التوق إلى الديمقراطية
كلمات مفتاحية: 
الديمقراطية
فلسطين
إنشاء الدولة الفلسطينية
الانتخابات
السلام
الإدارة الأميركية
سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط
نبذة مختصرة: 

يتناول الكاتب، وهو أحد كبار الباحثين في معهد بروكينغز، الديمقراطية الفلسطينية التي قد تنمو مع عملية بناء الدولة، تحت العناوين الفرعية: الحجج التي تدعم الديمقراطية؛ الحجج المضادة؛ أهمية الانتخابات؛ الديمقراطية والسلام. ويخلص إلى أن الإدارة الأميركية تستطيع، من خلال احتضان الديمقراطية الفلسطينية، أن تساهم مساهمة كبرى في إحلال السلام في الشرق الأوسط، ومن ثم خدمة المصالح الأميركية.

النص الكامل: 

ثمة دولة فلسطينية تنمو ببطء. ولن تشبه بالضرورة الدول الأُخرى. ولن تكون على الأرجح مستقلة تماماً. ولن تبرز إلى الوجود إلاّ بعد فترة انتقالية تُراقب فيها بدقة. ومع ذلك، فإن عملية بناء الدولة بدأت، وما اتفاق غزة – أريحا سوى الخطوة الأولى.

ومن بين الأسئلة الكثيرة التي لم يُجب عنها بشأن هذه الدولة النامية هو السؤال عما إذا كانت الدولة ستكون ديمقراطية أم لا. والإسرائيليون لم يعيروا هذا الموضوع الحيوي كبير اهتمام. وهذا موقف مستغرب من جانب مواطني بلد ديمقراطي، غير أنه ينبع من اهتمام إسرائيل الأساسي بأمنها هي ومن شكوك شائعة بين الإسرائيليين حول إمكان قيام الديمقراطية في أي جزء من أجزاء العالم العربي. كذلك، فقد وجد زعماء إسرائيل بعض الفائدة في التفاوض مع الديكتاتوريين العرب الذين لا يخضعون لتقلبات الرأي العام. ومن المرجح أن الرئيس المصري أنور السادات ما كان ليقوم بزيارته الشهيرة للقدس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977 لو كان مضطراً إلى استشارة الرأي العام في مصر. والمفاوضات [....] ما كانت ستكون أسهل لو كان هناك [....] حكومات ديمقراطية. ونوجز فنقول إن قلّة فقط من الإسرائيليين هي التي استنتجت أن المزيد من  الديمقراطية سينهي الاضطراب الذي كثيراً ما يبدو أنه يسود الحياة السياسية الفلسطينية. 

الحجج التي تدعم الديمقراطية

غير أن الاهتمام بالديمقراطية بدأ يزداد في صفوف الفلسطينيين. واستناداً إلى بعض إحصاءات الرأي العام، فإن نحو ثلاثة أرباع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة توافق على عقد انتخابات لسلطة حاكمة خلال الفترة الانتقالية، بينما يريد 10% فقط أن تعيّن منظمة التحرير الفلسطينية هذه الحكومة.

ويهتم الفلسطينيون بالديمقراطية لأسباب عدة. وإذا توخينا الصراحة التامة، فقد نقول إن لهم تجارب سيئة مع أنظمة عربية استبدادية. وهذه الذكريات من شأنها أن تحمل الكثير من الفلسطينيين على الاعتقاد بأن حكومتهم الخاصة بهم يجب أن تتفادى مهاوي حكم الرجل الواحد.

والفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة تأثروا بالحياة السياسية السائدة لدى أقرب الجيران إليهم، أي إسرائيل والأردن. ومهما تكن درجة كراهيتهم لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، فقد شهدوا ما يمكن لصحافة حرة أن تفعله، وشهدوا نظاماً برلمانياً ناجحاً، كما شاهدوا حشود المنتخبين يسقطون حكومات فشلت في إنجاز وعودها. أما الفلسطينيون من مواطني إسرائيل فهم يخوضون، بانتظام، الانتخابات لملء الوظائف البلدية وانتخابات الكنيست، حيث لهم عدة مقاعد. وهذه التجارب لاحظها إخوانهم ممن لا يتمتعون بحقوق الانتخاب في الضفة الغربية وغزة.

وفي الأردن شاهد الفلسطينيون ازدهار تجربة ديمقراطية مثيرة للدهشة. فقد كانت الانتخابات البرلمانية الأردنية حرة نسبياً، والصحافة تناقش قطاعاً واسعاً من الموضوعات [....]. وثمة عدد يثير الدهشة من الفلسطينيين ممن كانوا في السابق ينتقدون الهاشميين بمرارة أضحوا الآن يقارنون، وبعطف، بين المعايير السياسية النامية في الأردن وبين الفوضى السياسية التي تبدو سائدة في منظمة التحرير الفلسطينية.

وأخيراً، فقد اضطر الكثير من الفلسطينيين إلى العيش في الخارج، وفي بلاد الغرب أحياناً كثيرة، حيث اعتادوا الحياة الديمقراطية. والفلسطينيون الذين تلقوا تعليمهم في الغرب كثيراً ما ينتقدون السياسات الغربية بمرارة، غير أنهم معجبون بنواحٍ كثيرة من الثقافة السياسية الديمقراطية.

لكن تجارب الآخرين ليست هي وحدها التي في وسع الفلسطينيين أن يتخذوها نموذجاً للسياسة المتعددة الأطراف. فحركتهم الوطنية، على الرغم من شوائبها كافة، كانت، ولا تزال متسامحة نسبياً. وكانت منظمة الحرير منذ البدء، ولا تزال، حركة جامعة تجمع تحت لوائها عدداً من النزاعات المختلفة، لكل منها نوع من التمثيل في هيئات المنظمة الرسمية. والقرارات كثيراً ما واكبها نقاش طويل وحلول وسط، أما التصويت فكان، ولا يزال جزءاً طبيعياً من عملية اتخاذ القرار الفلسطينية.

لا يمكن لأحد أن يزعم أن منظمة التحرير منظمة ديمقراطية بالكامل، غير أنها أقل استبداداً من كثير من الحركات الوطنية. وحتى داخل حركة فتح، وهي النواة، كان هناك حتى وقت قصير مقدار كبير من المشاركة الجماعية في اتخاذ القرارات. وبعد اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) على يد الإسرائيليين، ومقتل صلاح خلف (أبو إياد) على يد إرهابي تابع لأبي نضال، أضحى زعيم المنظمة ياسر عرفات أكثر ميلاً إلى حكم الشخص الواحد، في حين أنه كان فيما مضى مضطراً إلى الاستماع إلى آراء من شاركوه في تأسيس المنظمة.

وكان من شأن الانتفاضة التي اندلعت في أواخر سنة 1987 أن خفَّفت من حدة النزعات الاستبدادية في السياسة الفلسطينية. وجاء جيل غاضب شاب ومسيّس إلى درجة عالية، ويعيش تحت الاحتلال، ليرفض أنماط الزعامة التقليدية. وقد اكتسب هذا الجيل عادة المشاركة في الحياة السياسية، ممارساً السلطة ومتخذاً القرارات، فلم يكن يعمل دائماً بمقتضى الأوامر العليا الصادرة إليه من المنظمة في تونس. وحتى قطاعات السكان الأقل نشاطاً في السياسة تلتزم عادة الدعوات إلى الإضراب وغيرها من أشكال الاحتجاج. وهؤلاء الفلسطينيون لن يرضوا بسهولة العودة إلى دور سلبي قوامه التقيد بأوامر المنظمة والتي كثيراً ما يُنظر إليها بأنها أوامر بيروقراطية بعيدة عن اهتمامات الفلسطينيين العاديين.

ومع أن في وسع زعماء الانتفاضة القيام بدور في تحدي الاستئثار بالسلطة من جانب منظمة التحرير، فإنهم قد يجلبون معهم إلى داخل الحياة السياسية الفلسطينة عامة عادة اللجوء إلى العنف لتصفية الحسابات. ومهما تكن الزعامة، فأمامها تحد كبير يكمن في مقدرتها على استيعاب وإعادة تأهيل أولئك الذين هم زعماء الشوارع والذين يرون أن كل سلطة وكل قانون هما بلا شرعية.

إن المجال الوحيد الذي لم تكن المنظمة فيه مسؤولة عن أعمالها، أو ديمقراطية مطلقاً، هو مجال التعاطي مع الأمور المالية. إن سيطرة عرفات على الحركة تنبع، في جزء كبير منها، من سيطرته على الأموال. لا أحد غيره يعرف القصة الكاملة لوضع المنظمة المالي، ولا أحد غيره يستطيع أن يوقع الشيكات. وفي حين ينطلق الفلسطينيون باتجاه الدولة، فمن الواجب أن يتغيّر هذا النمط من العمل. وهذا ينتج من إصرار المجتمع الدولي المانح للمساعدات على ألاّ يمنح أية مساعدات من دون كشف تام للحسابات أكثر مما ينتج من اعتراض الفلسطينيين على دفع الضرائب من دون حق التمثيل. إن المعونات الاقتصادية المطلوبة ستتماشى جنباً إلى جنب خلف مؤسسات حاكمة مسؤولة عن أعمالها.

غير أن الديمقراطية لن تأتي بسهولة. فالعقبات الكبرى قد تكمن في رفض زعامة المنظمة في التخلي عن دورها، وعدم اكتراث الإسرائيليين بالأمر، وغياب مماثل للاهتمام بدعم الديمقراطية الفلسطينية لدى الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية. 

الحجج المضادة

إن الحجة الأساسية ضد فكرة فلسطين ديمقراطية هي أن الأمر ليس إمكاناً واقعياً، إذ لا توجد أية ديمقراطية راسخة في العالم العربي. أما التجارب الديمقراطية في الماضي فلم تكن ناجحة. ويستخلص البعض من ذلك الماضي عبرة أن ثمة ما هو معاد للديمقراطية في التراث السياسي الإسلامي. وكثيراً ما يقال إن الأمم الإسلامية لا تميّز بين الدين والدولة أو بين المجالين العام والخاص في العمل، كما تفعل الأمم الغربية. كما أنه يصعب التوافق بين فكرة السيادة الشعبية والإيمان بأن كلمة الله هي الفصل في ميادين العمل كافة.

هذا التفسير المتشدد والمهين للتراث السياسي العربي والإسلامي يتجاهل الاختلافات في الواقع العملي الإسلامي. فالكثير من المسلمين يقبل الأفكار الواردة من تجارب مجتمعات أكثر علمانية، والكثير منهم استنتج أن التفسير الصحيح للإسلام يتماشى مع حكومات مسؤولة، ومع الانتخابات، وحكم القانون، والحقوق الشخصية، والتسامح، وحقوق الملكية، وغيرها من أوجه الديمقراطية. وفي إمكاننا أن نلمح بعض البدايات الواعدة للعمل الديمقراطي في عدة أرجاء من العالمين العربي والإسلامي. ومن هذا المنظور، يبدو من الخطأ أن نستنتج أن الديمقراطية الفلسطينية مستحيلة.

أما الحجة الأُخرى ضد الديمقراطية الفلسطينية فهي تقرّ بأن ديمقراطية كهذه قد تكون قابلة للإنجاز في المستقبل، لكن ليس الآن. وهذا الرأي هو رأي من يعتقد أن الديمقراطية تلزمها طبقة وسطى كبيرة نوعاً ما، ومستويات مرتفعة من معرفة القراءة والكتابة واقتصاد متنام. وفي حالة كهذه، يمكن استيعاب الصراعات الاجتماعية من خلال الحلول الوسط، ويمكن تفادي استئثار المنتصر بالمغانم، كما أن للكثير من الناس مصالح راسخة في النظام والمقدرة على استشراف المستقبل.

إن المجتمع الفلسطيني يملك بعض السمات التي يبدو أنها تتماشى مع الديمقراطية، لكنه لا يملكها جميعها. ليس ثمة من فوارق عرقية في المجتمع الفلسطيني، والأقلية المسيحية تعيش، إجمالاً، بسهولة ويسر مع الأغلبية المسلمة. لذا، فإن الفلسطينيين يتمتعون بدرجة نادرة من التكامل الاجتماعي والتشابه قياساً بمعظم المجتمعات في الشرق الأوسط. والفلسطينيون على درجة عالية من العلم، ويتمتعون بمستوى من العيش، حتى تحت الاحتلال، يمكن مقارنته بمستويات العيش في بلاد نامية أُخرى. غير أن ثمة فوارق كبيرة جداً في مستوى الدخل. فاللاجئون يعيشون في بؤس مدقع، بينما يعيش غيرهم من الفلسطينيين حياة لا بأس فيها. وهناك الكثير من الأمور التي تتوقف على إمكان تحقيق نمو اقتصادي قابل للتطور بحيث يصبح في استطاعة عدد أكبر من الفلسطينيين التمتع بمستوى اقتصادي يليق بمستواهم العلمي. 

أهمية الانتخابات

إن الديمقراطية ليست هي الدواء السحري للمشكلات التي تعترض الفلسطينيين. فهي لن تضمن انتخاب قادة صالحين. غير أنها قد تساهم في تفادي المشكلات المستعصية للحكومات السيئة، وهذه ظاهرة واسعة الانتشار في الشرق الأوسط. والافتراض الأساسي للديمقراطية، فوق كل هذا وذاك، هو أن يعي الناس حقيقة الحكم السيئ، وأن يستخدموا ورقة الانتخاب، إذا سنحت الفرصة، للتخلص من قادة فاسدين أو فاشلين. هذا هو السبب الذي يمنح الانتخابات أهميتها في الديمقراطيات الراسخة المؤسسة. وإذا ما أدرك أهل الحكم أن عليهم الخضوع للانتخاب بين الفنية والأُخرى، فمن المرجح أنهم سيمارسون الحكم وهم يأخذون في عين الاعتبار بعض مقتضيات المصلحة العامة.

وهكذا، فالنظام الديكتاتوري والفاشل يؤدي إلى تغريب الرأي العام، وفي حال انعقاد انتخابات حرة فإن ذلك يؤدي إلى ظهور قادة جدد.

وفي حالة الجزائر، حيث كادت انتخابات كانون الأول/ ديسمبر 1991 أن  تأتي بالجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الحكم في أوائل سنة 1992، فإن الحجة المعارضة للتدخل العسكري كانت ستكون مقنعة لو وعدت الجبهة بإجراء انتخابات أُخرى ضمن فترة أعوام محددة، وكان هذا الوعد قابلاً للتصديق. ولو كانت الجبهة على ذلك القدر من السوء والفشل، كما زعم منتقدوها، لكانت الانتخابات كفيلة بإخراجها من الحكم. ولعل الثقافة السياسية في الجزائر كانت تزداد غنى لو سُمح لحركة معارضة شعبية أن تخوض تجربة الحكم. ومن جهة أخرى، فلعل الجبهة كانت ستؤدي مهمتها في الحكم جيداً، وتكون في حالة كهذه جديرة بأن يُعاد انتخابها. فالمشكلة كانت تكمن في أن جبهة الإنقاذ كانت غير واضحة في موقعها من فكرة الديمقراطية والانتخابات برمتها، وكان ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد أن الانتخابات الوحيدة التي ستعقد هي تلك التي جاءت بجبهة الإنقاذ إلى الحكم.

والمقارنة في الحالة الفلسطينية هي أن تسجل حماس، أو غيرها من المجموعات الراديكالية الفلسطينية، نجاحاً في الانتخابات. ولا جدال في أن سجل حماس في مجال الديمقراطية تلفه الشكوك، غير أن هذه الشكوك تلف أيضاً جميع الحركات السياسية الأُخرى.

وما يبدو مهماً في الحالة الفلسطينية هو أن يصار إلى بدء عملية انتخابية تسمح بتمثيل واسع، لا إلى نظام يحصد المنتصر فيه الغنائم كلها. وهناك أمل في أن مقتضيات تدبير المرحلة الانتقالية نحو الاستقلال، والتفاعل مع المجتمع الدولي، والضغوط من المنظمات الشعبية، قد تجبر الفلسطينيين على اكتساب عادات الحكم الذاتي الديمقراطي. وفوق كل هذا وذاك، فإن المعايير الديمقراطية تتجذر عبر الزمن بينما يجرب الناس قواعد الديمقراطية، ويلمسون، على أرض الواقع، السبب الذي من أجله تكون الديمقراطية أقل الأنظمة السياسية سوءاً. فالديمقراطيون لا ينوجدون هكذا، بل إنهم يصلون إلى معتقداتهم من خلال التربية والممارسة.

ولا ريب في أن أية تجربة ديمقراطية عرضة للتقويض. فقد تصل عملية السلام إلى طريق مسدودة، وقد يعود حزب الليكود إلى الحكم، وقد تفشل التجربة الديمقراطية في الأردن، أو قد يزداد الوضع الاقتصادي سوءاً. وأي احتمال من هذه الاحتمالات قد يهدد الديمقراطية الفلسطينية. غير أن هذه الاحتمالات ليست حتمية، كما أنها ليست أسباباً تدعو إلى تفادي هذه التجربة في المكان الأول. 

الديمقراطية والسلام

إن الولايات المتحدة، التي اتخذت موقفاً برفع الأيدي بشأن تطبيق الاتفاقية بين إسرائيل والمنظمة، هي في موضع يسمح لها بأن تدعم الديمقراطيين في فلسطين بقوة. ولتحقيق ذلك، ينبغي لها أن تستخدم نفوذها لدى إسرائيل والبلاد الغربية ومانحي المعونات الممكنين لربط العون الاقتصادي والدبلوماسي في المستقبل بالتحول الفلسطيني نحو الديمقراطية.

وبالإضافة إلى ذلك، على الولايات المتحدة أن تتخذ موقفاً أكثر جدية ونشاطاً في الترويج للديمقراطية الفلسطينية. ولربما، وفي زمن يلي الانتخابات الفلسطينية لمجلس الحكم الذاتي، ينبغي لإدارة كلنتون أن تبحث عن وسيلة لربط الدعم لفكرة الدولة الفلسطينية في المستقبل بحدوث مزيد من الخطوات نحو الديمقراطية والسلام في جميع أرجاء المنطقة. وعلى سبيل المثال، قد تقول هذه الإدارة إن دعمها لدولة فلسطينية في المستقبل يجب أن يتماشى مع الالتزام الفلسطيني بالديمقراطية. وهذا الأمر من شأنه أن يعزز موقف الفلسطينيين الرامي إلى إقامة الدولة، وخصوصاً أولئك الذين يساندون عملية السلام والديمقراطية.

وما السبب الذي يدعو الولايات المتحدة إلى اتخاذ موقف كهذا؟ طالما رددت أميركا أنها تدعم الديمقراطية في أي مكان من العالم، غير أن الإدارات المتتابعة كانت تخجل بصورة عجيبة من دعم هذه الفكرة في الشرق الأوسط. وهذا الموقف هو الذي حمل الكثيرين في الشرق، وخصوصاً الحركات المعارضة، على التذمر والشكوى من أن للولايات المتحدة معايير مزدوجة. وفي حالة الفلسطينيين، في إمكان الولايات المتحدة أن تدعم مبدأ ذا أهمية عظمى، أي الحكم الديمقراطي، وأن تساهم، في الوقت ذاته، في إنجاز هدف طويل الأمد هو هدف السلام العربي – الإسرائيلي.

ستكون الديمقراطية الفلسطينية من دون شك تقريباً، جارةً أفضل للأردن وإسرائيل من ديكتاتورية فلسطينية. فديمقراطية كهذه تتلاءم بصورة أسهل مع ترتيبات التعاون والنمو الإقليميين، وليس لها كبير حاجة إلى قوات مسلحة كبيرة. وما هو أهم من هذا كله هو أن أي اتفاق قد تعقده مع إسرائيل يملك مقداراً أكبر من الشرعية في أعين الشعب الفلسطيني.

ونستطيع أن نتوقع معارضة إسرائيلية لفكرة دعم أميركي مشروط لدولة فلسطينية، غير أن الكثير من الإسرائيليين قد يثمِّن عالياً الجهود الرامية إلى تشجيع الديمقراطية لدى جيرانهم. فالولايات المتحدة ستستمر في دعم إسرائيل في مجال الترتيبات الأمنية لضمان ألاّ تصبح الدولة الفلسطينية خطراً عليها. ومع مضي الزمن، قد يوافق الكثير من الإسرائيليين على دعم فكرة دولة فلسطينية ديمقراطية تعيش بسلام مع إسرائيل.

إن الولايات المتحدة لم تعترف بمنظمة التحرير إلا بعد أن اعترف الإسرائيليون بها. إن المصلحة الأميركية في تشجيع الديمقراطية الفلسطينية، وكذلك انعدام الاهتمام الإسرائيلي الظاهر بهذا الموضوع، يوحيان بأن على واشنطن الآن أن تأخذ المبادرة. والمغزى الذي سيفهمه الفلسطينيون من هذه الأمور كلها قد يكون بالغ الأهمية. وفي الزمن الراهن، ثمة سحابة تغطي المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية لأنه لا أحد يعلم علم اليقين كيف سيتم حل الأمور المتعلقة بالوضع النهائي. وفي هذه الأيام، يتسلّم الفلسطينيون لائحة طويلة من الأهداف التي ليس من المرجح أن ينجزوها، كما أن موقع القوة لديهم يعني أنه لن يكون في وسعهم فرض خياراتهم الخاصة بهم. وإذا تبين أن الوضع النهائي للضفة الغربية وغزة لن يكون أفضل كثيراً من استمرار  الاحتلال، فإن المتشددين سيطالبون باستمرار النضال، وهذا الخيار سيصبح الخيار السائد عند التيار المركزي في المنطقة. ويبدو أن الأمر الوحيد الذي يكاد الفلسطينيون في الأراضي المحتلة يجمعون عليه هو الرغبة في الاستقلال والديمقراطية. ومن شأن الدعم الأميركي لهذه المبادئ أن يعزز أولئك الذين يدركون أن عليهم التوصل إلى حلول وسط حيال بعض القضايا الشائكة، كنزع السلاح، والقدس، والحدود، إذا كان لهم أن يحققوا أهدافهم.

ومن خلال دعم الديمقراطية الفلسطينية، لن تكون الولايات المتحدة قد استثنت الترتيبات الفلسطينية – الأردنية الرامية إلى قيام اتحاد فيدرالي أو كونفدرالي، أو حتى إلى قيام أنماط واسعة من التعاون والتجارة والنمو على المستوى الإقليمي. بل الواقع أن إعلان الدعم الأميركي للديمقراطية الفلسطينية اليوم، والدعم المشروط لفكرة الدولة مستقبلاً، قد يصبح جزءاً من مبادرة ترمي إلى تشجيع قيام منطقة من "السلام والنمو والديمقراطية"، التي قد تشمل  إسرائيل ولبنان والأردن وفلسطين ومصر وتركيا، وحتى سوريا في نهاية المطاف.

ومع أن هذه الأهداف قد تبدو جريئة، بل ضرباً من الأحلام، فإنها أهداف تليق بالدبلوماسية الأميركية في منطقة تستطيع أميركا أن توظّف فيها مواردها الكبيرة للتأثير في الأحداث. ومن خلال احتضان الديمقراطية الفلسطينية، تستطيع إدارة كلنتون أن تساهم مساهمة كبرى في إحلال السلام في الشرق الأوسط، ومن ثم في خدمة المصالح الأميركية القومية، كما في وسعها أن تدعم مبدأ من المفترض أن يكون ذا أهمية مركزية في السياسة الخارجية الأميركية، غير أنه ما زال، ويا للعجب، غائباً عن كلامنا على الشرق الأوسط.

 

* المصدر: .Foreign Affairs, Vol. 73, No. 4, July/August 1994, pp. 2-7

السيرة الشخصية: 

ولْيم كوانت (William Quant): من كبار الزملاء في برنامج دراسات السياسية الخارجية في معهد بروكينغز.