رسالة من عمان يصف فيها كاتبها مشهد مئات العناصر من قوات "الأمن الوطني الفلسطيني" بملابسهم العسكرية، في "مدينة الحجاج" في غور الأردن، وهم ينتظرون منذ أيام قراراً إسرائيلياً يسمح لهم بالعبور إلى مدينة أريحا لتسلم مهماتهم، فيما مجموعة كبيرة من أهاليهم تحتشد تحت الأشجار. وينقل أفكارهم ومشاعرهم بهذه المناسبة.
بعد أن ساعد الإغريق في الاستيلاء على طروادة، بحيلته المعروفة المتمثلة في الحصان الخشبي، قرد أوذيس (هو نفسه عوليس) العودة إلى مملكته ووطنه (إيثاكة) وزوجته (بنيلوب)، فعاندته الرياح وقذفت به إلى شواطئ إفريقيا وغيرها من الجزر والعوالم التي ذاق فيها، لعشرين عاماً، ألوان الضياع والتشرد والمعاناة، قبل أن يقرر الإله زفس التدخل وإصدار أمر رجوعه إلى وطنه.. ولما وصل إلى بلده – كما تلخص قصته عنبرة الخالدي – وجد حشداً من الخُطَّاب قد اغتنموا فرصة غيابه، وصغر سِنّ وَلَده تِليماخ، فأخذوا يبذّرون أمواله، ويبدّدون رزقه، ويحاولون إكراه زوجته على الزواج من أحدهم.. وهنا تتدخل الإلهة أثينا لمساعدته في الثأر من " الخطّاب" واستعادة ملكه، فتعمد إلى إبرازه في مظهر متسوّل عجوز رثّ الثياب.. كي يتدبر أمر الوصول إلى بيته.. حتى ينجح فعلاً في القضاء على أعدائه.. (الأوديسة).
* * *
I
كنا مجموعة من ممثلي الصحافة ووكالات الأنباء وشبكات التلفزة المحلية والعربية والعالمية نجول مع/وبين مئات العناصر من قوات "الأمن الوطني الفلسطيني" (كما توضح الشارات المثبتة على أكتافهم) بملابسهم العسكرية الخضر، في "مدينة الحجاج" في غور نمرين، قريباً من جسر الملك حسين، منتظرين منذ أيام قراراً يسمح لهم بالعبور إلى أريحا لتسلم مهماتهم. وكانت مجموعة كبيرة من أهالي هؤلاء العناصر (ضباطاً وضباط صف وأفراداً) تحتشد في المعسكر، تحت الأشجار، حيث تحت كل شجرة عائلة التفَّت حول ابنها لتوديعه. كانت الحرارة العالية ترفع درجة الضجر والملل التي بدأ هؤلاء "العائدون" (كما يسميهم كبار الضباط المسؤولين هنا) يشعرون بوطأتها وهم ينتظرون عودة الوفد الذي غادر إلى أريحا منذ الصباح لإجراء مفاوضات مع الإسرائيليين بشأن تفصيلات لا يدري الأفراد ولا صغار الضباط عنها شيئاً، فيقولون إنها أمور فنية وإجراءات إدارية"، بينما يقول البعض "نحن جاهزون منذ أربعة أيام وننتظر هنا، لكن الإسرائيليين لا يلتزمون بمواعيد." ويضيف آخرون "إسرائيل تريد أن تشعرنا بأن زمام الأمور في يدها. تريد أن تجعلنا نيأس وندوخ قبل أن ندخل." أعداد كبيرة من القوات تقبع تحت مظلات كبيرة معدة للاستراحة ينتظر كل منهم أن ينطلق اسمه من مكبر الصوت الذي ينادي على كل من يأتي أهله أو أقاربه لزيارته. البعض يمشون تحت شمس الغور الحارقة تعبيراً عن القرف والممل. بعض الوجوه ساهِم ترتسم عليه علامات غامضة لا تنم سوى عن عدم القدرة على استيعاب ما يجري والتكيف معه على الرغم مما يقوله المسؤولون عن قدرة "العنصر" على التكيف مع كل ما يطرأ من ظروف، كما عبّر البعض.
وبينما عبّر البعض عن مقدرة عالية في النظر إلى المستقبل والتعاطي معه، كان البعض الآخر يتجاهل هذا المستقبل ويترك الأمور إلى حين حدوثها، إذ من الصعوبة استقراء مستقبل مجهول.
وبينما كان البعض يرى – بصورة مباشرة أو بالإيحاء – إمكان التعايش بين الكيانين (وهؤلاء غالباً من كبار الضباط!)، لم يكن الكثيرون يترددون في إعلان رفضهم مثل هذا الإمكان.
II
كنت أحاول استقراء أوجه الشبه بين أوذيس في أسطورة هوميروس، وأوذيس الفلسطيني.
كان أوذيس الإغريقي، عندما عاد إلى إيثاكة، بقرار من الإله زفس ومساعدة من الإلهة أثينا، كان قد لجأ إلى بيت الراعي الذي عمل في حظيرة الماشية وظل يعمل فيها على الرغم من استيلاء "الخطّاب" على كل شيء! ومن بيت الراعي كان يدير مكيدته.
وعليه، كان في ودي أن أجد إجابة عن تساؤل افتراضي تشبيهي: هل ثمة شبه بين بيت الراعي بوصفه مدخل أوذيس إلى استعادة ملكه، وبين غزة – أريحا أوّلاً؟
هل يمكن لأريحا أن تقوم بهذا الدور، إذا ما قرّر أوذيس الفلسطيني اتخاذها مدخلاً (مع الاحتفاظ بجميع الفوارق بين ملحمة هوميروس وواقع فلسطين!). لا يمكن القول، كما لم يدّع أحد، أن الفدائي خلع ملابسه المموّهة وتشرّد وارتدى ملابس رجال الشرطة ضمن خطة مدبّرة لخداع الصهاينة حتى يتسلل إلى فلسطين ويبدأ مشوار التحرير. فالاتفاقات (ومن قبلها الانتفاضة) هي التي سمحت له بهذه العودة المحدودة. وإذا ما حدث وتطورت هذه العودة إلى ما هو أكبر منها، فسيكون ذلك ضمن أوضاع مختلفة ولا علاقة لها بما جرى تدبيره، وربما لن يكون لهؤلاء الشرطة دور إيجابي فيه، إن لم يكن دورهم سلبياً طبعاً!
إن التوقف عند بعض النماذج الموجودة "هنا" (في مدينة الحجاج) يمكن أن يقدم بعض الإجابات – وإن تكن إجابات نظرية نابعة من الرغبات والإرادات، لا من القراءة الواعية للواقع – عن بعض التساؤلات!
* * *
لحظة الانتظار هذه، بالنسبة إلى حكمت الديك (أبو علي)، ابن كَفْر الديك – إحدى قرى رام الله – هي لحظة ذات أبعاد ومدلولات عدة، وعلى غير صعيد. إنها – ابتداء – لقاؤه الأول، منذ سبعة وعشرين عاماً، مع والدته التي لم يرها منذ نكسة حزيران/ يونيو 1967، حيث تشبثت ببيتها وقريتها، والتحق هو بقوات الثورة الفلسطينية في الكرامة قبل أن يغادر الأردن، في إثر معارك أيلول/ سبتمبر 1970، إلى سوريا ثم إلى لبنان الذي بقي فيه حتى حصار بيروت سنة 1982، أمضى بعدها عامين في معتقل أنصار ثم انتقل إلى تونس فالجزائر، ثم بغداد (وتلقى خلال ذلك دورات في دول المعسكر الاشتراكي آنذاك). ولحظة الانتظار هذه – ثانياً – هي فرصة لقائه الأول بأخته التي لم يرها – أيضاً – منذ نكسة حزيران/ يونيو التي حملتها مدرِّسة إلى السعودية، وها هي تصحب معها ابنتها وأحفادها إلى لقاء مفاجئ لم يكن قبل شهور أقلَّ من حلم صعب التحقق إن لم يكن مستحيلاً.
ثم إن هذه اللحظة – ثالثاً، وليس أخيراً – هي لحظة تجعل أريحا وفلسطين، قريبة قرباً لا يزيد عن كيلومترات من الأرض، ولا يقل عن آلاف الأميال من الشوق والحنين المتراكم طوال ما يزيد عن عمر الثورة المغدورة. إنها على مرمى قُبْلة. لكنها في حال اشتباك، بل التباس بين فلسطين والحلم وفلسطين الواقع.
ويمثل اجتماع الديك مع عائلته هنا – بعد الغياب الطويل وقبل الدخول المنتظر إلى أريحا – اجتماعاً أكبر تراه في عيني (أبي علي) وهو يتحدث عن هذه "العودة" التي تعني اللقاء مع الأرض والناس في أعلى مستويات حضورهما المباشر، بعيداً عما يحمله اللقاء من دلالات رمزية، وبعيداً عن الحضور الرمزي للفكرة والحلم: فكرة العودة وحلم التحرير. فبعد سبعة وعشرين عاماً من الثورة والأحلام ورؤى التحرير وأمل بعودة الفاتحين، بعد الكثير من الانتصارات الصغيرة والهزائم الكبيرة.. لم يعد في إمكان هذا الكهل الذي بذل أقصى ما لديه، زهرة شبابه ومياه روحه، حتى قارب الخمسين من عمره، أن يرى شبح فلسطين ولا يهرول إليه. لم يكن من الحكمة أن نسأل حكمت الديك عن معنى هذه العودة ودلالاتها السياسية، لأن إجابته كانت أسرع من طلقة في زمن بلا طلقات "أولاً أنا أرجع إلى وطني"، بفرح عظيم يقولها، و"ثانياً، هذه هي الفرصة الوحيدة المتاحة الآن"، ببساطة وعفوية، سوف أعمل فعلاً على خدمة شعبي وأبناء وطني من خلال موقعي."
كان من الصعب على الديك، بوصفه أحد ضباط الأمن (برتبة نقيب) أن يرى دوره القادم في مواجهة شعبه. على العكس، هو يرى أنه "مع الانتفاضة" لأنها "نضال من أجل الوطن" و"لن نواجهها". وليس كونه "مع القيادة حتى النهاية" دافعاً له ليكون "ضد حماس"، فالكل فلسطينيون، والصراع ليس هو الوسيلة لحل الخلافات الداخلية. فالذي عاش تجربة المقاومة الفلسطينية خلال ربع قرن من الزمان لا يمكن أن يتخلى عن ثوابته بسهولة: "إن الصراع بيننا وبين إسرائيل هو صراع وجود لا صراع حدود." و"علينا أن لا نعترف بإسرائيل." فهذا الذي نحصل عليه "هو خطوة نأمل بأن تكون على طريقة تحرير أرضنا كاملة"، فحدود فلسطين هي "من النهر إلى البحر."
كانت الأم والأخت وبقية العائلة تنظر إلى أبي علي كبطل أسطوري، نظرات اعتزاز وإكبار. وتنظر الأم إلينا فنرى القلق قبل أن تطلب منا التوقف عن "حكي السياسة"، الذي تعتقد هي أنه يمكن أن يتسبب بمشكلة، لا داعي لها، للابن العائد. نقول لها إن السياسة هي كل شيء في حياتنا، بل هي التي جمعتنا في هذا المكان. فيؤمّن أبو علي على كلامنا معلناً أنه لم يعد ثمة ما يُقلق أو يسبب الخوف. إنه لا يفكر في شيء قدر تفكيره في أنه "عائد" إلى فلسطين من أريحا، وما عدا ذلك تفصيلات. (هنا أُخرجت أطعمة وفاكهة من أكياس، وأصرّوا أن نشاركهم طعام الغداء كما لو كنا في منزل أم حكمت في كفر الديك. ولما كنا سبقناهم إلى الغداء، وافقوا على أن نكتفي بالبرتقال، شرط أن نزورهم في القرية بعد العودة).
III
ربما كان أبو علي نموذجاً وسيطاً بين النماذج المتطرفة في الاتجاهين: تطرف الثوري وتطرف المستسلم. فهو على الرغم من شعارات الجيل الأول من الثورة لا يدّعي أن الظروف الآن هي ظروف تحرير. ويكتفي بما يعطى له بحسب مقولة "خذ وطالب" التي يتبناها بعض القوى والتنظيمات الفلسطينية. لقد وافق على "غزة – أريحا أولاً" ليصل إلى كفر الديك ولو بصورة فردية. لذا فإنه يجمع الحلم إلى اليأس في حال من الالتباس التي نجدها – بل وجدناها فعلاً – عند عدد غير قليل من أفراد وعناصر "الأمن الوطني الفلسطيني". لكن، أهو الحلم أم الوهم؟ الحلم بالمواصلة، أم الوهم الناجم عن اليأس والإحباط؟ اليأس؟ ربما لا "كنا يائسين حين كنا نمضي في معسكرات الشتات أياماً تغدو أعواماً بلا طائل. أما الآن، فهذه العودة، على الرغم من ملابساتها والظروف التي أنتجتها، هي "مكسب في حد ذاتها" (يقول ضابط مهندس برتبة رائد). حال بين اليأس والأمل إذاً. حال انتهاء المنفى، لكنها لا تعني عودة الوطن الذي كان. إنها – كما عبّر البعض – بداية. لكنها بداية يتفق الجميع على كونها كذلك فحسب، ولا يدرون عن الخطوة التالية شيئاً. وليس في إمكان أحدهم حتى أن يتخيل هذه الخطوة التالية، وكيف ستكون. بيد أنهم جميعاً يعلنون – كما لو أنهم يرددون تعليمات تلقّوها توّاً – أنهم ذاهبون لبناء الوطن وخدمة الشعب وحماية الأهل... إلخ."، وينفون أن يكون مطلوباً منهم القيام بدور في وقف الانتفاضة التي يرون أنها ستتوقف حال انسحاب إسرائيل من الضفة وغزة، حيث لا يريدون أن يروا أبعد من ذلك. لا يريدون – ربما – أن يفسحوا للتنظيرات السياسية حيزاً يفسد فرحة العودة، فيبتعدون عن كل ما من شأنه أن يريهم المستقبل أو جزءاً صغيراً منه. وحتى الذين منهم يرون شيئاً من هذا المستقبل قاتماً، فهم يرونه أقل قتاماً من المنفى والشتات والهزائم التي عاشوها.
وتتساءل إن كان في إمكان الأرض أن تكون وطناً بلا حرية، أو كيف تكون العودة عودة إن لم تكن عودة إلى الوطن؟ وكيف يستطيع أوذيس – بلا معجزة من الإلهة أثينا – أن يتسلل ليستعيد مملكته وزوجته؟ وأية معجزة يمكن أن تعيد عوليس الفلسطيني إلى وطنه، لا إلى منفى جديد يتعايش فيه – مستسلماً – مع عدوه، مغتصب أرضه وحريته؟ وهل في إمكانه، أو من حقه حتى، أن يرفض هذا الشكل من "العودة"؟ أسئلة كثيرة أثارتها مشاهداتنا ومقابلاتنا مع هؤلاء "العائدين" الذين لا يدري معظمهم إلى أن يعودون، إلى أي مستقبل يمضون، وأية أدوات سيكونون في أيدي صانع مستقبل هذه المنطقة جمعاء؟
إن اشتباك السياسي بالإنساني هو السمة الطاغية في حال الكثيرين من "أبطال" رواية العودة المجهولة المصير، كسفينة أوذيس التي أبحرت من طروادة فتقاذفتها الريح والأقدار أعواماً قبل أن ترسو في جزيرة إيثاكة. فهل وصل "العائدون"، أم أن عبورهم إلى أريحا كان بداية شتات جديد في دهاليز منفى يريدونه وطناً ويريده الأعداء سجناً؟
كان علينا أن نبحث عن تأكيد لمضمون هذه الأسماء: العودة، الوطن، فلسطين. وكان "العائدون" منهمكين في البحث عن خلاص من هذا الجحيم الغوري، قريباً من النهر المقدس، حتى لو كان خلاصهم في القيام بمهمات لم يُهيأوا بما يكفي للقيام بها، وهم ينتقلون من معسكرات الثورة إلى مخافر الأمن.. فهم يعتقدون أنهم سيكونون ديمقراطيين كما تعلموا في الثورة! ويرددون شعارات القائد عن "الديمقراطية في غابة البنادق" كما سمعنا في مقر القيادة، حيث كان يجتمع عدد من كبار الضباط في انتظار الوفد الذي تأخر في أريحا ولم يحضر حاملاً موافقة الطرف الإسرائيلي المتزمت على عبور القوات في الوقت المحدد.
لكنها – لحظات الانتظار وأيامه – كانت فرصة، كما عبّر كثير من عناصر الأمن وزوارهم، للقاءات حميمة، كثير منها يجيء بعد انقطاع طويل، لقاءات تسبق دخول الشرطة وتمهّد لدخول عائلاتهم الذين يتمنُّون أن لا يتأخر كثيراً. هذه هي آخر وأبرز أمنياتهم قبل أن نفارقهم، تاركين لهم فسحة أخيرة لا ندري ولا يدرون طولها ولا تاليها.
* * *
من المشاهد القوية الراسخة، كان مشهد أحد أفراد الشرطة وقد خانته أعصابه لحظة بقائه بعدد من أقاربه، فأخذ ينتحب مخفياً وجهه وعينيه مفجّراً البكاء والنحيب لدى زوّاره، فضلاً عمن كانوا يراقبون المشهد عن كثب. كان يحتضن بذراعين قويتين – على الرغم مما بدا عليهما حينذاك من الارتخاء – أفراد العائلة الكبار أولاً، ثم يسأل عن الشبان الذين بدا أنه لم يعرفهم ولم يشاهدهم من قبل.
ويتكرر المشهد مع آخرين؛ مع أبي جهاد، الضابط الضخم، وهو يستقبل ابنته الآتية من بيروت على كرسي بعجلات، ابنته التي فقدت ساقيها في حرب سنة 1982، قبل أن يغادر والدها إلى تونس ثم يستقر في بغداد منقطعاً تماماً عن رؤيتها.
يتكرر المشهد مذكّراً بمشاهد الوداع واللقاء غدت من سمات الوضع الفلسطيني. أمس كان الوداع في بيروت قد تم وسط أنهار من الأرز والدموع والرصاص، واليوم يأتي اللقاء في "مدينة الحجاج" غارقاً في دموع الفرح المشتبك بالقلق والتوتر لدى البعض، والمتداخل مع أحلام اليقظة عند آخرين. مشاعر متداخلة من الارتباك وعدم وضوح الرؤية تتراكم أمام مشهد الانتظار واللقاء والوداع.
تحوّل كبير ينتظر هؤلاء العائدين لا يراه واحد منهم كما يراه الآخرون، حتى وهم يعلنون موقفاً موحداً تجاه الشعب أولاً والعدو ثانياً، وتجاه أمور أُخرى أيضاً. تحوُّل، لا نعلم مدى جذريته أو جديته، عبّر عنه عدد من الضباط والأفراد، يتمثل في الموقف من الأنظمة العربية. فقد تعوّدنا أن نستمع إلى الشكوى الدائمة من الأنظمة ودورها فيما وصلت إليه حال الثورة الفلسطينية، لكننا – هنا – نستمع إلى من يوجهون الشكر والامتنان إلى الأنظمة والزعماء على احتضانهم الشعب الفلسطيني وثورته وقيادته.. و"لن ننسى لهم هذا الجميل." ولم يكن بدٌّ من التساؤل عن طبيعة هذا التحوّل، لكن الإجابات غير مقنعة. غير أن أحد الأفراد كان يختلي بنا جانباً ويخبرنا أن هذا من معالم عملية التطويع التي أُخضعت لها القوات في مسار تحولها، لتغدو أحد رموز السلطة المقبلة. لكنه امتنع من تقديم إجابة شافية عن وجوده هو وقبوله أن يكون جزءاً من هذه القوات المتحوّلة سلطة، موحياً بتحولات أُخرى علينا انتظارها بعد أن يغدو هؤلاء على الأرض الحقيقية للمواجهة – في الداخل.
* * *
سؤال برز في حضور اثنين من أفراد الشرطة، أحدهما من أريحا أصلاً، والآخر من الرملة. كيف سيعملان في سلك الأمن، بينما يعتبر الأول أنه عاد إلى بلده الأصلي، ولا تزال بلدة الآخر محتلة، وتعترف الاتفاقات بأنها صارت إسرائيل، وكيف سيحمي هذا الشرطي اتفاقات تسلّم بلدته، مسقط رأسه، لدولة إسرائيل؟
ليست المسألة جهوية أو عشائرية، كما تبدو؛ فقد كان أبو جهاد يتحدث عنها بصيغة مختلفة تكاد تقول إن "الاتفاقات ليست مقدسة"، وحين تتغير موازين القوى على الأرض لمصلحة الفلسطينيين، يصبح في إمكان ابن الرملة أن يطالب بها. وربما سيعمل، حتى وهو شرطي في الضفة أو غزة، من أجل ذلك اليوم. وكذلك ابن أريحا، أليس الآخر فلسطينياً!
المسألة إذاً اعتراف بموازين القوى فحسب، وقد لا تعني الخضوع الأبدي لها.
الحلم مشروع، والأمل لا يموت، إذا كان هناك من يرعاهما.