطة الوطنية محله، وتبدأ بعد ذلك مرحلة التحرر والاستقلال وبناء المؤسسات. ومنذ ذلك الحين، وبعد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ومنطقة أريحا، لا يزال الفلسطينيون يحلمون والبناء المؤسساتي بقي غير جاهز. والآن، فإن الجميع منشغل بكيفية هذا البناء الذي يُفترض أن يكون قد تم تجهيزه قبل دخول م. ت. ف. أرضاً محروقة اقتصادياً وزراعياً وصناعياً، وهذا ما يعتبره المحللون السياسيون إخفاقاً سياسياً أقرب ما يكون إلى التخبط.

الآن، وقد اندمجت المراحل الفلسطينية السابقة كافة في مرحلة واحدة ووحيدة، هي مرحلة اتفاق أوسلو وتفصيلاته وملاحقه، بما فيها، طبعاً، اتفاق القاهرة الذي يجري الآن العمل على تطبيقه وربما سيستمر ذلك فترة زمنية طويلة، فإن هذه المرحلة يمكن تقسيمها إلى تجربتين: التجربة الأولى: دخول قوات الأمن الفلسطينية وما بعد هذا الدخول في الفترة ما بين منتصف أيار/ مايو حتى 30 حزيران/ يونيو. التجربة الثانية: دخول رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الوطنية السيد ياسر عرفات إلى قطاع غزة في 1 تموز/ يوليو وحتى هذه اللحظة.

لقد وجدت قوات الأمن عند دخولها مناطق الحكم الذاتي ترحيباً، وقبولاً شعبياً واسعاً، وتجاوباً مع التغييرات التي أجرتها هذه القوات في إعادة ترتيب أوضاع المؤسسات الفلسطينية القائمة، المدنية منها والعسكرية، في أريحا وقطاع غزة، سواء في الأنظمة الجديدة أو في إدارة شؤون الحياة.

في الوقت ذاته كانت الجماهير الفلسطينية تنتظر بلهفة "الحدث التاريخي" المتمثل في عودة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وقيادة الخارج، معتقدة أن عودته سيرافقها تدفق الأموال التي وعد المجتمع الدولي بضخها إلى مناطق الحكم الذاتي لإعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني المنهار، ولتحسين الأوضاع الحياتية المتدهورة.

واعتقد الفلسطينيون أن الرئيس العائد يجمل حلاً سحرياً يحول قطاع غزة وأريحا به إلى جنة. لكن سرعان ما اكتشفوا العكس، وسرعان ما بدأ الإحباط يتسلل إلى النفوس حين ارتطمت الآمال بجدران الواقع. ولم تتحسن الأوضاع بمجيء القيادة، بل استمر تدهور الوضع الاقتصادي، وتفاقمت حالة عدم الوضوح السياسي، باستثناء بعض الأنشطة العمرانية الخاصة التي لم تغيِّر هي أيضاً في ملامح الوضع الجديد.

 وأصبح التغيير الوحيد الملموس هو خضوع الداخل لمفاهيم العائدين من الخارج المبنية على الانفتاح الاجتماعي والمتمثل في تخلص السكان من الكبت الذي فرضته أوضاع الانتفاضة والاحتلال الإسرائيلي، وبات في إمكان فتيات قطاع غزة ونسائه الخروج إلى الشوارع والتنزه على شاطىء البحر سافرات من دون خوف من حساب أو عقاب. وكذلك خضوع الداخل لمظاهر التهافت على المناصب التي سيطرت على العائدين.

ويبدو أن تأثير الإحباط الذي ساد السكان الفلسطينيين انعكس على العائدين شعوراً بالغربة في الوطن، وبالإحباط بسبب مجيئهم إلى منطقة محاصرة يصعب عليهم التجول والتنقل فيها كم كانوا يفعلون في الخارج. إضافة إلى الانتقال المفاجىء من مجتمعات ليبرالية ومنفتحة اجتماعياً إلى مجتمع محافظ يمارس الرقابة اليومية عليهم من الناحيتين السياسية والاجتماعية.

وقد جوبه البعض من خلال الاحتكاك اليوم بالشعب الذي قادوه من المنفى أعواماً طويلة بمفاهيم جديدة ومؤسسات قائمة لا يمكن تجاوزها أو إيجاد بدائل لها، وبجيل لا يتقبل الأمور بل اعتاد على رفض السلطة خلال مرحلة الاحتلال.

وعلى الرغم من التباين في مفاهيم الداخل والخارج، فإن الطرفين باتا يشعران بأن المسافة الجغرافية قد تقلصت بعودة القيادة إلى الوطن، لكن المسافة السياسية ما زالت واسعة، وهو ما سبب إلغاء البرنامج الأساسي الذي وحَّد الداخل والخارج والمتمثل في شعار الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، واستبداله بأربعة برامج هي: غزة وأريحا، وبرنامج الضفة الغربية، والقدس، والمهجر واللاجئين. ولكل برنامج من هذه البرامج أدواته ومصالحه وتفصيلاته، مثلما يرى المحلل السياسي، الدكتور مهدي عبد الهادي، الذي يقول: "إن البرامج الثلاثة الأولى تعاني من عدم وضوح وغياب الموقف الوطني المتفق عليه، بينما البرنامج الرابع، وهو مسألة اللاجئين، فيبدو أن تطبيقه اقتصر على عودة القيادة وليس عودة المهجر ككل." وهو ما يعني أن هذا الملف قد أُغلق ولو إلى حين.

ويرى عبد الهادي "أن الموقف السابق الذي جمع الطرفين أصبح الآن يتمحور حول السلطة الفلسطينية وعلاقاتها الداخلية وعلاقتها بإسرائيل.

"ففي السابق، كان الداخل يعني شعب الأرض المحتلة بما فيه من لاجئين ومخيمات، بينما كان اصطلاح الخارج يعني منظمة التحرير والمهجر، بما في ذلك اللاجئون. وبات من المطلوب الآن توحيد الطرفين حول القيادة بما تعنيه من رمز وطني وليس حول عودة الخارج. والقضية الرمزية هنا غير قابلة للتقسيم."

المسألة الوحيدة التي يتفق "الداخل والخارج" بشأنها هي أن اتفاق الحكم الذاتي خلق واقعاً مغايراً لأحلام اليقظة لأنه لم ينه الحصار المالي، ولم يحقق أدنى تطلعات وآمال الشعب الفلسطيني الوطنية، وهذا بدوره كان عاملاً أساسياً في إحداث شرخ آخر في العلاقة بين "الداخل والخارج". وفي هذا السياق، يقول الدكتور زياد أبو عمرو، المحاضر السياسي في جامعة بير زيت إنه عند تشخيص علاقة الداخل بالخارج في غياب العوامل الاندماجية، فإن هذه العلاقة تصبح صدامية، وعوامل الاندماج تتطلب عدالة في توزيع الوظائف والمصادر، غير أن المشكلة هنا هي ما إذا كانت ظروف قطاع غزة تسمح بحصص عادلة للأشخاص، إضافة إلى أن العائدين من المنافي جاؤوا حاملين صفة الشرعية  ومنحوا "الداخل" أدواراً ثانوية، الأمر الذي أوجد لدى "الداخل" شعوراً بأن القيادة عادت إلى الوطن بانحياز واضح للذين عادوا برفقتها.

من الواضح أنه إلى جانب الاستقلال السياسي الذي حصل الفلسطينيون عليه نتيجة الاتفاق، فإنهم في أمس الحاجة، في مقابل ذلك، إلى رخاء اقتصادي يعوضهم من معاناة سبعة وعشرين عاماً، وأن عدم تغيير الواقع الاقتصادي الراهن إلى الأفضل، وخلال فترة زمنية قصيرة، من شأنه أن يعمق دائرة النفور بين القيادة والجماهير، ويكون تحقيق إنجازات وتغييرات على أرض الواقع بمثابة حبل الوريد الذي يربط القيادة بجماهيرها، ويربط هذه الجماهير بالأرض والتاريخ والمستقبل.

وكما أنه ليس منطقياً أن يواصل الشعب الفلسطيني تحمل المعاناة، فإنه ليس عدلاً أن تتحمل القيادة الفلسطينية أكثر من طاقتها، لكنها ملزمة بالتعامل مع تبعات الاتفاق الذي وقعته، وفي أساسها تحسين أوضاع الشعب الفلسطيني.

فالقيادة التي اكتشفت مساوىء الاتفاق بعد أن وقعته، وأصبحت مرغمة على التعامل معه، لا تزال في مراحلها الأولى تحاول جاهدة العمل باتجاه بناء مؤسسات بإمكانات معدومة، وهي المؤسسات التي كان من المفترض أن تكون موجودة ليس بعد توقيع الاتفاق أو بعد الشروع في تنفيذه بل قبل ذلك بأعوام طويلة.

والآن، وقد تحولت منظمة التحرير الفلسطينية إلى سلطة، وفي غياب وجود المؤسسات، فإنه من الصعب على المنظمة أن توجد مؤسسات ما دام ليس هناك الأسس القانونية أو التشريعية الواضحة،  أو حتى السلّم الوظيفي الذي يستند إليه في تعيين الموظفين والمسؤولين.

وإلى جانب ذلك، فإن هذه السلطة لا تزال تتصرف بعقلية الفرد في اتخاذ القرارات والإجراءات؛ ورئيسها ما زال يدير الأمور بنفسه، بل ويسيطر على أكثر من وزارة، ويتدخل في أدق التفصيلات الحياتية للمجتمع، ويواصل محاولاته في إعاقة التوازنات الحزبية من خلال التعيينات ومحاولات إرضاء جهات عديدة بإيجاد وظائف ومؤسسات لها، ويظهر ذلك واضحاً في وجود خمسة أجهزة أمنية أو أكثر، بمسميات مختلفة لكنها تمارس المهمات ذاتها، وهو ما أوجد تداخلاً في العمل.

وفي خضم المحاولات الجدية لبناء كيان بما يتيحه الاتفاق، يبدو عرفات مقتنعاً بأن جهات دولية وعربية تعمل على إفشال التجربة الفلسطينية، بل القضاء عليها أيضاً.

وهذا بدوره انعكس على الجماهير الفلسطينية التي – أمام خوفها من المصير الوطني المجهول، ومن فشل التجربة – وجدت نفسها مضطرة إلى السكوت عن الأخطاء والتجاوزات وعن المظاهر المشوهة للسلطة، وغياب المؤسسات والأنظمة والقوانين.

ويعتقد بعض المراقبين السياسيين أن هذا الوضع يشكل مناخاً سياسياً مؤهلاً لتوليد شعبية جديدة. غير أن قساوة الأوضاع المحيطة بالتجربة الفلسطينية وبالسلطة الوطنية حالت دون أية محاولات لطرح أفكار انقلابية في الوقت الراهن، على الرغم من تزايد الحاجة إلى نشوء أسس جديدة تؤمن استمرار التجربة ونجاحها.

أما فيما يتعلق بالمعارضة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس والجهاد الإسلامي بصورة خاصة، والتي ينطلق عليها الموقف السابق، فقد تقبلت، ولو على مضض، وجود السلطة الفلسطينية وتوليها لزمام الأمور، مكتفية بمعارضة كلامية ومتعهدة بمعارضة سلمية، وامتنعت من القيام بعمليات عسكرية داخل مناطق الحكم الذاتي أو اللجوء إلى الصدام مع السلطة، الأمر الذي يوحي بأن حماس والجهاد الإسلامي، كأشد تيارين معارضين، لا يعارضان مبدأ وجود سلطة وطنية ولا المشاركة في هذه السلطة مستقبلاً في حال نضج الأحوال الموضوعية.

ومما لا شك فيه أن تسلم السلطة الفلسطينية لزمام الأمور ترك أثراً في العلاقات الداخلية لحركة حماس، كما هي الحال في فصائل المعارضة الأُخرى، التي انقسمت إلى تيار يؤيد التعاون والتعامل مع السلطة، وتيار متشدد يرفض ذلك بناء عل نهج يهدف إلى إسقاط الاتفاق، كالجناح العسكري لحركة حماس المستقل تماماً عن جناحها السياسي.

أما حركة فتح، وهي أقوى التيارات المؤيدة للاتفاق مع إسرائيل، فهي أيضاً لم تسلم من الانقسام حول طبيعة المرحلة وحول دور الحركة في السلطة وفي إدارة حياة المجتمع الفلسطيني. والأهم من ذلك هو بروز تيار معارض للاتفاق في أوساط القيادات الميدانية لتنظيم فتح، ولطريقة عمل رئيس الحركة ياسر عرفات في إدارة التنظيم والسلطة. وهذا التيار، وفي ضوء الشعور بتهميش دوره في مرحلة بناء السلطة والكيان، لجأ إلى إجراءات الإعداد لانتخابات تنظيمية هدفها إعادة ترتيب التنظيم ليصبح أكثر فاعلية في مرحلة البناء وفي السلطة أيضاً.