تهدف الدراسة إلى السعي لاستشراف نتائج حل قضية اللاجئين وانعكاساتها على مستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان. وذلك بالاستناد إلى قراءة للمواقف التي حكمت تعامل مختلف القوى الرئيسية من هذه القضية، وما يمكن أن يتبدل فيها في ضوء مسار المفاوضات القائمة منذ مؤتمر مدريد، والاتفاق المعروف بـ "غزة ـ أريحا أولاً".
ليس موضوع هذا البحث تقويم ماضي العلاقات اللبنانية – الفلسطينية أو حاضرها؛ فهذه علاقات معقدة مرّت في مراحل مختلفة، وما زال يختلط عند البحث فيها العاطفي بالسياسي في كثير من الأحيان، إذ إن الجروح لم تندمل كلها بعدُ عند أي من طرفي هذه العلاقة؛ فهي تتداخل مع مآسي الحرب اللبنانية ذاتها وفي الكثير من محطاتها. فهدف هذا البحث هو السعي لاستشراف نتائج وجه من أوجه تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي على كل من لبنان والفلسطينيين المقيمين فيه، أي حل قضية اللاجئين وانعكاساتها على مستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان.
ونستند في ذلك إلى قراءة للمواقف التي حكمت تعامل مختلف القوى الرئيسية مع هذه القضية، وما يمكن أن يتبدل فيها ضوء مسار المفاوضات القائمة منذ مؤتمر مدريد، والاتفاق المعروف بـ"غزة وأريحا أولاً". وطموحنا هو التوصل، بالقدر المستطاع، إلى تقدير موضوعي للتحديات المقبلة، بعيداً عن اتباع الأماني من جهة، وعن التجاهل المقصود لبُعد من أبعاد الموضوع مداراة لحساسية من هنا وأُخرى من هناك. فمصارحة الذات وحدها اليوم، وهي بالتأكيد تجربة مؤلمة في بعض أوجهها، تفيدنا لإعداد أنفسنا لحُسن التعامل مع ما قد يحمله المستقبل لنا من شروط وظروف.
لا شك في أن أول ما يصطدم به الباحث المهتم بوضع الفلسطينيين في لبنان هو فقدان المعلومات الدقيقة والموضوعية المتعلقة بعددهم من جهة، ووفرة التقديرات المتضاربة من جهة أُخرى. ولا يعود الأمر إلى غياب تقاليد للإحصاء الدوري أو إلى جهل دلالات لغة الأرقام في هذه المنطقة من العالم، كما يقول بعض الكتاب الغربيين، بل يعود الأمر أساساً إلى الأبعاد السياسية الواضحة لهذه المسألة التي لا تختلف نوعاً عن المشكلات والألغاز المحيطة بقضية معرفة العدد الحقيقي، لا لأبناء الطوائف اللبنانية المختلفة، أو لمواطني هذه الدولة الخليجية أو تلك فحسب، بل أيضاً لعدد الأجانب المقيمين في كثير من الدول الغربية.
إن الفلسطينيين أنفسهم ميّالون إلى تبني الرقم الأكبر للأعداد المطروحة في التداول بالنسبة إلى عددهم في لبنان، ربما استدراجاً للانتباه والعطف الدوليين لما يفترض أن يعبّر هذا العدد عنه من حجم للمأساة التي حلت بهم، وما زالوا فيها. والمثال لذلك هو تقدير جميعة الهلال الأحمر الفلسطيني سنة 1992 لفلسطينيي لبنان بـ 600 ألف نسمة.[1]
ويميل الرسميون اللبنانيون أيضاً نحو التقديرات القصوى، إنما لسبب مختلف، إذ يرون فيها ما يؤيد حجتهم باستحالة استيعاب لبنان لأعداد وفيرة كهذه من الفلسطينيين. فالوزير السابق شوقي فاخوري، الذي كان عضواً في اللجنة الوزارية المولجة الحوار مع الفلسطينيين، صرح بأن عددهم في لبنان يتراوح بين 400 ألف نسمة و500 ألف نسمة.[2] وكان المدير العام السابق لشؤون اللاجئين الفلسطينيين، يوسف صبرا، قد اعتبر في آخر سنة 1982 أن "قبل الغزو الإسرائيلي كان العدد الإجمالي يبلغ حوالي 65 ألفاً"، مضيفاً "ولكن أظن بأنه تناقص خلال الأشهر الأخيرة حتى بلغ الآن حوالي 550 ألفاً."[3]
ومن الطبيعي أن يأخذ الإسرائيليون بالتقديرات الأكثر انخفاضاً، بغية الإقلال من أهمية اللاجئين في حد ذاتها. فموشيه إفرات مثلاً، خلص في مقالة خصصها لدحض ما يعتبره تضخيماً لأعداد الفلسطينيين في لبنان، إلى أن عددهم سنة 1982 كان في حدود 203,000 نسمة.[4]
أما وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، فقد أفاد تقريرها لسنة 1992 أن عدد اللاجئين في لبنان، المسجلين لديها، أضحى 319,427 نسمة بعد أن كان 127,600 نسمة سنة 1950.[5]
ويبقى في الأساس، بالنسبة إلى عدد الفلسطينيين في لبنان، أنه لا وجود لمعلومات إحصائية مسندة إلى مسوحات ديموغرافية شاملة، بل هنالك بعض المعطيات الجزئية والتقديرات العامة المتباينة، وذلك نتيجة:
- الافتقار أصلاً إلى إحصاء حديث للمقيمين في لبنان، من لبنانيين وغير لبنانيين.
- الاختلاط السكاني الكبير بين الفلسطينيين واللبنانيين، وحصول عدد من الفلسطينيين على الجنسية اللبنانية، قدرته الأونروا سنة 1987 بـ 30,000 شخص.[6]
- عدم قيام عدد من النازحين الفلسطينيين سنة 1948 بتسجيل أسمائهم لدى الأونروا لأسباب عدة، أهمها الأحوال الميسورة للبعض منهم، واعتقاد البعض الآخر بقرب العودة. كما أن عدد المسجلين في الأونروا شمل لبنانيين من الذين كانوا يعملون في فلسطين سنة 1948 وعدداً آخر من غير الفلسطينيين الذين هُجّروا من فلسطين. ويضاف إلى ذلك أن فرصة الاستفادة من المساعدات والخدمات الاجتماعية عن طريق الأونروا جعلت بعض أرباب العائلات الفلسطينية يصرحون عن عدد أكبر لأفراد أُسرهم مما كان عليه فعلاً، ويمكن أن تكون تلك الفرصة قد دفعت أيضاً بعض المحتاجين من اللبنانيين القاطنين في جوار المخيمات الفلسطينية إلى تقديم أنفسهم لاجئين وتسجيل أسمائهم لدى هذه الوكالة.[7]
- إن الفلسطينيين الوافدين بعد سنة 1952، وعقب حرب 1967، أو الذين انتقلوا إلى لبنان من جراء أحداث الأردن في فترة 1970 – 1971، أو أبعدتهم إسرائيل بعد ذلك، لم تشملهم الأونروا في سجلاتها، كما أنه لم يتم قيدهم جميعاً لدى مديرية شؤون اللاجئين اللبنانية.
- فقدان معطيات كاملة بشأن الهجرة الكبيرة التي عرفها فلسطينيو لبنان في إثر الاجتياح الإسرائيلي، وأحداث صبرا وشاتيلا سنة 1982، وحرب المخيمات سنتي 1986 و1987، وما نجم عن ذلك كله، من شعور بعدم الأمان، إضاف إلى تقلص فرص العمل.
خلاصة الأمر، إذا ما أخذنا في عين الاعتبار ما تقدم من مشكلات بالنسبة إلى أي تحديد دقيق لعدد الفلسطينيين في لبنان، وانطلاقاً من الأبحاث الديموغرافية والاجتماعية المتوفرة والمستندة إلى دراسة معدلات الولادة والوفاة واتجاهات الهجرة، فإن التقديرات الأكثر موضوعية والأقرب إلى واقع الحال هي تلك التي تعتبر هذا العدد متراوحاً بين 280,000 نسمة و 320,000 نسمة.[8]
واليوم يعيش نصف هؤلاء اللاجئين تقريباً في اثني عشر مخيماً، بينما يسكن نصفهم الآخر خارج المخيمات، وإن كان ذلك، بالنسبة إلى عدد كبير منهم، في تجمعات سكانية ذات أغلبية فلسطينية يفوق عددها العشرين تجمعاً منتشرة في المحافظات اللبنانية كافة.[9]
إن مصير هؤلاء اللاجئين مرتبط إلى حد ما بعيد بإمكان ممارستهم لحقهم في العودة، وللشروط التي يتم بها. وحق العودة حق معروف منذ قرون، وهو يعتبر، قانوناً، من تلك المبادىء العامة التي ليست بحاجة إلى تكريس نصّي من أجل الاعتراف بها. وفي أية حال، لم يغب حق العودة عن متن الكثير من النصوص الأساسية، إذ نجد أن الشرعة العظمى *(Magna Carta) ذاتها تنص منذ أكثر من 700 عام على أنه:
سيكون مشروعاً في المستقبل لأي شخص... أن يغادر مملكتنا وأن يعود إليها بأمن وسلام، براً وبحراً.
أما في التاريخ الحديث، فإن معاهدات جنيف الأربع، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 13، الفقرة 2)، والميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية (المادة 12، الفقرة 4)، فإنها كلها تنص عل حق العودة.
وقد تم تطبيق هذا المبدأ على وضع اللاجئين الفلسطينيين من قِبل الأمم المتحدة، بالنسبة إلى حالتي نزوحهم عن ديارهم سنة 1948 وسنة 1967.[10] عبر قرارات كثيرة أهمها الفقرة 11 من القرار 194 الصادر بتاريخ 11 كانون الأول/ ديسمبر 1948، والآتي نصها:
تقرر [أي الجمعية العامة] وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن فقدان الممتلكات أو الضرر اللاحق بها وفقاً لمبادئ القانون الدولي والإنصاف وذلك من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة.[11]
فبالنسبة إلى الوجه التطبيقي لحق العودة، نرى أن هذه الفقرة:
- تجعل من حق العودة حقاً مرتبطاً باللاجئين الفلسطينيين كأفراد، بالاستقلال عن حقوقهم الوطنية.
- تمنح اللاجئين أنفسهم الخيار بين العودة والتعويض.
- تقر للاجئين بالحق في التعويض عن فقدان ممتلكاتهم أو الضرر الذي لحق بها، سواء اختاروا العودة أو لم يختاروها.
- تتطلب من الراغبين في العودة أن يكونوا أيضاً راغبين في العيش مع جيرانهم بسلام.
أما بالنسبة إلى نطاق ممارسة حق العودة، فإنه استناداً إلى إطلاق النص عند كلامه عن "حق اللاجئين" في العودة إلى "ديارهم"، واستناداً إلى تاريخ صدور القرار، أي سنة 1948، فلا مجال للشك في أن حق العودة المكرس هنا يشمل العودة إلى أية منطقة من مناطق إسرائيل في حدودها آنذاك.
ودرجت الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنذ سنة 1948، على التشديد في دوراتها السنوية على قرارها رقم 194. كما أكدت الجمعية العامة حق العودة استناداً إلى القرار المذكور في كل من قراراتها اللاحقة رقم 513، سنة 1952، ورقم 2452، سنة 1968، ورقم 2535، سنة 1969، ورقم 2963، سنة 1972، إلى أن تبنت في سنة 1974 القرار رقم 3226، الذي اعترفت بموجبه، ولأول مرة، بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وبحقه في الاستقلال والسيادة الوطنية، إضافة إلى تكريسها لحق العودة واعتبارها إياه، ولأول مرة أيضاً، من فئة الحقوق غير القابلة للتصرف (inalienable).[12]
وقد بلغ عدد القرارات التي ضمّنتها الجمعية العامة إشارة إلى القرار رقم 194 وتأكيداً للفقرة 11 فيه منذ سنة 1948 أكثر من أربعين قراراً. وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد درجت على التصويت تأييداً لصدور هذه القرارات، إلى أن امتنعت من ذلك عند البحث في قضية اللاجئين في الدورة الأخيرة للجمعية العامة، سنة 1993.[13]
أما إسرائيل، فإن القوى السياسية فيها قد أجمعت منذ سنة 1948 على عدد من الثوابت بالنسبة إلى كل من قضية اللاجئين الفلسطينيين عامة وحقهم في العودة تحديداً،[14] وهي:
أولاً: بالنسبة إلى قضية اللاجئين الفلسطينيين
1) ليس في قضية اللاجئين العرب الفلسطينيين شيء خاص أو مميز؛ فوضعهم جزء من حالة دولية هي ما ينتج من الحروب والاضطرابات السياسية من هجرات جماعية (Mass movements of populations) كالتي عرفتها الهند وباكستان وأوروبا الوسطى وألمانيا وبولونيا، والحل لا بد من أن يكون حلاً دولياً بإعادة تأهيل هؤلاء وتأمين مساكن جديدة لهم في أماكن نزوحهم.
2) إن مشكلة اللاجئين هي صنع العرب؛ فهي ناتجة من العمليات الحربية التي أقدمت الجيوش العربية عليها سنة 1948 ومن دعوة القيادات العربية للسكان الفلسطينيين إلى مغادرة بيوتهم وقراهم تسهيلاً لتقدم القوات العربية، على أن يعودوا بعد انتهاء الحرب.
3) إن العرب هم الذين يعملون على إدامة مشكلة اللاجئين؛ وذلك لأنهم يعتقدون أنه يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي إلى ما قبل قيام دولة إسرائيل، ولأنهم يستخدمون الفلسطينيين سلاحاً في صراعهم مع إسرائيل كما في خلافاتهم فيما بينهم.
4) إن حل مشكلة اللاجئين هو في يد العرب؛ وذلك لأن اللاجئين الفلسطينيين هم ببساطة عرب، أي إنهم أقرب ثقافياً واجتماعياً ودينياً إلى باقي العرب منهم إلى الإسرائيليين، وبالتالي يكون استيعابهم في العالم العربي، أسهل منه في إسرائيل، ولأن الموارد أكثر توفراً في العالم العربي لإعادة توطينهم مما هي في إسرائيل؛ فالبلاد غنية بالمياه والنفط، وكثير منها يفتقر إلى اليد العاملة، بينما إسرائيل لا تكفيها مواردها لاستيعاب المهاجرين اليهود المتدفقين إليها.
ثانياً: بالنسبة إلى الموقف من "حق العودة"
1- إن عودة جماعية للاجئين عرب معادين لفكرة وجود إسرائيل في الأساس تشكل خطراً أمنياً وسياسياً على كيانها من شأنه إذا وقع أن يدمر الدولة العبرية من الداخل.
2- إن إسرائيل قامت بقسطها باستيعاب آلاف اللاجئين اليهود الآتين من العالم العربي، بينما رفض العرب القيام بما يتوجب عليه في حل مشكلة اللاجئين العرب.
3- إن منازل اللاجئين وأراضيهم لم تعد أصلاً متوفرة لعودتهم، إذ إنها أصبحت مسكونة ومستغلة من المهاجرين اليهود الجدد.
4- أما السبب الأهم لرفض فكرة العودة عند قادة إسرائيل، وإن لم يفصحوا عنه في أحيان عدّة إلا مداورة تجنباً لنعتهم بالعنصرية، فهو أن من شأن أية عودة جماعية للاجئين الفلسطينيين أن تغير الطبيعة اليهودية لدولتهم.
وقاد ذلك كله إلى اتخاذ الكنيست قراراً واضحاً سنة 1961 ينص على ما حرفيته:
تقرر الكنيست أنه لا يمكن إعادة اللاجئين العرب إلى الأراضي الإسرائيلية وأن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو بتوطينهم في البلاد العربية.[15]
وإذا تذكرنا أن أحد أهم منطلقات العقيدة الصهيونية كان القول إن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأن المطامح الصهيونية عندما اصطدمت بحقيقة وجود الشعب الفلسطيني ومقاومته لمشاريع إنشاء كيان يهودي على أرضه لم تجد سوى تبني استراتيجية الترحيل (transfer) والعمل بموجبها قبل سنة 1948 وخلالها وبعدها، يتبين لنا كم يصعب على إسرائيل الاعتراف بوجود فلسطينيين أصحاب حقوق في ما أصبح دولة إسرائيل، وخصوصاً "حق العودة".[16]
وفي المقابل، يبدو طبيعياً جداً أن يتمسك الفلسطينيون، كما فعلوا، بحقهم في العودة، وأن يجعلوا منه حجر الزاوية في نضالهم الوطني، حتى أن المجلس الوطني الفلسطيني الأول المنعقد في القدس سنة 1964 أوصى باستبدال لفظة اللاجئين، للدلالة على الفلسطينيين، بلفظة "العائدين". ذلك لأن أي تشكيك في حقهم في العودة كان يعني بالضرورة تشكيكاً في حقهم الأصلي في فلسطين.[17]
وحتى سنة 1974، كانت القيادات الفلسطينية ترفض قرار الجمعية العامة رقم 181 لسنة 1947 لأنه قضى بتقسيم فلسطين، وقرار مجلس الأمن رقم 242 لسنة 1967 لأنه لم يتعامل مع الفلسطينيين إلا كلاجئين من دون الاعتراف بحقوقهم السياسية. أما قرار الجمعية العامة رقم 194، الذي نص على حق العودة، لم يكن يُعتبر بدوره كفيلاً بتحقيق الأهداف الفلسطينية والعربية كما كانت محددة بشعاري تحرير كامل فلسطين والقضاء على دولة إسرائيل.
لكن مع قبول المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد سنة 1974 فكرة إنشاء دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين، أعيد الاعتبار إلى مطلب العودة في حد ذاته، وتم تبنّيه لكن من دون الإشارة إلى قرار الجمعية العامة رقم 194، الذي لم تعلن منظمة التحرير قبولها به أساساً لحل قضية اللاجئين إلا سنة 1988 مع إعلانها قيام "دولة فلسطين" وقبولها رسمياً بمبدأ الدولتين على أرض فلسطين.[18]
واليوم، أصبح موضوع إيجاد حل لقضية اللاجئين الفلسطينيين جزءاً من مفاوضات التسوية، سواء المفاوضات الثنائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين أو المفاوضات المتعددة الأطراف، المستمرة منذ مؤتمر مدريد. وهذه المفاوضات، كأية مفاوضات، هدفها البحث عن حلول وصيغ تحظى بموافقة الأطراف المعنية ليتسنّى تنفيذها. والمفاوضات لا يكتب لها النجاح، كمبدأ عام، إلا بالقدر الذي يبدي فيها كل طرف استعداداً للتخلي عن شيء من مطالبه الأصلية من أجل بلوغ تسوية مقبولة من الطرف الآخر. ولا تكون تنازلات الأطراف متساوية إلا عند تعادل ميزان القوى بينها، إذ إن مقدار التنازل الذي يكون على أي طرف تقديمه في عملية المفاوضات إنما يعكس في التحليل الأخير موقعه العام في موازين القوى لا شرعية مطالبه أو عدلها. وفي هذه العملية تتحول الحقوق التي يتسلح الأطراف بها من مجرد حقوق "نظرية" إلى عنصر من عناصر ميزان القوى تستمد فعاليتها من قدرة من يدلي بها على تجنيد ما يستطيع من وسائل وإمكانات من أجل فرض تحقيقها كلها أو تحقيق قسم منها.
وفي موضوع بحثنا، لو استمر الإسرائيليون في تجاهل حق الفلسطينيين في العودة تجاهلاً كاملاً لاستحال الوصول إلى تسوية، كما أنه لو تمسك الفلسطينيون بموقفهم الداعي منذ سنة 1948 إلى عودة شاملة وكاملة للاجئين كافة إلى الأراضي ذاتها التي هُجّروا منها لاستحال أيضاً الوصول إلى تسوية.
إن ميزان القوى الذي تجري المفاوضات في ظله منذ مؤتمر مدريد يميل بوضوح إلى مصلحة إسرائيل من جرّاء انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي كان قد شكل حليفاً للعرب منذ منتصف الخمسينات، وتدمير القوة العسكرية العربية الأهم التي مثّلها العراق، والنتائج السلبية لحرب الخليج، إنْ لجهة ازدياد تبعية دول المنطقة للغرب أو لجهة ضرب مقومات ما عرف منذ حرب 1973 بـ"بالتضامن العربي"، ناهيك بِرِهان إسرائيل على موجة هجرة جديدة إليها مصدرها يهود الاتحاد السوفياتي السابق، إضافة إلى استمرارها في الاستفادة من سياسة أميركية تقول بضرورة الإبقاء على تفوقها العسكري إزاء محيطها.
ومن نتائج اختلال ميزان القوى على هذا الوجه حجم التنازلات التي اضطرت القيادة الفلسطينية إلى تقديمها في الاتفاق المعروف بـ"غزة وأريحا أولاً" وقبولها للتسوية السلمية مع إسرائيل طالما رفضتها سابقاً بدءاً بـ"الحكم الذاتي" ووصولاً إلى استثناء القدس منه. ويجدر التذكير بأن القيادة الفلسطينية كانت قد رضيت منذ سنة 1974 بقيام دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين، ثم استبدلت هدف تدمير "الكيان الصهيوني" بالاعتراف المتبادل بين إسرائيل وفلسطين، وقبلت رسمياً بقرار الحمعية العامة رقم 181 الداعي إلى تقسيم فلسطين، وبقرار مجلس الأمن رقم 242، الذي يؤكد حق دول المنطقة كافة في العيش بأمن وسلام.
ولا بد من التذكير بأن ميزان القوى هذا فرض في آلية المفاوضات أن يُترك بت مصير اللاجئين إلى ما يسمى مرحلة البحث في الوضع النهائي للضفة الغربية وقطاع غزة، والتي قد لا تبدأ قبل ثلاثة أعوام، على الرغم من إنشاء لجنة خاصة باللاجئين في إطار المفاوضات المتعددة الأطراف.
في ظل ميزان القوى هذا، وفي سياق هذا النمط من النتائج المترتبة عنه في مسار التسوية، ينبغي تقويم إمكان تطبيق الفقرة 11 من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 المتعلقة بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة.
وهنا، وانطلاقاً من الثوابت الإسرائيلية التي أشرنا إليها، ومن الموقف الذي اتخذته إسرائيل حتى الآن في إطار لجنة اللاجئين، ومن امتناع الولايات المتحدة هذه السنة من التصويت في الجمعية العامة لمصلحة مشروع القرار المتضمن تذكيراً بالقرار 194، يصعب تصوّر أن إسرائيل قد تقدم على تنازلات جوهرية تبدل جذرياً من معطيات المسألة، وإن كان يجوز الاعتقاد أنها قد تقبل، ضمن صفقة للحل الشامل، بتحديد الضفة الغربية وقطاع غزة أرضاً لقيام عدد من لاجئي سنة 1948 يتفق عليه بممارسة حقه في العودة، وبالسماح في أحسن الأحوال لعدد قليل جداً منهم بالعودة إلى إسرائيل ذاتها، من ضمن نظرية جمع شمل العائلات على الأرجح، الأمر الذي يضفي على العملية طابعاً "إنسانياً"، ويخفف من دلالاتها السياسية. وهذا، في اعتقادنا، تقدير واقعي، لأقصى ما يمكن أن يقدمه الطرف الإسرائيلي في ظل موازين القوى الراهنة من "تنازلات" بشأن تطبيق حق العودة.
أما بالنسبة إلى القيادة الفلسطينية فمن المهم أن نشير إلى أن تبنيها للقرار 194 يتضمن إقراراً بأن يكون ممكناً أن يخيَّر اللاجئون الفلسطينيون بين العودة والتعويض، مع ما يعنيه ذلك من قبول بمبدأ التعويض بديلاً من العودة إذا استحالت ممارستها واقعياً، وهو ما كان يعتبر سابقاً من قبيل الخيانة الوطنية والاستسلام للأمر الواقع.
وأبعد من ذلك، فإن إعلان القيادة الفلسطينية قبولها للقرار 194 جاء متلازماً مع اعترافها الواقعي بدولة إسرائيل سنة 1988، وهو ما يستنتج منه أن نطاق تطبيق أحكام هذا القرار أصبح قابلاً للتفاوض مع إسرائيل، وإن تم التمسك بمبدئية الحقوق المصانة فيه. ويبدو أن الاتجاه في القيادة الفلسطينية يميل، كما عبّر عن ذلك بعض كبار المفاوضين الفلسطينيين، أمثال نبيل شعث وفيصل الحسيني، إلى اعتبار ممارسة حق العودة لكل الفلسطينيين في حدود "دولة فلسطين" والتوقف عن المطالبة بتطبيقه على إطلاقه – أي في ما أصبح دولة إسرائيل – يشكل حلاً ممكناً ومقبولاً لكيفية تطبيق القرار 194، على ألاّ يستثني ذلك الحق في التعويض، أو يُفهم منه أنه تفريط بمبدئية حق العودة.[19] وبهذا المعنى يتم الاستعاضة عن "عودة" اللاجئين الصعبة إلى بيوتهم بالذات (home) بالـ"عودة" الممكنة إلى وطنهم (homeland) الذي يعاد إحياؤه.
فإذا تمكن الفلسطينيون والإسرائيليون من ردم الهوة، التي لا تزال تفصل بينهم بشأن تفسير مدى حق العودة وكيفية تطبيقه على الرغم من الاتجاه الفلسطيني إلى تحديد نطاقه في الضفة والقطاع، وإذا توصلوا إلى الاتفاق، ضمن صفقة شاملة، على صيغة لممارسة العودة وعلى حجمها، فماذا يكون إذ ذاك انعكاس ذلك على فلسطينيي لبنان؟
يجدر التنبيه هنا إلى أن أول ما ستواجهه القيادة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، على صعيد حل قضية اللاجئين في مرحلة ما بعد التوصل إلى الحل الشامل، هو تسوية أوضاع اللاجئين الفلسطينيين داخل هذه المناطق بالذات؛ إذ إنها تضم اليوم، بحسب آخر إحصاءات للأونروا، مليونا وتسعة عشر ألف لاجىء فلسطيني (أي تقريباً ثلاثة أضعاف عدد لاجئي لبنان)، ولا يزال أكثر من 40% منهم يعيشون في 27 مخيماً.[20]
وبعد السعي لإيجاد حل لهذه المسألة بحيث لا يعود هناك فلسطينيون "لاجئون" في وطنهم الجديد، لما في ذلك من تهديد لشرعية الدولة الجديدة ولتمثيلها المفترض لكامل الشعب الفلسطيني، ستضطر القيادة الفلسطينية إلى تأمين شروط العودة للنازحين الذين غادروا الضفة والقطاع بعد سنة 1967،[21] ومنهم الراغبون في العودة إلى منازلهم وأراضيهم في مدنهم وقراهم بالذات. ولئن كان من غير المستبعد أن تعمل السلطة الفلسطينية في المرحلة الأولى من تأسيسها على توفير سبل العودة أيضاً لبعض نازحي سنة 1948 من فلسطينيي لبنان وسوريا وسائر بلاد الهجرة، فإن ذلك سيكون بصورة رمزية ومحدودة بهدف التأكيد أن الكيان الفلسطيني الجديد هو وطن الفلسطينيين "كلهم".
ويشير ذلك كله إلى أن "عودة" أغلبية فلسطينيي لبنان لن تتم، في أفضل الأحوال، قبل فترة ليست بقصيرة، ولا سيما أنه يجب الأخذ في الحسبان العوامل التالية أيضاً:
أولاً: القدرة الاستيعابية لكل من الضفة الغربية وقطاع غزة؛ إذ من المعروف أن نسبة البطالة تشهد ازدياداً ملحوظاً،[22] وأن الاكتظاظ السكاني في غزة هو من بين الأكثر ارتفاعاً في العالم.[23]
ثانياً: الدلائل التي تشير إلى أن إسرائيل ستستمر في رفض أية عودة لعدد ذي شأن من اللاجئين إلى أراضيها.[24]
ثالثاً: علامة الاستفهام الكبيرة حول عدد الذين سيرغبون في العودة إلى قطاع غزة أو إلى الضفة الغربية، على الرغم مما قد يكون في ذلك من تحسين لوضعهم الاجتماعي والسياسي، ذلك لأن الأغلبية العظمى من فلسطينيي لبنان أتت أصلاً من مناطق عكا وحيفا ويافا وصفد والحولة وسائر قرى شمال فلسطين.[25]
رابعاً: حتى لو افترضنا جدلاً أنه سيُسمح للبعض من بين هؤلاء اللاجئين بالعودة إلى أراضي إسرائيل بالذات، فستبقى هنالك أيضاً علامة استفهام حول عدد الذين سيرغبون في العودة فعلاً، وذلك للسببين التاليين:
1- إن عدداً كبيراً من المنازل أو القرى أو الأحياء التي قد يرغبون في العودة إليها إما أُزيل تماماً وإما تغير معالمه بصورة جذرية.[26]
2- إنه سيكون على العائدين أن يقبلوا بالعيش كمواطنين ينتمون غلى أقلية عربية في دولة يهودية الأكثرية وصهيونية الفلسفة.
هل يعني ذلك كله أن ما ينتظر لبنان هو "توطين" الفلسطينيين على أرضه؟ وما هي حقيقة المساعي الدولية الهادفة إلى التوطين؟
منذ العام الأول لقيام دولة إسرائيل ونزوح اللاجئين، ولم يكن، كما يقال، "حبر القرار 194 قد جف بعد"، أخذت الجهود الدولية تتحوّل من العمل على إيجاد السبل التطبيقية لعودة اللاجئين، تنفيذاً للقرار المذكور، إلى القيام بالدراسات التفصيلية بشأن مجالات توطينهم في العالم العربي، مثل "اللاجئون العرب: مسح لإمكانات التوطين (Arab refugees: A survey of resettlement possibilities)، الصادر سنة 1949 عن المركز الملكي للدراسات الدولية في لندن (Chatam House) الوثيق الصلة بالخارجية البريطانية،[27] وتأليف البعثات لاستقصاء سبل التوطين ومتطلباته مثل بعثة كلاب (Clapp) الشهيرة سنة 1949،[28] فاقتراح المشاريع الإنمائية الرامية إلى تسهيل التوطين كمشروعيّ ماين – كلاب (Main-Clapp Plan) ومشروع إريك جونستون (E. Johnston) (1953-1955)،[29] وبعدهما مشروع همرشولد (1957)،[30] وتوجُّه الأونروا منذ سنة 1951، وبدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، إلى وضع خطط عدة لاستصلاح الأراضي في وادي الأردن وسيناء وغيرهما لتوفير فرص العمل وتسهيل الاندماج الاقتصادي للاجئين في بلاد النزوح[31] مروراً بالمفاوضات مع بعض الزعماء العرب، كالملك عبد الله في الأردن،[32] وحسني الزعيم في سوريا،[33] والإغراءات المقدمة لهم للقبول بتوطين أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين في بلادهم.
إذاً، أخذت الدول الغربية الرئيسية منذ قيام دولة فلسطينية تعتبر أن الحل الشامل والنهائي لقضية اللاجئين الفلسطينيين يكون، في الدرجة الأولى، بتوفير الشروط التي تسهل توطين العدد الأكبر منهم في البلاد التي نزحوا إليها. وهي تسند موقفها هذا إلى ضرورة الاعتراف بكل من الحقائق السياسية والديموغرافية الجديدة التي نتجت من قيام دولة إسرائيل والقيود التي باتت تفرضها على إمكان عودة اللاجئين الجماعية إلى ديارهم. فالتوطين من منظور هذه الدول هو الحل العملي والأكثر واقعية لقضية اللاجئين.[34] أما استمرار تبنيها للقرار 194 فقد تحوّل مع مرور الزمن من إعلان مبدئي إلى مجرد تصويت رتيب، وقد ذهبت الولايات المتحدة إلى التخلي حتى عن ذلك في الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، كما أسلفنا. أما مسألة التعويض التي لحظها القرار 194، فهي معتبرة إحدى الوسائل التي يمكن أن تسهل التوطين المنشود.
وخلاصة الأمر، إن التوطين، كحل ينطلق من رفض مبدأ العودة ويقضي بمنح اللاجئين الفلسطينيين جنسيات البلاد التي نزحوا إليها، كان ولا يزال هدفاً إسرائيلياً. كما أن فكرة التوطين كحل بديل من العودة تلقى من الدول الغربية تأييداً واسعاً وأكيداً، وإن لأسباب ليست بالضرورة الأسباب الإسرائيلية ذاتها.
أما الفلسطينيون، فقد تصدوا تاريخياً، منذ مطلع الخمسينات، لمشاريع التوطين. وما زال معظم قادتهم يرفضها اليوم[35] لأنها تؤدي إلى القضاء على هويتهم الوطنية التي نجحوا في المحافظة عليها، وهو ما سمح لهم بالإبقاء على وجودهم ووحدتهم كشعب، على الرغم من تقلّص طموحاتهم السياسية إلى إقامة دولة لهم على جزء فقط من أرض فلسطين.
لكن، لمّا كانت مفاوضات السلام الراهنة تجري في ظل ما بيّناه من موازين للقوى وفي ظل المواقف الدولية من حل مسألة اللاجئين الفلسطينيين، إضافة إلى ما أشرنا إليه بالنسبة إلى ما قد تنطوي عليه مسألة تحديد ممارسة حق العودة من شروط وظروف تؤدي إلى بقاء قسم كبير من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، فهل يبقى في استطاعة لبنان مقاومة مشاريع توطينهم فيه؟ وكيف؟
يجب أولاً التشديد على أن الموقف اللبناني الرافض للتوطين، إذا ما أُريد له توفر أسباب النجاح، إنما يتطلب توضيحاً لمضمونه وتحديداً له. فرفض التوطين يجب أن يعني رفضاً لمنح الجنسية اللبنانية للاجئين الفلسطينيين المقيمين فيه راهناً، كما للذين قد يبقون على أرضه بعد قيام الكيان الفلسطيني المنشود. وهكذا يكتسب شعار رفض التوطين معنى سياسياً محدداً يميزه من أوهام البعض الذين يساوون بينه وبين رغباته في "الرحيل" – أو حتى "الترحيل" – الجماعي للفلسطينيين عن لبنان.[36] كما أن شعار رفض التوطين يصبح هكذا أيضاً هدفاً قابلاً للتحقيق، إذا ما أحسن اللبنانيون أداءهم السياسي داخلياً وخارجياً.
على الصعيد الداخلي، فإن تدعيم الوفاق الوطني والتمسك بالتطبيق الكامل لاتفاق الطائف يشكلان الأساس الذي من دونه لا يمكن أن يواجه اللبنانيون ما قد يطرح في المستقبل القريب من صيغ تقول بتجنيس الفلسطينيين في البلاد التي نزحوا إليها.
وليس قولنا هذا من قبيل التكرار لمقولات الخطاب الوفاقي الرتيب، والأمر يتعدى ما يمكن أن يحدثه التوطين من اختلال في التوازن الطائفي الدقيق في لبنان بما قد يعتبر أنه يشكل تعزيزاً للوزن الديموغرافي لجماعة من بينهم ليطال ما نجح اللبنانيون في التوصل إليه من إعادة صوت لوفاقهم الوطني عبر وثيقة الطائف والتعديلات الدستورية التي كرستها؛ إذ إنها تنص صراحة على رفض التوطين.[37] فقد يؤدي التوطين، إذا حدث، إلى إعادة النظر في الإصلاحات السياسية وفي بنية الدولة التي تم التوافق عليها كشرط لإنهاء الحرب عبر اتفاق الطائف، وذلك عن طريق إعادة وضع بدائل منها على بساط البحث العام، كالفيدرالية وغيرها من المشاريع الخلافية.
ومفيد في هذا المجال أيضاً أن تسعى الدولة اللبنانية لإزالة ما يعترض علاقتها مع الفلسطينيين في لبنان من شوائب تحول دون وجود تنسيق وتعاون مع قياداتهم في مواجهة مشاريع التوطين، وذلك على قاعدة أن التوطين يستهدف الفلسطينيين في هويتهم الوطنية كما يهدد اللبنانيين في وفاقهم الوطني.
ويفترض في تنسيق كهذا أن يشكل منطلقاً لـِ مبادرة لبنانية داعية إلى صوغ موقف عربي مشترك رافض لمشاريع تجنيس اللاجئين الفلسطينيين، ليتم العمل بموجبه في إطار المفاوضات المتعددة الأطراف المتعلقة بمستقبل اللاجئين، وفي المنظمات الدولية المعنية، ومع راعيي المفاوضات. وفي ذلك تعزيز أكيد وضروري لقدرة لبنان على مواجهة ما قد يمارَس عليه من ضغوط دولية لحمله على القبول بالتوطين.
وهنا، وعلى الرغم من الانعكاسات السلبية لمحدودية المشروع السياسي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بالنسبة إلى آفاق عودة شاملة للاجئين الفلسطينيين، فإن الرهان يبقى على الجهود الرامية إلى تطوير الوجه الآخر لهذا المشروع، أي ككيان مجسد للهوية الفلسطينية وإطار لتنظيم الانتماء الوطني للفلسطينيين أينما كانوا. فإعلان "دولة فلسطين" الصادر سنة 1988 في الجزائر ينص على:
إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا.[38]
وعليه، سيكون على عاتق السلطة الوطنية الفلسطينية، التي قد تتجسد إما في دولة مستقلة وإما كإقليم في كونفدرالية أردنية – فلسطينية، أن تقوم بمنح جنسيتها لا للقاطنين فيها أو للعائدين إليها فحسب، بل أيضاً لجميع اللاجئين الفلسطينيين الباقين في البلاد التي نزحوا إليها، وتزويدهم بهويات وبجوازات سفر صادرة عنها.
ومن نتائج ذلك ليس فقط تحسين المركز المعنوي للاجئين الفلسطينيين وتوفير الحماية الدبلوماسية لهم في البلاد التي قد يبقى قسم منهم فيها، بل من شأنه أيضاً نفي الحاجة إلى تجنيسهم فيها، ومنها لبنان، إضافة إلى أهمية قيام مرجعية سياسية تكون مسؤولة عنهم تجاه هذه البلاد، وفقاً لمبادئ القانون الدولي وما يمكن أن يعقد معها من معاهدات.
ويبقى السؤال، ماذا يكون عندها الوضع القانوني للفلسطينيين الباقين في لبنان بعد منحهم الجنسية الفلسطينية؟
أولاً – لجهة الحقوق السياسية
طبعاً لن يكون للفلسطينيين الباقين في لبنان أية حقوق سياسية كالتي يتمتع اللبنانيون بها، مثل حقوق الانتخاب أو الترشيح أو التعيين في الوظائف العامة على تنوعها. فهذه حقوق تعود للبنانيين وحدهم من دون سائر المقيمين على أرضهم، وإن كان على هؤلاء واجبات تجاه لبنان، أهمها الخضوع لقوانينه وأنظمته كافة، وخصوصاً ما يتعلق منها بمتطلبات المحافظة على سيادته وأمنه وتنظيم شؤون الأجانب فيه.
ولا يعني ذلك أن هؤلاء الفلسطينيين سيبقون محرومين من الحقوق السياسية، بل سيكون في إمكانهم ممارستها ترشيحاً وانتخاباً، وإلى غير ذلك، في إطار مؤسساتهم الوطنية الفلسطينية وإن كانت إقامتهم في لبنان، تماماً كما يقوم، مثلاً، المواطنون المقيمون خارج بلدهم بممارسة حقوقهم في الترشيح أو الانتخاب عبر قنصليات بلدهم في الخارج.
ثانياً – لجهة الحقوق المدنية والاجتماعية
يجب أن يتلازم مع منح الفلسطينيين الباقين في لبنان الجنسية الفلسطينية العمل على تسوية مسألة إقامتهم فيه، وإعادة النظر في وضع حقوقهم المدنية والاجتماعية. فلا بد هنا من:
1- أن يُستحدث، من ضمن القوانين اللبنانية، فئة إجازات إقامة دائمة أو طويلة الأمد على طريقة الإقامة الدائمة الأميركية (Permanent Residency-Green Card) أو السويسرية Autorisation d’Etablissement))، أو الإقامة الطويلة الأمد (Permis de long séjour) الفرنسية، ومنحها للفلسطينيين الباقين في لبنان، تسوية لوضعهم وتسهيلاً لحرية تنقلهم وعملهم فيه.
2- وضْع معاهدة بين لبنان والسلطات الوطنية الفلسطينية تقضي بالمعاملة بالمثل في مجالات العمل، والضمان الاجتماعي، والضرائب.
لا شك في أن ذلك سيعني منح الفلسطينيين المقيمين في لبنان معظم الحقوق المدنية والاجتماعية التي يتمتع اللبنانيون بها، غير أن القيود المفروضة على حدود تملّك الأجانب وعدم السماح لهم باستثمار أموالهم في قطاعات تعتبر مرتبطة بالأمن والمصلحة العليا للبلاد، مثل الإعلام والمواصلات وغيرها، ستبقى مطبّقة عليهم أيضاً.
وبالنسبة إلى إعادة تحديد هذه المجالات، من الممكن الاسترشاد بالمعايير المعتمدة في البلاد التي تمنح بعض الأجانب حق الإقامة الدائمة أو الطويلة الأمد فيها، كالولايات المتحدة الأميركية مثلاً؛ ففيها يتمتع الأجانب من أصحاب حق الإقامة الدائمة بحقوقهم الفردية والاجتماعية، مثلهم مثل المواطنين الأميركيين، في أحكام التعديل الرابع عشر للدستور الفيدرالي المعرف ببند الحماية المتساوية (Equal Protection Clause)، أي البند الذي يحرّم التمييز، ويضمن المساواة في ظل حماية القانون. ويتبيّن من عدة قرارات صادرة عن المحكمة العليا للولايات المتحدة الأميركية أن أي تفريق بين حقوق المقيمين الدائمين وحقوق المواطنين لا يعتد به إلا إذا كان مستنداً إلى أساس مشروع. فعلى سبيل المثال، أبطلت هذه المحكمة مفاعيل عدد من القوانين التي كانت تميّز بين المقيمين الدائمين والمواطنين بالنسبة إلى الحصول على بعض التقديمات الاجتماعية،[39] ورفضت التصديق على منعهم من ممارسة بعض المهن التي تتطلب إجازة خاصة كالهندسة والمحاماة.[40] بينما صادقت مثلاً، وسنداً لمقتضيات المصلحة القومية، على عدم جواز منحهم تصاريح إنشاء محطات إذاعة أو تلفاز.[41]
ويبقى مهم أيضاً التوضيح هنا أن وضع الإقامة الدائمة لن يشكل حقاً مكتسباً لمن يحصل عليه، إذ إنه من فئة الأوضاع القانونية التي يمكن فقدانها (Defeasible Stauts)، إذا ما قام صاحبها بأعمال مثل:
- مغادرة بلد الإقامة الدائمة لفترة طويلة نسبياً (سنة واحدة، مثلاً).
- ارتكاب جرائم معينة، كالإخلال بأمن بلد الإقامة الدائمة أو بنظامه العام.[42]
وفي الختام، لا بد من التصدي للسؤال التالي: ألا يؤهل حق الإقامة الدائمة صاحبه لطلب التجنس؟... وبمعنى آخر، ألن تشكل صيغة الإقامة الدائمة المقترحة لتسوية أوضاع من يبقى من الفلسطينيين في لبنان مجرد حالة انتقالية تقود إلى تجنيسهم، أي إلى توطينهم المرفوض... ولو بعد حين؟
وجوابنا عن ذلك هو أن منح حق الإقامة الدائمة هو اقتراح حل سياسي لوضعية جماعية، في حين أن مسألة التجنس يجب أن تبقى مسألة يتم النظر فيها إفرادياً، أي على قاعدة كل طلب على حدة، ويتم بته على هذا الأساس أيضاً وفقاً لتوفر أو لغياب الشروط المطلوبة في قوانين الجنسية المرعية لإجراء.
وفي مطلق الأحوال، وبغض النظر عما قد يواجهه لبنان بشأن موضوع "توطين" الفلسطينيين فيه، فالدولة اللبنانية لا يمكن إلا أن تعتمد سياسة متشددة بالنسبة إلى الشروط المؤهلة للتجنس، لأن لبنان بخصائصه الجغرافية والاقتصادية والديموغرافية ليس بلد هجرة وافدة (Pays d’immigration) مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا، بل هو منذ أكثر من قرن بلد هجرة نازحة (Pays d’émigration)، ولا يزال كذلك.
* تم إعداد هذا البحث ضمن برنامج عمل "منتدى لبنان الغد".
المصادر:
[1] PRCS, Medical Services, Past, Present and Future in Lebanon (Beirut: PRCS, 1992), p. 38.
كما ورد في: روز ماري صايغ، "الفلسطينيون في لبنان: واقع مؤلم ومستقبل غامض"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 13، شتاء 1993، ص 16.
[2] L’Orient-Le Jour, 2 Oct. 1992.
[3] "المستقبل"، 25/12/1982.
[4] “Moshe Efrat, “The Palestinian Population in Lebanon, Facts and Fallacies,” International Problems, XXIII: 1-4, 1984, p. 73.
[5] الأمم المتحدة، تقرير المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (A/48/13)، نيويورك، 1992، ص 40.
[6] "رسالة الأونروا الإخبارية"، رقم 117، فيينا، كانون الثاني/يناير 1987، ص 7. كما ورد في: حلا نوفل رزق الله، "تطور الوضع الديمغرافي للفلسطينيين المقيمين في لبنان خلال فترة 1948 – 1988"، الأمم المتحدة – اللجنة الاجتماعية الاقتصادية لدول غرب آسيا، بغداد، 1988، ص 3.
[7] بهذا الشأن، وعلى سبيل المقابلة بما أثاره تعداد اللاجئين الفلسطينيين في أماكن لجوئهم الأُخرى من إشكالات، أنظر:
Rony E. Gabbay, A Political Study of the Arab-Jewish Conflict: The Arab Refugee Problem; A case study (Genève, Paris 1959), p. 165, ff.
[8] رزق الله، مصدر سبق ذكره.
[9] صايغ، مصدر سبق ذكره؛ الأمم المتحدة، مصدر سبق ذكره.
[10] فيما يتعلق بحق العودة في القانون الدولي وتطبيقه على حالة اللاجئين الفلسطينيين، راجع خصوصاً:
- Thomas Mallison and Sally V. Mallison, The Palestine Problem in International Law and World Order (London, 1986): George J. Tohmeh, Legal Status of Arab refugees (Beirut: Institute for Palestine Studies, 1969); United Nations,
Question of Palestine: Legal Aspects (New York, 1991): United Nations, The Right of Return of the Palestinian People (New York, 1978).
[11] "قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي، 1947 – 1974" (مراجعة وتحقيق جورج طعمة)، الطبعة الثانية (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1975)، ص 19.
[12] المصدر نفسه.
[13] Nobert Scholz (ed.), U.S. Official Statements: Palestinian Refugees (Washington D.C.: Institute for Palestine Studies, 1994).
[14] يقدم Rony E. Gabbay، مصدر سبق ذكره (ص 280 وما يليها)، عرضاً وافياً للموقف الإسرائيلي من قضية اللاجئين الفلسطينيين منذ بدايتها. ويراجَع من أجل نقاش مفصل للمسألة من قِبل مسؤولين إسرائيليين: كلمة أبا إيبن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 1958 المنشورة في:
Walter Laqueur and Barry Rubin (eds.), The Israel Arab Reader: A Documentary History of the Middle East Conflict (New York, 4th revised and updated edition, 1984), pp. 151-164; Shimon Peres, The New Middle East (Shaftesbury, Dorset, 1993), pp. 181-194.
بالنسبة إلى الموقف الإسرائيلي من الوجه القانوني للمسألة، يراجَع:
Kurt Renè Bradley, “The Palestinian Refugees: The Right to Return in International Law,” American Journal of International Law, 72: 3 (July 1978), pp. 586-614.
[15] Simha Flapan, “The Knesset Votes on the refugee Problem,” New Outlook, 4:9 (December 1961), p. 8.
[16] Amnon Kapeliouk, “New Light on the Israeli-Arab Conflict and the Refugee Problem and its Origins,” Journal of Palestine Studies, 16:3 (Spring 1987), pp. 16-24; Nur Masalha, Expulsion of the Palestinians: The Concept of “Transfer” Zionist Political Thought, 1882-1948 (Washington D.C.: Institute for Palestine Studies, 1992); Elias Sanbar, Palestine 1948: L’Expulsion (Paris: Les Livres de la Revue d’Études Palestiniennes, 1984).
[17] Rashid I. Khalidi, “Observations on the Palestinian Right of Return,” in Rashid I. Khalidi and Itamar Rabinovich, The Palestinian Right of Return: Two Views (Cambridge, Mass.: American Academy of Arts and Sciences, International Security Studies Program, Occasional Paper No. 6, 1990), p. 30.
[18] بشأن مراحل تطور الموقف الفلسطيني منذ 1974، راجع:
Walid Khalidi, Palestine Rebom (London, 1992).
[19] Rashid Khalidi, op.cit., p. 10.
[20] الأمم المتحدة، مصدر سبق ذكره، ص 41.
[21] بحسب المصدر السابق، ص 4، يقدّر عدد الذين نزحوا سنة 1967 بـ 200,000 شخص.
[22] Stanley Fisher, Leonard J. Hausman, Anna D. Karasik, Thomas C. Schelling (eds.), Securing Peace in the Middle East: Project on Economic Transition (Cambridge, Mass., 1994), p. 73.
[23] الكثافة السكانية في غزة هي بحدود 1700 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. وعلى سبيل المقارنة، فإن الكثافة السكانية في المربع الواحد في بعض البلاد الأكثر اكتظاظاً هي كما يلي: بلجيكا: 325؛ هولندا: 360؛ اليابان: 325؛ تايوان: 555؛ هونغ كونغ: 1900؛ سنغافورة: 4200. راجع:
Georges T. Abed, The Economic Viability of a Palestinian State (Washington D. C.: Institute for Palestine Studies, 1990), p. 7.
[24] أبرزها شمعون بيرس في: Peres, op.cit.
[25] TEAM International, “The Demographic Characteristics of the Palestinians in Lebanon,” United Nations Economic Commission for Western Asia (report presented to), January 1983, pp. 53-70.
[26] أنظر:
Walid Khalidi (ed.), All That Remains: The Palestinian Villages Occupied and Depopulated by Israel in 1948 (Washington D.C.: Institute for Palestine Studies, 1992).
[27] من إعداد: S.G. Thicknesse
[28] Gabbay, op.cit., p. 375, ff..
[29] Ibid., p. 466, ff.
[30] René Aggiouri, “Le Plan Hammarskjoeld et les Arabes,” Orient (3:11) 1959, pp. 41-50.
[31] أنظر الحاشيتين 28 و29.
[32] Avi Shlaim, Collusion Across the Jordan: King Abdullah, the Zionist Movement, and the Partition of Palestine (Oxford, 1988), pp. 347, 451.
[33] Avi Shlaim, “Husni Za’im and the Plan to Resettle the Palestinian Refugees in Syria,” Journal of Palestine Studies (15:4), 1986, pp. 68-80.
[34] Gabbay, op.cit., p. 387, ff.
[35] ذلك على الرغم من بداية قبول بعض المفكرين الفلسطينيين لخيار تجنيس اللاجئين في بلاد لجوئهم على أساس أنه يشكل حلاً واقعياً لمعضلتهم. راجع مثلاً:
Sari Nusseibeh and Mark A. Heller, No Trumpets, No Drums: A Two – State Settlement of the Israeli – Palestinian Conflict (London, 1991).
وعلى النقيض من ذلك أنظر: Rashid I. Khalidi, op.cit., p. 13.
[36] مثلاً كان الرئيس اللبناني السابق أمين الجميِّل قد صرح بعد أيام معدودة على انتخابه أنه سيعمل على خفض عدد الفلسطينيين المقيمين في لبنان إلى 50,000، أي إلى ربع عددهم آنذاك: Christian Science Monitor, Sept. 20, 1982.
مرجع مذكور في:
Cheryl A. Rubenberg, “Palestinians in Lebanon: A Question of Human and Civil Rights,” Arab Studies Quarterly, (VI:3).
[37] "وثيقة الوفاق الوطني" (المبادىء العامة، فقرة 1 – ط)؛ "الدستور اللبناني" (المقدمة، فقرة ط). وبالنسبة إلى اتجاهات الرأي العام اللبناني بشأن مسألة التوطين، أنظر:
Hilal Khashan, Palestinian Resettlement in Lebanon: Behind the Debate (Montreal: Montreal Studies on the Cotemporary Arab World, April 1994).
[38] "فلسطين الثورة"، العدد 726، 20/11/1988، ص 5.
[39] Graham V. Richardson, 403 U.S.365 (1971); Cabell v. Chavez-Salido, 454 U.S. 432 (1982).
[40] Examining Bd. Of Eng’rs v. Flores de Otero, 426 U.S. 658 (1976); in re Griffiths, 414 U.S. 717 (1973.
[41] Campos v. FCC, 650 F. 2d (7th Cir, 1981).
[42] أنظر مثلاً المادتين 9 و10 من القانون الفيدرالي السويسري المتعلق بإقامة الأجانب، تاريخ 26/3/1931، مع تعديلاته.
43 أنظر:
Albert Hourani, Nadim Shehadi (eds.), The Lebanese in the World. A Country of Emigration (London, 1992).