غزة: ديناميات جديدة للتفكك الاجتماعي
كلمات مفتاحية: 
قطاع غزة
المجتمع المدني
المعونات الخارجية
الضفة الغربية
حركة حماس
العنف السياسي
نبذة مختصرة: 

 يعالج التقرير الموضوع تحت العناوين الفرعية التالية: سياق متغير؛ التفتت الداخلي وانحسار المجتمع المدني (الصراع على المؤسسات، دور المعونات الخارجية، الهوّة المتنامية بين الضفة الغربية وقطاع غزة، موقف حماس المتغير، الأذى اللاحق بالصغار) ؛ المستقبل. وتخلص الكاتبة إلى أن الوضع في غزة قاتم، وأن الخطر الأكبر الذي يواجه القطاع هو انفجار العنف الداخلي.

النص الكامل: 

في أواخر آذار/ مارس 1993 قام رئيس الحكومة [الإسرائيلية] رابين بإغلاق الضفة الغربية وقطاع غزة، حائلاً بذلك دون وصول 120,000 فلسطيني إلى أعمالهم داخل الخط الأخضر، وأعلن أن على إسرائيل أن تصبح أقل اعتماداً على الأيدي العاملة الفلسطينية في المستقبل، وذلك رداً على بعض من أعلى مستويات العنف منذ أن بدأت الانتفاضة والذي خلف وراءه في آذار/ مارس فقط ثمانية وعشرين قتيلاً فلسطينياً وخمسة عشر قتيلاً إسرائيلياً. ولم تكن هذه أول مرة تُقدِم إسرائيل فيها على مثل هذه الخطوة، وغالباً ما كانت تعمد إلى خطوات كهذه في إثر هجمات ضد يهود في إسرائيل نفسها؛ هجمات لفحت بنارها للحظات الوضع السياسي القائم، ونفذها في الغالب فلسطينيون من قطاع غزة، يتعرضون هم أنفسهم لسوء معاملة مستمرة.

لقد اقترنت غزة وسكانها طويلاً في الذهن بالجانب العربي العنيف المناهض للصهيونية، ولم تكن الأشهر القليلة الماضية استثناء من هذه الناحية. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان العنف المقترن بقطاع غزة، ولا سيما منذ بداية الانتفاضة، محتملاً دائماً بالنسبة إلى الإسرائيليين، ما دام محصوراً في المنطقة نفسها. وكان يتم التعامل مع غزة بشكل أو بآخر، وكان العمال العرب يعاودون العمل في إسرائيل، ويعود كل شيء إلى "مجراه" الاعتيادي".

إن الأحوال المعيشية في قطاع غزة، التي كونت وحافظت على الصورة الذهنية لدى الإسرائيليين بأن "كل شيء كالمعتاد"، هي الآن في حالة تغير سريع. إن غزة تختلف كثيراً اليوم عما كانت عليه قبل عام واحد، ناهيك بما كانت عليه قبل ثمانية أعوام، عندما بدأت المؤلفة العمل هناك. إن القواعد القديمة والتوقعات التقليدية لم تعد تنطبق على الواقع الحالي. الآن هناك ديناميات جديدة تميز الحياة داخل القطاع؛ ديناميات لا تهدد بالقضاء على الانتفاضة في أغلب أشكالها المثمرة فحسب، بل وبتحطيم أوجه معينة في المجتمع ذاته. إن أبرز تغيير هو انعدام أكبر لسلطة القانون ومستوى أعلى من أعمال العنف التي يرتكبها العرب ضد اليهود، واليهود ضد العرب على جانبي الخط الأخضر، وهذا توجه جديد من المتوقع فقط أن يزداد سوءاً إذا استمرت فرص التوصل إلى حل سياسي في التلاشي. (إن هجمات ناشطي حماس المتكررة على وحدات الجيش جديدة، شأنها شأن استخدام الصواريخ المضادة للدبابات ضد البيوت المدنية من قِبل القوات العسكرية الإسرائيلية). وما هو أقل ظهوراً، لكن أكثر شؤماً، هو ازدياد ضعف المجتمع المدني في غزة واقترابه من الانهيار، بسبب اتساع الانقسامات الاجتماعية والتفتت الداخلي على نحو لا مثيل له من قبل. 

سياق متغير

قبل التوسع في الحديث عن التغيرات المعاكسة الجارية في قطاع غزة، من الضروري فهم شيء بشأن السياق الذي أفرز هذه التغيرات. إن هذا السياق في غزة هو، من دون شك وفي المقام الأول، اقتصادي. ففي الأعوام الخمسة منذ أن بدأت الانتفاضة، انخفض الناتج القومي الخام لقطاغ غزة، بحسب التقديرات، بنسبة 30% - 50%. لكن، على الرغم من أن الانتفاضة فرضت أعباء اقتصادية ضخمة، فإن حرب الخليج كانت هي التي وجهت إلى الاقتصاد المحلي الضربة الأقوى، وفي رأي البعض الضربة القاضية. لقد كان تأثير الحرب مدمراً للاقتصاد الفلسطيني كله، لكنه كان أكثر تدميراً، على وجه الخصوص، للوضع الاقتصادي الضعيف في قطاع غزة؛ حيث تشكل مصادر الدخل الخارجية ما لا يقل عن 50% من الناتج القومي الخام. وفي نيسان/ أبريل 1991، اقترنت خسارة التحويلات والمساعدات المباشرة الأُخرى للضفة الغربية وغزة من دول الخليج بخسارة صادرات قيمتها 350 مليون دولار، ولا يشمل ذلك تكلفة خسارة العمل داخل إسرائيل منذ أوائل سنة 1991. علاوة على ذلك، تقدر خسائر منظمة التحرير الفلسطينية على شكل مساعدات مباشرة من مصادر الخليج بـ 480 مليون دولار، كان جزء منها يصب في الأراضي المحتلة. وفي الحقيقة، شكلت مساعدات المملكة العربية السعودية لمنظمة التحرير الفلسطينية في وقت من الأوقات ما قيمته 10% من الناتج المحلي الخام للضفة الغربية وغزة معاً.[1]

لقد ثبت أن الإغلاق المستمر للسوق الإسرائيلية أمام الأيدي العاملة الفلسطينية ضار باقتصاد قطاع غزة إلى أبعد حد، نظراً إلى اعتماد قواه العاملة بدرجة كبيرة على العمل في إسرائيل. فقبل أزمة الخليج، كان يعمل في إسرائيل ما بين 45,000 و 50,000 غزاوي، يعيلون ما يقرب من 250,000 نسمة. ويمثِّل هذا الرقم نفسه انخفاضاً من أكثر من 70,000 عامل قبل الانتفاضة. وفي العامين الأخيرين، دخل إسرائيل يومياً ما بين 25,000 و30,000 عامل من غزة فقط، وهذا يمثل خسارة لا تقل عن 20,000 فرصة عمل لم يجر إيجاد بديل محلي منها (طبعاً تدهور الوضع أكثر مع إغلاق [السوق] في آذار/مارس). وارتفعت نسبة البطالة إلى ما لا يقل عن 40% في قطاع غزة، وهبط دخل الفرد بصورة حادة، واستُنفدت المدخرات تماماً. وفي خريف 1992، عندما أعلنت وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة (الأُونروا) اثنتي عشرة وظيفة شاغرة، تلقت أكثر من 11,000 طلب.[2]  علاوة على ذلك، من المتوقع أن ترتفع مستويات البطالة في قطاع غزة والضفة الغربية أكثر فأكثر سنة 1993، نظراً إلى أنه من المتوقع أن يتقلص قطاع البناء في إسرائيل، وهو أكبر قطاع يوظف الأيدي العاملة الفلسطينية، إلى حد كبير. وأخيراً، تقدّر خسارة الاقتصاد، نتيجة حظر التجول الذي فُرض طوال أُسبوعين على قطاع غزة بعد عملية الترحيل التي جرت في كانون الأول/ ديسمبر 1992، بـ 1,810,000 دولار يومياً.[3]

يُعتبر عدد العائلات التي طلبت مساعدات غذائية في العامين الأخيرين دفعاً للجوع أحد المؤشرات على التغييرات الاقتصادية الجارية داخل غزة. فبحلول حزيران/ يونيو 1991، كانت الأُنروا، التي تقتصر مسؤوليتها على اللاجئين، تطعم 120,000 عائلة في قطاع غزة و165,000 عائلة في الضفة الغربية، من اللاجئين وغير اللاجئين. إن عدد العائلات التي تتلقى مساعدات غذائية منذ حرب الخليج يبدو مروعاً أكثر عند مقارنته بعدد العائلات التي كانت تتلقى معونات غذائية قبل الانتفاضة، وحتى قبل حرب الخليج نفسها: 7471 عائلة سنة 1986؛ 9137 عائلة سنة 1988؛ 9838 عائلة في حزيران/ يونيو 1990.[4]  أما بين حزيران/ يونيو 1990 وحزيران/ يونيو 1991، فقد ارتفع عدد العائلات التي تلقَّت معونات غذائية من الأُنروا في قطاع غزة من 9838 عائلة إلى 120,000 عائلة، أي أحد عشر ضعفاً.

لقد أصبح الوضع في غزة منذ حرب الخليج خطراً جداً. أصبح الجوع مشكلة متزايدة، وخصوصاً بين الأطفال، وأصبح سوء التغذية ظاهراً للعيان أحياناً عندما يتجول المرء في شوارع غزة. إذ تبدو الوجوه غائرة وخالية من الحياة. ويفيد المعلمون في مدارس الأُونروا أن طلابهم في أغلبيتهم يتناولون وجبة واحدة في اليوم، وأن تلك الوجبة لا تزيد عن قطعة خبز مع قليل من الفلفل المطحون أو الزعتر لإعطائها نكهة.[5]  أما الجبنة التي كانت تعد عنصراً رئيسياً في نظام التغذية المحلي، فقد أصبحت الآن باهظة الثمن بالنسبة إلى معظم الناس، واختفت اللحوم من موائد الجميع، ما عدا موائد الأغنياء. ويعالج الأطباء مزيداً من حالات سوء التغذية، وأمراضاً ناجمة عن سوء التغذية، بين الأطفال الصغار، أكثر مما في أية فترة أُخرى منذ بدء الاحتلال. ومما زاد الأمر سوءاً أن إغلاق الأراضي المحتلة في آذار/ مارس أدى إلى هبوط أسعار المواد الغذائية بدرجة كبيرة. لكن على الرغم من ذلك، فقد انخفضت مشتريات المواد الغذائية الرئيسية بنسبة تتجاوز 50%. لقد كلف الإغلاق المنطقتين [الضفة الغربية وقطاع غزة] خسارة تقارب 2,5 مليون دولار يومياً. (كان من نتيجة هذه التغيرات، إضافة إلى البناء الاقتصادي الذي كان متخلفاً وضعيفاً في الأساس، أن انهار القطاع الرسمي في الاقتصاد كلية، في حين نما القطاع غير الرسمي وغير المنظم بسرعة كبيرة).

كان من شأن الضغوطات الاقتصادية الهائلة التي فُرضت على قطاع غزة أن تزداد حدة في ضوء النمو السكاني الكبير في غزة، البالغ 4% سنوياً. في العام الماضي، بلغت نسبة النمو بين اللاجئين وحدهم 7,3%، وهي الفئة التي تشكل 73% من مجموع السكان، الأمر الذي يجعل غزة واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم. ففي سنة 1992، بحسب تقديرات محافظة، تجاوزت مستويات الكثافة السكانية 9300 نسمة لكل ميل مربع قياساً بمساحة الأراضي المتاحة لاستخدام السكان العرب. وفي المقابل، فإن مستويات الكثافة السكانية بين المستوطنين اليهود في قطاع غزة كانت في المتوسط 115 شخصاً لكل ميل مربع بالنسبة إلى الأراضي الموضوعة في تصرفهم.

إن التأكل الاقتصادي الحاد، وانعدام الأمن، وتسارع تدهور الأحوال المعيشية، بالإضافة إلى الشلل السياسي المستمر، تضافرت جميعاً لتولد حالة من الإنهاك النفسي الشديد بين الناس. والناس جميعاً تقريباً يتحدثون عن الانتفاضة بصيغة الماضي، وخصوصاً عندما يتعلق الحديث بقدرتها على إحداث تغيير ذي دلالة في المستوى السياسي، وتغيير بنيوي في المستوى الاقتصادي. وقد أدى ترحيل 415 فلسطينياً، وهو العمل الذي نظر الغزاويون إليه على أنه خطوة أُولى نحو عمليات ترحيل واسعة النطاق للسكان في المستقبل، إلى تعزيز التصورات الشائعة بين الناس بتوقف الانتفاضة سياسياً، وتخلي المجتمع الدولي عنهم تماماً. والشعارات السياسية التي حفزت السكان في السابق على العمل الجماعي، من دون تساؤل، أصبحت الآن فوق طاقة وإرادة الناس لتحقيقها.

ضمن هذا السياق، لم تكن المواقف المحلية تجاه محادثات السلام للشرق الأوسط رافضة فحسب، بل عدائية أيضاً بصورة واضحة. إن الشعور العميق باليأس بين الناس يساوي، إن لم يكن يفوق، الإحساس بالإذلال الكامل، والقنوط، والخيانة. وقد عبّرن إحدى الأمهات بكلمات قليلة عن حالة اليأس الهادئة التي تسيطر على كثيرين في غزة، عندما قالت، "لم يعد لديّ ما أُطعم أطفالي به سوى حليب أسود. ما جدوى حياتي؟".

وهناك مظهر آخر يعكس هذا الإرهاق النفسي، كان من شأنه أن يُستقبل في أحوال أُخرى على أنه تغير إيجابي: غض النظر عن التقيد باللباس المحافظ بالنسبة إلى النساء، الذي ميز الحياة في قطاع غزة منذ أيام الانتفاضة الأُولى. فبينما يستمر معظم النساء في ارتداء ألبسة محافظة، لاحظت المؤلفة في أثناء زيارة لها في كانون الثاني/ يناير 1993 وجود أقلية لا ترتدي الحجاب، أي غطاء الراس. وكان ذلك أمراً غير وارد حتى فترة قريبة، وفعلاً أُلقيت حجارة ذات مرة في السابق على المؤلفة لأنها لم تغط رأسها في مكان عام. وشوهدت فتيات بالغات يرتدين الجينز – لم يحدث ذلك سابقاً في غزة – كما شوهدت فتاة ترتدي بنطلوناً ضيقاً أسود تحت تنورة قصيرة.

إن من أسباب هذا التغيير هو أن ناشطي حماس، الذين فرضوا قواعد اللبس هذه في الماضي قد حوّلوا اهتمامهم من الإصلاح الاجتماعي الداخلي إلى الهجمات العسكرية ضد الجيش الإسرائيلي. فقد أدركت حماس، في صراعها على قيادة الحركة الإسلامية في غزة، بل وعلى قيادة الحركة الوطنية، فداحة الثمن السياسي الذي ستدفعه نتيجة إهانة النساء اللواتي يظهرن في الأماكن العامة وقد طلين أظافرهن بالمانيكور، في وقت كان أزواج وإخوة أُولاء النساء يخسرون أسباب العيش والقدرة على إعالة عائلاتهم.

لكن الأهم من تغيير حماس لتكتيكها، هو أن الحجاب، كرمز سياسي، لم يعد يبدو مهماً. ببساطة، لم يعد الناس يهتمون بذلك. وكما قال أحدهم: "إن ثمن نضالنا أصبح الآن فادحاً، وخصوصاً أنه لم يعد لدينا الكثير للدلالة عليه سوى مزيد من المعاناة." إن غزة بلا قيادات. والناس يشعرون بالحزن لخسارة قيادتها المحلية، ويشعرون بأنهم ضُللوا من قِبل أولئك المقيمين في تونس. وهناك إحساس عميق في غزة بالاختناق، وبأنه لم يعد هناك مكان للجوء إليه أو مكان للتطلع إليه.

لقد أصبحت أهداف الانتفاضة – إنهاء الاحتلال بوسائل غير عنيفة؛ إنشاء دولة فلسطينية في المناطق؛ خفض الاعتماد الاقتصادي على إسرائيل؛ إعادة تنظيم المجتمع – تعتبر الآن بعيدة المنال في المدى القريب، وبحسب اعتقاد البعض، في المدى البعيد أيضاً. إن أفضل وصف للتأثير النفسي هو أنه نوع من  الانطواء الجماعي. ونتيجة العجز عن تحقيق ما أصبح يعتبر الآن أُموراً نظرية، فقد بدأت الفصائل السياسية في غزة الاقتتال للسيطرة على تلك الموارد القليلة الباقية التي يُعتقد أنها موجودة، وهو موارد مؤسساتية في الأساس. وقد حل التنافس الشرس بين الفصائل محل المجهود الجماعي الموجَّه في عدة مستويات؛ وكانت النتيجة المأساوية التفتت الداخلي وتقوض المجتمع المدني.

 

 

 

 

 

 

التفتت الداخلي

وانحسار المجتمع المدني

الصراع على المؤسسات

            تتميز التصدعات الداخلية التي بدأت تترسخ في قطاع غزة بحدوث تغيرات في مستويات مختلفة، أبرزها التغير المؤسساتي. قد تكون المؤسسات هي المصادر الوحيدة الباقية التي تتمتع بشيء من مظاهر القوة أو النفوذ في المجتمع، ولهذا أصبحت ساحة صراع سياسي. وقد تأثرت بذلك مؤسسات في مختلف القطاعات: الصحة والتعليم، والجمعيات المهنية، والاتحادات النقابية، ومختلف المجموعات الاجتماعية المنظمة الأُخرى. وبرز اتجاهان رئيسيان: تدافع للسيطرة على المؤسسات القائمة، وتنافس في إنشاء مؤسسات جديدة.

            تتم السيطرة على المؤسسات القائمة بصورة متزايدة عن طريق التهديد والإكراه. وهناك فعلاً أمثلة كثيرة للطريقة التي يتوجه بها فصيل ما إلى رئيس مؤسسة مطالباً إياه بأن يعين أعضاء محددين من أتباعه في المؤسسة. وقد نتج أحياناً من رفض الامتثال لمثل هذا الطلب أن وُجّهت تهديدات إلى رئيس أو رئيسة المؤسسة وعائلته أو عائلتها، بالإضافة إلى تهديدات بإلحاق الضرر بالمؤسسة المعنية. وفي حالات أُخرى، تحددت نتيجة الانتخابات المحلية للموظفين وأعضاء مجالس الإدارة بفعل التهديد أو الرشوة. وقد حدث أن توجه فصيل سياسي إلى رئيس مؤسسة صحية محترمة بارزة في غزة، طلب عدم ذكر اسمه، بطلب لتوظيف عدد من أعضائه. ووجهت إليه وإلى أفراد عائلته تهديدات، الأمر الذي اضطره إلى الرضوخ للطلب. ونتيجة لذلك، يقوم هذا المدير الآن بدفع رواتب لعدد من الأفراد غير المدربين أو غير المنتجين، مستنزفاً بذلك أموالاً هو بحاجة إلى إنفاقها على الخدمات التي يتعين عليه تقديمها بحكم منصبه.

            كما تعرض مدير مؤسسة تدريب تعليمية، وهو صديق للمؤلفة، لحادث مشابه، إلا إنه رفض الرضوخ للتهديد. وذكر أنه يتلقى تهديدات متكررة له ولعائلته، وتعرضت مؤسسته لاعتداءات متكررة اتخذت شكل تعد على المكان من قبل أعضاء الفصيل. ولم يبد هذا المدير واثقاً من قدرته على الاستمرار في تحمل الضغط، وقال: "إن محاربة المحتل شيء، أما محاربة شعبك فهو شيء آخر تماماً." وصرح، شأنه شأن سبع شخصيات وطنية في مقابلات أُجريت معها، أنه يود أن يغادر قطاع غزة لو أنه فقط يجد وسيلة لذلك.

            وقد أفاد مسؤول كبير في الأُونروا في غزة أنه كان يأمل بنقل السلطة على مستشفى الوكالة في مخيم البرج للاجئين إلى السلطات المحلية، إلا إنه قرر عدم فعل ذلك: "لأنه لم يعد هناك فصيل يمثل مصالح السكان جميعاً."[6]  كما صرح أنه على الرغم من توفر الأموال لتطوير عدة مراكز للشباب تابعة للأُونروا، كانت في وقت ما مراكز مهمة للنشاط الاجتماعي في قطاع غزة، فإن هذه المراكز فقدت الدعم نتيجة ما يحيط بها من صراع بين الفصائل. وهناك دليل آخر واضح على عرقلة التنافس بين الفصائل لعملية التطوير يتمثل في بلدية غزة، التي توقفت عن العمل كلياً تقريباً نتيجة التنافس الداخلي وتقليص الميزانية. ولأول مرة في تاريخ حي الرمال، وهو أغنى حي في مدينة غزة، يمكن مشاهدة المجاري تجري في شوارعه، كما أصبحت القمامة معلماُ بارزاً من معالم المدينة. لقد أصبح الخراب المادي عاماً. وزاد إغلاق المناطق في آذار/مارس في حدة الصراع الحزبي على المؤسسات نظراً إلى تعاظم اليأس من العثور على عمل.

وقد أصبح التنافس في إنشاء مؤسسات جديدة شديداً بصورة خاصة في قطاع غزة. وانتشرت المؤسسات كالفطر من دون هدف واضح سوى الهدف السياسي. وضرورة الحصول على تصريح من تونس لكل مؤسسة ناشئة زادت نيران التنافس الحزبي اشتعالاً. وأصبحت المؤسسات، على نحو متزايد، تُقام ككيانات سياسية أولاً، ثم يجري التفكير في أغراضها العملية لاحقاً. وأصبحت كل مؤسسة، بعد قيامها، تحاول جلب أكبر كمية من الأموال لتوزيعها من خلالها، مقللة بذلك من إمكانات التعاون التي ظهرت في العامين الأولين للانتفاضة. ولم يجر طلب الأموال من منظمة التحرير الفلسطينية وزعماء فصائلها فقط، بل أيضاً من عدد كبير لا سابق له من المتبرعين الأجانب الذين ينشطون حالياً في الأراضي المحتلة. وفي الحقيقة فإن توفر مبالغ متزايدة من الأموال الأجنبية، التي سهل توفرها بدء محادثات السلام للشرق الأوسط، زاد في حدة التنافس الحزبي والتدافع لإنشاء قاعدة نفوذ محلية من خلال سيطرة أوسع على المؤسسات.

إن هذه الديناميات تنم سلفاً عن أهداف ونتائج مدمرة بالنسبة إلى السكان وتطور المجتمع المدني بصفة خاصة، في المستقبل. فالأهداف تتغير من بناء المجتمع الفلسطيني إلى الاقتتال على ما تبقى منه. وفي الوقت الذي تصبح المؤسسات خاضعة بصورة متزايدة لفصائل مفردة، تصبح قراراتها خاضعة للاعتبارات السياسية لا للاعتبارات المهنية. وأصبحت السيطرة على الموارد أهم من كيفية استخدامها. علاوة على ذلك، يتم خلق امتيازات لن يكون من السهل التخلي عنها، وخصوصاً في بيئة تشهد فقراً يزداد حدة. والنتيجة، افتقار حاد للتنسيق بين المؤسسات وعدم تحديد أولويات الحاجات بحسب معيار محدد. وفي غياب قيادة فعالة وهياكل للسلطة، تقف المجموعات في مواجهة بعضها البعض، وتعم الفوضى بصورة متزايدة، ويتم السعي لخدمة المصالح السياسية على حساب بعض أعظم إنجازات الانتفاضة: تماسك المجتمع، والتعمق في فهم المجتمع، وممارسة النقد الذاتي، وقيادة ماهرة في أساليب التحقيق التدريجي للأهداف، وفي التفاوض، والتعاون بين الجماعات، وتوسيع أدوار المرأة، ومقاربات جديدة للتطوير الاقتصادي، وتحسين القدرات الإنتاجية، وتقديم الخدمات، والتخطيط المنظم على المستوى الشعبي، وإدراك الحاجة إلى المعايير والصرامة وتحمل تبعة الأعمال. إن إنشاء الهياكل المؤسساتية، الذي كان سمة بارزة من سمات الانتفاضة، يتراجع أمام حشد الأنصار والأتباع تحت غطاء المؤسسات.

دور المعونات الخارجية

            إن المؤسسات والأفراد المشاركين في الحياة السياسية والاقتصادية يجدون صعوبة متزايدة في البقاء غير منحازين. وينطبق ذلك أيضاً، وإن كان بصورة غير مباشرة، على عدد متزايد من المتبرعين الأجانب. فمع بدء محادثات السلام، ازدادت معونات التطوير للضفة الغربية وغزة على نحو مهم، وخصوصاً من المجموعة الاقتصادية الأوروبية (EEC). وهناك في الوقت الحاضر 120 هيئة تطوعية خاصة تعمل في الأراضي المحتلة ويوجد في تصرفها أموال كثيرة لم يسبق أن توفرت من قبل.

            ولعل من المفارقات المؤسفة أن المعونات الخارجية، التي يفترض نظرياً أن الغرض منها هو تقوية المجتمع الفلسطيني، باتت تساهم، بطريقتها الخاصة، في إحداث انقسامات تقوض المجتمع ببطء. لقد تجنبت وكالات المعونات الخارجية بشدة، قبل سنة 1991 على الأقل، العمل مع المجموعات الناشطة سياسياً، أو مع أية منظمة معروفة بتحالفها مع فصيل سياسي محدد. أما الآن، وفي خطوة تشكل تغيراً أساسياً في التوجه، فإن عدداً متزايداً من الهيئات بات يركز فقط على المجموعات الناشطة سياسياً.

            ولدى توجيه سؤال عن سبب هذا التوجه، قال مسؤولون عن تقديم معونات إنه إذا كان للأموال أن تُنفق، وللمشاريع أن تُنفذ، في ظل البيئة الحالية في الأراضي المحتلة، فإنه لا يوجد بديل من العمل مع التجمعات السياسية؛ إذ إنها الكيانات الأهلية الوحيدة التي تتمتع بالسلطة اللازمة لتنفيذ المشاريع. وقد ذهب واحد من المسؤولين عن تقديم المعونات إلى حد الاعتراف بأنه اضطر أحياناً إلى الاختيار بين العمل السياسي والعمل الفعلي حتى ينفذ برنامجه، وأنه اضطر في سياق عمله إلى أن يقدم أموالاً لكل الفصائل كي يتجنب عداء أي منها. وهذا لا يساعد طبعاً في القضاء على المشكلات المتصلة بالتحزب السياسي، بل على العكس من ذلك، فإنه يفاقمها.

            وفيما يتعلق بهذا الخصوص، فإن الموقف الإسرائيلي الرسمي قد تغير إلى حد كبير. فبينما لم تكن السلطات العسكرية توافق على الإطلاق، في الماضي القريب، على أي تعاون بين المؤسسات السياسية الفلسطينية الناشطة والمتبرعين الأجانب، فإنها الآن تؤيد مثل هذا التعاون. ويبدو أن هناك سببين لذلك: الأول، إن التصدعات الداخلية العديدة التي خلقها وعززها ازدياد التضامن بين الفصائل، تضعف التماسك العام بصورة خطرة، وهو ما يسهل على الاحتلال حكم سكان متمردين؛ والثاني، الذي ربما كان الأهم، هو أنه كلما ازدادت المعونات الأجنبية كان ذلك أفضل، في ضوء الحالة الاقتصادية المتدهورة جداً في قطاع غزة.

            إن خليط اللاعبين والأهداف الآخذ في البروز يثير القلق، ولا سيما فيما يتعلق بتشجيع التطوير الاقتصادي في مناطق بالغة التعقيد مثل قطاع غزة والضفة الغربية. فبالنسبة إلى عدد متزايد من التنظيمات الفلسطينية، أصبح الهدف، على سبيل المثال، الحصول على أكبر قدر ممكن من السيطرة على الأموال الأجنبية في سياق التنافس في السلطة المحلية، وفي الوقت نفسه إقصاء المجموعات المحلية الأُخرى. أما بالنسبة إلى المتبرعين الأجانب وأدواتهم التنفيذية، فإن الهدف هو الوصول إلى كعكة التبرعات المتنامية الآن، وإنفاقها بأسرع ما يمكن للحصول على المزيد منها، وغالباً ما يتم ذلك من دون اعتبار لحاجات التطوير بعيدة المدى للمنطقة.

            أما بالنسبة إلى السلطات الإسرائيلية، فإن الهدف هو تشجيع إيجاد وظائف في المدى القصير لتخفيف المشكلات الاقتصادية الحادة، ومحاولة استرضاء السكان المعادين موقتاً. كما أن السلطات هي أيضاً تتناسى وتعرقل متطلبات التطوير بعيدة المدى.

            إن المقاربة التي يصدر عنها العمل التطويري تتسم بقصر نظر خطر. فعلى سبيل المثال، يتوقع أن يؤدي إنشاء مستشفى للأُونروا في خان يونس، تبلغ تكلفة إنشائه 20 مليون دولار، إلى توفير عدد كبير من الوظائف التي توجد حاجة ماسة إليها في غزة. والمشروع تموله المجموعة الاقتصادية الأوروبية، وقد تم الحصول على موافقة سريعة نسبياً بشأنه من قبل السلطات. مع ذلك، فبالإضافة إلى المشكلات التي قد تنجم عن التنافس بين الفصائل بشأن من سيُوظِّف المشروع، فإن بعض المسؤولين في الأُونروا يعترف بأنه لا يعرف من سيشغل الوظائف في المستشفى حالما يتم إنشاؤه، نظراً إلى النقص الحاد في الأطباء والممرضين في قطاع غزة. وهذه إحدى المشكلات المتوقع حدوثها، وثمة مشكلة أُخرى هي التمويل اللازم للمصروفات الدورية.

الهوّة المتنامية بين الضفة الغربية وقطاع غزة

            إن مظهراً آخر من مظاهر تمزق المجتمع الفلسطيني هو عودة العداء والانقسام النفسي بين سكان الضفة الغربية وقطاع غزة إلى البروز.

            تاريخياً، نظر سكان الضفة الغربية دائماً إلى سكان غزة بوصفهم أبناء العم الفقراء المتخلفين. وكان هذا التعالي ملموساً بعمق في غزة، ومصدراً لاحتكاكات كثيرة بين المنطقتين خلال فترة الاحتلال كلها. وخلال أعوام الانتفاضة الأولى، اختفت هذه الخلافات، إلا إنه في ضوء تغير الأحوال الاقتصادية والسياسية التي جعلت غزة أكثر ضعفاً وفقراً، وتعرضاً للاضطهاد، عادت الخلافات القديمة إلى الظهور بقوة مضاعفة. ولا يخفي سكان الضفة الغربية حقيقة أنهم يعتبرون قطاع غزة محمية تابعة لهم، الأمر الذي يثير غضباً شديداً لدى الغزاويين. وفي الحقيقة، يجمع الغزاويون، مهما تكن انتماءاتهم الحزبية، على أنهم مضطهَدون من قبل نظرائهم في الضفة الغربية. وهذه المشاعر قائمة جزئياً على أساس مشكلات حقيقية مرتبطة بالتمييز فيما يتعلق بتوزيع الموارد ومن يتحكم فيها.

            تصل المعونة الأجنبية إلى قطاع غزة من خلال القدس، حيث تتخذ القرارات الاقتصادية والمالية التي تؤثر في القطاع. ونظراً إلى ضآلة خبرة أهالي غزة فيما يتعلق بالتطوير المؤسساتي، فقد كانت، وما زالت، مساهمتهم في صنع القرارات التي تؤثر في مجتمعهم ومشكلاته الفريدة محدودة – تلك المشكلات التي لم يبذل سكان الضفة الغربية جهداً يذكر لفهمها. ولا يشعر الغزاويون بالنفور من عدم رغبة القدس في التخلي عن السيطرة الكاملة على توزيع الحصص من الموارد فحسب، بل أنهم يشعرون أيضاً بإحباط دائم من جراء توزيع هذه الموارد على نحو غير منصف، في ضوء حاجات غزة الأكثر إلحاحاً. ويسمع المرء بين العاملين في مجال التطوير في غزة إشارات متكررة، لا تخلو من الازدراء، إلى "مثلث القدس"، وهو منطقة تتألف من القدس ورام الله وبيت حنينا، حيث تبدو السلطة متركزة هناك.

            لقد كان إغلاق فرع مؤسسة الأبحاث العربية في غزة في الشتاء الماضي مثالاً محزناً ومقلقاً للتوترات القائمة. لقد فتحت مؤسسة الأبحاث هذه، التي يوجد مقرها الرئيسي في القدس الشرقية، فرعاً لها في مدينة غزة سنة 1990. وقبل عدة أشهر، قدم مكتب غزة إلى الحكم العسكري طلباً للحصول على تصريح، من شأنه أن يتيح له التسجيل قانوناً بوصفه فرعاً للمؤسسة الأم، وبذلك يتمكن من الحصول على المعونات مباشرة. وعندما علمت القدس بهذا الطلب، اتصل مكتب القدس بالحاكم العسكري لقطاع غزة طالباً منه أن يرفض منح التصريح. ورفض الحاكم، الذي قال لاحقاً لموظفيه في مكتب غزة أنه لم يتلق مطلقاً طلباً كهذا من منظمة فلسطينية، فلم يمنح التصريح، وأُغلق مكتب غزة منذ ذلك الوقت.[7]

 

الأذى اللاحق بالصغار

            لعل أوضح المؤشرات على تفتت غزة وانهيارها الوشيك، وأكثرها مدعاة إلى الخوف هو الأذى الشديد الذي لحق بشبابها. إن ما يقرب من 70% من سكان قطاع غزة هم في الخامسة والعشرين من العمر ودون ذلك، ولا يعرفون شيئاً آخر غير الاحتلال. ويشكل من هم في الرابعة عشر من العمر أو أقل 50% من هذه الفئة، وقد أمضوا سنوات تكوينهم خلال الانتفاضة. لقد تأذى أطفال غزة نفسياً، فتضرر بعضهم على نحو جعله غير قابل للعلاج، بينما أظهر بعضهم الآخر، على الرغم من الأذى الدائم الذي لحق به، صلابة فائقة.

            لقد تأثر الجميع بالاحتلال. ولم يعد موت طفل، أو أخ حدثاً استثنائياً؛ كما أصبح الأطفال الجرحى والمشوَّهون أمراً عادياً أكثر فأكثر. إن غزة مجتمع خال من الأطفال.

            لقد هجر الأطفال البيت والمدرسة، وكلاهما مصدر حيوي لاكتساب القيم الاجتماعية، وكان تأثير ذلك مدمراً. وقد أجرى محام من غزة، ينشط أيضاً مستشاراً للوفد الفلسطيني في محادثات السلام، سلسلة من المقابلات مع أطفال تراوح أعمارهم بين التاسعة والخامسة عشرة. ولا تكشف أجوبتهم عن أسئلته فقدانهم لصباهم فحسب، بل توحي أيضاً بالثمن الفادح الذي سيضطر المجتمع الفلسطيني إلى دفعه نتيجة لذلك.

            كان أحد الأسئلة الموجهة إلى عشرة صبيان وبنات في التاسعة من العمر، "هل تعرف ما هي السينما؟"، فعرف صبي واحد الإجابة، ووصف السينما بأنها "غرفة كبيرة تحتوي على تلفزيون كبير." وسئل ثلاثون صبياً في الخامسة عشر من العمر، "ماذا تعني كلمة سلطة؟" "فأجابوا جميعاً بأن: "السلطة تعني العدو." وعندما قيل لهم، "لكن قد تعني السلطة معلمكم أيضاً"، أجاب عدد منهم، "هل تعني أن أستاذنا عميل؟". ورداً على سؤال آخر "هل توجد عندكم سلطة في البيت؟" أجابوا: "نعم، لقد دخلت السلطات بيتنا مرات كثيرة."

            لقد بات الأطفال في غزة عاجزين بصورة متزايدة عن تصور السلطة بمعناها التقليدي نظراً إلى أن الآباء والمعلمين، الذين باتوا عاجزين عن حماية الشباب من الأذى والتهديد المستمرين، لم يعودوا أشخاصاً تتجسد فيهم سلطة. السلطة الآن هي العدو، وهي شر بالضرورة. لا وجود للقانون والنظام في غزة، سواء كمفهوم أو كممارسة، وبالتالي، ليس هناك حدود بالنسبة إلى الأطفال، ولا توجد علامات لتمييز السلوك السليم من السلوك الخاطئ. الأطفال في غزة خائفون، إلا إنهم مصدر خوف أيضاً.

            كيف سيتم إعادة تأهيل مثل هؤلاء الأطفال – جيل بأكمله – اجتماعياً، وخصوصاً أن هويتهم قائمة على ما حُرموا منه؟ كيف سيتم إعداد مثل هؤلاء الأطفال لحل مشكلات مجتمع مدني يزداد ضعفاً، مثلاً في الوقت الذي ساهموا هم أنفسهم في زواله؟ كيف يمكنهم أن يعيدوا بناء مجتمعهم، في الوقت الذي لا يملكون فهماً حقيقياً لما هو بحاجة إلى الإصلاح؟ هذه أخطر مشكلة ستواجه المجتمع الفلسطيني في المستقبل، وفيما يتعلق بغزة، فالمستقبل بدأ يطرق الباب.

موقف حماس المتغير

            إن كانت هناك مجموعة استفادت، على الأقل في المدى القريب، من الانقسامات المتسعة والسيطرة الحزبية في المجتمع في غزة، فهي حركة المقاومة الإسلامية، أي حماس. إن نجاح حماس من هذه الناحية يرجع إلى مقدرتها الفريدة في أن تعمل وتُشاهَد بوصفها قوة مقابلة، وفي كونها المجموعة الأقدر على توفير الخدمات الملحة، وتنظيم الأنشطة الاجتماعية أقل مما يرجع إلى جاذبيتها الأيديولوجية أو السياسية المحدودة في غزة، مع أن هذه النقطة الأخيرة قابلة للنقاش.[8]

            إن حماس تدير أفضل شبكة خدمة اجتماعية في قطاع غزة. وقد ساهمت في تأليف "لجان الزكاة"، التي يتوجب على المسلمين كافة أن يقدموا لها 7% من دخلهم. وتوزع هذه الأموال على الفقراء والمحتاجين. وخلافاً للفصائل السياسية الأُخرى في القطاع، فإن حماس تدرك بوضوح أنه نظراً إلى الأحوال السائدة الآن، فإن كسب النفوذ على الأرض يتم أولاً من خلال العمل الاجتماعي، ثم من خلال العمل الديني، وفي النهاية فقط، من خلال العمل السياسي.  ويثق الفقراء (الأغلبية العظمى في غزة) بأن حماس، التي تتمتع بهيكلية وتنظيم جيدين، تفي بوعودها، وينظرون إليها باعتبارها أقل كثيراً من تنظيمات القوميين العلمانيين، وخصوصاً فتح، فساداً وخضوعاً للمحسوبية. وفي الواقع لا تقتصر هذه النظرة إلى حماس على الفلسطينيين فقط، بل يشاركهم فيها عدد متزايد من مانحي المعونات الأجانب أيضاً. وقد اعترف بعض المسؤولين الكبار في الأُونروا في غزة بأن حماس هي الفصيل الوحيد الذي يثقون به من أجل توزيع الهبات الغذائية على الناس.

            ويبدو أن هناك فريقين تركز حماس عليهما في أنشطتها الاجتماعية والاقتصادية: الشباب وطبقة التجار. وفي الوقت الذي تخلت الفصائل السياسية الأُخرى عن العمل مع أندية الشباب الكثيرة في غزة، تظل حماس ناشطة، وتحاول أن تبني قاعدة للقوة من خلال هذه الأندية ومن خلال منظمات أُخرى للشباب، وهذه استراتيجية بعيدة النظر. وعلى نحو مشابه، تعمل حماس بصورة متزايدة مع التجار المحليين. ويُعقد كثير من الصلات التجارية في الجوامع، التي تسيطر حماس عليها بصورة كاملة؛ وفي وقت إجراء هذا البحث كانت حماس تفكر في الشروع في برنامج لتقديم قروض للأعمال التجارية الصغيرة. وفي الواقع، فإن قوة حماس المالية قد نمت نسبياً وبالمطلق خلال الأعوام الثلاثة أو الأربعة الماضية. وبينما انخفض تمويل الفصائل الأُخرى مع النقص الشديد في المعونات المباشرة لمنظمة التحرير الفلسطينية، فإن تمويل حماس لم ينخفض. وبحسب مصادر محلية، فإن الكويت والسعودية تبرعتا لحماس بـ 30 مليون دولار منذ حرب الخليج، ومنحتها إيران، المتبرع الجديد، مبلغ 13 مليون دولار.[9]  وعلى الرغم من ذلك، ليس من الواضح ما إذا كانت هذه الأموال تأتي من الحكومات نفسها أو من مصادر خاصة. ويعود السر في جاذبية حماس المتزايدة في الأساس إلى حقيقة أن حماس، على عكس الفصائل السياسية الأُخرى، تدرك أهمية المؤسسات الفعالة. وهذا الإدراك هو الذي يساعد الحركة، ببطء لكن بثبات، في بناء قاعدة صلبة لها في القطاعات المختلفة في مجتمع غزة.

 

المستقبل

            لقد شكت صديقة للمؤلفة، وهي تفكر في تصاعد العنف ضد اليهود قائلة، "ماذا حدث لنا حتى أننا بتنا قادرين على ارتكاب أعمال عنف بدائية مثل هذه؟" ويتطلب الجواب عن سؤالها نوعاً من التفكير. ويبدو أن الناس في قطاع غزة يصبحون بسرعة عاجزين عنه. إن الوقت ينفد في غزة، وبالنسبة إلى البعض فقد نفد فعلاً.

            لعل أفدح خطأ يمكن أن ترتكبه إسرائيل، والولايات المتحدة، وأطراف أُخرى مهتمة بعملية السلام في الشرق الأوسط، هو أن تفترض أن نمط اليأس الموجود في غزة سيؤدي، في المستقبل غير البعيد، إلى تهدئة السكان، وأن الفلسطينيين سيصلون أخيراً إلى نقطة الانقصاف ويذعنون. إن هذا لن يحدث. وفي غياب حل قابل للتطبيق، فإن العنف وانعدام الأمن سيزدادان حدة.

            إن فداحة الوضع الحالي لا تتطلب رداً فورياً فحسب، بل أيضاً رداً فعالاً. ومهما يكن شكل الرد، فإنه يجب أن يشتمل على تغيير جوهري في الوضع القائم. وفي غضون ذلك، يجب إيجاد ترتيبات سياسية وأمنية تسمح للجيش الإسرائيلي بالانسحاب، وهذا شرط مسبق مطلق، كما تسمح للفلسطينيين بإنشاء سلطة حاكمة تتمتع بسلطة حقيقية. وأي رد لا يشتمل على ذلك سيعزز ديناميات التفكك الفاعلة الآن في قطاع غزة.

            وإن كان لمحادثات الشرق الأوسط للسلام أمل بأن تنجح، فإن شرط ذلك أن تُعتبر معقولة من جانب جميع الأطراف المعنية. وعلى الرغم من التفاؤل السابق، فإن الفلسطينيين في قطاع غزة باتوا الآن لا يعتبرون المحادثات غير مثمرة فحسب، بل مؤذية أيضاً، من حيث إنها تخلق وهماً بالأمل بينما لا يوجد، في الحقيقة، أي أمل. وقد كان سكان غزة في أغلبيتهم، ضد العودة إلى المحادثات في نيسان/ أبريل 1993، لأن مشاركة الفلسطينيين، في نظرهم، ساعدت في إضفاء شرعية على عملية غير شرعية. وإن كان لمحادثات السلام أن تستعيد صدقيتها، وأن تحقق نزراً يسيراً من النجاح فإنه ينبغي الإقدام على إعادة نظر جوهرية في مرجعيتها، إذ إن الشروط الحالية لم تدفع الفلسطينيين إلى وضع ضعيف نسبياً فحسب، بل إنها حصرتهم في إطار هذا الوضع الضعيف كلياً. طبعاً، فإن أحد العناصر الحاسمة هو دور الولايات المتحدة، الذي أقل ما يمكن أن يقال فيه هو أنه لا يبدو مخلصاً أو عادلاً. وإنْ كان من أمل بحدوث تغيير، فإنه سيحدث فقط من جراء مشاركة كاملة للولايات المتحدة، لم تتحقق بعد.

            لقد قاد تصاعد أعمال العنف بين العرب واليهود إلى دعوات داخل إسرائيل تطالب بإنهاء الحكم الإسرائيلي، في قطاع غزة، والتخلص من القطاع نهائياً على نحو مستقل عن الحل الشامل للأراضي المحتلة ككل.

            في الأحوال الراهنة، لا شيء يمكن أن يكون مؤذياً أو مدمراً كهذا بالنسبة إلى الفلسطينيين في غزة (وأيضاً بالنسبة إلى نظرائهم في الضفة الغربية، وإلى اليهود في إسرائيل). إن التخلص من قطاع غزة بخطوة سريعة وحاسمة (وهذا مستبعد في أية حال) ليس الحل بكل تأكيد؛ أما التخلي عن السيطرة على قطاع غزة كمرحلة أُولى من مراحل عملية شاملة للانسحاب، وإنشاء الدولة، فقد يكون هو الحل. وفعلاً، فإن معالجة المشكلة على هذا النحو قد يجعل من تطبيق سياسات معينة، أولاً في قطاع غزة الصغير، سوابق مهمة، مثل انسحاب الجيش، وإرساء ترتيبات أمنية ملائمة، وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية أو تحويلها للاستخدام من قِبل الفلسطينيين، وإنشاء حكم وطني قائم على المؤسسات. لكن مثل هذه الاحتمالات يصبح نظرياً أكثر فأكثر وغير ممكن مع كل يوم يمضي.

إن الوضع في غزة قاتم. والضوء الذي زعم كثيرون أنهم يرونه في نهاية النفق لم يعد مرئياً. إن الخطر الأكبر الذي يواجه قطاع غزة ليس انفجار العنف، بل الانفجار الداخلي. وإذا حدث ذلك فلن نرى سوى الدخان.

 

[1]   مقابلة مع المسؤول عن التطوير والتخطيط الميداني، دائرة التطوير والتخطيط، الأُونروا، قطاع غزة، كانون الثاني/ يناير 1993.

[2]   مقابلة مع كلاوس فورم، مدير الأونروا، قطاع غزة، كانون الثاني/ يناير 1993.     

[3]   Muna Muhaisen, “Gaza Strip Braces for Economic Disaster following Prolonged Siege and Curfews,” al-Fajr, December 28, 1992.                                                      

[4]   إحصاءات داخلية، الأُونروا، قطاع غزة، أيلول/ سبتمبر 1990.

[5]   مقابلات مع معلمين ومديرين في مدارس الأُونروا، كانون الثاني/يناير 1993.

[6]   مقابلة، الأُونروا، قطاع غزة، كانون الثاني/ يناير 1993.

[7]   مقابلات مع مسؤولين في مؤسسة الأبحاث هذه وPVOs محليين وأجانب طلبوا عدم ذكر أسمائهم، قطاع غزة، كانون الثاني/ يناير 1993.

[8]   بحسب راجي الصوراني، مدير مركز غزة للحقوق والقانون، فإن 18% فقط من الأشخاص الناشطين سياسياً في غزة هم من أتباع حماس. ومن أصل 17,000 معتقل في السجون، يوجد لحماس 3000 عضو. مقابلة، كانون الثاني/يناير 1993.

[9]   مقابلة مع المسؤول عن التطوير والتخطيط الميداني، دائرة التطوير والتخطيط، الأُونروا، قطاع غزة، كانون الثاني/ يناير 1993، بالإضافة إلى مقابلات مع أفراد طلبوا عدم ذكر أسمائهم، لكن لهم صلات بحماس.

السيرة الشخصية: 

سارة م. روي: عالمة زائرة في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد. أنجزت مؤخراً تأليف كتاب عن الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة.