يتناول المقال اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين التي اتخذت منحى تصعيدياً منذ توقيع "إعلان المبادىء" في 13/9/1993، و "ردّهم" على الاتفاق بمحاولات لتعزيز الاستيطان. ويعالج المقال الموضوع تحت العناوين الفرعية التالية: "انتفاضة يهودية"؟؛ تخزين للسلاح والعصيان المدني؛ عملية "مخبيل" ـ النشاط الاستيطاني بين الاستعراض والفعل؛ حديث الإخلاء والتعويضات؛ في أعقاب المجزرة؛ خلاصة ـ أمن المستوطنين وأمن الفلسطينيين.
اتخذت اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منحى تصعيدياً واضحاً، منذ التوقيع على ما عُرف باسم "اتفاق إعلان المبادىء"، في 13 أيلول/ سبتمبر 1993. وبلغ هذا المنحى ذروة له في المجزرة التي ارتُكبت في الحرم الإبراهيمي في الخليل، في 25 شباط/ فبراير 1994. كما حاول المستوطنون "الرد" على الاتفاق المذكور بمحاولات لتعزيز الاستيطان بل ولمضاعفة عدد المستوطنات. وقد حظوا بدعم/ تواطؤ حكومي في هذين المجالين من أنشطتهم (الاعتداءات، والاستيطان). وفي هذه الأثناء، كانت الأنباء تتردد بشأن إمكان إخلاء مستوطنات والتعويض على المستوطنين. وازدادت هذه الأنباء تواتراً، في إثر مجزرة الخليل. هذه التطورات جميعاً هي موضوع التقرير التالي، الذي سيتناولها بشيء من التفصيل.
"انتفاضة يهودية"؟
يعتب مجلس مستوطنات "يهودا والسامرة وغزة"، الذي يضم ممثلين عن المجالس المحلية والإقليمية التسعة عشر للمستوطنات المنتشرة في الضفة والقطاع المحتلين، الهيئة القيادية للمستوطنين في مختلف مناحي حيواتهم. وكما هو متوقع، قاد هذا المجلس، منذ توقيع الاتفاق في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، "انتفاضة" المستوطنين في مواجهة الاتفاق المرحلي، على الرغم من أن هذا الاتفاق لم يتضمن إجراء أي تغيير فعلي في مكانة المستوطنات وساكنيها. ومع ذلك، لم يكن المجلس الهيئة الوحيدة العاملة في هذا السبيل، كما سنرى أدناه.
عشية توقيع الاتفاق، دعا مجلس المستوطنات في بيان له، رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين إلى العودة فوراً من واشنطن و"من ركضه المرتبك وراء عرفات". وقال البيان، في إشارة إلى مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين في قطاع غزة، "إنها لحماقة أن نكتفي بتعهدات م.ت.ف. بعد كل جريمة قتل. لا يمكن الاعتماد إلاّ على أنفسنا في الدفاع عن كل يهودي في أرض إسرائيل. إن أعمال القتل هذه هي مجرد مقدمة للحكم الذاتي. وعندما يستقر الفلسطينيون جيشاً نظامياً حول المستوطنات في يهودا والسامرة وغزة، وعلى مسافة قصيرة من تل أبيب والقدس، سيتفاقم الخطر."[1]
إلى جانب مثل هذا البيان، الذي يعد نموذجاً عن "الخطاب" الاستيطاني، لجأ مجلس المستوطنات إلى أسلوب آخر في التعبير عن قيادته السياسية للمستوطنين. فقد أجرى المجلس استقصاء للرأي بشأن الموقف من الاتفاق، أُعلنت نتائجه في مؤتمر صحافي عقد في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر. وبحسب هذه النتائج، فإن 51,9% يؤيدون إلغاء الاتفاق في حال استمرار "أعمال الإرهاب والقتل"، في حين رأى 40,9% أن ليس هناك ما يدعو إلى إلغائه في مثل هذه الحال. وإلى ذلك، فإن 67% ممن شملهم الاستقصاء يؤيدون المستوطنين أو يؤيدونهم كثيراً، و17% فقط لا يؤيدونهم.[2]
وفي المؤتمر الصحافي نفسه، قال قادة مجلس المستوطنات إن عدد المستوطنين بلغ 143,000 مستوطن، 5500 منهم يعيشون في القطاع والباقي في الضفة، وإن هذا العدد قد ازداد منذ تسلم حزب العمل السلطة بـ 14,700 مستوطن، من بينهم 3000 تقريباً انتقلوا إلى المستوطنات منذ توقيع الاتفاق.[3] ويبدو أن تضخيم عدد المستوطنين عمداً هو أحد أساليب "النضال" المتبعة لديهم، ذلك بأن المجلس نفسه سيكشف، بعد نحو شهر فقط، أن العدد إنما يقف عند نحو 136,000 مستوطن.[4] والأرقام دائماً، طبعاً، تستثني مستوطني القدس.
ومن البدهي ألاّ يكتفي مجلس المستوطنات بالكلام من خلال البيانات والمؤتمرات الصحافية، وأن يتجاوز ذلك إلى الفعل على الأرض. ومثال لذلك، "الجسلة الطارئة الطويلة" التي عقدها قادة المجلس، والتي تقرر في نهايتها – من بين أمور أُخرى – تنفيذ المزيد من أعمال قطع الطرق في سائر أنحاء الضفة والقطاع، وتجنيد آلاف المستوطنين من مختلف المستوطنات لهذا الغرض.[5]
بقيادة المجلس، بادر المستوطنون إلى المزاوجة بين أعمال الاحتجاج ضد الحكومة وأعمال استفزاز الفلسطينيين والتعدي عليهم. وذلك بعد أن استخلصت الأوساط الاستيطانية واليمينية عموماً، دروس الفشل في مواجهة إخلاء مستوطنات سيناء – والتي كان أهمها، في رأيهم، أن تلك المواجهة جاءت متأخرة جداً، و"بعد توقيع الاتفاقات، لا قبله."[6] وغالباً ما كانت عمليات المقاومة الفلسطينية مناسبة وذريعة لأعمال الاحتجاج والاستفزاز. مثال ذلك، ما حدث في 31 تشرين الأول/ أكتوبر، في إثر مقتل المستوطن حاييم مزراحي من مستوطنة بيت إيل ب، عندما قام المستوطنون بقطع عشرات مفارق الطرق المجاورة للمستوطنات، وقام عشرات منهم بأعمال شغب واستفزاز في شوارع بلدة البيرة.[7] ومثال آخر هو الأعمال التي قام المستوطنون بها في الخليل في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، عقب هجوم على أحد المستوطنين، والتي أسفرت عن إصابة ثمانية فلسطينيين وإلحاق الأضرار بعشرات السيارات في المدينة. ورافقت هذه الأعمال تظاهرة احتجاج نظمها المستوطنون أمام منزل رئيس الحكومة في القدس، ودعوا رابين خلالها إلى الاستقالة وإعلان انتخابات جديدة.[8] وقد بلغت تعديات المستوطنين إحدى ذراها في أواسط كانون الأول/ ديسمبر، مع قتل 3 فلسطينيين من قرية ترقومية في منطقة الخليل، وإعلان مجموعة منهم، تُسمّى "حيرف دافيد" ("سيف داود")، مسؤوليتها عن عملية القتل. وهذه المرة الأولى التي تتبنى فيها مجموعة يهودية علناً مسؤوليتها عن اعتداء على الفلسطينيين.[9] وهناك مقابلة صحافية أُجريت مع أحد نشيطي "لجنة الأمن على الطرق"، تجمل ممارسات المستوطنين هذه، وهي تحمل العنوان التالي ذا الدلالة: "كسرنا، أحرقنا، سمّمنا، اقتلعنا."[10]
"لجنة الأمن" هذه هي واحدة من مجموعات كثيرة مشابهة أنشأها المستوطنون في الأراضي المحتلة. وكان مئير كهانا قد ألّف اللجنة في مطلع الثمانينات، وقامت بأول نشاط كبير لها في كانون الثاني/ يناير 1988، عندما قام أربعة من أعضائها بتمزيق أطر 400 سيارة في الخليل، رداً على إلقاء زجاجتين حارقتين على يهود في المدينة. وهي تمض الآن نحو 600 مستوطن، موزعين في مجموعات من 3 – 4 أشخاص، في كل واحدة من مستوطنات الضفة تقريباً.[11] وإلى جانب هذه اللجنة، هناك "سيف داود" السالفة الذكر؛ "شرطة يهودا"، التي تضم 1500 مستوطن، 500 منهم يعيشون في الخارج حيث يتلقون تدريبهم الأساسي؛ "لجنة العمل المحلي" في مستوطنة كريات أربع؛[12] "قمع الخونة"؛ "حيرف جدعون" ("سيف جدعون")؛[13] وغيرها من المجموعات السرية أو العلنية.
تخزين للسلاح والعصيان المدني
ترافقت "الانتفاضة اليهودية"، والمساعي الاستيطانية الاستعراضية، والحديث بشأن الإخلاء والتعويض، مع تطورين بارزين و"خطرين"، وربما مترابطين، في أوساط المستوطنين. ويتمثل التطور الأول في الدعوات إلى عصيان مدني في مواجهة السلطات الإسرائيلية؛ والثاني في تخزين السلاح في المستوطنات.
فقد أصدرت حركة "حيّ وموجود"، بعد أسبوع من توقيع الاتفاق، بياناً دعت الجمهور فيه إلى العصيان المدني، وأعلنت فيه أن أعضاءها يعتبرون أنفسهم منذ الآن "متحررين من قيم النظام الخائن، ومن قوانينه وتعليماته." ودعت الحركة الجنود إلى رفض الأوامر التي تطلب منهم المشاركة في "الانسحاب والتفكيك وإقامة دولة العدو." وكانت الحركة قد أُسست قبل عامين تقريباً على أيدي مجموعة من المستوطنين في غوش عتسيون، وانضم إليها حاخامون وجمهور ديني يعد نحو 500 شخص من جانبي "الخط الأخضر".[14] وإلى الموضوع نفسه، تطرقت وثيقة داخلية أعدتها دائرة التثقيف في الجيش الإسرائيلي، مؤرخة في 5 أيلول/ سبتمبر الماضي. فقد حذرت الوثيقة من خطر عصيان مدني وحدوث صدامات بين المستوطنين والجيش، بالإضافة إلى إمكان دعوة الجنود إلى عدم الامتثال للأوامر.[15]
وفي أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر، نشرت أوساط مقربة من حركة "كاخ" أنباء بشأن تخزين أسلحة ووسائل قتالية في المستوطنات. وتشمل هذه الأسلحة مسدسات وبنادق وقنابل يدوية ومتفجرات وُضعت في مخابىء، مؤخراً، بعد أن جرى تهريبها من روسيا وتشيكيا، أو بعد سرقتها من معسكرات الجيش الإسرائيلي. وأكدت مصادر عسكرية حوادث سرقة الأسلحة وقالت إن تخزينها لا يقتصر على المجموعات المتطرفة، بل يشمل أيضاً السكان المدعوين معتدلين، الذين توصلوا إلى استنتاج أن الأمور تتدهور، ولا مناص من عمل شيء ما، وإن اعتُبر الآن غير قانوني، للدفاع عن أنفسهم في المستقبل.[16] كما أكد يوئيل ليرنر، أحد قادة "هيئة الحكم الذاتي اليهودي في يهودا والسامرة وغزة"، أن ظاهرة تخزين السلاح تنتشر في أكثر من 50% من المستوطنات.[17] ومما زاد الأمر خطورة، المعدات القتالية التي اكتشفتها الأجهزة الأمنية مصادفة مع الحاخام أبراهام طوليدانو في الفترة نفسها. فالمنظار وكاتم الصوت ليسا من المعدات الضرورية للدفاع عن النفس أو عن المستوطنات. وكما أشارت افتتاحية لصحيفة "هآرتس"، فإن ما اكتُشف لدى طوليدانو يشير إلى إمكان وجود هيئة منظَّمة ما تخطط لشن هجمات، وحتى لاعتداءات على أرواح بشرية.[18]
* * *
ترمي تعديات المستوطنين على الفلسطينيين، كما ذهب أحد المراقبين الصحافيين، إلى تحقيق هدفين مترابطين: إيجاد فوضى في الأراضي المحتلة تدفع الفلسطينيين "المعتدلين" إلى الرد بوسائل عنيفة، الأمر الذي يؤدي إلى شد أزر "المتطرفين معارضي الاتفاق"؛ وإرباك حكومة رابين، وإضعاف الائتلاف الحكومي، ومن ثم، إجراء انتخابات كنيست مبكرة.[19] ويمكن تفسير سلوك المستوطنين، بحسب المراقب ذاته، بأن عدم اشتمال اتفاق أوسلو نفسه على تفكيك حتى مستوطنة واحدة قد نزع منهم الذريعة الرئيسية للجوء إلى العنف، ولم يبق لهم من حجة سوى حوادث القتل التي يتعرض المستوطنون لها.[20] لكن إليشع إفرات، الجغرافي ومخطط المدن المشهور، يرى المسألة في ضوء مختلف؛ إذ يضعها في سياق مئة عام من الاستيطان الصهيوني في فلسطين. فهو يعتبر أن ثمة تغيرات جوهرية، جغرافية وديموغرافية، ستطرأ على خريطة الأراضي المحتلة في إثر الانسحاب من غزة وأريحا، وأن مخاوف المستوطنين إزاء هذه التغيرات مبررة حقاً، وذلك بالنظر إلى المسارات التي ستشهدها الأعوام الخمسة التالية. وهو يستخلص أن التقدم نحو السلام سيكون مرتبطاً بإيجاد دينامية من العودة بحذر إلى الوراء في الضفة والقطاع، ذلك بأن ما كان احتلالاً مرة، سيتحول إلى انسحاب، وبأن ما كان وجوداً حيوياً سينقلب إلى نجاة.[21]
مع أن التغيرات المنتظرة والمخاوف منها تنطبق على مستوطني الجولان أيضاً، فإنه يلاحظ أن سلوكهم في المرتفعات السورية المحتلة قد اختلف عما كان عليه في الأراضي الفلسطينية؛ فلم يشهد الجولان تعديات واستفزازات كالتي عرضناها أعلاه، واقتصر نشاط المستوطنين فيه على تحركات سلمية، مثل البيان الذي أصدرته "لجنة مستوطنات الجولان" ودعت الإدارة الأميركية فيه إلى التوقف عن الضغط من أجل الانسحاب الإسرائيلي من المرتفعات،[22] أو الطلب الذي قدمته اللجنة إلى الحكومة الإسرائيلية بتمويل مشاريع في الجولان بقيمة نحو 50 مليون شيكل في السنة المالية 1994، وذلك لتنفيذ خطة اللجنة الرامية إلى زيادة عدد المستوطنين هناك بنحو 40% - 50% خلال أربعة أعوام.[23]
إن أمراً أساسياً واحداً لا يختلف بشأنه المستوطنون، أيّاً يكن مكان وجودهم: استمرار النشاط الاستيطاني على الأرض. وهذا ما نتناوله فيما يلي.
عملية "مخبيل": النشاط الاستيطاني بين الاستعراض والفعل
تحسباً لقيام الحكم الذاتي، وبعد أسابيع من النقاش، تبنى مجلس المستوطنات في أوساط تشرين الأول/ أكتوبر الماضي خطة عمل سياسية من 16 بنداً، يشكل الاستيطان محورها الأساسي – كما ينبغي أن نتوقع. وترفض الخطة اتفاق إعلان المبادئ مع م. ت. ف.، وكل ما يُستدلّ منه. وتنص في البند الأول منها على أن تظل المستوطنات اليهودية "جميعاً" في أماكنها، كما تنص في البندين الثاني والثالث على أن تُنظّم هذه المستوطنات في كتل، يكون بينها اتصال جغرافي وطرق تربطها، لأغراض الأمن والتنقل وإنفاذ السيطرة والقانون. وقد أتت الخطة ثمرة عمل لجان مختلفة أقامها مجلس المستوطنات من جهة، وحلاً وسطاً بين "المعتدلين" و"المتطرفين" في المجلس من جهة أخرى.[24]
لقد كانت فكرة الكتل الاستيطانية، الآنفة الذكر، قد عُرضت من قبل في أوساط مجلس المستوطنات، على نحو أثار خلافات في الرأي داخل المجلس. ففي أواخر أيلول/ سبتمبر، كان عدد من قادة المستوطنين، وفي مقدمهم رئيس المجلس الإقليمي كرني شومرون، غابي بوطبول (من "شاس")، قد بلور خطة وأخذ يوزعها على أعضاء الكنيست من حزب العمل و"شاس"، بهدف تجنيد الدعم لها وإقناع الحكومة بتبنيها. وتتناول الخطة ثلاث كتل استيطانية تكون خارج مجال الحكم الذاتي الفلسطيني ويُزعم أنها ذات أكثرية يهودية: كتلة "القدس الكبرى" التي تضم مستوطنة بسغات زئيف في الشمال، وغوش عتسيون في الجنوب، ومعاليه أدوميم في الشرق؛ كتلة "مفو دان" التي تضم المستوطنات الواقعة في إطار المجالس الإقليمية ألفي منشيه، وكدوميم، وكرني شومرون، وعمانوئيل، وأريئيل، وألكانا؛ وكتلة "معاليه أدوميم والغور"، التي تتجاوز أريحا.[25] أما أساس الخلاف فيعود إلى ما تتضمنه فكرة الكتل الاستيطانية من إمكان إخلاء بعض المستوطنات الصغيرة والنائية – وهو ما أثار غضب بعض قادة المستوطنين،[26] وما سنتناوله بشيء من التفصيل لاحقاً.
في هذه الأثناء، كان بعض المشاريع الاستيطانية الجديدة يُعرض، ويصار إلى نفض الغبار عن قديم منها – مع مشاركة بارزة للضباط الاحتياط فيها. ففي أواسط تشرين الأول/ أكتوبر، بادرت مجموعة من هؤلاء الضباط، بالإضافة إلى عدد من أساتذة الجامعات، إلى إعادة طرح مشروع " العمود الفقري المزدوج"، بالدعوة إلى إقامة سلسلة متواصلة من المستوطنات، بدءاً بمرتفعات الجولان في الشمال، ومروراً بغور الأردن، ووصولاُ إلى إيلات في الجنوب. ويراد لهذه السلسلة الشرقية أن تكون في موازاة السلسلة الغربية على امتداد الساحل، وأن تشكل معها العمود الفقري المزدوج من المستوطنات.[27] ويُذكر أن هذا المشروع كان قد اقتُرح منذ أواسط السبعينات، وعُرف باسم مشروع فوخمان، ثم مشروع شارون.[28] وفي أوائل كانون الأول/ ديسمبر، قدمت مجموعة "أحراي"، التي تضم مئات ضباط الاحتياط المعارضين للاتفاق مع م.ت.ف.، خطة إلى مجلس المستوطنات تهدف إلى زيادة عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة إلى 200,000 مستوطن أو يزيد في المدى القريب، وإلى نحو مليون مستوطن في المدى البعيد.[29]
"عملية مخبيل" هو الاسم الذي أطلقه المستوطنون على عملية تنفيذ هذا المشروع الاستيطاني، الرامي إلى "مضاعفة" عدد المستوطنات، كما يشير اسم العملية نفسه. وقد بدأت الاستعدادات لتنفيذ العملية في 3 كانون الأول/ ديسمبر، حين اجتمع في مستوطنة أريئيل مئات من ممثلي المستوطنين، بهدف مناقشة إقامة 130 نقطة استيطانية رمزية قرب المستوطنات القائمة، تكون كل منها في المستقبل أساساً لمستوطنة جديدة. وشارك في الاجتماع عضو الكنيست (من الليكود) ميخائيل إيتان، الذي بارك المبادرة إلى العملية. وجرى توزيع كراس تنفيذي عن العملية، يبين أهدافها وطريقة تنفيذها وسلوك المستوطنين خلالها وطريقة اختيار الموقع... إلخ. ويبدو مما اقتطفته الصحف أن هذا الكراس قد أعدته مجموعة "أحراي" السالفة الذكر.[30]
وفي الرابع والعشرين من الشهر نفسه، جرى تنفيذ المرحلة الأولى من "عملية مخبيل"، حين خرج المستوطنون من عشرات المستوطنات في الجولان والضفة والقطاع، وأقاموا احتفالات رمزية وضعوا خلالها حجارة الأساس. كما أقاموا احتفالاً مركزياً بالعملية في مستوطنة كوخاف يائير، المحاذية لـ"الخط الأخضر" من الداخل. وجاءت الاحتفالات بعد أن تقرر الخامس من كانون الثاني/يناير موعداً لتنفيذ العملية نفسها. وبرزت بمناسبتها، أول مرة، خلافات بشأن توقيت العملية بين مجلس المستوطنات وهيئة "زو ارتسينو" ("هذه أرضنا") التي أوكل التنفيذ إليها.[31] إذ كان المجلس طلب إرجاء العملية كيلا تعرقل أعمال الإسكان والبناء الجارية في عدد من المستوطنات، وهو ما جابهته الهيئة بالرفض.[32] وبعد الاحتفالات بأسبوع، تظاهر مستوطنو كوخاف يائير نفسها تأييداً للسلام وضد "عملية مخبيل".[33]
وتفاقم الخلاف بين مجلس المستوطنات والهيئة المنفذة، وبلغ ذروته فلي العاشر من كانون الثاني/ يناير، حين أعلن المجلس تخليه عن العملية، بدعوى أنها لن تخدم أهداف المستوطنات اليهودية، وأنها ستؤدي إلى عواقب وخيمة عندما ستُعرضُ، على شاشات التلفزة، المواجهات بين المستوطنين والجنود. وسينفذ المجلس، بدلاً منها، عملية وضع حدود لأراضي الدولة منعاً لانتقالها إلى أيد عربية. ويبدو أن قرار المجلس كان بمثابة إعلان وفاة لـ"عملية مخبيل"، على الرغم من إعلان الهيئة المنفذة عزمها على المضي في العملية.[34] فقد عاد المستوطنون بعد ذلك إلى شن "الانتفاضة" الخاصة بهم، المتمثلة أساساً في قطع الطرق والتعدي على الفلسطينيين، وخصوصاً في الضفة.
هكذا برزت حدود هذه العملية الاستيطانية "الاستعراضية"،[35] التي لم تحظ لا بدعم الحكومة ولا بإجماع المستوطنين أنفسهم. وفي هذه الأثناء، كان الاستيطان الحقيقي يتم في مكان آخر: في القدس الكبرى، التي صرح ناطق بلسان وزارة الإسكان والبناء، في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أن الوزارة تبين فيها حالياً 13,000 وحدة سكنية، علاوة على البناء الخاص الجاري فيها.[36] وفي هذه الأثناء أيضاً، كان يجري الحديث عن إخلاء مستوطنات وعن تعويضات تدفع إلى المستوطنين.
حديث الإخلاء والتعويضات
إن الموقف الإسرائيلي الرسمي من الموضوع معروف جيداً، ويكرره المسؤولون في كل مناسبة: "سيكون للجيش الإسرائيلي سيطرة كاملة على ما يجري. ولن يكون ثمة أية صلاحية للعرب للتدخل في إدارة المستوطنات اليهودية. وفي أية حال، لن تتحرك أية مستوطنة من مكانها" – كما أكد، مثلاً، نائب وزير الدفاع مردخاي غور في لقائه، في 22 أيلول/ سبتمبر، مع ممثلي مستوطنات "مغيلوت"، الواقعة إلى الشمال من البحر الميت.[37] ومع ذلك، وخصوصاً لدى اقتراب موعد البدء في تطبيق الحكم الذاتي، كثر الحديث عن إمكان إخلاء المستوطنين مستوطناتهم، وتلقيهم تعويضات مالية في مقابل ذلك.
وتوصل استطلاع للرأي، أجراه معهد "داحف"، في مطلع كانون الأول/ ديسمبر، إلى أن 33% من المستوطنين على استعداد للجلاء في مقابل تعويضات، في حال بقاء المستوطنات ضمن إطار الحكم الذاتي، وأن 60% منهم يختارون البقاء في مستوطناتهم، في حين لم يقدم 7% منهم أي جواب. ولاحظ الاستطلاع ارتفاع نسبة المستوطنين المتدينين الذين يرغبون في البقاء في مستوطناتهم (82%)، قياساً بنسبة العلمانيين المقابلة (33%).[38]
وفي تطور لافت، دعت مجموعة جديدة من المستوطنين، تطلق على نفسها اسم "تخيلت" ("الأزرق")، إلى احترام اتفاق أوسلو، بعد إدخال تغييرات معينة عليه، مثل: تحديد كتل استيطانية يهودية، وفرض السيادة الإسرائيلية عليها في المرحلة الدائمة؛ واشتراط أي تقدم في المفاوضات بعد تطبيق الاتفاق بوقف "الإرهاب"... إلخ. ودعت المجموعة الحكومة والأحزاب والجمهور إلى العودة إلى الوسط والتخلي عن طريقي التطرف، المتمثل أحدهما في شعار "ولاشبر"، والثاني في شعار "العودة إلى حدود 1967". وجاء ذلك في مؤتمر صحافي عقدته "تخيلت" في منتصف كانون الأول/ ديسمبر، وأعلنت فيه أن نحو 200 شخص تطوعوا للمشاركة في أنشطتها.[39]
بل إن لجنة المستوطنات نفسها قدّرت أن 30,000 مستوطن سيغادرون أماكن سكناهم إذا عُرضت عليهم تعويضات مجزية. ويقوم هذا التقدير على أساس المزاج السائد في أوساط المستوطنين وعلى أحاديث أُجريت مع قادتهم. وتنتشر هذه الظاهرة أساساً في المستوطنات المدينية والمجتمعية ذات الأكثرية السكانية العلمانية، التي استوطنت هناك بسبب أزمة السكن أو من أجل تحسين نوعية حياتها. وفي المقابل، تكاد الظاهرة تنعدم في المستوطنات التي أقيمت بروحية غوش إيمونيم.[40]
وبلغ حديث الإخلاء حدّاً دفع برئيس لجنة مستوطنات غور الأردن شمعون كوهين إلى الاستقالة من منصبه. وقال كوهين في هذه المناسبة إنه لا يوافق على الرسالة التي يبثها معظم المستوطنين، والتي تفيد أنهم سيغادرون الغور في حال اشتمال الحكم الذاتي عليه. وأعرب عن امتعاضه من الحضور القليل في التظاهرة التي نُظمت تضامناً مع مستوطني غور الأردن.[41] وقد أدلت الصحافة العبرية بدلوها في حديث إخلاء المستوطنات وحملت صفحاتها مقالات كثيرة تحبذ هذا الإخلاء.[42]
هذا هو الجانب "الإيجابي" من الصورة، بالنسبة إلينا، نحن العرب، والذي يشير إلى قدْر ما من الاستعداد للتخلي عن مستوطنات يهودية في الأراضي المحتلة. لكن الصورة لا تكتمل، طبعاً، من دون عرض جانبها الآخر، "السلبي"، الذي يشير – على العكس – إلى التمسك بتلك المستوطنات وإلى الاستعداد لـ"النضال" من أجلها.
تطرقنا أعلاه إلى موقف الحكومة الإسرائيلية من مسألة المستوطنات. وفي اعتقادنا، إن هذا الموقف يقع في مركز الجانب السلبي من القضية برمتها، وذلك – ببساطة – لأن هذه الحكومة هي صانع القرار الأساسي فيما يعني مستقبل الاستيطان، ولأن الضغوط التي يمكن أن يمارسها المستوطنون، و"اليمين الإسرائيلي" بكامله، وكذلك الفريق الفلسطيني المفاوض، ستظل هامشية إلى حد كبير، ولأسباب واضحة. ومع ذلك، سيبقى الائتلاف الحاكم، الضعيف أصلاً، أكثر عرضة وحساسية إزاء اللوبي الاستيطاني الذي يخترق حتى حزب العمل، الشريك الأساسي في الائتلاف.
خلال كانون الأول/ ديسمبر، كرر الحاخام اللواء (احتياط) شلومو غورين إصدار "فتوى" أثارت غضب الحكومة وجعلتها تنظر في إمكان إحالته على القضاء. ومفاد الفتوى أن أمراً بإخلاء المستوطنات لا يلزم الجنود، وأن عليهم أن يرفضوه. والجندي الذي يتلقى أمراً يعارض سنن التوراة، عليه أن يلتزم شريعة التوراة، لا الأمر العلماني. وبما أن استيطان الأرض فريضة، وإزالة المستوطنات خرق للفريضة، فإنه ليس على الجندي أن ينفذ أمراً بإزالة مستوطنات.[43] كما أن مجلس المستوطنات، الذي كان كشف النقاب عن ظاهرة الاستعداد للإخلاء في مقابل التعويض، تعهد بمواجهة هذه الظاهرة، وتهدئة المستوطنين، وإيجاد حلول لمشكلات المستوطنات – كما جاء في تصريح للناطق بلسان المجلس أهرون دومب.[44] ورداً على أنباء صحافية بشأن قرار بإخلاء مستوطنة نتساريم، توالت التصريحات الرسمية النافية لهذه الأنباء، وشارك فيها كل من المؤسسة الأمنية ونائب وزير الدفاع، وبعض الوزراء مثل يوسي ساريد (من حيرتس)، وديوان رئيس الحكومة. وفي معرض نفي قائد القوات الإسرائيلية في قطاع غزة لنبأ الإخلاء، قال إن للجيش الإسرائيلي مصلحة بارزة في استمرار بقاء نتساريم. وأضاف أن الوجود العسكري فيها وبالقرب منها يمكّن الجيش الإسرائيلي من السيطرة على مخيمات اللاجئين وعلى وسط غزة، حتى بعد قيام الحكم الذاتي. كما أن نتساريم تشكل جهازاً أمنياً إسرائيلياً في حال تصدع اتفاق الحكم الذاتي.[45]
* * *
ظل المستوطنون في الأراضي المحتلة على حالهم من الاستفزازات والتعديات، التي بلغت ذروتها في مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، في 25 شباط/ فبراير الماضي. ففي ذلك اليوم، تم ارتكاب المجزرة المروعة، التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى من الفلسطينيين. وفي الساعات، ثم في الأيام اللاحقة، تواصلت المواجهات الدموية بين المستوطنين والجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح من جهة، والفلسطينيين العُزّل – إلاّ من إرادة المقاومة – من جهة أخرى.
في أعقاب المجزرة
كان من بين نتائج مجزرة الخليل تصاعد الحديث عن إجلاء المستوطنين، من الخليل خصوصاً، ومن المدن الفلسطينية المحتلة الأُخرى عموماً. وأصبح حديث الإجلاء هذا، وما يرافقه، موضع أخذ وردّ، بين مؤيد ومعارض.
في استقصاء للرأي العام، أجراه معهد "شيلوف" لمصلحة صحيفة "معاريف"، بعد نحو أسبوع من المجزرة، تبين أن أغلبية الإسرائيليين (55%) تعارض إجلاء المستوطنين من مدينة الخليل، وأن أقلية فقط (33%) تؤيد هذا الإجلاء، في حين لم يبد 12% من المستجوبين أي رأي.[46] وفي اليوم نفسه، نشرت "يديعوت أحرونوت" نتائج استقصاء آخر، أجراه معهد "داحف" لمصلحتها، جاء فيها أن 52% من الإسرائيليين يعارضون إجلاء المستوطنين من التجمعات السكنية العربية، وأن 40% منهم يؤيدون ذلك.[47]
وقد سبق استطلاعي الرأي هذين، أنباء صحافية ترددت بشأن مقترح تتدارسه الأوساط الحكومية، وخصوصاً الوزيرين عوزي برعام ويوسي ساريد، بإخلاء مدينة الخليل من المستوطنين.[48] واستضح في وقت لاحق، في الجلسة الأسبوعية التي عقدتها الحكومة في 20 آذار/ مارس، أن معظم الوزراء يرى أن لا مناص من "تغيير انتشار الاستيطان اليهودي في الخليل."[49]
في هذه الأثناء، عرضت حركة السلام الآن، في مؤتمر صحافي عقدته في14 آذار/مارس، خطة لإخلاء المستوطنات، حتى قبل التسوية الدائمة. وقد قسّمت الخطة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة إلى خمس مجموعات، بحسب درجة احتكاكها بالسكان الفلسطينيين. واقترحت الحركة الإخلاء الفوري للمجموعة الأولى الأكثر احتكاكاً، كونها تقع وسط السكان العرب، وهي تضم نحو 500 مستوطن يعيشون في قبر يوسف [في نابلس]، والخليل، وكنيس "شلوم عل يسرائيل" في أريحا.[50]
وفي وقت لاحق، كشف مدير منطقة النقب في الوكالة اليهودية أن الوكالة تستعد لإمكان استيعاب عائلات مستوطنين من غوش قطيف/ قطاع غزة في النقب الغربي، وأن كل عائلة منها ستتلقى قرضاً طويل الأجل بقيمة 65 ألف دولار.[51] بل إن أنباء صحافية ترددت بشأن مغادرة عشرات العائلات"، فعلاً، لمستوطنة كريات أربع المجاورة لمدينة الخليل، وأن نحو 100 عائلة أُخرى تستعد لمغادرتها.[52]
وفي مجال تأييد الإخلاء، أدلت الصحافة الإسرائيلية أيضاً بدلوها، وذهبت – إجمالاً – إلى أن إخراج المستوطنين من التجمعات السكنية العربية هو وحده الذي يساهم حقاً في أمن إسرائيل وفي حفظ "كرامتنا الشخصية"، وإلى أن لا مناص من إجلاء المستوطنين.[53]
أما في مجال معارضة الإخلاء، وكل ما يتصل به، فكان قادة مجلس مستوطنات "ييشع" في المقدمة – كعهدهم دائماً. فقد سارعوا، ومعهم شخصيات بارزة من بين المستوطنين، إلى إصدار بيان في 2 آذار/ مارس، أي بعد مرور أقل من أسبوع على المجزرة، طالبوا فيه المستوطنين اليهود كافة بعدم الاستجابة إلى طلب تسليم الأسلحة التي في حوزتهم، "بصورة قانونية بغرض الدفاع عن النفس."[54] وأرسل المجلس، في 20 من الشهر نفسه، رسالة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين اعتبر فيها أن إخلاء أية ضاحية أو ضواح يهودية في الخليل هو إجراء غير قانوني، ويتعارض مع الشرعة والعدل الدوليين والقانون القائم في المنطقة! وفي اليوم نفسه، حذّر السكرتير العام للمجلس أوري أريئيل من حدوث "انشقاق في صفوف الشعب قد يؤدي إلى حرب بين الإخوة." كما صرّح رئيس مجلس مستوطنة كريات أربع تسفي كتسوفر – كمن يهدد – بأنه في حال إجلاء المستوطنين "سيكون ثمة خطر بألا يكون حادث غولدشتاين [أي: مجزرة الخليل] حادثاً معزولاً."[55]
وعاد مجلس المستوطنات وعقد جلسة طارئة، في كريات أربع، في22 آذار/ مارس، قرّر في ختامها تعزيز الاستيطان اليهودي في مدينة الخليل، وإقامة مهرجان جماهيري في مغارة المخبيلاه (الحرم الإبراهيمي) بعد أسبوع.[56] وفعلاً، عُقد مهرجان جماهيري تضامني مع المستوطنين اليهود في الخليل، في29 آذار/ مارس، شارك فيه مئات الحاخامين والشخصيات العامة. وفي المهرجان، أفتى الحاخام الرئيسي السابق أبراهام شابيرا بعدم شرعية إخلاء أية مستوطنة يهودية، وبأن يرفض الجنود تنفيذ الأوامر بهذا الإخلاء. ودعا الحاخام تسفنيا دروري إلى "انتفاضة" في حال إخلاء مستوطنات.[57] وقد اعتبر رابين دعوة الحاخامين هذه "بداية تدمير الجيش الإسرائيلي وأمن الدولة".[58]
خلاصة: أمن المستوطنين وأمن الفلسطينيين
على صعيد الاستيطان، يبدو مما تقدم أن المستوطنين لم يحققوا نجاحاً جديداً يذكر خلال الأشهر التي مرت حتى الآن على توقيع اتفاق 13 أيلول/ سبتمبر. ويأتي فشل "عملية مخبيل"، أو تعثرها وتوقفها موقتاً، دليلاً واضحاً على ذلك. لكن "الإنجازات" الاستيطانية الحقيقية كانت تتم على أيدي الحكومة الإسرائيلية نفسها – سواء في تمسكها بالكتل الاستيطانية القائمة، أو في ما أشرنا إليه من نشاطها في مجالي البناء في القدس الكبرى وشق "طرق الحكم الذاتي". ومن هنا، فإننا نميل إلى القول، مع بنفنيستي، إن الصرخات التي يطلقها المستوطنون خوفاً على مستقبل الاستيطان هي "صرخات كاذبة"، وإن الفجوات الفاصلة بين موقفهم وموقف الحكومة ليست عميقة على النحو الذي يحرصون على عرضها فيه.[59]
ولا يقتصر التواطؤ الحكومي على مجال الاستيطان؛ فالحكومة عالجت أعمال الشغب التي أثارها هؤلاء بسياسة "اليد اللينة"،[60] وسلوك قوى الأمن معهم – بتوجيه من القيادة السياسية – يقوم على أساس التمييز الذي تقيمه بين دماء الفلسطينيين وممتلكاتهم من جهة، ودماء اليهود وممتلكاتهم من جهة أُخرى.[61] كما أن الحكومة تتبجح، على لسان رئيسها يتسحاق رابين، بالتزامها أمن المستوطنات، بصرف النظر عن موافقتها على إقامتها، وتخصيصها 120 سرية من الجيش (أو أربعة أضعاف القوة المنتشرة على الحدود اللبنانية) لحراسة المستوطنين والمستوطنات، بالإضافة إلى أفراد الشاباك وقوى الأمن الأُخرى، الأمر الذي فرض زيادة قدرها 80 مليون شيكل في موازنة عمل الجيش الإسرائيلي لسنة 1993.[62] ولذلك، فإن الكلام على "حرب أخوة" بين اليهود، أو على مصادمات ممكنة بين الجيش والمستوطنين، هو كلام مبالغ فيه، إن لم يكن مختلفاً أصلاً.
والأمر نفسه ينطبق على الحديث عن "انتفاضة يهودية" أو عن "عصيان مدني" إلاّ بقدر ما تكون انتفاضة أو عصيان المستوطنين موجهين ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. والمستوطنون مهيأون أساساً للقيام بهذا الدور، إنْ من خلال تاريخهم الملطخ بدماء الفلسطينيين والزاخر بتساهل السلطات وعفو الحكومة، أو بكونهم جزءاً من "وحدات الدفاع الإقليمية" التابعة للجيش أو من "الحرس المدني" في بعض المستوطنات، أو بواسطة المجموعات السرية الكثيرة التي انتظمت في أوساطهم، والتي أخذت مؤخراً تجاهر بمسؤوليتها عن التعديات (كما حدث في جريمة ترقومية). وما دام أمن المستوطنين هو الذريعة الرائجة، فإن أمن الفلسطينيين سيظل في خطر.
أواسط أيار/ مايو 1994
المصادر:
[1] "هآرتس"، 13/9/1993.
[2] نداف شراغي، "هآرتس"، 22/11/1993؛ أنظر أيضاً: ميخال سيلع، "دافار"، 22/11/1993، حيث أرقام النتائج مختلفة.
[3] شراغي، مصدر سبق ذكره.
[4] "هآرتس"، 27/12/1993.
[5] المصدر نفسه، 2/12/1993. وعن دور المجلس في أعمال مماثلة، أنظر، مثلاً: نداف شراغي، "هآرتس"، 1/11/1993.
[6] شراغي، "هآرتس"، 10/9/1993.
[7] لمزيد من التفصيلات، أنظر: "هآرتس"، 1/11/1993؛ داني روبنشتاين، "الحد الأدنى للمستوطنين"، "هآرتس" 5/11/1993. وبشأن احتجاج مستوطني غور الأردن على ما اعتبروه "عزل" مستوطنة نعاميه قرب أريحا، أنظر: "دافار"، 2 و3/1/1994.
[8] شراغي، "هآرتس"، 16/11/1993.
[9] أنظر: "هآرتس"، 13/12/1993.
[10] للاطلاع على تفصيلات المقابلة، أنظر: شراغي، "هآرتس"، 23/11/1993.
[11] المصدر نفسه.
[12] المصدر نفسه.
[13] شراغي، "هآرتس"، 13/12/1993. أنظر أيضاً: إيهود شبرينتساك، "ماذا هو ينتظر؟"، "هآرتس"، 16/12/1993.
[14] "هآرتس"، 21/9/1993.
[15] أنظر النص شبه الكامل للوثيقة في: "هآرتس"، 19/11/1993. وللمزيد بشأن أجواء العصيان المدني، أنظر: نداف شراغي، "ثمة سبب للمعاناة"، "هآرتس"، 10/12/1993.
[16] "هآرتس"، 29/11/1993. وانظر أيضاً: "دافار"، 29/11/1993.
[17] أنظر المقابلة التي أجراها معه نداف شراغي، "هآرتس"، 29/11/1993.
[18] "سلاح لأهداف هجومية"، "هآرتس"، 30/11/1993.
[19] ليفي موراف، "غضب ودوافع سياسية"، "دافار"، 9/11/1993.
[20] المصدر نفسه.
[21] إليشع إفرات، "نحو السلام بالعودة إلى الوراء"، "هآرتس"، 8/11/1993.
[22] أنظر: "هآرتس"، 5/12/1993.
[23] أنظر: "هآرتس"، 24/12/1993.
[24] أنظر: شراغي، "هآرتس"، 20/10/1993. وللاطلاع على نص الخطة الكامل، انظر الوثائق الإسرائيلية في العدد السابق من "مجلة الدراسات الفلسطينية". ولمزيد من التفصيلات بشأن الخطة، أنظر المقابلة التي أجراها شراغي مع السكرتير العام لمجلس المستوطنات أوري أريئيل، "هآرتس"، 21/10/1993.
[25] شراغي، "هآرتس"، 23/9/1993.
[26] أنظر: شراغي، "يبحثون عن ألواح عائمة للنجاة"، "هآرتس"، 26/10/1993.
[27] أنظر: "يديعوت أحرونوت"، 15/10/1993. وبعد نحو شهرين، دعت مجموعة من 95 أستاذاً جامعياً الحكومة إلى تنفيذ المشروع نفسه – أنظر: "هآرتس"، 16/12/1993.
[28] للتفصيلات، أنظر: خالد عايد، "الاستعمار الاستيطاني للمناطق العربية المحتلة خلال عهد الليكود" (نيقوسيا: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986)، ص 14.
[29] أنظر التفصيلات في: "هآرتس"، 2/12/1993.
[30] أنظر: "هآرتس"، 5/12/1993. وقابل بالمصدر السابق.
[31] "هآرتس"، 26/12/1993.
[32] المصدر نفسه، 23/12/1993.
[33] "دافار"، 2/1/1994.
[34] أنظر: المصدر نفسه، 11/1/1994.
[35] أنظر: عوزي بنزيمان، "هآرتس"، 26/12/1993.
[36] أنظر: ميخال سيلع، "يتحدثون بالباطون"، "دافار"، 30/11/1993. وفي مطلع سنة 1994، تحدثت الأنباء عن اعتزام الحكومة شق طرق جديدة في الأراضي المحتلة، بتكلفة ملياري شيكل – "دافار"، 9/1/1994. وفي الفترة نفسها، كانت وزارة البناء والإسكان تبني ضاحية جديدة في مستوطنة كتسرين في الجولان، تشتمل على 550 وحدة سكنية – "هآرتس"، 24/12/1993.
[37] أنظر: "هآرتس"، 23/9/1993.
[38] "يديعوت أحرونوت"، 3/12/1993.
[39] "هآرتس"، 16/12/1993.
[40] المصدر نفسه، 22/12/1993. وقد أشار المصدر ذاته إلى لقاء تم في مستوطنة غينوت شومرون شارك فيه 25 عائلة تؤيد الإخلاء في مقابل التعويض. كما أشار إلى انخفاض الطلب على المساكن في المستوطنات وتدني أسعارها مؤخراً.
[41] أنظر المقابلة التي أجرتها معه صحيفة مستوطنات الغور "ياتد"، كما في: "هآرتس"، 5/1/1994.
[42] أنظر مثلاً: غفري برغيل (السكرتير العام لحركة السلام الآن)، "عليهم أن يعودوا إلى بيوتهم"، "هآرتس"، 21/12/1993؛ ران كسليف، "الرسالة إلى المستوطن"، "هآرتس"، 6/1/1994؛ ميخال سيلع، "تغيير البيت بدلاً من الإخلاء"، "دافار"، 12/1/1994.
[43] أنظر: "هآرتس"، 20/12/1993.
[44] المصدر نفسه، 22/12/1993.
[45] المصدر نفسه، 10/1/1994.
[46] "معاريف"، 4/3/1994.
[47] "يديعوت أحرونوت"، 4/3/1994.
[48] أنظر: نداف شراغي وألوف بن، "هآرتس"، 2/3/1994.
[49] ييرح طال، "هآرتس"، 12/3/1994.
[50] لمزيد من التفصيلات، أنظر: شلومو درور، "هآرتس"، 15/3/1994.
[51] أمير روزنبليط، "دافار"، 6/5/1994.
[52] أنظر: "هآرتس"، 15/5/1994.
[53] أنظر، مثلاً، على التوالي: غاليا غولان، "ما شأن الخليل بأمننا"، "هآرتس"، 10/5/1994؛ داني روبنشتاين، "لا مفر من الإخلاء"، "هآرتس"، 2/3/1994.
[54] نداف شراغي، "هآرتس"، 4/3/1994.
[55] أنظر: المصدر نفسه، 20/3/1994.
[56] شلومو درور، "هآرتس"، 23/3/1994.
[57] المصدر نفسه، 30/3/1994.
[58] أنظر: "هآرتس"، 31/3/1994.
[59] ميرون بنفنيستي، "يبكون ويتفاوضون"، "هآرتس"، 11/11/1993.
[60] أنظر: موطي بسوك، "ألغام في الطريق"، "دافار"، 5/11/1993.
[61] أنظر: جدعون ليفي، "عما قليل ستأتي الرشاشات"، "هآرتس"، 21/11/1993.
[62] "هآرتس"، 9/12/1993.